ترجمة موجزة للشيخ عبد الستار الدهلوي
ولد بمكة سنة 1286 هـ، حفظ القرآن وطلب العلم صغيرا، فقرأ بالمدرسة الصولتية وأخذ عن شيوخها ومنها تخرج، ثم لازم حلقات دروس المسجد الحرام وأخذ عنهم، ثم رحل إلى المدينة المنورة وأخذ عن علمائها، عين مدرسا بالمسجد الحرام سنة 1349 هـ، وكانت حلقة درسه عند باب المحكمة الشرعية بعد صلاة العصر، وكانت دروسه في الحديث والتفسير ومصطلح الحديث ، وقد ضمت مكتبته الخاصة إلى مكتبة الحرم المكي الشريف، وكانت تحتوي على 1850 كتابا بين مخطوط ومطبوع، ومعظمها بخط يده .
قال الشيخ: عبد الستار الدهلوي الباكستاني في رسالته شمس الضحى, والتي قام بتقاريظها, جماعة من علماء الحرمين, وغيرهم, ومنهم الشيخ: عبد العزيز بن باز, في بعض طبعاتها:
أما بعد: فهذه نصيحة أقدمها إلى العالم الإسلامي، ليعم نفعها لإخواني المسلمين، أسأل الله رب العرش العظيم، أن يجعلها خالصة لوجهه الكريم، وينفع بها جميع المؤمنين، آمين.
اعلموا يا إخواني الكرام، أن الهدى ودين الحق الذي افترضه الله على عباده هو: معرفة الحق والعمل به، لكونه عز وجل لم يخلقهم عبثا سدى لا ينهون، بل خلقهم ليعبدوه ولا يشركوا به شيئا، كما قال تعالى في كتابه العزيز: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [سورة الذاريات آية: 56].
والعبادة: اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه، من الأقوال، والعقائد، والأعمال الظاهرة والباطنة.
ومنها: النصح لكل مسلم كما جاء في حديث جرير رضي الله عنه لما بايعه عليه الصلاة والسلام على إقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، والنصح لكل مسلم، رواه البخاري في صحيحه.
وقد أوجب الله علينا طاعة رسوله صلى الله عليه وسلم الذي لا {يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [سورة النجم آية: 3-4]، فقال: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ} [سورة المائدة آية: 92]، {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [سورة الحشر آية: 7].
فعلم من هذه الآيات، وغيرها أنه تجب طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم في جميع أوامره ونواهيه، لأن طاعته صادرة عن طاعة الله تعالى.
فمن خالف أوامره، وارتكب نواهيه، فقد عرض نفسه للوعيد الشديد، كما قال جل وعلا: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [سورة النور آية: 63].
قال الإمام أحمد، رحمه الله: أتدري ما الفتنة؟ الفتنة الشرك، لعله إذا رد بعض قوله، أن يقع في قلبه شيء من الزيغ فيهلك، ثم تلا قوله تعالى: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [سورة النساء آية: 65].
وقال شيخ الإسلام: إمام أهل التوحيد ابن تيمية، رحمة الله عليه، مستدلا بهذه الآية: إن الله فرض طاعة رسوله صلى الله عليه وسلم على كل أحد في كل حال.
فمن حيث أن النصح واجب على كل مسلم لأخيه المسلم، رأيت أن أكتب البعض مما ورد عن المصطفى صلى الله عليه وسلم في حلق اللحية وتوفير الشارب.
{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْأِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} [سورة هود آية: 88] {رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [سورة البقرة آية: 127].
{رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحاً تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [سورة الأحقاف آية: 15].
اعلم وفقني الله وإياك أن اللحية هي اسم لجميع الشعر النابت على الوجه والذقن، ما خلا الشارب، في اللغة العربية.
يوضحه: ما نص بتاج العروس بالجزء العاشر، قال: اللِّحية بالكسر، شعر الخدين والذقن، وهما اللحيان، وهما العظمان اللذان فيهما الأسنان، ثم تكلم إلى أن قال: اللحيان اللذان هما جانبا الفم.
وما نص بالمصباح، قال: واللحي عظم الحنك، وهو الذي عليه الأسنان، وهو من الإنسان حيث ينبت الشعر، وهو أعلى وأسفل.
وما نص بالقاموس بالجزء الرابع، قال: اللحية بالكسر، شعر الخدين والذقن.
