نصّ الحديث: عن حفصة -رضي الله عنها-: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (مَنْ لَمْ يُثَبِّتِ الصّيامَ قَبلَ الفَجْر فلا صيامَ لَهُ)(١- أخرجه الدارامي (٢/٦)، والنسائي (٤/١٩٦)، والطحاوي في "شرح معاني الآثار" (٢/٥٤) من حديث حفصة -رضي الله عنها-)، وفي رواية (مَنْ لَمْ يُجْمِع الصيامَ قَبْلَ الفَجْر فلا صيامَ لَهُ)(٢- أخرجه أبو داود (٢/٨٢٣)، والترمذي (٣/١٠٨)، والنسائي (٤/١٩٦)، وأحمد في "مسنده" (٦/٢٨٧)، والبيهقي في "سننه الكبرى" (٤/٢٠٢)، والبغوي في "شرح السنة" (٦/٢٦٩)، من حديث حفصة رضي الله عنها)، ولابن ماجه والدَّرَقُطْني بلفظ (لا صيامَ لِمَنْ لَم يَفْرِضْهُ منَ اللَّيلِ)(٣- أخرجه أحمد: ( ٤/١٩٣) من حديث أبي ثعلبة الخشني رضي الله عنه، والحديث صحّحه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب: ( ٣/١٤) وفي صحيح موارد الظمآن (٢/٢٤٤)).
فقه الحديث: اتّفق العلماء على أنّه لا يجوز تأخير نيّة صوم الكفّارة وقضاء رمضان والنذر المطلق، ولا يصحّ إلاّ بنيّة من الليل(٤- "شرح السنّة" للبغوي (٦/٢٦٩)، " المجمع للنووي " (٦/٢٨٩، ٣٠١))، واختلفوا في جواز صوم رمضان بنيّة من النهار على مذهبين:
• المذهب الأوّل: يرى صحّة تأدية صوم رمضان بنيّة من غروب الشمس إلى منتصف النهار، كما يجوز بمطلق النيّة وبنيّة النفل، وهو مذهب أبي حنيفة وأصحابه(٥- انظر: "تحفة الفقهاء" للسمرقندي (١/٥٣٤)، "بدائع الصنائع" للكساني (٢/٤٨)، "فتح القدير" لإبن الهمام(٢/٤٨) "تبيين الحقائق" للزيلعي (١/٣١٣) "لإختيار" لإبن المودود (١/١/١٢٦)، و شذّ زفر الهذيلي صاحب أبي حنيفة في صوم رمضان على المريض و للمسافر أنّه واجب في حقّهما تبييت النّية من الليل ، كالقضاء لعدم تعّينه عليهما).
• المذهب الثاني: يرى عدمَ صحّةِ صوم ِ رمضان إلاّ بنيّة من الليل، وهو مذهب جماهير العلماء من السلف والخلف، وبه قال مالك والشافعي وأحمد وإسحاق بن راهوية وداود الظاهري(٦- "المحلى" لإبن حزم (٦/١٦٠) "بداية المجتهد" لإبن رشد (١/٢٩٣)، "المجموع" للنووي (٦/٣٠١)، "المغني" لإبن قدامة (٣/٩١)).
أوّلا: أدلة الفريقين
استدلّ كلٌ من الفريقين المتعارض في هذه المسألة بجملة من الأدلّة، نستعرضها مع الفريق الأوّل المتمثّل في مذهب الأحناف أوّلا، ثمّ الفريق الثاني في رأي الجمهور ثانياً.
١. أدلّة مذهب الأحناف القائلين بجواز صومه بنيّة من النهار:
احتجّ الأحناف بالكتاب والسنّة والقياس:
• أماّ الكتاب: فبقوله تعالى ﴿أُحِلَ لَكُمْ لَيْلَة الصِّيامِ الرَفَثُ إلى نِسَائِكُم، هُنَّ لِباسٌ لَكُمْ وأنتُم لِبَاسٌ لَهُنَّ، عَلِمَ اللهُ أَنَكُمْ كُنْتُمْ تَخْتانونَ أنْفُسَكُمْ فَتابَ عَلَيكُم وَعَفَا عَنْكُمْ، فالآنَ باشرُوهُنَ، وابْتَغوا مَا كَتَـبَ اللهُ لَكُمُ، وكُلُوا واشْرَبُوا حتَّى يَتَبَيَنَ لَكُمْ الخَيْطُ الأبْيَضُ مِنَ الخَيْطِ الأسْوَدِ مِنَ الفَجْر، ثُمَّ أتِمُّوا الصِّيَامَ إلَى اللَّيْلِ﴾(٧- الآية ١٨٧ من سورة البقرة).
وجه دلالة الآية: أنّها تأمر بالصوم متراخياً عن أوّل النهار بدلالة حرف "ثُمَ" الذي يفيد التعقيب مع التراخي، وهذا بعد إباحة الأكل والشرب والجماع إلى طلوع الفجر، والأمر بالصوم أمر بالنيّة، إذ هي ركن في صحّة الصوم شرعاً، فلزم منه الصوم بنيّة متأخّرة عن أوّل النهار، لأنّ العزيمة تصير كذلك بعد الفجر لا محالة، فيخرج من عهدة الامتثال من أتى به، لأنّه أتى بالمأمور به(٨- "تبيين الحقائق" للزيلعي (١/٣١٤)).
وتدل -من جهة أخرى- على أنّ الإمساك في أوّل النهار يقع صوماً وجدت النيّة أم انتفت، لأن إتمام الشيء يقتضي سابقية وجود بعض منه فضلا عن أنّ وقوع صوم المكلّف في وقت متعيّن شرعاً لصوم رمضان، فلا يكون لغيره إلاّ بتعيينه، وهذا يقتضي وجود ركن الصوم مع شرائطه(٩- "بدائع الصنائع" للكساني (٢/٨٦)).
