في العمل بدلالة العموم قبل البحث عن المخصص
السؤال:هل ألفاظُ العمومِ في الوضعِ اللغويِّ تحتاج إلى قرينةٍ أم أنّها ألفاظٌ موضوعةٌ للعمومِ لا تفتقر إليها؟ وهل يُعْمَل بدلالةِ العمومِ قبلَ البحثِ عن المخصِّص؟ وهل وقفْتم -بارك اللهُ فيكم- على كلامِ شيخِ الإسلامِ في «القواعدِ النّورانيّةِ» من حيث تفصيلُه؟ وما رأيُكم فيه؟ وجزاكم الله خيرا.
الجواب:
الحمد لله رب العالمين، والصّلاة والسّلام على من أرسله الله رحمةً للعالمين، وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدّين، أمّا بعد:
فالعمومُ -في اللّغةِ- له صيغةٌ خاصَّةٌ به، موضوعةٌ له، تدلُّ على العمومِ حقيقةً، ولا تُحمل على غيرِه إلاَّ بقرينةٍ(1)، وهو مذهبُ الجمهورِ وهو الصّحيحُ، ويكفي للدلالةِ على صحَّتِه: إجماعُ الصحابةِ رضي اللهُ عنهم أنَّ تلك الصّيغَ للعمومِ، فقد كانوا يُجْرُونها حالَ ورودِها في الكتابِ والسّنَّةِ على العمومِ ويأخذون بها، ولا يطلبون دليلَ العمومِ، بل كانوا في اجتهاداتِهم يطلبون دليلَ الخصوصِ، وفهمُهم للعمومِ إنّما كان من صِيَغِهِ وألفاظِه، جرى ذلك عندهم من غيرِ نكيرٍ، ومن الوقائعِ التي عمل الصحابةُ فيها بالعمومِ قولُه تعالى: ﴿الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ﴾ [النور: 2]، وقولُه تعالى: ﴿وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا﴾ [المائدة: 38]، وقولُه تعالى: ﴿الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ﴾ [النساء: 34]، فهذه الآياتُ وغيرُها تفيدُ العمومَ بسببِ وجودِ الألفِ واللاّمِ غيرِ العهديّةِ، فالاسمُ المحلّى بالألفِ واللاّمِ يفيد الاستغراقَ والعمومَ سواء كان مفردًا أو جمعًا، وقد استدلّ أبو بكرٍ رضي الله عنه على الأنصارِ بقولِه صلّى اللهُ عليه وسلّم: «الأَئِمَّةُ مِنْ قُرَيْشٍ»(2)، وسَلَّم له بقيّةُ الصحابةِ رضي الله عنهم احتجاجَه بهذا العمومِ، واحتجاجَه -أيضًا- بلفظِ «الناس» من قولِه صلّى الله عليه وسلّم: «أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا: لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ»(3)، ولم يُنكرْ عليه أحدٌ منهم إفادتَه للعمومِ، ونظائرُه كثيرةٌ.
وأثرُ هذه المسألةِ يظهر في أنَّ هذه الألفاظَ تفيد العمومَ من غيرِ حاجةٍ إلى قرائنَ على مذهبِ الجمهورِ، وتفتقر إلى قرينةٍ عند غيرِهم(4)، فإنْ قال رجلٌ لزوجتِه: «إذا قدم الحاجّ فأنتِ طالقٌ»، فهي لا تُطلّق إلاَّ بعد قدومِ جميعِ الحجّاجِ، فلو رجع بعضُهم، أو مات أحدُهم فلا تُطلَّق على مذهبِ الجمهورِ خلافًا لغيرِهم.
هذا، واللفظُ العامُّ الذي توالتْ عليه التخصيصاتُ وكَثُرَتْ وانتشرتْ فلا يجب اعتقادُ عمومِه والعملُ به باتّفاقٍ حتّى يُبحثَ عن المخصِّصِ في المسألةِ المبحوثِ فيها(5).
وأمّا اللفظُ العامُّ الذي لم يُعلمْ تخصيصُه أو عُلم تخصيصُ صورٍ معيَّنةٍ فيه، فإنّه يجب اعتقادُ عمومِه قبل ظهورِ المخصِّصِ، ويكفي في ذلك غلبةُ ظنِّه على عدمِ وجودِ المخصِّصِ، فإذا ظهر فإنَّه يتغيّر الاعتقادُ السابقُ؛ لأنَّ الأصلَ عدمُ المخصِّصِ، ويكفي ظنُّ عدمِ المخصِّصِ في إثباتِ اللفظِ العامِّ، لذلك وجب العملُ بالعمومِ إذا حلّ وقتُ العملِ به قبل البحثِ عن المخصِّصِ، وفي حالةِ ثبوتِ المخصِّصِ فإنه يجب العملُ به في محلِّ التخصيصِ، ويبقى العمومُ سارِيَ العملِ فيما بقي من أفرادٍ في موضعِ العمومِ.
