القول البديع في جواز إفراد السبت بالصوم من غير حرج ولا تشنيع !
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد:
فهذه مباحث مختصرة جمعتها من الشبكة ومن كلام أهل العلم أثناء بحثي عن هذه المسألة فقيدتها في هذه الصفحات (التي حرصت فيها على الاختصار الشديد حتى لا يمل القارئ وحتى يأخذ الفائدة سهلة ميسرة ) راجيا من الله أن ينفع بها وأن يجعلها خالصة لوجهه الكريم.
أبو أسامة سمير الجزائري
ذهب أكثر أهل العلم إلى كراهة صوم يوم السبت خصوصًا؛ واحتجوا بحديث عبدَ الله بن بُسْر المازني قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «لا تَصُومُوا يَوْم السَّبْت إلا فيما افتُرِضَ عليكم»؛ رواه أحمد وأصحاب السُّنَنِ الأربعة، وحَسَّنه الترمذي، وفي إسناده اختلاف قد ذكره النسائيُّ وغيرُه، وقال أبو داود: "هذا الحديث منسوخٌ"وقال مالك: "هذا كذب". وأُعِلَّ بالمُعَارَضَةِ وبالإضطِرابٍ.
أما إن وافِقْ يوم السبت عادةً، أو قضاء، أو نذرًا، أو يومًا رُغِّبَ في صيامه، أو صام معه غيره، أو كان يصوم يومًا ويُفطِرَ يَوْمًا؛ فلا كَرَاهَةَ في كُلِّ ذَلِكَ، وَقَدْ دَلَّتْ عَلَيِهْ الأدلَّةُ الصحيحةُ:
فعن أبي هُريرةَ رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «لا يَصُومَنَّ أَحَدُكُمْ يَوْمَ الجُمُعَةِ، إلا يَوْماً قَبْلَهُ أَوْ بَعْدَهُ» [رواه البخاري].
وروى عن جُوَيْرِيَةَ بِنْتِ الحارث - رضي الله عنها - أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل عليها يوم الجمعة وهى صائمة فقال: «أصُمْتِ أَمْسِ؟» قالت: لا. قال: «تُرِيدِينَ أَنْ تَصُومِي غدًا؟». قالت: لا. قال: «فَأَفْطِرِي».
فهذان الحديثان يَدُلان دَلالة صَرِيحة على جواز صوم يوم السبت في غير رمضان، لِمَنْ صام الجمعة قبله أو الأحد بعده.
وفي الصحيحَيْنِ وغيْرِهما عن عبد الله بن عمرو عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «أفضل الصيام عِنْدَ الله صَوْمُ داوُدَ - عليه السلام - كان يصوم يومًا، ويُفْطِرُ يومًا».
وكذلك قَدْ صَحَّ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم الترغيب في صيام يوم عَرَفَةَ، ويوم عاشوراء، والأيام البيض، وأيام التشريق.
ولا شك أنَّ هَذِهِ الأحاديثَ أَخَصُّ من حديث النهي عن صيام السبت(إن صح الحديث أصلا وهو لا يصح -أبو أسامة الجزائري) )؛ لأن النهي عن صوم السبت يشمل ما له سببٌ أو فضيلة وما لا سبب له - مُطْلَقِ النَّفْل - وكذلك يشمل صيام السبت بمفرده، أو مضمومًا إليه غيره، وأدلة جواز الصيام أَخَصُّ مُطلَقًا من ذلك النهي، فهي فَرْدٌ مِنْ أَفْرادِ العَامِّ - المنهِيِّ عن صيامها - والقاعدة الأصولية تَنُصُّ على استثناء الأقل من الأكثر، أو بناءِ العامِّ على الخاصِّ مُطلَقًا؛ يعني عند التعارض.
ومِن ثَمَّ استَحَبَّ عامَّةُ أهل العِلْمِ صيامَ كُلِّ ما له سبب أو فضيلة إن وافق يوم السبت، وحملوا النَّهيَ على النَّفلِ المُطْلَق أو على إفرادِ يوم السَّبتِ بالصِّيام مع تعظيمه.