فإذا فهمت ما جاء بكتب اللغة العربية، عرفت حينئذ أن جميع شعر الوجه مما ينبت على الذقن وتحت اللحيين، وما على الخدين والعارضين، يقال له لحية، ما عدا الشارب كما تقدم بيانه.
وفي عون المعبود شرح أبي داود: اللحية بكسر اللام وسكون الحاء، لجميع الشعر الذي ينبت على الخدين والذقن.
وذكر صاحب هذه الرسالة: الأحاديث الواردة، وكلام أهل العلم وحالة أهل زماننا اليوم وأن عادتهم إذا رأوا محلوق لحية ذا مال ولباس محتشم، عظموه ووقروه، وفرحوا به فرحا شديدا، وإذا لاقوا ذا لحية متشرعا، موحدا، ومتبعا لسنة نبيه صلى الله عليه وسلم حقروه، ونظروا إليه {نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَأَوْلَى لَهُمْ} [سورة محمد آية: 20].
وقال أيضا: وسمعت كثيرا من هؤلاء يقولون: إن الله لا ينظر إلى الصور والأجساد، ولكن ينظر إلى القلوب والنيات، وفي قلوبنا الإيمان، ومحبة الله ورسوله، فلسنا نؤاخذ بحلق اللحية.
والجواب على ذلك: نعم، ينظر الله إلى قلبك، فيدرك أشياء تتعلق بلحيتك، ولا يمكنك أن تُخْلِي قلبك منها; يدرك في قلبك الكراهية لما أحبه الله ورسوله، وهو: إعفاء اللحية.
ويدرك في قلبك الحب لما كرهه الله ورسوله، وهو: حلق اللحية. ويدرك في قلبك الكراهية لما خلقه الله أو الاعتراض عليه، وهو: إنبات الشعر على وجهك.
ويدرك فيك الهم والغم، إذا لم يتحصل لك الحلق في ميعاده، والغضب على الحلاق إذا لم يأتك في وقته، فأين محبة الله ورسوله في قلبك؟!
إذا: كنت تبغض سنة رسولك، وتحلق لحيتك، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: "من أحب سنتي فقد أحبني، ومن أحبني كان معي في الجنة" ( رواه الترمذي: العلم (267 وحسنه لكن ضعفه الالباني). ولنعم ما قيل:
تعصى الإله وأنت تظهر حبه ... لو كان حبك صادقا لأطعته
هذا محال في القياس بديع ... إن المحب لمن يحب مطيع
وأيضا سمعت بعض هؤلاء يقول: وجدنا كثيرا من أصحاب اللحى يرتكبون الفواحش، ويتخذون لحاهم سترا وجنة، فظننا أن الخير في ترك مثل هذه المظاهر.
أقول مجيبا عن هذا: وهذه أيضا فكرة خاطئة، لأن العمل الطيب إذا عمله الخبيثون لا يصير خبيثا، كما أن العمل الخبيث إذا ارتكبه الطيبون لا يصير طيبا.
ولو اتخذنا هذه الفكرة أساساً لأعمالنا، لما بقي لنا شيء؛ فكم من الناس تعلموا القرآن والحديث، نجدهم انحرفوا عن الصراط المستقيم، وباعوا دينهم بدنياهم، وأصبحوا أضر على الدين من أعدائه، فهل يجوز لنا أن نترك دراسة القرآن الكريم والحديث؟!
وكم من الناس يقيمون الصلاة، ويحجون، ويصومون; ومع ذلك هم أخبث الناس، وأشرهم، وأجرؤهم على ارتكاب الجرائم للحصول على بعض الدراهم والدنانير، فهل يمكننا أن نترك الصيام والصلاة، ونترك الحج لأجل هؤلاء؟! حاشا وكلا.
وقد سمعت كثيرا من الناس الذين يحلقون لحاهم، يقولون: ماذا في اللحية؟ وهل الإسلام في اللحية؟ وهم مستهينون بشأنها مستهزئون بمن يعفيها.
فأقول: قد ثبت من كلام الأنبياء: إذا لم تستح فاصنع ما شئت {قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ} [سورة التوبة آية: 65] ألا تخافون الله؟ تخالفون أمره وأمر رسوله; وتقولون: ماذا في اللحية..؟!
استحوا، وتوبوا إليه، واعلموا أن في اللحية امتثالا لأمر الله، واتّباعاً لسنته صلى الله عليه وسلم، وقد قال عليه الصلاة والسلام:
"لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعا لما جئت به" ، نعم: ليس الإسلام كله في اللحية; ولكن: اللحية في الإسلام، وإنها من سنن الأنبياء الذين أمرنا بالاقتداء بهم.