هذا، وإنّما يكون تطبيقُ هذه القاعدةِ في مسألةٍ خلافيّةٍ أو حادثةٍ معيَّنةٍ حتى يحصلَ بها المقصودُ، ولا يُنتفَع بها في أنواعِ المسائلِ وأعيانِها مجتمِعةً، فإنّ ذلك يحتاج إلى اجتهادٍ في خصوصِ الأنواعِ والمسائلِ -من حيث الحكمُ بالإباحةِ أو التحريمِ-، الأمرُ الذي فصّله شيخُ الإسلامِ ابنُ تيميّةَ -رحمه الله- بعد أنْ بيّن في مسألةِ العقودِ والشروطِ -من حيث صحّتُها- أنّه يحكمها أصلان: الأدلّةُ الشرعيّةُ العامّةُ، والأدلّةُ العقليّةُ التي هي الاستصحابُ وانتفاءُ المحرِّمِ، فحرّر مَحَلَّ النزاعِ فيها، وبيّن أنّه «إذا كان المَدْرَكُ الاستصحابَ ونَفْيَ الدليلِ الشرعيِّ؛ فقد أجمع المسلمون وعُلم بالاضطرارِ من دينِ الإسلامِ أنه لا يجوز لأحدٍ أن يعتقدَ ويُفْتِيَ بموجَبِ هذا الاستصحابِ والنفيِ إلا بعد البحثِ عن الأدلّةِ الخاصّةِ إذا كان من أهلِ ذلك، فإنّ جميعَ ما أوجبه اللهُ ورسولُه، وحرّمه اللهُ ورسولُه، مغيِّرٌ لهذا الاستصحابِ، فلا يُوثَقُ به إلا بعد النظرِ في أدلّةِ الشرعِ لِمَنْ هو مِن أهلِ ذاك.
وأمّا إذا كان المَدْرَكُ هو النصوصَ العامّةَ، فالعامُّ الذي كَثُرَتْ تخصيصاتُه المنتشِرةُ -أيضًا- لا يجوز التمسّكُ به، إلا بعد البحثِ عن تلك المسألةِ: هل هي من المستخرَجِ أو من المستبقى؟ وهذا -أيضًا- لا خلافَ فيه»(6)، ثمّ بيّن أنّ العمومَ الواردَ على أنواعِ المسائلِ وأعيانِها لا يُعَوَّلُ عليه إلا بعد العلمِ بالأدلّةِ الخاصّةِ في كلِّ نوعٍ من الأنواعِ، حيث قال -رحمه الله-: «فالأدلّةُ النافيةُ لتحريمِ العقودِ والشروطِ والمثبِتةُ لِحِلِّها: مخصوصةٌ بجميعِ ما حرّمه اللهُ ورسولُه من العقودِ والشروطِ، فلا يُنتفع بهذه القاعدةِ في أنواعِ المسائلِ إلاّ مع العلمِ بالحججِ الخاصّةِ في ذلك النوعِ، فهي بأصولِ الفقه -التي هي الأدلّةُ العامّةُ- أشبهُ منها بقواعدِ الفقهِ، التي هي الأحكامُ العامّةُ.
نعم، من غلب على ظنِّه من الفقهاءِ انتفاءُ المعارِضِ في مسألةٍ خلافيّةٍ أو حادثةٍ انتفع بهذه القاعدةِ»(7).
أمّا العامُّ الذي لم يُعلمْ تخصيصُه، أو عُلم تخصيصُ صورٍ معيَّنةٍ فيه، وتعلّق أمرُ العامِّ بمسألةٍ من المسائلِ أو حادثةٍ معيَّنةٍ؛ فقد اختار -أيضًا- عدمَ اعتقادِ عمومِ اللفظِ والعملِ به حتى يُبحثَ عن المخصِّصِ، ويكفيه غلبةُ الظنِّ بانتفاءِ المعارِضِ، وهو إحدى الروايتين عن أحمدَ رجّحها أبو الخطّابِ وغيرُه، غيرَ أنه فصّل في مسألةِ غلبةِ الظنِّ التي لا تحصل للمتأخِّرين في أكثرِ العموماتِ إلا بعد البحثِ عن المعارِضِ.