• أمّا بالسنة: فقد احتجّوا بحديث سلمة ابن الأكوع(١٠- هو الصحابي أبو إياس سلمة بن عمرو بن الأكوع الحجازي، كام ممنّ بايع النبيّ صلى الله عليه وسلم على الموت بعد الحديبية، وكان من فرسان الصحابة، رامياً شجاعاً، عالماً فاضلاً، سخيّاً خيّراً، له سوابق ومشاهد محمودة، توفيّ سنة ٧٤ هـ/٦٩٣ م ( انظر ترجمته في " الاستيعاب "لابن عبد البرّ (٢/٦٣٩-٦٤٠)" أسد الغابة " لابن الأثير (٢/٣٣٣)، "البداية و النهاية" لابن كثير (٩/٦) " سير أعلام النبلاء "للذهبي" (٣/٣٢٦-٣٣١)، "الإصابة" لابن حجر (٢/٦٦-٦٧) "شذرات الذهب" لابن عماد (١/٨١) "الرياض المستطابة" للعامري (١٠١-١٠٢)) رضي الله عنه أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم عبث رجلا ينادي في الناس يوم عاشوراء(١١- عاشوراء هو العاشر من شهر محرّم، و اتّفق العلماء استحباب صيامه، ويُسَنّ الجمع بين التاسع والعاشر لحديث ابن عبّاس -رضي الله عنهما- مرفوعاً: ( لئن بقيت إلى قابل لأصومنّ التاسع ) أخرجه مسلم ٨/١٣، غير أن العلماء يختلفون في وجوبه قبل أن يُكتب رمضان ( أنظر "المنتقى" للباجي (٢/٥٨)، "المقدّمات الممهّدات" لابن رشد (١/٢٤٢)، "المغني" لابن قدامة (٣/١٧٣)، "الاعتبار" للحازمي (٣٤٠)، "المجموع" للنووي (٦/٣٨٢)، "فتح الباري" لابن حجر (٤/٢٤٥)) (أنَّ مَنْ أكَلَ فَلْيُتِمَّ أوْ فَلْيَصُمْ، ومَنْ لَمْ يَأكُلْ فَلاَ يأْكُلْ)، وفي رواية قال (أمَرَ النّبيّ صَلَى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَمْ رَجُلاً من أسْلَمَ أنْ أذّن في النَاسِ أنَّ منْ أكَلَ فَلْيَصُمْ بَقِيَةَ يَوْمِهِ، ومنْ لَمْ يَكُنْ أكَلَ، فَلْيَصُمْ، فإنَّ اليَوْمَ يَوْمُ عاشُراء)(١٢- متّفق على صحّته : أخرجه البخاري (٤/٢٤٥)، ومسلم (٨/١٣)، والبغوي في "شرح السنة" (٦/٣٣٥) من حديث سلمة بن الأكوع رضي الله عنه).
واحتج صاحب "الهداية"(١٣- هو أبو الحسن برهان الدين علي بن أبي بكر بن عبد الجليل المرغيناني، الفقيه الحنفي، صاحب كتاب الهداية والمنتقى وغيرهما، ولد سنة ٥٣٠ هـ/ ١١٣٥ م كان حافظاً مفسّراً محقّقاً أديباً، وتوفي سنة ٥٩٣ هـ/١١٩٦ م . أنظر ترجمته في "سير أعلام النبلاء" للذهبي (٢١/٢٣٢)، "الفوائد البهية" للكنوي (١٤١)، "الجواهر المضية" للقرشي (١/٣٨٣)، "الفكر الســـامي" للحجوي (٢/١٨٢)، "الأعلام" للزركلي (٥/٧٣)، "أسماء الكتب المتمّم لكشف الظنون" لعبد اللطيف رياض زادة (٧٩)) برواية ابن عبّاس: أنّ أعربيا شهد عند رسول الله صلى الله عليه وسلم برؤية الهلال فأمر مناديه أن ينادي (مَنْ أكَلَ فَلْيُمْسِكْ، و مَنْ لَمْ يَأكُلْ فَلْيَصُمْ)(١٤- حديث ابن عبّاس هو حديث الأعرابي المتعلّق بمسألة رؤية الهلال، وهو مغاير لحديث سلمة بن الأكوع في صوم عاشوراء، وأبو الحسن المرغيناني مزج لفظ الحديثين في "الهداية" (٢/٤٣)، كما سيأتي في المناقشة).
وجه دلالة الحديث: أنّه صلى الله عليه وسلم أمر بالصوم الشرعي في أثناء النهار، وهذا يقتضي القدرة عليه، لأنّه صلى الله عليه وسلم بعث لبيان الأحكام الشرعية، وآمرا به ولو شرطت النيّة من الليل لما كان قادراً عليه، فدلّ على عدم اشتراطها(١٥- "الاختيار" لابن مودود (١/١/١٢٧)، "تبيين الحقائق" للزيلعي (١/٣١٤))، وقد كان صومُ عاشوراء واجباً، فدلّ ذلك على جواز صوم رمضان بنيّةٍ من النهار، وإن اعتُرِضَ بأنّ الحديث منسوخ، فلا يلزم من كونه منسوخاً تسخُ كلِّ الأحكام المتعلّقة به، ذلك لأنّ الحديث دلّ على أمرين:
- أحدهما: وجوب صوم عاشوراء
- والثاني: أنّ الصوم الواجب في اليوم بِعَيْنِه يصحّ بنيّة من النهار فلا يلزم من نسخِ الأوّل نسخّ الثاني(١٦- انظر "مفتاح الوصول" للتلمساني (٦٥٦) بتحقيقنا، و"حاشية السندي على النسائي" (٤/١٩٣) و"ويل الغمام" للشوكاني (١/٤٨٧)، و"حاشية الشبلي على تبيين الحقائق" (١/٣١٤). وقال ابن العربي المالكي: "ومن علملئنا من قال : ‘نّ صوم عاشوراء أجزأ بنية من نهار، ثمّ نسخ الصوم في عاشوراء بشهر رمضان، ومنهم من قال: إن كان نسخ فرض الصوم فلم ينسج فرض النيّة ولا وقتها، والصحيح أن الحكم إذا نُسخ نُسج بجميع صفاته، إذ يمتنع أن ينسخ الأصل ويبقى الوصف" ("القبس" (٢/٥١٠)). قلت: ولا يمتنع ذلك إلاّ إذا كـان بين الأصل ووصفه ارتباط وتلازم، فإنّه يلزم من رفع الأصل رفع وصفه، وفي هذه المسألة انتفى الارتباط والتلازم بين نسخ وجوب عاشوراء وبين صحّة صومه بنيّة من نهار، فلا يلزم من رفع اعتبار حكم وجوبه رفع اعتبار حكم التبييت كما لا يلزم من نسخ وجوبه نسخ استحبابه).
ثمّ إنّ وضوح حديث ابن عبّاس الذي استدلّ به صاحب "الهداية" صريح في محلّ النزاع لوقوعه في رمضان، بدليل تعلّقه برؤية الهلال، فكان ذلك حجّة كافية وشاهداً قويّا على صحّة المذهب.
• أما بالقياس: فاستدلّوا به من جهتين:
- الجهة الأولى: قياسُ صوم الفرض على صوم النفل، بجامع أنّ كلَّ واحدة منهما عبادةُ مقيّدة ومضيّقة مطلوبة شرعاً، ثم "إنّ النوافل أتباع الفرائض"(١٧- أنظر هذه القاعدة في "الأم "للشافعي (١/٤٧)) فإذا صحّ صوم الفرض(١٨- "تبيين الحقائق" مع "حاشية الشبلي" عليه (١/٣١٤)، "فتح القدير" لابن الهمام (٢/٤٨)، "المجموع" للنووي (٦/٣٠١))، لأنّ "تبعيّة التابع تقتضي عدم انفكاك حكمه عن حكم متبوعه".
