المسافة التي يشرع فيها قصر الصلاة
* عن أنس بن مالك رض ي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم " صلى الظهر بالمدينة أربعاً وصلى العصر بذي الحُليفة ركعتين " رواه البخاري ومسلم ورواه أحمد وزاد في آخره " آمناً لا يخاف في حجة الوداع " .
ذو الحليفة : موضع يبعد عن المدينة ستةَ أميالٍ أو سبعة أميالٍ تقريباً .
* وعن جُبير بن نُفير قال : خرجت مع شرحبيل بن السمط إلى قرية على رأس سبعةَ عشر أو ثمانية عشر ميلاً فصلى ركعتين فقلت له، فقال : رأيت عمر بن الخطاب رضي الله عنه صلى بذي الحُليفة ركعتين فقلت له، فقال : " إنما أفعل كما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعل " رواه مسلم وأحمد والنسائي والبيهقي
* وعن يحيى بن يزيد الهنائي قال : سألت أنس بن مالك عن قصر الصلاة فقال : " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا خرج مسيرة ثلاثة أميال أو ثلاثة فراسخ - شعبة الشاك - صلى ركعتين " أخرجه أحمد ومسلم وأبو داود
قال العلامة الألباني رحمه الله : ( الفرسخ ) ([1]) ثلاثة أميال والميل من الأرض منتهى مد البصر لأن البصر يميل عنه على وجه الأرض حتى يفنى إدراكه وبذلك جزم الجوهري .
وقيل : حده أن ينظر إلى الشخص في أرض مسطحة فلا يدري أهو رجل أو امرأة وهو ذاهب أو آت كما في " الفتح " وهو في تقدير بعض علماء العصر الحاضر يساوي 1680 مترا . اهـ من السلسة الصحيحة
الحديثان الأول والثاني يذكران أن الرسول صلى الله عليه وسلم صلى بذي الحليفة ركعتين، وجاء في الحديث الأول أنها كانت صلاة العصر .
وذكر عند أحمد أن ذلك كان في حجة الوداع، وفي ذلك دلالة على تأخر هذه الحادثة مما ينفي عنها حصول النسخ .
وفي هذا تشريع صريح من الرسول صلى الله عليه وسلم للمسلمين لقصر الصلاة إن هم سافروا ثلاثة أميال أو ثلاثة فراسخ .
وعندنا ثلاثة ألفاظ محتملة في هذه المسألة للنصوص الثلاثة مع الشك : فإما ثلاثة أميال، أو سبعة أميال، أو تسعة أميال، وعلى فرضية الشك نأخُذُ بالأكثر منها احتياطاً وهو تسعة أميال وتبلغ حوالي سبعة عشر كيلو متراً .
فهذه هي المسافة التي قدرتها الأحاديث النبوية الصحيحة، فوجب الأخذُ وترك ما يعارضها .
قال العلامة الألباني رحمه الله في التعليق على حديث الهنائي : يدل هذا الحديث على أن المسافر إذا سافر مسافة ثلاثة فراسخ ( والفرسخ نحو ثمان كيلو مترات ) جاز له القصر وقد قال الخطابي في معالم السنن " إن ثبت الحديث كانت الثلاثة الفراسخ حدا فيما يقصر إليه الصلاة ... . اهـ كلام الخطابي
قال الألباني وفي هذا الكلام نظر من وجوه :
الأول : أن الحديث ثابت كما تقدم وحسبك أن مسلما أخرجه ولم يضعفه غيره .
الثاني : أنه لا يضر الحديث ولا يمنع العمل به عدم العلم بمن قال به من الفقهاء لأن عدم الوجدان لا يدل على عدم الوجود .
الثالث : أنه قد قال به راويه أنس بن مالك رضي الله عنه وأفتى به يحيى بن يزيد الهنائي راويه عنه كما تقدم بل ثبت عن بعض الصحابة القصر في أقل من هذه المسافة فروى ابن أبي شيبة عن محمد بن زيد بن خليدة عن ابن عمر قال : " تقصر الصلاة في مسيرة ثلاثة أميال " وإسناده صحيح كما بينته في إرواء الغليل .
ثم روى من طريق أخرى عنه أنه قال : " إني لأسافر الساعة من النهار وأقصر " وإسناده صحيح وصححه الحافظ في الفتح .
ثم روى عنه " أنه كان يقيم بمكة فإذا خرج إلى منى قصر " وإسناده صحيح أيضا .
ويؤيده أن أهل مكة لما خرجوا مع النبي صلى الله عليه وسلم إلى منى في حجة الوداع قصروا أيضا كما هو معروف مشهور في كتب الحديث والسيرة وبين مكة ومنى فرسخ كما في معجم البلدان .
وقال جبلة بن سحيم سمعت ابن عمر يقول : " لو خرجت ميلا قصرت الصلاة " ذكره الحافظ وصححه .