قال أبو جعفر الطَّحَاوِي- الحنفي - في (شرح معاني الآثار) : " فذهب قوم إلى هذا الحديث، فكرِهُوا صوم يوم السبت تطوعًا. وخالفهم في ذلك آخرون، فلم يَرَوا بصومه بأسًا، وكان من الحجة عليهم في ذلك، أنه قد جاء الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه " نهى عن صوم يوم الجمعة، إلا أن يُصَامَ قَبلَهُ يوم، أو بعده يوم".فاليوم الذي بعده، هو يوم السبت.
ففي هذه الآثار المروية في هذا، إباحة صوم يوم السبت تطوعًا، وهي أشهر وأظهر في أيدي العُلَمَاءِ من هذا الحديث الشاذ، الذي قد خالفها….
وقد يجوز عندنا - والله أعلم - إن كان ثابتًا، أن يكون إنما نُهِيَ عن صَوْمِه، لئلا يُعَظَّم بذلك، فيُمْسَك عن الطعام والشراب والجِمَاع فيه، كما يَفْعَلُ اليهود، فأما من صامه لا لإرادة تعظيمه، ولا لما تريد اليهود بتَرْكها السعْيَ فيه، فإن ذلك غير مكروه ". اهـ. مُخْتَصَرًا.
وذهب شيخ الإسلام أبو العباس ابن تيميَّة إلى جَوَازِ صيام يوم السبت ولو من غير سبب، وهو رواية عن الإمام أحمد قال في (الفتاوى الكبرى): " ولا يُكْرَهُ إفْرادُ يَوْمِ السبت بالصَّوْمِ، ولا يجوز تخصيص صَوْمِ أَعْيَادِ المشركين، ولا صَوْمِ يوم الجمعة، ولا قيام ليلتها ".
وقال ابن مفلح في ((الفروع) (3/92):...واختار شيخنا - أي ابن تيمية - أنه لا يكره وأنه قَوْلُ أكثر العلماء، وأنه الذي فهمه الأثرم من روايته، وأنه لو أريد إفراده لما دخل الصوم المفروض ليستثنى، فالحديث شاذ أو منسوخ، وأن هذه طريقة قدماء أصحاب أحمد الذين صحبوه، كالأثرم وأبي داود، وأن أكثر أصحابنا فَهِمَ من كلام أحمد الأخذ بالحديث، ولم يذكر الآجري غير صوم يوم الجمعة؛ فظاهره لا يكره غيْرُه ".
وقال المرداوي - الحنبلي - في (الإنصاف): " كره إفراد يوم السبت بالصوم، وهو المذهب، وعليه الأصحاب، واختار الشيخ تقي الدين: أنه لا يُكْرَهُ صيامُه مفردًا، وأنه قول أكثر العلماء ". اهـ.
وقال ابن خزيمة: " وأحسب أن النهي عن صيامه إذ اليهود تُعَظِّمُهُ، وقد اتخذته عيدًا بدل الجمعة ".
وقد بَوَّبَ عليه البيهقي في سننه باب: (ما ورد من النهي عن تخصيص يوم السبت بالصوم) ... ثم قال: " وكأنه أراد بالنهي تخصيصه بالصوم على طريق التعظيم له، والله أعلم".
وقد لخص الشيخ ابن عثيمين - رحمه الله - كلام أهل العلم السابق، فقال: " وليعلم أن صيام يوم السبت له أحوال:
الحال الأولى: أن يكون في فرضٍ، كرمضان أَدَاءً، أو قضاءً، وكصيام الكَفَّارَةِ، وبدل هدي التَّمَتُّع، ونحو ذلك؛ فهذا لا بأس به ما لم يخصه بذلك مُعتَقِدًا أن له مزية.
الحال الثانية: أن يصوم قبله يوم الجمعة؛ فلا بأس به.