- الجهة الثانية: قياس نيّة الصوم على نيّة الصلاة في جواز تقديمها على المُنوَى بجامع أنّهما عبادتان، فإذا جاز تقديم النيّة من أول الغروب جاز تأخيرها، بجامع التيسير ودفع الحرج، إذ أنّ كثيراً من الناس يتحرّجون إذا لم تَجُز من النهار، كالذي نَسِيَها ليلا، أو كالتي طهرت من حيضها قبل الفجر ولم تعلم إلاّ بعده، أو كبلوغ الصبيّ وإقامة المسافر وإسلام الكافر بعد الفجر، وإذا ثبت هذا فإنّ المعنى الموجود في النيّة المتقدّمة موجود في النيّة المتأخّرة فحصل المطلوب(١٩- "الاختيار" لابن المودود(١/١/١٢٧)، "فتح القدير" لابن الهمام(٢/٤٨)).
هذا، وقد اعتذر الأحناف عن الأخذ بحديث الباب بجملة من الاعتذارات تظهر على الترتيب التالي:
- إنّ حديث الباب لا تقوم به حجّة لاضطرابه و عدم صحّة رفعه، على ما ذكره جماعة من الحفّاظ، ورجّحوا وقفه، قال البخاري: والصحيح عن ابن عمر موقوف، وصحّح الترميذي وقفه -أيضا-، وقال النسائي: الصواب عندي موقوف و لم يصحّ رفعه(٢٠- انظر "نصب الراية"(٢/٤٣٣)، "التلخيص الحبير" لابن حجر(٢/١٨٨))، وقال الطحاوي(٢١- هو الإمام أبو جعفر أحمد بن محمّد بن سلامة الأزدي الحجري المصري، ولد بـ" طحا " بصعيد مصر عام ٢٣٩هـ/ ٨٥٣م ونسب إليها، وتلقّى العلم عن خاله إسماعيل بن يحي المُزني أفقه أصحاب الشافعي وعن غيره، ثمّ انتقل إلى مذهب الأحناف، وانتهت إليه رئاسة الحنفية بمصر، كان محدّثا ثبتا، وفقيها مجتهدا، من مؤلفاته : العقيدة الطاحوية، وشرح معاني الآثار، ومشكل الآثار، وأحكام القرآن، توفيّ بمصر سنة ٣٢١هـ/ ٩٣٣م. انظر ترجمته في "طبقات الفقهاء" للشيرازي(١٤٢)، "تذكرة الحفّاظ" للذهبي(٣/٨٠٨)، "الجواهر المضيئة" للقرشي(١/٢٧١)، "مرآة الجنان" لليافعي(٢/٢٨١)، "الباب" لابن الأثير(٢/٨٢)، "لسان الميزان" لابن حجر(١/٢٨٤)، "تاج التراجم" لابن قطلوبغا (٦)، "البداية والنهاية" لابن كثير(١١/١٧٤)، "شذرات الذهب" لابن العماد(٢/٢٨٨)، "الفكر السامي" للحجوي(٢/١/٩٢)): "هذا الحديث لا يرفعه الحفّاظ الذين يروو له عن ابن شهاب، ويختلفون عنه اختلافا يوجب اضطراب الحديث بما هو دونه"(٢٢- "شرح معاني الآثار" للطحاوي(٢/١/٩٢))، وإذا ثبت الوقف فلا تقوم به حجّة(٢٣- "فتح القدير" لابن الهمام(٢/٤٦)، "حاشية الشلبي على تبيين الحقائق للزيلعي"(١/٣١٤))، ولا يقوم على المقاومة، لأنّ عاشوراء أصحّ.
- ومع التسليم، بصحّة الحديث مرفوعاً فهو من أخبار الآحاد، وقد تضمّن الزيادة على النصّ، فلو وجبت هذه الزيادة لكانت نسخا للمُطْلَقات الثابتةِ بالقرآن، وخير الآحاد لا يصلح ناسخاً للكتاب(٢٤- "بدائع الصنائع" للكساني(٢/٨٦))، لأنّ المظنون لا ينسخ المقطوع(٢٥- أانضر الزيادة على النصّ المطلق نسخ عند الأحناف في "أصول السرخسي"(٢/٨٢)، "ميزان الأصول" للسمرقندي(٧٢٣)، "كشف الأسرار" للبخاري(٣/٣٦٢)، "فتح الغفار" لابن نجيم(٢/١٣٥)، "فواتح الرحموت" للأنصاري(٢/٩١)).
- وعلى تقدير صلاحيته للاحتجاج، ولدفع التعارض، وجب تأويله وحمله على المحامل التالية:
● حَمْل الحديث على صوم الكفّارة وقضاء رمضان والنذر المطلق(٢٦- "تبيين الحقائق" للزياعي (١/٣١٤)).
● حَمْله على نفي الفضيلة والكمال، فيكون مراده: (لا صيام كامل أو أفضل لمن لم يبيّت النيّة من الليل)، كقوله (لاَ صَلاَةَ لِجَار المَسْجِدِ إلاَ في المَسْجِدِ)(٢٧- المصدر السابق، و" بدائع الصنائع" للكساني(٢/٨٦)، وسيأتي تخريج الحديث).
● حَمْلُه على النهي عن تقديم النيّة على الليل، بأن نوى قبل غروب الشمس لأن يصوم غداً، أو حَمْله على نفي نيّة الصيام، أي: لا صيام لمن لم ينوه من الليل، بأن نوى الصيام من وقت نوى من النهار، فيكون الجار في الحدث وهو "من الليل" متعلّقا بصيام الثاني لا يبيّت(٢٨- "تبيين الحقائق"للزيلعي مع "حاشية الشبلي"(١/٣١٤)).
٢. أدلّة مذهب الجمهور المانعين من صومه بنيّة من نهار:
احتجّ الجمهور بالسنّة والقياس:
• أماّ بالسنّة: فبحديث الباب استدلوا على عدم صحّةِ صوم رمضان إلاّ بنيّةٍ من الليل في أيّ جزء من أجزائه، وعليه لا يصحّ التبييت قبل أوّل أجزائه، وهو الغروب، ولا بعد انقضاء آخر أجزائه.
• أمّا استدلالهم بالقياس: فبإلحاق صوم رمضان على القضاء والكفّارة بجامع فرضية الصوم ووجوبه في الكلّ، فلمّا كان تأخير نيّة الصوم في القضاء والكفّارة لا يصحّ إلاّ بنيّة من الليل وجب إلحاق الفرع بأصله المتّفق عليه(٢٩- "المغني" لابن قدامة(٣/٩٢)، "المجموع" للنووي(٦/٣٠١)).