ولا ينافي هذا ما في الموطأ وغيره بأسانيد صحيحة عن ابن عمر أنه كان يقصر في مسافة أكثر مما تقدم لأن ذلك فعل منه لا ينفي القصر في أقل منها لو سافر إليها فهذه النصوص التي ذكرناها صريحة في جواز القصر في أقل منها فلا يجوز ردها مع دلالة الحديث على الأقل منها؛ وقد قال الحافظ في الفتح : " وهو أصح حديث ورد في بيان ذلك وأصرحه وقد حمله من خالفه على أن المراد به المسافة التي يبتدأ منها القصر لا غاية السفر ولا يخفى بعد هذا الحمل مع أن البيهقي ذكره في روايته من هذا الوجه أن يحيى بن يزيد قال : سألت أنسا عن قصر الصلاة وكنت أخرج إلى الكوفة يعني من البصرة أصلى ركعتين ركعتين حتى أرجع فقال أنس : " فذكر الحديث " فظهر أنه سأله عن جواز القصر في السفر لا عن الموضع الذي يبتدئ القصر منه، ثم إن الصحيح في ذلك أنه لا يتقيد بمسافة بل بمجاوزة البلد الذي يخرج منها .
ورده القرطبي ـ أي الحديث ـ بأنه مشكوك فيه فلا يحتج به .
فإن كان المراد به أنه لا يحتج به في التحديد بثلاثة أميال فمسلم لكن لا يمتنع أن يحتج به في التحديد بثلاثة فراسخ فإن الثلاثة أميال مندرجة فيها فيؤخذ بالأكثر احتياطا وقد روى ابن أبي شيبة عن حاتم بن إسماعيل عن عبد الرحمن بن حرملة قال : قلت لسعيد ابن المسيب : " أأقصر الصلاة وأفطر في بريد ([2]) من المدينة، قال : نعم والله أعلم " قلت : وإسناد هذا الأثر عند بن أبي شيبة صحيح .
وروي عن اللجلاج قال : " كنا نسافر مع عمر رضي الله عنه ثلاثة أميال فنتجوز في الصلاة ونفطر " وإسناده محتمل للتحسين رجاله كلهم ثقات غير أبي الورد بن ثمامة روى عنه ثلاثة وقال ابن سعد : كان معروفا قليل الحديث .
وقد دلت هذه الآثار على جواز القصر في أقل من المسافة التي دل عليها الحديث وذلك من فقه الصحابة رضي الله عنهم فإن السفر مطلق في الكتاب والسنة لم يقيد بمسافة محدودة كقوله تعالى " وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ " الآية .
وحينئذ فلا تعارض بين الحديث وهذه الآثار لأنه لم ينف جواز القصر في أقل من المسافة المذكورة فيه ولذلك قال العلامة ابن القيم في زاد المعاد في هدي خير العباد : " ولم يحد صلى الله عليه وسلم لأمته مسافة محدودة للقصر والفطر بل أطلق لهم ذلك في مطلق السفر والضرب في الأرض كما أطلق لهم التيمم في كل سفر وأما ما يروى عنه من التحديد باليوم أو اليومين أو الثلاثة فلم يصح عنه منها شيء البتة والله أعلم " . اهـ
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية : " كل اسم ليس له حد في اللغة ولا في الشرع فالمرجع فيه إلى العرف فما كان سفرا في عرف الناس فهو السفر الذي علق به الشارع الحكم " . اهـ
وقد اختلف العلماء في المسافة التي تقصر فيها الصلاة اختلافا كثيرا جدا على نحو عشرين قولا وما ذكرناه عن ابن تيمية وابن القيم أقربها إلى الصواب وأليق بيسر الإسلام فإن تكليف الناس بالقصر في سفر محدود بيوم أو بثلاثة أيام وغيرها من التحديدات يستلزم تكليفهم بمعرفة مسافات الطرق التي قد يطرقونها وهذا مما لا يستطيع أكثر الناس لاسيما إذا كانت مما لم تطرق من قبل !.
وفي الحديث فائدة أخرى : وهي أن القصر مبدؤه من بعد الخروج من البلدة وهو مذهب الجمهور من العلماء كما في نيل الأوطار قال : " وذهب بعض الكوفيين إلى أنه إذا أراد السفر يصلي ركعتين ولو كان في منزله ومنهم من قال : إذا ركب قصر إن شاء ورجح ابن المنذر الأول بأنهم اتفقوا على أنه يقصر إذا فارق البيوت واختلفوا فيما قبل ذلك فعليه الإتمام على أصل ما كان عليه حتى يثبت أن له القصر؛ قال : ولا أعلم النبي صلى الله عليه وسلم قصر في سفر من أسفاره إلا بعد خروجه من المدينة " . اهـ
قلت : والأحاديث في هذا المعني كثيرة وقد خرجت طائفة منها في الإرواء من حديث أنس وأبي هريرة وابن عباس وغيرهم فانظر رقم 562 . اهـ من السلسلة الصحيحة بتصرف
أعدها للطباعة
أبو صفية
حسام بن أحمد بن عبد الحكيم السوهاجي
([1]) الفرسخ = 3 أميال أو 5544 م .
والميل = 4000 ذراع مرسلة أو 1.848 كم .
والذراع المرسلة = 6 قبضات أو 24 إصبعا .
والإصبع = 1.925سم .
([2]) البريد العربي = 4 فراسخ أو 22,176 كم .