الحال الثالثة: أن يُصَادِف صيام أيام مشروعة؛ كأيام البيض، ويوم عرفة، ويوم عاشوراء، وستة أيام من شَوَّال - لمن صام رمضان - وتسع ذي الحجة؛ فلا بأس؛ لأنه لم يصمه لأنه يوم السبت، بل لأنه من الأيام التي يُشْرَع صومها.
الحال الرابعة: أن يُصادِف عادةً، كعادة من يصوم يومًا وَيُفْطِر يَوْمًا فَيُصَادِف يوم صومِهِ يوم السبت؛ فلا بأس به، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لما نهى عن تقدم رمضان بصوم يوم أو يومين: «إلا رجلاً كان يصوم صوما فليصمه»، وهذا مثله.
الحال الخامسة: أن يَخُصَّهُ بصوم تَطَوُّع؛ فيفرده بالصوم؛ فهذا محل النَّهي إن صَحَّ الحديثُ في النهي عَنْهُ ". انتهى.
وقال الشيخ ابن عثيمين رحمه في اللقاء المفتوح رقم 61 : وبهذه المناسبة أود أن أبين أنه قد ورد في حديث أخرجه أبو داود أن النبي صلى عليه وعلى آله وسلم قال: (لا تصوموا يوم السبت إلا فيما افترض عليكم وإن لم يجد أحدكم إلا لحاء شجرة أو عود عنب فليمضغه) فهذا الحديث قال أبو داود: إن مالكاً رحمه الله -وهو مالك بن أنس الإمام المشهور- قال: إن هذا الحديث كذب أي: مكذوب على الرسول صلى الله عليه وسلم لا يصح
والحقيقة أن من تأمل هذا الحديث وجد أن فيه اضطراباً في سنده وفيه شذوذ أو نكارة في متنه.
أما الاضطراب في سنده فقد تكلم عليه أهل العلم ومن شاء أن يراجعه فليراجعه
وأما الشذوذ في متنه والنكارة فهو أنه ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما رواه البخاري في صحيحه (أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل على جويرية بنت الحارث فقالت: إنها صائمة. فقال: أصمت أمس؟ قالت: لا. قال: أتصومين غداً؟ قالت: لا. قال: فأفطري) ومعلوم أن الغد من يوم الجمعة يكون يوم السبت، فهذا قول الرسول صلى الله عليه وسلم فيما رواه البخاري، أنه أذن في صوم يوم السبت،
وكذلك ما رواه أهل السنن عن أم سلمة رضي الله عنها أنها سئلت: ما هي أكثر الأيام التي كان الرسول صلى الله عليه وسلم يصومها؟ قالت: [يوم السبت ويوم الأحد]. فثبت من سنة الرسول عليه الصلاة والسلام القولية والفعلية أن صوم يوم السبت ليس حراماً... .
وسئل العلامة ابن باز رحمه الله :"ما حكم صيام يوم السبت، حيث إنني سمعت آراء كثيرة في صيام هذا اليوم, فمن الناس من يقول: إنه لا يصام إلا إذا سبق وألحق بيوم صيام, ومنهم من يقول: إنه لا يجوز أن يصام هذا أبداً إلا إذا كان صيام فرض أما تطوع فلا, وإذا كان كذلك وأردت أن أصوم صيام داوود عليه السلام فلا بد من مرور يوم السبت للصيام فيه دون أن أسبقه بيوم صيام، أو أن ألحقه بيوم صيام, فما هو رأيكم في ذلك؟"
الحديث في السبت في النهي عن صيام يوم السبت حديث ضعيف شاذ مطرب وهو ما يروى عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: (لا يصومن أحدكم يوم السبت إلا فيما افترض عليه فإن لم يجد إلا لحاء عنب أو عود شجرة فليمضغه) هذا الحديث ضعيف ومضطرب نبه عليه الحفاظ, فالحديث غير صحيح فلا بأس بصوم يوم السبت مع الجمعة, أو مع الأحد أو مفرداً لا حرج في ذلك هذا هو الصواب وهذا هو الصحيح, والحديث ضعيف لا يصح الاحتجاج به, ومما يدل على ضعفه ما ثبت في الصحيحين عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: (لا يصومن أحدكم يوم الجمعة إلا أن يصوم يوماً قبله أو يوماً بعده), فأباح للناس أن يصوموا يوماً بعده يوماً بعد الجمعة وهو السبت في النافلة, فدل على أن الحديث الذي فيه النهي عن صومه إلا في الفريضة حديث باطل مخالف للأحاديث الصحيحة, وهكذا كان- عليه الصلاة والسلام يصوم- الأحد ويوم السبت ويقول: (إنهما يوما عيد للمشركين فأنا أريد أن أخالفهم), والخلاصة أن الحديث في النهي عن صوم يوم السبت حديث ضعيف بل باطل غير صحيح, ولا حرج في صوم يوم السبت مفرداً, أو مع الجمعة, أو مع الأحد كل ذلك لا بأس به والحمد لله".