ثانيا: مناقشة الأدلّة السابقة
نتعرّض أوّلا إلى مناقشة أدلّة الأحناف فيما ذهبوا إليه، ثمّ النظر في مدى صحّة اعتذاراتهم في عدم الأخذ بحديث الباب، ونستتبع ذلك بمناقشة صحّة القياس الذي استدلّ به الجمهور على مذهبهم.
١- مناقشة أدلّة الأحناف:
• بخصوص الآية التي احتجّ بها الأحناف، فإنّه لا يلزم من الأمر بالصوم الأمر بالنيّة، لأنّ وجوبها في الصوم لم يكن بمجرّد الأمر بالصوم، بل بورود أدلّة خارجية أخرى تثبتها، مثل قوله تعالى ﴿وَماَ أُمِروا إلاَّ لِيَعْبُدوا اللهَ مُخْلِصينَ لَهُ الدينَ﴾(٣٠- جزء من آية ٥ من سورة البيّنة)، وقوله صلى الله عليه وسلم (إنَماَ الأعْمالُ بالنّيّاتِ)(٣١- أخرجه البخاري(١/٩)، ومسلم(١٣/٥٣)، وأبو داود(٢/٦٥١)، والترمذي(١/١٧٩)، والنسائي(١/٨٥)، وابن ماجه(٢/١٤١٣)، وأحمد في مسنده(١/٢٥-٤٣)، من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه).
والتأسيس على أنّ الآية تأمر بالصوم بنيّة متأخّرة عن أوّل النهار ظاهر الفساد وما بني عليه مثله، إذ لو كان حقّا لكان الإتيان بالنيّة بعد طلوع الفجر أفضل من غيرها، وهو قول لا يجيزه الجمهور فضلا عن الأحناف، ومن ناحية أخرى فإنّ النبي صلى الله عليه وسلم بيّن هذه الآية بالتنصيص على النيّة، وتعيين وقتها من الليل، فوجب المصير إلى سنّته والأخذ ببيانه.
وما استنبطه الأحناف من الآية على أنّ الإمساك يقع صوما وجدت النيّة أو انتفت، فلا يخفى معارضته لحديث (إنَماَ الأعْمالُ بالنّيّاتِ)، الذي ينصّ صراحة على أنه لا عمل إلاّ بنيّة.
● أماّ حديث سلمة بن الأكوع فقد عورض بأنّ عاشوراء لم يكن واجبا، و إنّما كان تطوعاً شديد التأكيد(٣٢- "المجموع" للنووي (٦/٣٠١))، بدليل حديث معاوية رضي الله عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول (هَذا يَومُ عاشوراءَ، وَلَم يُكْتَبْ عَلَيْكُمْ صِيامُهُ، فمَنْ شَاءَ فاليَصُمْ وَمَنْ شَاءْ فَلْيُفْطِرْ)(٣٣- متّفق عليه : أخرجه البخاري (٤/٢٤٤)، ومسلم (٨/٨)، من حديث معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهما)، فالحديث نصّ صراحة على عدم وجوبه بقوله (وَلَمْ يُكْتَبْ عَلَيْكُمْ صيامُهُ)، وقوله (فمَنْ شاءَ فلْيَصُمْ ومَنْ شاءَ فلْيُفْطِرْ) إذ التخيير ينافي الوجوب.
ويؤيّد ذلك عدم النقل عنه صلى الله عليه وسلم أنّه أوجب على من أفطر قضاءه، فما لم يجب لا يجب قضائه.
غير أنّ القول بتطوّعية صوم عاشوراء يعارضه حديث عائشة -رضي الله عنها- قالت (كان رسول الله صلى الله عليهو سلم أَمَرَ بِصِيامِ عاشُوراءَ، فَلَمَّا فـُرضَ رَمَضَانُ كنَ مَنْ شاءَ صامَ ومنْ شاءَ أفْطَرْ)(٣٤- "صحيح البخاري"(٤/٢٤٤)، في الصوم: باب صيام يوم عاشوراء)، وفي رواية أخرى عنها قالت (فَلَمّا قَدِمَ المَدينة صامَهُ وأمَرَ الناسَ بصَيامِهِ، فلَمَّا فـُرضَ رَمَضانُ تَرَكَ يَومَ عاشوراءَ، فَمَنْ شاءَ صامَهُ ومن شاءَ تَرَكَ صيامَه)(٣٥- المصدر السابق نفس الجزء والصفحة)، والحديث يدلّ على أنّ صوم عاشوراء كان واجباً، وأنّ وجوبه نُسخَ بفريضة رمضان.
وقد حقّق الحافظ ابن حجر(٣٦- هو أبو الفضل أحمد بن عليّ بن محمّد الشهير بابن حجر الكناني العسقلاني المصري، الحافظ الكبير، الإمام المنفرد بمعرفة الحديث وعِلَلِهِ في عصره، الشافعي الفقيه، ولد سنة (٧٧٣هـ/١٣٧٢م)، توفيّ والده وهو صغير فتربّى في حضانة أحد أوصياء أبيه، ودرس حتى برع في العلم، وتولّى التدريس، وأصبح رؤوس العلماء من كلّ مذهب تلامذته، كما تولّى القضاء والتصنيف، له مؤلّفات نفيسة، منها: فتح الباري، وتهذيب تهذيب الكمال، والإصابة، و الدرر الكامنة وغيرها، توفّي سنة (٨٥٢هـ/١٤٤٩م). انظر ترجمته في "الضوء اللامع" للسخاوي(٢/٣٦)، "حسن المحاضرة" للسيوطي(١/٢٠٦)، "البدر الطالع" للشوكاني(١/٧٨)، "الفكر السامي" للحجوي(١/٢/٣٥٠)، "الإعلام" للزركلي(١/١٧٣)، "معجم الأصوليّين" للبقا(١/١٧٧)) هذه المسألة ونظم متفرِّقَها بقوله <ويؤخذ من مجموع الأحاديث أنّه كان واجباً لثبوت الأمر بصومه، ثمّ تأكّد الأمر بذلك، ثمّ زيادة التأكيد بالنداء العام، ثمّ زيادته بأمر كلّ من أكل بالإمساك، ثمّ زيادته بأمر الأمّهات أن لا يرضعن فيه الأطفال، وبقول ابن مسعود الثابت في "صحيح مسلم": "لمّا فرضّ رمضان ترك عاشوراء"، ومع العلم بأنّه ما ترك استحبابه، بل هو باق، فدلّ على أنّ المتروك وجوبه>(٣٧- "فتح الباري" (٤/٢٤٧)).
<ويزيد تأكيد الوجوب أنّ من شهد أمره بصوم عاشوراء والنداء بصومه في السنة الأولى أو أوائل العام الثاني إنمّا هم الصحابة السابقين الذين رووا الوجوب بخلاف راوي عدم الوجوب، فلم يشهد معاوية ما شهد أولئك باعتبار أنّه من مسلمة الفتح>(٣٨- المصدر السابق نفس الجزء والصفحة).