وعن عائشة رضي الله عنها، قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "عشر من الفطرة، قص الشارب، وإعفاء اللحية.." 1 الحديت (أخرجه مسلم).
قال صاحب مجمع البحار، أي: من سنن الأنبياء عليهم السلام، الذين أمرنا بالاقتداء بهم فيها، أي: من السنن القديمة التي اختارها الأنبياء، واتفقت عليها الشرائع، فكأنها أمر جبلي فطروا عليه؛ فكيف بكم إذا أنتم تقفون بين يدي الجبار القهار؟ وماذا تكون الحجة والجواب؟!
ومن أقبح ما جاهروا به: حلق اللحية، وتشويهها بالقصر أو نحوه، وأخذ العارض أو توقيفه، فتشبهوا بالنساء بنعومة الخدود، وتشبهوا بالكفرة والمشركين بحلقها، وبالمجوس بتقصيرها.
والذي لا ينطق عن الهوى صلى الله عليه وسلم يقول : "ليس منا من تشبه بغيرنا" (رواه الترمذي وحسنه الالباني ), ومع ذلك يشربون الخمور، ويلعبون الميسر، ويشتغلون بالملاهي، والسينما، وحضور أماكن الرقص، متختمين بالذهب، لا حياء عندهم، ولا خجل، ولا مروءة.
وقد اتبعوا غير سبيل المؤمنين، وسلكوا مسلك الغربيين، ونهجوا على منوالهم، وساروا مقلدين لهم حذو النعل، قد غرتهم الحياة الدنيا وغرهم بالله الغرور.
عباد الله, هل نسينا ما قص الله علينا من قصة بني إسرائيل، كي لا نقع فيما وقعوا فيه؟ بأنه لعنهم {عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} [سورة المائدة آية: 78-79].
ومن الناس من يقول: عصرنا اليوم ليس كالأمس، نحن نريد أن نتقدم، وأنتم يا أصحاب اللحى تريدون تأخيرنا; والصديق أصبح يعيب صديقه بعدم إحفاء اللحية، وحتى ناقصات العقول - يعني النساء - لا يرتضينها.
ومع هذا ينتهكون محارم الله، ويجاهرون بمعصية الله ورسوله في الطرقات، وفي الشوارع والأسواق، وعلى الأسطح والشرفات، وفي كل مكان.
يقرؤون المجلات الخليعة، المليئة بصور النساء العاريات، ولا يقرؤون مجلتنا - صحيفة أهل الحديث - التي تصدر في كل شهر مرتين، وفيها شرح لأحاديث البخاري، وتفسير لآيات الله البينات.
لا شك أن هؤلاء شاقوا الرسول صلى الله عليه وسلم؛ ومن يشاق الرسول ويتبع غير سبيل المؤمنين فهو مهان عند الله، ومن يهن الله فما له من مكرم.
يحلقون لحاهم، ويبتغون بذلك مرضاة أزواجهم، ونسائهم، وأصدقائهم؛ والله تعالى يقول: {وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ إِنْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ} [سورة التوبة آية: 62].
والظاهر أن الشيطان زين لهم أعمالهم، وقد قال تعالى: {أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} [سورة فاطر آية: 8], وقال تعالى: {وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً} [سورة الأعراف آية: 146].
ومن المعلوم أن ما جاء به، وما أمرنا به رسولنا محمد صلى الله عليه وسلم هو الرشد والهداية، وما يعاكسه فهو سبيل الغي والضلالة.
فيروى عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "جزوا الشوارب وأرخوا اللحى، خالفوا المجوس" (أخرجه أحمد ومسلم).
والأحاديث المذكورة، وغيرها مما لم تذكر هنا، موجودة في الصحاح الستة، التي هي أمهات الكتب، كالبخاري ومسلم وغيرهما، والسنن، والمسانيد، من كتب الحديث المشهورة المقبولة، المتداولة بين أهل العلم.
فكيف يسوغ لمسلم أن يرتكب هذه المنهيات، ويترك العمل بالأوامر الشرعية، وهو يتلو أو يتلى عليه قوله الله عز وجل: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِيناً} [سورة الأحزاب آية: 36].