الجمع مقدَّم على التَّرجيح
أما ما ذهب إليه شيخنا الألباني -رحمهُ اللهُ- (الكلام للشيخ العتيبي من رسالته القول القويم بتصرف يسير) من تقديم حديث الصماء وترجيحه على الأحاديث المتكاثرة في جواز صيام يوم السبت إما بالخصوص أو العموم فهذا يسمى عند العلماء : الترجيح ..
فقد رجح حديث الصماء على ما خالفه –ظاهراً- من الأحاديث المتواترة المستفيضة ..
ومن القواعد المرعية عند أهل العلم : أن إعمال الدليل أولى من إهماله ..
فالقول بأن النهي عن صيام السبت يراد به الإفراد ليس إهمالاً للنص بل إعمال له، ونكون في الوقت نفسه أعملنا بقية الأدلة القاضية بجواز صيام يوم السبت إذا وافق عادة كصيام يوم وإفطار يوم أو كان بانضمام يوم آخر إليه كالجمعة أو الأحد..
ومن القواعد كذلك : أن الجمع مقدم على الترجيح ..
فنجمع بين الأدلة بما سبق ولا نرجح حديث الصماء على غيره ..
ولكن الذي دعا الشيخ الألباني -رحمهُ اللهُ- إلى أن يذهب إلى الترجيح دون الأخذ بالجمع بين النصوص هو أنه رأى أن الجمع غير ممكن لأن الاستثناء في الحديث صريح لا يجوز الزيادة عليه ...
ولكن يقال له -رحمهُ اللهُ- : إن السلف -رحمهُم اللهُ-من أهل الفقه والاجتهاد كالترمذي وأبي داود والنسائي والطحاوي والبيهقي وغيرهم بالمئات رأوا أنه يمكن الجمع بين النصوص ..
ففهمهم مقدم على فهمنا ، واجتهادهم مقدم على اجتهادنا ..
وهذا ليس مصيراً إلى التقليد بل هو ظاهر ولله الحمد ..
فلا أتكلم على الاستثناء وكونه دليلاً للتناول أو لا ؟ وكون النهي عنه يتناول كل صور صومه إلا صورة الفرض كما ذكر ذلك شيخ الإسلام وابن القيم والشيخ الألباني؟
إنما النظر في معنى قوله -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ- : ((لا تصوموا يوم السبت)) ما المراد بالنهي عن الصيام ؟ وبعد ذلك يتكلم عن الاستثناء ..
لأن حديث الصماء لم يرد أن النبي -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ- قاله على فراش الموت حتى لا نستطيع تأوله أو الجمع بينه وبين غيره من النصوص.
وسيأتي مزيد بيان لذلك -إنْ شاءَ اللهُ تعالَى-
فأكثر السلف والخلف ذهبوا إلى أن المراد بقوله ذلك : لا تصوموا يوم السبت وحده أو لا تتقصدوا صومه ..
وهذا التأويل أو هذا التقييد في اللفظ أوجبه الجمع بين النصوص حتى لا تختلف ولا تتعارض ..
نظائر لحديث النهي عن صيام السبت
ونظائر هذا في الكتاب والسنة كثيرة يرجع إليها في كتب مختلف الحديث ومشكل الآثار..