ومع ذلك يمكن الجمع بين الأحاديث السابقة التي ظاهرها التعارض بحمل حديث معاوية ابن أبي سفيان رضي الله عنهما في قوله عليه الصلاة والسلام (ولمْ يُكْتَبْ عَلَيْكُمْ صِيامُهُ) على عدم فرضيته بقوله عزّ وجلّ ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُْ الصِّيامُ كَمَا كُتِبَ عَلى الذينَ مِنْ قـَبْلِكُمْ﴾(٣٩- جزء من آية ١٨٣ من سورة البقرة)، أو يحمل على أنّ فرضيته لم تتقرّر على سبيل الدوام والاستمرار كما هو حال صيام رمضان(٤٠- "فتح الباري" لابن حجر(٤/٢٤٧)).
هذا، ومع التسليم بعدم نسخ الصوم الواجب في يوم معيّن بنيّة من نهار، فإنّ جوابه يظهر من جهتين:
- الجهة الأولى: إنّ الاستدلال به خارج عن محلّ النزاع، لأنّ المتنازَع فيه هو الصيام الواجب المقدور عليه، وإيقاع النيّة من نهار في صوم عاشوراء بعد النداء إنمّا صحّ ضرورة لأهل الأعذار، ذلك لأنّ تبييت النيّة أمر متعذّر عليهم، والرجوع إلى الليل غير مقدور، فكان الجواز خاصًّا بمن ظهر له وجوب الصيام من النهار، كالمجنون يفيق والصبيّ يحتلم والمغمى عليه يصحوا والكافر يسلم والمسافر يقيم، على ما ذهب إليه ابن حزم(٤١- هو أبو محمّد عليّ بن سعيد بن حزم بن غالب الفارسي الأصل، الأندلسي القرطبي، تفقّه على المذهب الشافعي، وانتقل إلى المذهب الظاهري، فكان قمّة في علوم الإسلام، يجيد النقل، ويحسن النظم والنشر، فقيها مفسّرا، محدّثا أصوليا، طبيبا أديبا، مؤرّخا عاملا بعلمه زاهدا في الدنيا، ترك مؤلّفات قيمة منها: الإحكام في أصول الأحكام، والمحلّى بالحجج والآثار، والفصل في الملل والأهواء والنحل، وجمهرة أنساب العرب، توفّي سنة (٤٥٦هـ/١٠٦٣م).
انظر ترجمته في : "معجم الأدباء" لياقوت(٣/٢٣٥)، و"فيات الأعيان" لابن خلّكان(٣/٣٢٥)، "جذوة المقتبس" للحميدي(٣٠٨)، "بغية الملتمس" للضبّي(٤١٥)، "الصلة" لابن بشكوال(٢/٤١٥)، "سير أعلام النبلاء" للذهبي(١٨/١٨٤)، "دول الإسلام" للذهبي(١/٢٦٨)، "تذكرة الحفّاظ" للذهبي(٣/١١٤٦)، "مرآة الجنان" لليافعي(٣/٧٩)، "البداية والنهاية" لابن كثير(١٢/٩١)، "طبقات الحفّاظ" للسيوطي(٤٣٥)، "نفح الطيب" للمقري(٢/٧٧)، "شذرات الذهب" لابن العماد(٣/٢٩٩)، "الفكر السامي" للحجوي(٢/٣/٤٢)، "الفتح المبين" للمراغي(١/٢٥٥)، "ابن حزم: فقه و آراؤه" لمحمّد أبو زهرة) الظاهري وتبعه في ذلك الشوكاني(٤٢- هو أبو عبد الله محمّد بن عليّ بن محمّد الشوكاني ثمّ الصنعاني اليمني الفقيه المحدّث الأصولي النظّار، عرف بالإمام المجهد ، ولد بهجرة شوكان سنة (١١٧٢هـ/١٧٥٨م)، ونشأ بصنعاء، كان فريد عصره ونادر دهره، له مؤلّفات في التفسير كفتح القدير، والحديث كنيل الأوطار، والأصول كإرشاد الفحول، توفي سنة (١٢٥٠هـ/١٨٣٤م).
انظر ترجمته في: "البدر الطالع" للشوكاني (٢/٢١٤)، "الفتح المبين" للمراغي (٣/١٤٤)، "الأعلام" للزركلي (٦/٢٩٨)، "معجم المؤلّفين" لكحّالة (١١/٥٣)، "الإمام الشوكاني، حياته وفكره" د.عبد الغنيّ قاسم غالب الشرجي، الإمام الشوكاني مفسّرا" محمّد حسن بن أحمد الغماري)، بخلاف القادرين، فلا يصحّ منهم صيام إلاّ بتبييت النيّة من الليل، كما أرشد إليه حدبث الباب(٤٣- "المحلّى" لابن حزم(٦/١٦٤-١٦٦)، "نيل الأوطار" للشوكاني (٥/٢٦٠-٢٦١)، وللإمام الشوكاني رسالة في وجوب الصوم على من لم يفطر إذا وقع الإشعار في دخول رمضان في النهار ("البدر الطالع" (٢/٢٢٠))).
- الجهة الثانية: تتمثّل في إلحاق صورة صيام عاشوراء بنيّة من نهار على صورة إستقبال أهل قباء بالستدارة نحو الكعبة، بجامع أنّهم لم يبلغهم الحكم و لم يخاطبوا بما قبله، وفق هذا المنظور يقول النووي(٤٤- هو أبو زكريا يحيى بن شرف بن مري الشافعي، الملقّب بمحي الدين النووي، ولد بـ ( نوا ) من قرى حوران في بلاد الشام سنة (٦٣١هـ/١٢٣٣م)كان إماما عالما بالفقه حافظا للحديث وفنونه ورجاله، إلى جانب ذلك عرفَ بالزهد والورع، ولي مشيخة دار الحديث، ولم يأخذ من مرتّبها شيئا، توفيّ سنة (٦٧٦هـ/١٢٧٧م)، ولم يتزوّج، من مؤلفاته : شرح صحيح مسلم، المجموع شرح المهذّب، رياض الصالحين، وهي كتب لا غنى للعالم - فضلا عن طالب العلم - عنها.