وكيف تطمئن نفس مسلم بعد وقوفه على قوله عليه الصلاة والسلام: "اعفوا اللحى، وجزوا الشوارب، ولا تشبهوا باليهود والنصارى"، وعلى قوله : "لا تشبهوا بالأعاجم، اعفوا اللحى، وجزوا الشوارب" وعلى قوله: "ليس منا من تشبه بغيرنا " ؟
ويعلم أيضا علم اليقين أن لحيته صلى الله عليه وسلم كثيفة عظيمة، كثيرة الشعر، قد ملأت عارضيه وذقنه الشريفة، ومع علمه بذلك لا يقبل صورة الرسول صلوات الله وسلامه عليه، ولا يفرح بها، ولا يستحسنها؟
بل يمثل بصورة المجوس، والمشركين، والوثنيين، ويختارها لنفسه، ويعمد إلى لحيته فيقص، أو يحلق، أو ينتف من أطرافها، من النابت على الخدين وتحت الذقن، أو مما ينبت على العارضين؟!
ولا يلتفت إلى قوله عز وجل: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ} [سورة الأحزاب آية: 21], ولا إلى قوله تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [سورة الحشر آية: 7].
فلم يتأس برسوله، ويترك لحيته وافرة، كما كانت لحيته صلى الله عليه وسلم بل يعاكسه فيحلق لحيته، أو ينتف، أو يقص، فإذا به يخالف الأوامر ويرتكب النواهي.
فالعجب كل العجب، والرزية كل الرزية، ممن ينتسب إلى العلم والدين كيف يتعود بحلق لحيته، أو قصها، أو نتفها، أو أخذ ما على الخدين والعارضين، أو ما تحت الذقن مما نبت، بلا مبالاة بما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم بهذا الخصوص، من الأحاديث القاضية بإعفاء اللحية، وحلق الشارب أو نهكه، على غير الصفة المذكورة بالأحاديث الصحيحة الصريحة، الواردة عن النبي صلى الله عليه وسلم أمرا ونهيا.
ولم نجد في رواية عن النبي عليه الصلاة والسلام، ولا عن أصحابه الكرام، والتابعين العظام، ولا عن أحد من الأئمة الأربعة، ولا عن أحد من المحدثين، رضوان الله عليهم أجمعين، ما يدلنا على خلاف هذا الأمر.
فكيف يجوز لنا السماح بتبديل الشرع المنصوص، بعادة اسمية نتبعها، ونترك السنة؟ كما قال أهل العلم: إن الحق فيما قضى به إمام الأنبياء، خاتم الرسل صلوات الله وسلامه عليه، ولو خالفه عامة من في الأرض عالمهم وجاهلهم، لقوله تعالى: {ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [سورة النساء آية: 65].
قال شيخ الإسلام إمام الموحدين ابن تيمية، قدس الله روحه: إن مخالفة الكفرة غاية مقصودة للشريعة، لأن التشبه بهم في الظاهر يورث مودة في الباطن؛ كما أن المحبة في الباطن تورث المشابهة في الظاهر.
وأيضا: قال الشيخ - في المجلد الثاني من فتاويه -: فكل من عدل عن اتباع الكتاب والسنة وإطاعة الله ورسوله إلى عادته وعادة أبيه وقومه، فهو من أهل الجاهلية المستحقين للوعيد. انتهى.
وذكر أقوال الأئمة في النهي عن التقليد إذا خالف الكتاب والسنة، وما قيل: في النهي عن الإفساد في الأرض بعد إصلاحها، وأن من خالف ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم فهو من المفسدين، وذكر أيضا قول أبي العالية: من عصى الله في الأرض، أو أمر بمعصية الله، فقد أفسد في الأرض، لأن صلاح الأرض والسماء إنما هو بطاعة الله ورسوله.
وقال أيضا في رسالته: ومما يناسب هذا المقام، قول الحافظ ابن كثير رحمه الله، على قوله تعالى: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ} [سورة النور آية: 63] قال: عن أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو: سبيله ومنهاجه، وطريقته وسنته، وشريعته.
فتوزن الأقوال والأعمال، بأقواله وأعماله؛ فما وافق ذلك فهو مقبول، وما خالفه فهو مردود على قائله وفاعله، كائنا من كان، بدليل ما ثبت في البخاري ومسلم
وغيرهما، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : "من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد" (أخرجه مسلم).
وبالجملة: فعلى المسلم أن يقتدي برسوله صلى الله عليه وسلم في جميع أقواله وأفعاله، وفي صورته، وسيرته. وفي هذا المقدار كفاية لمن له هداية، والله ولي التوفيق، وبيده أزمة التحقيق، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، كتبها في شهر شوال سنة 1377 هـ.