بل إذا كان النهي عاماً لم يخصص باستثناء ولا غيره إذا وجد دليل آخر يعارضه فإنه يصار إلى الجمع –إن أمكن- دون الوقوف عند عموم النهي..
مثال: ذلك نهي النبي -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ- عن الصلاة بعد العصر ، وهو نهي عام لم يستثن منه النص شيئاً ، ومع ذلك ذهب جماعة من العلماء إلى استحباب ركعتين بعد العصر مع علمهم بالنهي لأنهم رأوا النبي -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ- يفعل ذلك ، ومع تعارض القول والفعل ، والحاظر والمبيح رجحوا –ومنهم شيخنا الألباني -رحمهُ اللهُ- استحباب الركعتين بعد العصر..
وسبب ذلك أخذهم بالجمع بين النصوص ، وتقديم ذلك على الترجيح.
والنص إذا استثني بعض أفراده كما هو الحال في حديث الصماء : ((لا تصوموا يوم السبت إلا فيما افترض عليكم)) ، لم يكن ثمة مانع من استثناء أفراد أخرى من العام بمخصص منفصل أو بدليل آخر ..
فمخصصات العام كثيرة وليس هذا من الأخبار حتى لا ينسخ ، وليس هذا مما قاله النبي -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ- عند وفاته حتى نجعله ناسخاً لما يعارضه..
مثال للمخصص المنفصل:
وسأورد هذا المثال مع وجود الاستثناء فيه كحديث الصماء ..
عن أبي هريرة -رضيَ اللهُ عنهُ- قال: قال رسول الله -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ- : ((لا تعمل المطي إلا إلى ثلاثة مساجد..)) الحديث متواتر ..
فظاهر النص أن شد الرحال مطلقاً وعلى العموم لا يجوز إلا إلى ثلاثة مساجد ..
وهذا النهي من أبلغ النهي وأشده...
قال الطيبي : "هو أبلغ من صريح النهي كأنه قال لا يستقيم أن يقصد بالزياره إلا هذه البقاع لاختصاصها بما اختصت به".
قال الحافظ ابن حجر -رحمهُ اللهُ- في فتح الباري(3/64) : "والتقدير لا تشد الرحال إلى موضع ولازمه منع السفر إلى كل موضع غيرها لأن المستثنى منه في المفرغ مقدر بأعم العام لكن يمكن أن يكون المراد بالعموم هنا الموضع المخصوص وهو المسجد".
ومع ذلك وجد في الأدلة جواز سفر عبادةٍ كالرحلة في طلب العلم كسفر موسى إلى الخضر عليهما السلام ، وسفر الصحابة لذلك ، والسفر لزيارة الأصدقاء وصلة الأرحام كحديث الرجل الذي زار أخاً له في الله وسافر لذلك فأرصد الله على مدرجته ملكاً ، وكمن سافر عن بلده السيء إلى بلد صالح كحديث الذي قتل مائة نفس
وغير ذلك من الأدلة التي تبين أن المراد بشد الرحال لا يقصد به عموم السفر بل إذا قصد به التعبد في بقعة معينة أو لفضل مكان معين غير المواضع المستثناة..
قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمهُ اللهُ- : "يتناول المنع من السفر إلى كل بقعة مقصودة، بخلاف السفر للتجارة، وطلب العلم، ونحو ذلك. فإن السفر لطلب تلك الحاجة حيث كانت، وكذلك السفر لزيارة الأخ في الله فإنه هو المقصود حيث كان" .
وهذا التفسير أوجبه تلك الأحاديث التي تعارضه ، ولا يقال هنا : إن الحاظر مقدم على المبيح أو القول مقدم على الفعل أو أن الاستثناء دليل التناول فلا يستثنى غيرها ..
فمن قارن بين هذا الحديث ، وبين حديث النهي عن صيام السبت في غير الفرض عرف أن الذي أوجب تفسير الحديث بخلاف ما يظهر منه هو النصوص المعارضة ..
والجمع مقدم على الترجيح..