انظر ترجمته في : "طبقات الشافعية الكبرى" لابن السبكي(٥/١٦٥)، "تذكرة الحفّاظ" للذهبي(٤/١٤٧٠)، "طبقات الشافعية" لابن هداية الله الحسيني(٢٢٥)، "البداية والنهاية" لابن كثير(١٣/٢٧٨)، "شذرات الذهب" لابن العماد(٥/٣٥٤)، "الأعلام" للزركلي(٨/١٤٩)، "الفتح المبين" للمراغي(٢/٨١)، "معجم المؤلّفين" لكجّالة(١٣/٢٠٢)، "الفكر السامي" للحجوي(٢/٤/٣٤١)) ما نصّه <ولو سلّمنا أنّه كان فرضاً فكان ابتداء فرضه عليهم من حين بلغهم، و لم يخاطبوا بما قبله، كأهل قباء في استقبال الكعبة، فإنّ استقبالها بلغهم في أثناء الصلاة، فاستداروا وهم فيها من استقبال بيت المقدس إلى استقبال الكعبة، و أجزأتهم صلاتهم، حيث لم يبلغهم الحكم إلاّ حينئذ، وإن كان الحكم باستقبال الكعبة قد سبق قبل هذا في حقّ غيرهم، ويصير هذا كَمَن أصبح بلا نيّة ثمّ نذر في أثناء النهار صوم ذلك اليوم>(٤٥- "المجموع" للنووي(٦/٣٠١)).
● وقد وهم في الحديث الذي ساقه أبو الحسن المرغيناني صاحب "الهداية" في استدلاله بشهادة الأعرابي في رؤية الهلال من حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال الزيلعي: "حديث غريب"(٤٦- "نصب الراية" للزيلغي(٢/٤٣٥))، وذكره ابن الجوزي في "التحقيق" وقال: <وهذا لا يُعرف، وإنّما المعروف أنّه شهد عنده أعرابيٌّ برؤية الهلال، فأمر أن ينادي في النلس أن تصوموا غداً(٤٧- "التحقيق" لابن الجوزي(٢/٦٧))، ومع ذلك فلفظ حديث ابن عبّاس الذي أخرجه أصحاب السنن وغيرهم: أنّ أعرابياً جاء إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم فقال: إني رأيت الهلال، فقال (أَتَشْهَدْ أنَ لا إلَهَ إلاَّ الله؟) قال نعم، قال: (أتَشْهَد أنَ مُحَمّداً رَسُلُ اللهِ؟) قال نعم، قال: (فأذِنْ في النَّاس - يا بِلالُ - أنْ يَصُوموا غـَداً)(٤٨- أخرجه الترمذي(٣/٧٤)، وأبو داود(٢/٧٥٤)، والنسائي(٤/١٣١-١٣٢)، وابن ماجة(١/٥٢٩)، والحاكم(١/٤٢٤)، والبيهقي(٤/٢١١-٢١٢)، والدارمي(٢/٥)، من حديث ابن عبّاس -رضي الله عنه- والحديث ضعّفه الألباني في "الإرواء"(٤/١٥))، ضعيف لا تقوم به حجّة، ومع التسليم بها فليس في هذا اللفظ من الحديث ما يستدلّ به على محل النزاع، لأنّ رؤية الأعرابي و أمْرَ النبيّ صلى الله عليه وسلم بالصوم كان في الليل، كما يظهر ذلك جليًّا من قوله (أنْ يَصُومُوا غـَداً)>.
● وأمّا استدلالهم بالقياس فغير ناهض من جهتين:
١. ذلك لأنّ الجهة الأولى التي احتجّوا بقياس الفرض على النفل فإنّها تختلف باختلاف حكم النفل، فمن لم يخصّص النفل من عموم الصيام في وجوب إيقاع النيّة من الليل، فإنّ قياسهم لا يتمّ لأنّ من شروطه وجوب اتّفاق الفرع المقيس على الأصل المقيس عليه في الحكم، والمقيس عليه -وهو النفل- غير خارج بالتخصيص من عموم قوله صلى الله عليه وسلم (فلا صِيامَ لَهُ)، فيصير -عندئذ- قياسهم عليه لا لهم.
ومن خصّص صيام النفل بصحّة صومه بنيّة من نهار من عموم الصيام، فيبقى قياسهم غير سليم من ناحيتين:
- الأولى: إنّ المعهود في الشريعة التخفيف والتيسير في النوافل دون الفرائض، كما هو معلوم في الصلاة مِن تَركِ القيام واستقبالِ القبلة في نفل السفر، والقعودِ والاعتمادِ في التطوّعات، ومن هنا كان الفرق ظاهراً، لأنّ التطوّع مبنيّ على التخفيف تكثيرا له، بخلاف الفرض، فافترقا(٤٩- "المجموع" للنووي(٦/٣٠١)).
- الثاني: إنّ القياس يقتضي عدم التفريق بين الفرض والنفل في وجوب تبييت النيّة من الليل، فلمّا استثناه الشارع من عموم الصيام صار حكم الأصل معدولا به عن سَنن القياس(٥٠- انظر مسألة المعدول به عن سننّ القياس في "مفتاح الوصول" للتلمساني(٦٥٧) بتحقيقنا والمصادر المثبّتة على الهامش)، وعليه فلا يتمّ قياسهم، لأنّ ما ثبت على الخلاف القياس فغيره عليه لا يقاس(٥١- انظر هذه القاعدة في "المدخل الفقهي العامّ" للزرقا(٢/١٠١١)، و"القواعد الفقهية" للندوي(٤٢٠)).
٢. أمّا الجهة الثانية التي احتجّوا بها فإنّه يلزم من أعمال قياسهم صحةُ الصوم بنيّة من نهار بعد الزوال إلحاقاً بما قبله، بجامع التيسير ورفع الحرج، إذ العسر والضيق والحرج يوجد بعد الزوال أيضاً، والأحناف يمنعون صحّة النيّة بعد الزوال، وإذا كان الازم باطلا فالملزوم مثله.
ولعلّ الحرج والمشقّة في جواز تأخير النيّة من نهار خاص بغير القادرين، لانتفاء الحرج في إيجابها عليهم من الليل - كما تقدم من مذهب بن حزم ومن تبعه -، وما جاز لأجل الضرورة لا يلزم جوازه في غيرها.
٢- مناقشة اعتذارات الأحناف: أمّا اعتذارات الأحناف في عدم الأخذ بحديث الباب فقد نوقشت على الوجه التالي:
١. إعلال الحديث بسبب الاضطراب في رفعه ووقفه ليس سببا موجبا لتضعيفه، بل العكس، فإنّ بروايته بطريق الرفع والوقف موجب لقوّة الحديث، ولهذا يرى ابن حزم أنّ الاختلاف في الخبر يزيده قوّة(٥٢- "المحلّى" لابن حزم(٦/١٦٢))، وخاصّة أن الذي رفعه ثقة ثبت، فقد رواه مسندا عبد الله بن أبي بكر الصديق(٥٣- "نصب الراية" للزيلغي(٢/٤٣٣)، "التلخيص الحبير" لابن حجر(٢/١٨٨)، "الدراية" لابن حجر(١/٢٧٥)) وابن عمر أيضا -رضي الله عنهم- والرفع زيادة، "وزيادة العدول والثقات مقبولة" -كما تقرّر في الأصول وعلوم الحديث(٥٤- انظر أقوال العلماء في مسألة زيادة الثبت العدل في رواية الأخبار في "شرح صحيح مسلم" للنووي(١/٣٢)، "فتح المغيث" للسخاوي(١/٢١٢)، "مقدمة ابن الصلاح"(٤٠)، "اختصار علوم الحديث" لابن كثير(٦١)، "تدريب الراوي" للسيوطي(١/٢٠٤)، "توضح الأفكار" للصنعاني(٢/١٦)، "أسباب اختلاف المحدّثين" للأحدب(١/٣٤٣))-.
