سُئِلَ شيخ الإِسلام رَحمهُ اللّه عن صوم يوم الغَيم: هل هو واجب أم لا؟ وهل هو يوم شك منهي عنه أم لا ؟
فأجاب:
فصل
وأما صوم يوم الغيم إذا حال دون رؤية الهلال غيم أو قَتَرٌ، فللعلماء فيه عدة أقوال وهي في مذهب أحمد وغيره.
أحدها: أن صومه منهي عنه. ثم هل هو نهى تحريم أو تنزيه؟ على قولين، وهذا هو المشهور في مذهب مالك، والشافعي، وأحمد في إحدي الروايات عنه. واختار ذلك طائفة من أصحابه، كأبي الخطابوابن عقيل، وأبي القاسم بن منده الأصفهاني وغيرهم.
والقول الثاني: أن صيامه واجب كاختيار القاضي، والخرقي، وغيرهما من أصحاب أحمد، وهذا يقال: إنه أشهر الروايات عن أحمد، لكن الثابت عن أحمد لمن عرف نصوصه، وألفاظه أنه كان يستحب صيام يوم الغَيم اتباعاً لعبد اللّه بن عمر وغيره من الصحابة، ولم يكن عبد اللّه بن عمر يوجبه على الناس، بل كان يفعله احتياطاً، وكان الصحابة فيهم من يصومه احتياطاً، ونقل ذلك عن عمر، وعلي، ومعاوية وأبي هريرة، وابن عمر، وعائشة، وأسماء وغيرهم.
ومنهم من كان لا يصومه مثل كثير من الصحابة، ومنهم من كان ينهى عنه؛ كعمار بن ياسر وغيره، فأحمد رضي اللّه عنه كان يصومه احتياطاً.
وأما إيجاب صومه، فلا أصل له في كلام أحمد، ولا كلام أحد من أصحابه، لكِنْ كثير من أصحابه اعتقدوا أن مذهبه إيجاب صومه، ونصروا ذلك القول.
والقول الثالث: أنه يجوز صومه، ويجوز فطره، وهذا مذهب أبي حنيفة وغيره، وهو مذهب أحمد المنصوص الصريح عنه،وهومذهب كثير من الصحابة والتابعين أو أكثرهم. وهذا كما أن الإمساك عند الحائل عن روية الفجر جائز، فإن شاء أمسك، وإن شاء أكل حتي يتيقن طلوع الفجر، وكذلك إذا شك هل أحدث أم لا ؟ إن شاء توضأ، وإن شاء لم يتوضأ. وكذلك إذا شك: هل حال حول الزكاة أو لم يحل؟ وإذا شك: هل الزكاة الواجبة عليه مائة أو مائة وعشرون ؟ فأدى الزيادة.
وأصول الشريعة كلها مستقرة على أن الاحتياط ليس
بواجب، ولا محرم، ثم إذا صامه بنية مطلقة، أو بنية معلقة،
بأن ينوي إن كان من شهر رمضان كان عن رمضان، وإلا
فلا، فإن ذلك يجزيه في مذهب أبي حنيفة، وأحمد في أصح
الروايتين عنه، وهي التي نقلها المروزي وغيره، وهذا اختيار
الخِرَقي في شرحه للمختصر، واختيار أبي البركات وغيرهما.
والقول الثاني: أنه لا يجزيه إلا بنية أنه من رمضان، كإحدي الروايتين عن أحمد، اختارها القاضي، وجماعة من أصحابه.
وأصل هذه المسألة: أن تعيين النية لشهر رمضان: هل هو واجب؟ فيه ثلاثة أقوال في مذهب أحمد:
أحدها: أنه لا يجزيه، إلا أن ينوي رمضان، فإن صام بنية مطلقة، أو معلقة، أو بنية النفل أو النذر؛ لم يجزئه ذلك كالمشهور من مذهب الشافعي، وأحمد في إحدي الروايات.
والثاني: يجزئه مطلقاً كمذهب أبي حنيفة.
والثالث: أنه يجزئه بنية مطلقة، لابنية تعيين، غير رمضان، وهذه الرواية الثالثة عن أحمد، وهي اختيار الخرقي، وأبي البركات.
وتحقيق هذه المسألة: أن النية تتبع العلم، فإن علم أن غداً من رمضان، فلابد من التعيين في هذه الصورة،فإن نوي نفلاً أو صوماً مطلقاً لم يجزه؛لأن اللّه أمره أن يقصد أداء الواجب عليه، وهو شهر رمضان الذي علم وجوبه، فإذا لم يفعل الواجب لم تبرأ ذمته.
وأما إذا كان لا يعلم أن غداً من شهر رمضان، فهنا لا يجب عليه التعيين، ومن أوجب التعيين مع عدم العلم، فقد أوجب الجمع بين الضدين.
فإذا قيل: إنه يجوز صومه وصام في هذه الصورة بنية مطلقة، أو معلقة أجزأه. وأما إذا قصد صوم ذلك تطوعاً، ثم تبين أنه كانمن شهر رمضان، فالأشبه أنه يجزئه أيضاً كمن كان لرجل عنده وديعة، ولم يعلم ذلك، فأعطاه ذلك على طريق التبرع، ثم تبين أنه حقه، فإنه لا يحتاج إلى إعطائه ثانياً، بل يقول: ذلك الذي وصل إليك هو حق كان لك عندي، واللّه يعلم حقائق الأمور. والرواية التي تروي عن أحمد أن الناس فيه تبع للإمام في نيته، على أن الصوم والفطر بحسب ما يعلمه الناس، كما في السنن عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "صَومُكُم يوم تصومون، وفطركم يوم تفطرون، وأضحاكم يوم تضحون".
وقد تنازع الناس في [الهلال]: هل هو اسم لما يطلع في السماء وإن لم يره أحد ؟ أو لا يسمي هلالاً حتي يستهل به الناس ويعلموه ؟ على قولين في مذهب أحمد وغيره.
وعلى هذا ينبني النزاع فيما إذا كانت السماء مطبقة بالغيم، أو في يوم الغيم مطلقاً: هل هو يوم شك ؟ على ثلاثة أقوال في مذهب أحمد وغيره:
أحدها: أنه ليس بشك، بل الشك إذا أمكنت رؤيته، وهذا قول كثير من أصحاب الشافعي وغيرهم.
والثاني: أنه شك لإمكان طلوعه.
وقد تنازع الفقهاء في المنفرد برؤية هلال الصوم والفطر: هل يصوم ويفطر وحده؟ أو لا? يصوم ولا يفطر إلا مع الناس ؟ أو يصوم وحده ويفطر مع الناس ؟ على ثلاثة أقوال معروفة في مذهب أحمد وغيره.
-----------------------------------
مجموع فتاوى ابن تيمية