مثال ثانٍ:
ثبت عن النبي -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ- أنه قال: ((لا يحل دم امرئ مسلم، يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله، إلا بإحدى ثلاث : النفس بالنفس، والثيب الزاني، والمفارق لدينه التارك للجماعة))
ومع أن الاستثناء دليل التناول ، وعليه يكون معنى الحديث أن دم المسلم لا يحل إلا في هذه الحالات الثلاث ولا يجوز استثناء حالة رابعة حتى لا يكون استدراك على الشرع!!
وهذا غلط ..
بل قد جاء في الشرع استثناءات أخرى كقتل اللوطي ، وفاعل الفاحشة بالبهيمة.
وعمل مَن عمِل بتلك الأحاديث جمعاً بين النصوص..
مثال ثالث :
يقول الله تعالى: {ولا تقربوهن حتى يطهرن} ، فظاهر الآية أن قرب المرأة الحائض حرام حتى تطهر .
وهذا حاظر ، وهو لفظي .
وقد خصص أكثر العلماء ذلك بقوله وفعله -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ-
فأما قوله -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ- : فقال رسول الله -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ- : ((اصنعوا كل شيء إلا النكاح)).
وأما فعله -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ- فكما في حديث ميمونة -رضيَ اللهُ عنهُا- : كان رسول الله -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ- يباشر نساءه فوق الإزار وهن حيَّض. متفق عليه واللفظ لمسلم.
فيكون معنى الآية : ولا تجامعوهن ..
مع أن الجماع فرد من أفراد القرب ، ولكن الذي أوجب تفسير القرب في الآية بالجماع هذا الحديثان القولي والفعلي (وهما مبيحان).
لأن القاعدة عند العلماء : الجمع مقدم على الترجيح.
والحديث العام أبلغ مما ورد فيه الاستثناء..
فوجود الاستثناء فيه النص دليل على قابليته للتخصيص ..
وهذا هو الأصل في العام كذلك ..
فكوننا نخصص العام الذي لم يستثن منه شيء بسبب مخصص منفصل ، كذلك يجوز لنا أن نخصص عموم لفظ آخر قد خصص بمخصص متصل ..
والمستنكر في هذا الباب أن يأتي شخص ويخصص العام الذي استثني: بعقله، وبدون دليل موجب لذلك..
فلو جاء شخص وقال : إن معنى قوله -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ- : ((لا تصوموا يوم السبت إلا فيما افترض عليكم)) إنه أراد : لا تخصوا صيام السبت ولا تفردوه ، ولم يكن عنده دليل يحمله على هذا التوجيه والتفسير لأنكرنا عليه وقلنا إن اللفظ يأبى هذا التفسير العقلي ..
ولكن لَمَّا وُجدت الأدلة الكثيرة الدالة على استحباب صيام السبت في بعض الأحوال فعارضت هذا الحديث وجب حمل هذا النهي عن التخصيص أو قصد التعظيم ..
الجواب عن قياس النهي عن صيام يوم السبت بالنهي عن صيام يومي العيد
ولا يعترض هنا بيومي العيد، فالفرق بين النهي عن صيام يومي العيد ويوم السبت من أوجه منها:
أولاً: أن النبي -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ- ثبت عنه أنه كان يصوم يوم السبت والأحد ويعزو ذلك إلى حبه مخالفة أهل الكتاب ، وهذه العلة لم توجد في يومي العيدين.
ثانياً: لم يرد أن النبي -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ- أو أحد من أصحابه صاموا يومي العيدين، بخلاف يوم السبت فثبت أن النبي -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ- ، بل أمر بصيامه لمن صام الجمعة ولم يصم الخميس.
ثالثاً: لأن النهي عن صيامهما قد شاع وذاع في الأخبار ، كذلك صيام أيام التشريق لغير من لم يجد الهدي قد أمر النبي -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ- بالإعلان به في حجة الوداع .
رابعاً: كذلك فإن يومي العيدين لا يتكرران في الأسبوع كما هو حال يوم السبت.
فهذه الفروق وأهمها الأول والثاني تَرُدُّ على من أراد التسوية بين النهي عن صيام يومي العيدين وبين النهي عن صيام السبت.