نقله لكم أخوكم عمر ابراهيم الموصلي
ولد بمكة سنة 1286 هـ، حفظ القرآن وطلب العلم صغيرا، فقرأ بالمدرسة الصولتية وأخذ عن شيوخها ومنها تخرج، ثم لازم حلقات دروس المسجد الحرام وأخذ عنهم، ثم رحل إلى المدينة المنورة وأخذ عن علمائها، عين مدرسا بالمسجد الحرام سنة 1349 هـ، وكانت حلقة درسه عند باب المحكمة الشرعية بعد صلاة العصر، وكانت دروسه في الحديث والتفسير ومصطلح الحديث ، وقد ضمت مكتبته الخاصة إلى مكتبة الحرم المكي الشريف، وكانت تحتوي على 1850 كتابا بين مخطوط ومطبوع، ومعظمها بخط يده .
قال الشيخ: عبد الستار الدهلوي الباكستاني في رسالته شمس الضحى, والتي قام بتقاريظها, جماعة من علماء الحرمين, وغيرهم, ومنهم الشيخ: عبد العزيز بن باز, في بعض طبعاتها:
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده.أما بعد: فهذه نصيحة أقدمها إلى العالم الإسلامي، ليعم نفعها لإخواني المسلمين، أسأل الله رب العرش العظيم، أن يجعلها خالصة لوجهه الكريم، وينفع بها جميع المؤمنين، آمين.
اعلموا يا إخواني الكرام، أن الهدى ودين الحق الذي افترضه الله على عباده هو: معرفة الحق والعمل به، لكونه عز وجل لم يخلقهم عبثا سدى لا ينهون، بل خلقهم ليعبدوه ولا يشركوا به شيئا، كما قال تعالى في كتابه العزيز: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [سورة الذاريات آية: 56].
والعبادة: اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه، من الأقوال، والعقائد، والأعمال الظاهرة والباطنة.
ومنها: النصح لكل مسلم كما جاء في حديث جرير رضي الله عنه لما بايعه عليه الصلاة والسلام على إقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، والنصح لكل مسلم، رواه البخاري في صحيحه.
وقد أوجب الله علينا طاعة رسوله صلى الله عليه وسلم الذي لا {يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [سورة النجم آية: 3-4]، فقال: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ} [سورة المائدة آية: 92]، {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [سورة الحشر آية: 7].
فعلم من هذه الآيات، وغيرها أنه تجب طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم في جميع أوامره ونواهيه، لأن طاعته صادرة عن طاعة الله تعالى.
فمن خالف أوامره، وارتكب نواهيه، فقد عرض نفسه للوعيد الشديد، كما قال جل وعلا: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [سورة النور آية: 63].
قال الإمام أحمد، رحمه الله: أتدري ما الفتنة؟ الفتنة الشرك، لعله إذا رد بعض قوله، أن يقع في قلبه شيء من الزيغ فيهلك، ثم تلا قوله تعالى: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [سورة النساء آية: 65].
وقال شيخ الإسلام: إمام أهل التوحيد ابن تيمية، رحمة الله عليه، مستدلا بهذه الآية: إن الله فرض طاعة رسوله صلى الله عليه وسلم على كل أحد في كل حال.
فمن حيث أن النصح واجب على كل مسلم لأخيه المسلم، رأيت أن أكتب البعض مما ورد عن المصطفى صلى الله عليه وسلم في حلق اللحية وتوفير الشارب.
{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْأِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} [سورة هود آية: 88] {رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [سورة البقرة آية: 127].
{رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحاً تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [سورة الأحقاف آية: 15].
اعلم وفقني الله وإياك أن اللحية هي اسم لجميع الشعر النابت على الوجه والذقن، ما خلا الشارب، في اللغة العربية.
يوضحه: ما نص بتاج العروس بالجزء العاشر، قال: اللِّحية بالكسر، شعر الخدين والذقن، وهما اللحيان، وهما العظمان اللذان فيهما الأسنان، ثم تكلم إلى أن قال: اللحيان اللذان هما جانبا الفم.
وما نص بالمصباح، قال: واللحي عظم الحنك، وهو الذي عليه الأسنان، وهو من الإنسان حيث ينبت الشعر، وهو أعلى وأسفل.
وما نص بالقاموس بالجزء الرابع، قال: اللحية بالكسر، شعر الخدين والذقن.
فإذا فهمت ما جاء بكتب اللغة العربية، عرفت حينئذ أن جميع شعر الوجه مما ينبت على الذقن وتحت اللحيين، وما على الخدين والعارضين، يقال له لحية، ما عدا الشارب كما تقدم بيانه.