هذا، وما قرّره كثيرٌ من الأصوليّين من وجوبِ اعتقادِ عمومِ اللفظِ والعملِ به قبل البحثِ عن المخصِّصِ -الذي يكفي فيه غلبةُ الظنِّ بانتفاءِ المعارِضِ- هو الأظهرُ عندي، لأنّ اللفظَ العامَّ معلومٌ حكمُه قطعًا، وهو ظاهرٌ في تناوُلِ جميعِ أفرادِه، أمّا المخصِّصُ فوجودُه محتمَلٌ، فيَمْتَنِعُ -عقلاً- تركُ المعلومِ للمحتمَلِ، كما يَمْتَنِعُ -أيضًا- تقديمُ المحتمَلِ المرجوحِ على الظاهرِ الراجحِ. ومن جهةٍ أخرى فلا ينفرد العمومُ بهذا الحكمِ، فإنّ الاعتقادَ نفْسَه يجري على الصيغِ الأخرى كالأمرِ والنهيِ، فإنّه يجب اعتقادُ الوجوبِ في الأمرِ المطلقِ، والتحريمِ في النهيِ المطلقِ، والعملُ بظاهرِهما، ولا يُعدل عن ذلك إلا لوجودِ قرينةٍ أو دليلٍ صارفٍ.
كما يجري هذا الاعتقادُ في أسماءِ الحقائقِ من حيثُ التمسّكُ باللفظِ على حقيقتِه والعملُ به قبل ظهورِ ما يصرفه عن حقيقته، فإنْ ظهر ما يقتضي صرْفَه إلى المجازِ تغيّر الاعتقادُ السابقُ، والعمومُ لا يخرج عن عمومِ هذه الصيغِ، ويؤكّد ذلك أنّ الصحابةَ رضي الله عنهم اعتقدوا في الحكمِ المنزَّلِ الإحكامَ وعدمَ النسخِ، ولم يمنعْهم من العملِ به احتمالُ نسخِه حالَ نزولِه، بل عملوا بمقتضاه، فإذا نزل نسخُ الحكمِ تركوا المنسوخَ وعملوا بالناسخِ.
والعلم عند الله تعالى، وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين وصلّى الله على محمّد وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدّين وسلّم تسليما.
الجزائر في: 22 جمادى الأولى 1432ه
المـوافق ل: 26 أبـريــل 2011م
1- اللفظ العامُّ في الوضع اللغوي: إمَّا أن يكون عمومه من نفسه: كأسماء الشرط والاستفهام والموصولات، وإمَّا أن يكون من لفظٍ آخر دالٍّ على العموم فيه، وهذا اللفظ الآخر: إمَّا أن يكون في أوَّل العامِّ كأسماء الشرط والاستفهام والنكرة في سياق النفي والنهي والاستفهام والامتنان، والألف واللام، وعبارتي «كلّ» و«جميع»، وإمَّا أن يكون في آخره كالمضاف إلى المعرفة مطلقًا سواء كان مفردًا أو جمعًا فهو اللفظ الذي لا يستفاد العموم إلاَّ من آخره.المـوافق ل: 26 أبـريــل 2011م
ـــــــــــــــــــــــــــــــ
2- أخرجه أحمد في «مسنده» (3/ 129) وغيره من حديث أنس رضي الله عنه، وله طرق أخرى من حديث علي بن أبي طالب وأبي برزة الأسلمي رضي الله عنهما، والحديث صحَّحه الألباني في «الإرواء» (2/ 29 رقم (520).
3- متّفق عليه: أخرجه البخاري في «الجهاد والسير» (2946)، ومسلم في «الإيمان» (1/ 31) رقم (21)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
4- انظر اختلاف العلماء وأدلَّتهم في صيغة العموم ومحاملها في: «المعتمد» لأبي الحسين (1/ 209)، «العدة» لأبي يعلى (2/ 485)، «شرح اللمع» (1/ 30، «التبصرة» (105) كلاهما للشيرازي، «البرهان» للجويني (1/ 320)، «إحكام الفصول» للباجي (233)، «أصول السرخسي» (1/ 132)، «المستصفى» (2/ 35)، «المنخول» (13 كلاهما للغزالي، «التمهيد» للكلواذاني (2/ 6)، «ميزان الأصول» للسمرقندي (277)، «المحصول» للفخر الرازي (1/ 2/ 523)، «روضة الناظر» لابن قدامة (2/ 125)، «الإحكام» للآمدي (2/ 57)، «منتهى السول» للآمدي (2/ 19)، «شرح تنقيح الفصول» للقرافي (192)، «منتهى السول» لابن الحاجب (102)، «المسوّدة» لآل تيمية (89)، «الوصول» لابن برهان (2/ 206)، «جمع الجوامع مع حاشية البناني عليه» (1/ 410)، «فواتح الرحموت» للأنصاري (2/ 260)، «شرح الكوكب المنير» للفتوحي (3/ 10، «إرشاد الفحول» للشوكاني (115)، «تفسير النصوص» لمحمد أديب صالح (2/ 19).
5- «القواعد النورانية» لابن تيميّة (289).
6- «القواعد النورانية» لابن تيمية (289).
7- «القواعد النورانية» لابن تيمية (290-291).
تعليق