وعلى تقدير عدم صحّته مرفوعاً فقد اشتهر موقوفاً بأسانيد صحيحة عن ثلاثة من الصحابة، وهم: ابن عمر وحفصة بنت عمر وعائشة بنت أبي بكر رضي الله عنهم، ولم يُعلًم لهم مخالف من الصحابة فيكون حجّة عند أكثر العلماء وأصحاب أبي حنيفة(٥٥- هذه المسألة معروفة عند الأصولييّن بـ "الإجماع السكوتي"، وقد اختلف العلماء في كونه إجماع وحجّة، فالذي علبه جمهور العلماء من الحنفية والمالكية والحنابلة أنّه حجّة وإجماع، وفي المسألة أقوال أخرى (أنظر "الإشارة" للباجي - بتحقيقنا -(٢٨٢)، والمصادر المثبتة على الهامش ص: ٢٨٤)).
وحديث سَلَمَة بن الأكوَع الدالّ على جواز صوم عاشوراء بنيّة من نهار، وإن كان أصحَّ سنداً من حديث الباب، فلا يعارضه، لخروجه من محلّ النزاع -كما تقدّمنا-، لانّ المتنازع فيه هو الصيام الواجب المقدور، هل يصحّ إيقاع النيّة من النهار فيه من غير عذر مقترن به؟ وحديث عاشوراء مغاير، لأنّه خاصّ ضرورة لأهل الأعذار لتعذّر الرجوع إلى الليل واستحالته.
٢. والاعتراض على حديث الباب بأنّه من أخبار الآحاد، لا يصلح ناسخا للكتاب،لكونه زيادة على النصّ القرآني فيعتبر نسخا، فإنّ التحقيق في المسألة الزيادة على النصّ هو التفصيل، فإنّ كانت الزيادة أثبتت حكما نفاه النصّ المتواتر أو نفت حكما أثبته النصّ المتواتر فهي نسخ له، وإن كانت الزيادة لم تتعرضّ للنص بنفي ولا إثبات، بل زادت شيئا سكت عن النص، فلا يجوز أن يكون نسخا، لأنّها إنما رفعت الإباحة العقلية التي هي البراءة الأصلية، ورفعها ليس نسخا إجماعا، لأنّ النسخ "هو رفع الحكم الشرعي بالدليل الشرعي المتأخّر عنه"، والبراءة ليست حكما شرعيا، وإنّما هي حكما عقلي(٥٦- انظر: "أضواء البيان" للشنقيطي (٥/٢١١-٢١٢ و٧/٥٥٦-٥٥٨)). والقول أنّ المتواتر لا يُنسخ بالآحاد غير صحيح -على التحقيق-، وإنّ خالف جمهورُ الأصوليّين ذلك، لأنّ أخبارَ الآحادِ الصحيحةَ الثابتَ تأخّرُها عن النصّ المتواتر لا منافاة بينها أصلا، ولا تعارض البتّة، حتّى يترجّح المتواتر على الآحاد، إذ لا تناقض بين خبرين اختلف زمنهما، لجواز صدق كلّ منهما في وقته، وإيضاح ذلك: أنّ المتواتر في وقته قطعيّ، ولكن استمرار حكمه إلى الأبد غير قطعيّ، فنسخه بالآحاد إنّما نفيَ استمرار حكمه الذي لا قطعية في دلالته على دوام حكمه، ولذلك لا وجه لردّ خبر الآحاد لأنّ كلا منهما حقّ في وقته(٥٧- انظر: "إرشاد الفحول" للشوكاني(١٩١)، و"أضواء البيان" للشنقيطي (٦/٦٣)).
٣. أمّا التأويلات الواردة على حديث الباب فالجواب عنها فيما يلي:
أ - حمل حديث الباب على صوم الكفّارة والقضاء والنذر ويخالف المعنى الظاهر من الزاويتين:
- الأولى: إنّ العموم ظاهر في كلّ صوم لوجود النكرة في سياق النفي.
- الثانية: إنّه يَسبق إلى الفهم من لفظ "الصوم" الصومُ الأصلي الذي يكون وقوعُه غالبا في النصّ المتبادر منه هو الفرض والنفل، أمّا القضاء والكفّارة والنذر فإنّ وجوبَه بعارض ووقوعَه نادرٌ(٥٨- "مذكرة الشنقيطي في الأصول"(١٧٨)).
وبناء عليه، فإنّه "لا يصلح أن يصار إلى المحتمل المرجوح بإرادة العارض النادر مع وجود الراجح الظاهر" المتمثّل في إرادة الأصل الغالب من النصّ، إلاّ بدليل أقوى منه يدلّ على صرف اللفظ عن ظاهره المتبادر منه إلى المحتمل المرجوح، كما هو مقرّر من علم الأصول، وحديث عاشوراء، لا يصلح صارفا - كما سبق بيانه -، وصرفه به على هذا النحو من التأويل البعيد(٥٩- المرجع السابق).
بـ - حمل الحديث على النفي الفضيلة و الكمال لا يستقيم، لأنّ "الأصلَ اتّجاهُ النفي إلى الصحّة"، لكونها أقرب المجازين إلى الذات، أو نفي العمل باعتبار حقيقته الشرعية، ولا يعدل عن هذا الظاهر إلاّ بدليل أقوى(٦٠- "ويل الغمام" للشوكاني(١/٤٨٨)) على ما تقدّم إيضاحه، وحديث (لاَ صَلاَةَ لِجَار المَسْجدِ إلاَّ في المَسْجدِ) ضعيفٌ لا تقوم به الحجّة(٦١- أخرجه الحاكم(١/٢٤٦)، والدارقطني(١٦١)، والبيهقي (٣/٥٧)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، قال السخاوي : أسانيده ضعيفة، وليس له إسناد يثبت (أنظر : "المقاصد الحسنة" للسخاوي(٧٢٦)، "التمييز" للشيباني(٢١٣)، "كشف الخفاء" للعجلوني(٢/٣٦٥)، "الفوائد" للشوكاني(٢١)، "سلسلة الأحاديث الضعيفة" للألباني(١/٢١٧))، و لو صحّ لوجب حمله على نفي صحّة صلاة جار المسجد إلا فيه، لأنّ الصحّة كلما وُجدت فحقيقة الصلاة الشرعية موجودة، وكلّما عدمت فهي معدومة.