الخلاصة:
الحق؛ أنه كيفما قلنا؛ فصيام السبت مشروع، على التفصيل المذكور سابقا لوجوه: منها: أننا لو قلنا بالجمع بين الأدلة - وهو الأولى عند التعارض فأحاديث مشروعية صيام السبت لسبب أَخَصُّ من حديث النهي مطلقًا كما سبق بيانه.
ومنها: أننا لو قلنا بالترجيح؛ لوجب ترجيح أحاديث جواز صيام يوم السبت عموما بغير كراهة - كما هو الرواية الثانية عن أحمد، والتي نصرها شيخ الإسلام ابن تيمية - لأن تلك الأحاديث أكثر من جهة العدد وأصح من جهة الإسناد كما لا يخفى!
ومما سبق يتبين أن تشدد كثير من الناس في النهي عن صيام يوم السبت حتى وإن وافق يوم عرفة أو عاشوراء مجانب للصواب والله أعلم.
أبو أسامة سمير الجزائري
بلعباس
8 ذو الحجة 1432
الموافق: 4 نوفمبر2011
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد:
فهذه مباحث مختصرة جمعتها من الشبكة ومن كلام أهل العلم أثناء بحثي عن هذه المسألة فقيدتها في هذه الصفحات (التي حرصت فيها على الاختصار الشديد حتى لا يمل القارئ وحتى يأخذ الفائدة سهلة ميسرة ) راجيا من الله أن ينفع بها وأن يجعلها خالصة لوجهه الكريم.
أبو أسامة سمير الجزائري
ذهب أكثر أهل العلم إلى كراهة صوم يوم السبت خصوصًا؛ واحتجوا بحديث عبدَ الله بن بُسْر المازني قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «لا تَصُومُوا يَوْم السَّبْت إلا فيما افتُرِضَ عليكم»؛ رواه أحمد وأصحاب السُّنَنِ الأربعة، وحَسَّنه الترمذي، وفي إسناده اختلاف قد ذكره النسائيُّ وغيرُه، وقال أبو داود: "هذا الحديث منسوخٌ"وقال مالك: "هذا كذب". وأُعِلَّ بالمُعَارَضَةِ وبالإضطِرابٍ.
أما إن وافِقْ يوم السبت عادةً، أو قضاء، أو نذرًا، أو يومًا رُغِّبَ في صيامه، أو صام معه غيره، أو كان يصوم يومًا ويُفطِرَ يَوْمًا؛ فلا كَرَاهَةَ في كُلِّ ذَلِكَ، وَقَدْ دَلَّتْ عَلَيِهْ الأدلَّةُ الصحيحةُ:
فعن أبي هُريرةَ رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «لا يَصُومَنَّ أَحَدُكُمْ يَوْمَ الجُمُعَةِ، إلا يَوْماً قَبْلَهُ أَوْ بَعْدَهُ» [رواه البخاري].
وروى عن جُوَيْرِيَةَ بِنْتِ الحارث - رضي الله عنها - أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل عليها يوم الجمعة وهى صائمة فقال: «أصُمْتِ أَمْسِ؟» قالت: لا. قال: «تُرِيدِينَ أَنْ تَصُومِي غدًا؟». قالت: لا. قال: «فَأَفْطِرِي».
فهذان الحديثان يَدُلان دَلالة صَرِيحة على جواز صوم يوم السبت في غير رمضان، لِمَنْ صام الجمعة قبله أو الأحد بعده.
وفي الصحيحَيْنِ وغيْرِهما عن عبد الله بن عمرو عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «أفضل الصيام عِنْدَ الله صَوْمُ داوُدَ - عليه السلام - كان يصوم يومًا، ويُفْطِرُ يومًا».
وكذلك قَدْ صَحَّ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم الترغيب في صيام يوم عَرَفَةَ، ويوم عاشوراء، والأيام البيض، وأيام التشريق.