وفي عون المعبود شرح أبي داود: اللحية بكسر اللام وسكون الحاء، لجميع الشعر الذي ينبت على الخدين والذقن.
وذكر صاحب هذه الرسالة: الأحاديث الواردة، وكلام أهل العلم وحالة أهل زماننا اليوم وأن عادتهم إذا رأوا محلوق لحية ذا مال ولباس محتشم، عظموه ووقروه، وفرحوا به فرحا شديدا، وإذا لاقوا ذا لحية متشرعا، موحدا، ومتبعا لسنة نبيه صلى الله عليه وسلم حقروه، ونظروا إليه {نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَأَوْلَى لَهُمْ} [سورة محمد آية: 20].
وقال أيضا: وسمعت كثيرا من هؤلاء يقولون: إن الله لا ينظر إلى الصور والأجساد، ولكن ينظر إلى القلوب والنيات، وفي قلوبنا الإيمان، ومحبة الله ورسوله، فلسنا نؤاخذ بحلق اللحية.
والجواب على ذلك: نعم، ينظر الله إلى قلبك، فيدرك أشياء تتعلق بلحيتك، ولا يمكنك أن تُخْلِي قلبك منها; يدرك في قلبك الكراهية لما أحبه الله ورسوله، وهو: إعفاء اللحية.
ويدرك في قلبك الحب لما كرهه الله ورسوله، وهو: حلق اللحية. ويدرك في قلبك الكراهية لما خلقه الله أو الاعتراض عليه، وهو: إنبات الشعر على وجهك.
ويدرك فيك الهم والغم، إذا لم يتحصل لك الحلق في ميعاده، والغضب على الحلاق إذا لم يأتك في وقته، فأين محبة الله ورسوله في قلبك؟!
إذا: كنت تبغض سنة رسولك، وتحلق لحيتك، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: "من أحب سنتي فقد أحبني، ومن أحبني كان معي في الجنة" ( رواه الترمذي: العلم (267 وحسنه لكن ضعفه الالباني). ولنعم ما قيل:
تعصى الإله وأنت تظهر حبه ... لو كان حبك صادقا لأطعته
هذا محال في القياس بديع ... إن المحب لمن يحب مطيع
وأيضا سمعت بعض هؤلاء يقول: وجدنا كثيرا من أصحاب اللحى يرتكبون الفواحش، ويتخذون لحاهم سترا وجنة، فظننا أن الخير في ترك مثل هذه المظاهر.
أقول مجيبا عن هذا: وهذه أيضا فكرة خاطئة، لأن العمل الطيب إذا عمله الخبيثون لا يصير خبيثا، كما أن العمل الخبيث إذا ارتكبه الطيبون لا يصير طيبا.
ولو اتخذنا هذه الفكرة أساساً لأعمالنا، لما بقي لنا شيء؛ فكم من الناس تعلموا القرآن والحديث، نجدهم انحرفوا عن الصراط المستقيم، وباعوا دينهم بدنياهم، وأصبحوا أضر على الدين من أعدائه، فهل يجوز لنا أن نترك دراسة القرآن الكريم والحديث؟!
وكم من الناس يقيمون الصلاة، ويحجون، ويصومون; ومع ذلك هم أخبث الناس، وأشرهم، وأجرؤهم على ارتكاب الجرائم للحصول على بعض الدراهم والدنانير، فهل يمكننا أن نترك الصيام والصلاة، ونترك الحج لأجل هؤلاء؟! حاشا وكلا.
وقد سمعت كثيرا من الناس الذين يحلقون لحاهم، يقولون: ماذا في اللحية؟ وهل الإسلام في اللحية؟ وهم مستهينون بشأنها مستهزئون بمن يعفيها.
فأقول: قد ثبت من كلام الأنبياء: إذا لم تستح فاصنع ما شئت {قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ} [سورة التوبة آية: 65] ألا تخافون الله؟ تخالفون أمره وأمر رسوله; وتقولون: ماذا في اللحية..؟!
استحوا، وتوبوا إليه، واعلموا أن في اللحية امتثالا لأمر الله، واتّباعاً لسنته صلى الله عليه وسلم، وقد قال عليه الصلاة والسلام:
"لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعا لما جئت به" ، نعم: ليس الإسلام كله في اللحية; ولكن: اللحية في الإسلام، وإنها من سنن الأنبياء الذين أمرنا بالاقتداء بهم.