جـ - أمّا التأويل الأخير فغريب وبعيد، يردّه نص الحديث المرفوع والأحاديث الموقوفة التي تصرّح بوجوب إيقاع النيّة من الليل.
٣- مناقشة أدلّة الجمهور:
· حديث الباب الذي احتجّ الجمهور على مذهبهم فقد اعترض عليه الأحناف بجملة من الاعتراضات تقدّم ذكرها.
· أمّا قياس الجمهور فَفُنِّدَ بظهور الفارق بين المقيس والمقيس عليه، ومناط الفرق يظهر في أنّ الوقت في القضاء والكفارة غير متعيِّن لهما شرعا، بخلاف صوم رمضان متعيّن للنفل، ولا يكون لغيره إلاّ بتعيّنه، فإذا لم يَنْو من الليل صوما آخر بقي الوقت متعيِّنا للتطوّع فلا يملك تغييره(٦٢- "بدائع الصنائع" للكسائي(٢/٨٦)، "تبيين الحقائق" للزيلغي(١/٣١٦)).
ثالثا: سبب اختلاف العلماء:
يرجع سبب الخلاف في هذه المسألة -عند التأمّل- إلى المسائل التالية:
- في النصوص الشرعية الواردة في المسألة التي ظاهرها التعارض.
- في الاضطراب الحاصل في حديث حفصة رضي الله عنها بين صحّة الرفع أو الوقف.
- في صلاحية حديث سلمة بن الأكوع (حديث عاشوراء) أن يكون دليلا صارفا للَّفظ عن ظاهره المتبادر إلى المحتمل المرجوح.
- في صحّة أن تكون الزيادة على النصّ نسخ، وفي صحّة النسخ التواتر بالآحاد.
- في تقرير وجوب ارتباط وتلازم بين الحكمين اللذين تضمّنهما حديث سلمة بن الأكوع حتى يلزم من رفع أحد الحكمين رفعُ الآخر.
- في توهّم سريان نسخ حكم من أحكام الأصل المقيس عليه إلى الحكم الذي يطلب مثله في الفرع(٦٣- انظر: "مفتاح الوصول" للشريف التلمساني(٦٥٦)).
- في التوهّم الأجمال الوارد على النفي المضاف إلى جنس الفعل من حديث حفصّة رضي الله عنها(٦٤- ووجه الإجمال فيه تردّده بين نفي الصوم الحقيقي الذي هو الإمساك وبين نفي الصوم الشرعي، وشأن المجمل التعطيل حتّى يرد البيان، ولذلك لايشترطون تبييت النيّة (انظر: "أسباب اختلاف الفقهاء" لعبد الله التركي(١٨٤))).
رابعًا: الرأي المختار
بعد الاطلاع على أدلة الفرقين المتعارضين والوقوف على سبب اختلافهم، فإنه يترجَّح مذهب الجمهور للاعتبارات التالية:
• لقوَّة أدلتهم وضعف أدلة واعتذارات مخالفيهم على ما ظهر أثناء المناقشة.
• ولأنّ حديث الباب روي مسندًا وموقوفًا، والرفع زيادة، والزيادة من الثقة مقبولة -كما تقرَّر في الأصول وعلومِ الحديث-.
• ولأنّ الزيادة في الحديث لم تتعرّض للنص القرآني بنفي ولا إثبات، وإنما زادت شيئًا سكت عنه النص فلا يعتبر نسخًا؛ لأنها رفعت الإباحةَ العقليةَ؛ ولأنه لا وجه لردّ خبر الآحاد الصحيح الثابت تأخّره عن المتواتر إذ لا تعارض البتة بينهما ولا تناقض بين النصين اختلف زمنهما لجواز صدق كلّ واحد منهما في وقته، فَنَسْخُ المتواتر بالآحاد إنما رَفَع استمرارَ حكم المتواتر، ودلالة المتواتر على استمرار حكمه ليست قطعية حتى يمنع نسخها بأخبار الآحاد الصحيحة.
• وإذا سلمنا أنّ الزيادة على النص نسخ فلا نسلم أنّ الآية نص، بل إنّ المطلق ظاهر في معناه لا نصّ، وإذا كان ظاهرًا جاز تأويله بخبر الواحد.
• ولأنّ حديث عاشوراء وإن استظهر بعدم لزوم نسخ وجوب عاشوراء نسخ صحة تعيين يوم من الصوم الواجب بنية نهار بالنظر لعدم وجود ارتباط وتلازم بين الحكمين إلاّ أنّ الحكم الثاني المحكم غير المنسوخ خارج عن محلّ النِّزاع من جهة، ولا يصلح صارفًا -من جهة أخرى- لظاهر حديث الباب للعلة نفسها.
وعليه، لم يُبْنَ الفرع على الأصل في الحكم المنسوخ بل في حكم آخر، ولا يلزم من نسخ حكم الوجوب نسخ حكم التبييت المقيس على الأصل فيه.
• وأمّا الإجمال فبعيد؛ لأنّ المجمل هو «ما احتمل مسمّياتِ كلِّ واحدٍ منها يجوز أن يكون مرادًا للمتكلّم»، وهذا معدوم في حديث حفصة -رضي الله عنها-؛ لأنّ النبي صلى اللهُ عليه وآله وسَلَّم بُعث لبيان الأحكام الشرعية لا الأوضاع اللغوية فيحمل كلامه على المعهود من عرف الشرع.
• والتعارض بين الأدلة مُنْتَفٍ إذا ما حَمَلنا حديث الباب على الصيام الواجب المقدور في وجوب إيقاع النية من الليل، وحملنا حديث سلمة بن الأكوع (حديث عاشوراء) على جواز إيقاعها من نهار ضرورةً، لتعذر الرجوع إلى الليل، وهذا جمعٌ حسن بين الحديثين لا تعسّف فيه ولا تكلّف، وفيه إعمال لجميع الأدلة دون إهدارٍ لبعضها.
• والأقيسة المتعارضة فيما بينها إن صحّت فهي فاسدة الاعتبار لمقابلتها للنصّ.
وعليه، فإنّ العمل بمقتضى حديث الباب وحمله على ظاهره آكد وجوبه، واشتراط تبييت النية فيه من الليل حتم لزومه، وهو مذهب جمهور السلف والخلف، وبه قال مالك والشافعي وأحمد -رحمهم الله تعالى- على ما تقدّم.
والله أعلم، وآخر دعوانا أنِ الحمد لله ربِّ العالمين، وصلى الله على محمّد وعلى آله وصحبه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين، وسلّم تسليمًا.
1425ﻫ / 2004م
تعليق