يقول الإمام الشاطبيّ -رحمه الله-:
المباح يطلق بإطلاقين : أحدهما : من حيث هو مخير فيه بين الفعل والترك .
والآخر من حيث يقال : لا حرج فيه ، وعلى الجملة فهو على أربعة أقسام :
أحدها :أن يكون خادمًا لأمرٍ مطلوبِ الفعل .
والثاني : أن يكون خادمًا لأمرٍ مطلوبِ التّرك .
والثالث : أن يكون خادمًا لمخيَّرٍ فيه .
والرابع : أن لا يكون فيه شيءٌ من ذلك .
فأما الأوّل؛ فهو المباح بالجزء ، المطلوب الفعل بالكلّ ، وأما الثّاني : فهو المباح بالجزء المطلوب التّرك بالكلّ ، بمعنى أنّ المداومة عليه منهيٌّ عنها ، وأمّا الثّالث والرابع فراجعان إلى هذا القسم الثاني .
ومعنى هذه الجملة: أنّ المباح -كما مرّ- يُعتبر بما يكون خادمًا له إن كان خادمًا ، والخدمة هنا قد تكون في طرف الترك كتركالدّوام على التنزّه في البساتين ، وسماع تغريد الحمام ، والغناء المباح ، فإن ذلك هو المطلوب ، وقد يكون في طرف الفعل كالاستمتاع بالحلال من الطيّبات فإنّ الدّوام فيه بحسب الإمكان من غير سَرَفٍ مطلوبٌ ، من حيثُ هو خادمٌ لمطلوبٍ ، وهو أصل الضّروريات بخلاف المطلوب التّرك فإنه خادم لما يضادّها ، وهو الفراغ من الاشتغال بها ، والخادم للمخيَّر فيهعلى حكمه .
وأما الرّابع : فلمّا كان غيرَ خادمٍ لشيءٍ يعتدّ به كان عبثًا أو كالعبث عند العقلاء ، فصار مطلوب الترك أيضًا، لأنه صار خادمًا لقطع الزّمان في غير مصلحة دينٍ ولا دنيَا ، فهو إذًا خادمٌ لمطلوب التّرك؛ فصارَ مطلوبَ التّرك بالكلّ ، والقسم الثالث مثله أيضًا لأنه خادمٌ له فصار مطلوبَ التّرك أيضًا .
وتَلخَّصَ أن كل مباحٍ ليس بمباحٍ بإطلاق ، وإنما هو مباحٌ بالجزء خاصّة ، وأما بالكلّ فهو إما مطلوب الفعل أو مطلوب التّرك .
-فإن قيل : أفلا يكون هذا التّقرير نقضًا لما تقدّم من أن المباح هو المتساوي الطّرفين ؟
فالجواب أن لا؛ لأنّ ذلك الذي تقدّم هو من حيث النّظر إليه في نفسه من غير اعتبار أمرٍ خارجٍ ، وهذا النّظرُ من حيثُ اعتبارُه بالأمور الخارجة عنه ، فإذا نظرت إليه في نفسه فهو الذي سُمّي هنا المباحَ بالجزءِ ، وإذا نظرت إليه بحسب الأمور الخارجة فهو المسمّى بالمطلوب بالكلّ ، فأنت ترى أن هذا الثوب الحسن مثلا مباحَ اللّبس ، قد استوى في نظرِ الشّرعِ فعلُه وتركُه، فلا قصدَ له في أحد الأمريْن ، وهذا معقولٌ واقعٌ بهذا الاعتبار المقتصر به على ذات المباح من حيث هو كذلك، وهو من جهة ما هو وقاية للحرّ والبرد وموار للسوأة وجمال في النظر مطلوبُ الفعل ، وهذا النظر غير مختصّ بهذا الثوب المعيّن ولا بهذا الوقت المعيّن ، فهو نظر بالكلّ لا بالجزء .اهـ
الموافقات الجزء1 الصفحة 93/92 دار الفكر.
تعليق