وعن عائشة رضي الله عنها، قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "عشر من الفطرة، قص الشارب، وإعفاء اللحية.." 1 الحديت (أخرجه مسلم).
قال صاحب مجمع البحار، أي: من سنن الأنبياء عليهم السلام، الذين أمرنا بالاقتداء بهم فيها، أي: من السنن القديمة التي اختارها الأنبياء، واتفقت عليها الشرائع، فكأنها أمر جبلي فطروا عليه؛ فكيف بكم إذا أنتم تقفون بين يدي الجبار القهار؟ وماذا تكون الحجة والجواب؟!
ومن أقبح ما جاهروا به: حلق اللحية، وتشويهها بالقصر أو نحوه، وأخذ العارض أو توقيفه، فتشبهوا بالنساء بنعومة الخدود، وتشبهوا بالكفرة والمشركين بحلقها، وبالمجوس بتقصيرها.
والذي لا ينطق عن الهوى صلى الله عليه وسلم يقول : "ليس منا من تشبه بغيرنا" (رواه الترمذي وحسنه الالباني ), ومع ذلك يشربون الخمور، ويلعبون الميسر، ويشتغلون بالملاهي، والسينما، وحضور أماكن الرقص، متختمين بالذهب، لا حياء عندهم، ولا خجل، ولا مروءة.
وقد اتبعوا غير سبيل المؤمنين، وسلكوا مسلك الغربيين، ونهجوا على منوالهم، وساروا مقلدين لهم حذو النعل، قد غرتهم الحياة الدنيا وغرهم بالله الغرور.
عباد الله, هل نسينا ما قص الله علينا من قصة بني إسرائيل، كي لا نقع فيما وقعوا فيه؟ بأنه لعنهم {عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} [سورة المائدة آية: 78-79].
ومن الناس من يقول: عصرنا اليوم ليس كالأمس، نحن نريد أن نتقدم، وأنتم يا أصحاب اللحى تريدون تأخيرنا; والصديق أصبح يعيب صديقه بعدم إحفاء اللحية، وحتى ناقصات العقول - يعني النساء - لا يرتضينها.
ومع هذا ينتهكون محارم الله، ويجاهرون بمعصية الله ورسوله في الطرقات، وفي الشوارع والأسواق، وعلى الأسطح والشرفات، وفي كل مكان.
يقرؤون المجلات الخليعة، المليئة بصور النساء العاريات، ولا يقرؤون مجلتنا - صحيفة أهل الحديث - التي تصدر في كل شهر مرتين، وفيها شرح لأحاديث البخاري، وتفسير لآيات الله البينات.
لا شك أن هؤلاء شاقوا الرسول صلى الله عليه وسلم؛ ومن يشاق الرسول ويتبع غير سبيل المؤمنين فهو مهان عند الله، ومن يهن الله فما له من مكرم.
يحلقون لحاهم، ويبتغون بذلك مرضاة أزواجهم، ونسائهم، وأصدقائهم؛ والله تعالى يقول: {وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ إِنْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ} [سورة التوبة آية: 62].
والظاهر أن الشيطان زين لهم أعمالهم، وقد قال تعالى: {أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} [سورة فاطر آية: 8], وقال تعالى: {وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً} [سورة الأعراف آية: 146].
ومن المعلوم أن ما جاء به، وما أمرنا به رسولنا محمد صلى الله عليه وسلم هو الرشد والهداية، وما يعاكسه فهو سبيل الغي والضلالة.
فيروى عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "جزوا الشوارب وأرخوا اللحى، خالفوا المجوس" (أخرجه أحمد ومسلم).
والأحاديث المذكورة، وغيرها مما لم تذكر هنا، موجودة في الصحاح الستة، التي هي أمهات الكتب، كالبخاري ومسلم وغيرهما، والسنن، والمسانيد، من كتب الحديث المشهورة المقبولة، المتداولة بين أهل العلم.
فكيف يسوغ لمسلم أن يرتكب هذه المنهيات، ويترك العمل بالأوامر الشرعية، وهو يتلو أو يتلى عليه قوله الله عز وجل: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِيناً} [سورة الأحزاب آية: 36].
وكيف تطمئن نفس مسلم بعد وقوفه على قوله عليه الصلاة والسلام: "اعفوا اللحى، وجزوا الشوارب، ولا تشبهوا باليهود والنصارى"، وعلى قوله : "لا تشبهوا بالأعاجم، اعفوا اللحى، وجزوا الشوارب" وعلى قوله: "ليس منا من تشبه بغيرنا " ؟
ويعلم أيضا علم اليقين أن لحيته صلى الله عليه وسلم كثيفة عظيمة، كثيرة الشعر، قد ملأت عارضيه وذقنه الشريفة، ومع علمه بذلك لا يقبل صورة الرسول صلوات الله وسلامه عليه، ولا يفرح بها، ولا يستحسنها؟
بل يمثل بصورة المجوس، والمشركين، والوثنيين، ويختارها لنفسه، ويعمد إلى لحيته فيقص، أو يحلق، أو ينتف من أطرافها، من النابت على الخدين وتحت الذقن، أو مما ينبت على العارضين؟!
ولا يلتفت إلى قوله عز وجل: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ} [سورة الأحزاب آية: 21], ولا إلى قوله تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [سورة الحشر آية: 7].
فلم يتأس برسوله، ويترك لحيته وافرة، كما كانت لحيته صلى الله عليه وسلم بل يعاكسه فيحلق لحيته، أو ينتف، أو يقص، فإذا به يخالف الأوامر ويرتكب النواهي.
فالعجب كل العجب، والرزية كل الرزية، ممن ينتسب إلى العلم والدين كيف يتعود بحلق لحيته، أو قصها، أو نتفها، أو أخذ ما على الخدين والعارضين، أو ما تحت الذقن مما نبت، بلا مبالاة بما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم بهذا الخصوص، من الأحاديث القاضية بإعفاء اللحية، وحلق الشارب أو نهكه، على غير الصفة المذكورة بالأحاديث الصحيحة الصريحة، الواردة عن النبي صلى الله عليه وسلم أمرا ونهيا.
ولم نجد في رواية عن النبي عليه الصلاة والسلام، ولا عن أصحابه الكرام، والتابعين العظام، ولا عن أحد من الأئمة الأربعة، ولا عن أحد من المحدثين، رضوان الله عليهم أجمعين، ما يدلنا على خلاف هذا الأمر.
فكيف يجوز لنا السماح بتبديل الشرع المنصوص، بعادة اسمية نتبعها، ونترك السنة؟ كما قال أهل العلم: إن الحق فيما قضى به إمام الأنبياء، خاتم الرسل صلوات الله وسلامه عليه، ولو خالفه عامة من في الأرض عالمهم وجاهلهم، لقوله تعالى: {ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [سورة النساء آية: 65].
قال شيخ الإسلام إمام الموحدين ابن تيمية، قدس الله روحه: إن مخالفة الكفرة غاية مقصودة للشريعة، لأن التشبه بهم في الظاهر يورث مودة في الباطن؛ كما أن المحبة في الباطن تورث المشابهة في الظاهر.
وأيضا: قال الشيخ - في المجلد الثاني من فتاويه -: فكل من عدل عن اتباع الكتاب والسنة وإطاعة الله ورسوله إلى عادته وعادة أبيه وقومه، فهو من أهل الجاهلية المستحقين للوعيد. انتهى.
وذكر أقوال الأئمة في النهي عن التقليد إذا خالف الكتاب والسنة، وما قيل: في النهي عن الإفساد في الأرض بعد إصلاحها، وأن من خالف ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم فهو من المفسدين، وذكر أيضا قول أبي العالية: من عصى الله في الأرض، أو أمر بمعصية الله، فقد أفسد في الأرض، لأن صلاح الأرض والسماء إنما هو بطاعة الله ورسوله.
وقال أيضا في رسالته: ومما يناسب هذا المقام، قول الحافظ ابن كثير رحمه الله، على قوله تعالى: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ} [سورة النور آية: 63] قال: عن أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو: سبيله ومنهاجه، وطريقته وسنته، وشريعته.
فتوزن الأقوال والأعمال، بأقواله وأعماله؛ فما وافق ذلك فهو مقبول، وما خالفه فهو مردود على قائله وفاعله، كائنا من كان، بدليل ما ثبت في البخاري ومسلم
وغيرهما، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : "من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد" (أخرجه مسلم).
وبالجملة: فعلى المسلم أن يقتدي برسوله صلى الله عليه وسلم في جميع أقواله وأفعاله، وفي صورته، وسيرته. وفي هذا المقدار كفاية لمن له هداية، والله ولي التوفيق، وبيده أزمة التحقيق، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، كتبها في شهر شوال سنة 1377 هـ.
نقله لكم أخوكم عمر ابراهيم الموصلي
من الدرر السنية