ولا شك أنَّ هَذِهِ الأحاديثَ أَخَصُّ من حديث النهي عن صيام السبت(إن صح الحديث أصلا وهو لا يصح -أبو أسامة الجزائري) )؛ لأن النهي عن صوم السبت يشمل ما له سببٌ أو فضيلة وما لا سبب له - مُطْلَقِ النَّفْل - وكذلك يشمل صيام السبت بمفرده، أو مضمومًا إليه غيره، وأدلة جواز الصيام أَخَصُّ مُطلَقًا من ذلك النهي، فهي فَرْدٌ مِنْ أَفْرادِ العَامِّ - المنهِيِّ عن صيامها - والقاعدة الأصولية تَنُصُّ على استثناء الأقل من الأكثر، أو بناءِ العامِّ على الخاصِّ مُطلَقًا؛ يعني عند التعارض.
ومِن ثَمَّ استَحَبَّ عامَّةُ أهل العِلْمِ صيامَ كُلِّ ما له سبب أو فضيلة إن وافق يوم السبت، وحملوا النَّهيَ على النَّفلِ المُطْلَق أو على إفرادِ يوم السَّبتِ بالصِّيام مع تعظيمه.
قال أبو جعفر الطَّحَاوِي- الحنفي - في (شرح معاني الآثار) : " فذهب قوم إلى هذا الحديث، فكرِهُوا صوم يوم السبت تطوعًا. وخالفهم في ذلك آخرون، فلم يَرَوا بصومه بأسًا، وكان من الحجة عليهم في ذلك، أنه قد جاء الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه " نهى عن صوم يوم الجمعة، إلا أن يُصَامَ قَبلَهُ يوم، أو بعده يوم".فاليوم الذي بعده، هو يوم السبت.
ففي هذه الآثار المروية في هذا، إباحة صوم يوم السبت تطوعًا، وهي أشهر وأظهر في أيدي العُلَمَاءِ من هذا الحديث الشاذ، الذي قد خالفها….
وقد يجوز عندنا - والله أعلم - إن كان ثابتًا، أن يكون إنما نُهِيَ عن صَوْمِه، لئلا يُعَظَّم بذلك، فيُمْسَك عن الطعام والشراب والجِمَاع فيه، كما يَفْعَلُ اليهود، فأما من صامه لا لإرادة تعظيمه، ولا لما تريد اليهود بتَرْكها السعْيَ فيه، فإن ذلك غير مكروه ". اهـ. مُخْتَصَرًا.
وذهب شيخ الإسلام أبو العباس ابن تيميَّة إلى جَوَازِ صيام يوم السبت ولو من غير سبب، وهو رواية عن الإمام أحمد قال في (الفتاوى الكبرى): " ولا يُكْرَهُ إفْرادُ يَوْمِ السبت بالصَّوْمِ، ولا يجوز تخصيص صَوْمِ أَعْيَادِ المشركين، ولا صَوْمِ يوم الجمعة، ولا قيام ليلتها ".
وقال ابن مفلح في ((الفروع) (3/92):...واختار شيخنا - أي ابن تيمية - أنه لا يكره وأنه قَوْلُ أكثر العلماء، وأنه الذي فهمه الأثرم من روايته، وأنه لو أريد إفراده لما دخل الصوم المفروض ليستثنى، فالحديث شاذ أو منسوخ، وأن هذه طريقة قدماء أصحاب أحمد الذين صحبوه، كالأثرم وأبي داود، وأن أكثر أصحابنا فَهِمَ من كلام أحمد الأخذ بالحديث، ولم يذكر الآجري غير صوم يوم الجمعة؛ فظاهره لا يكره غيْرُه ".
وقال المرداوي - الحنبلي - في (الإنصاف): " كره إفراد يوم السبت بالصوم، وهو المذهب، وعليه الأصحاب، واختار الشيخ تقي الدين: أنه لا يُكْرَهُ صيامُه مفردًا، وأنه قول أكثر العلماء ". اهـ.
وقال ابن خزيمة: " وأحسب أن النهي عن صيامه إذ اليهود تُعَظِّمُهُ، وقد اتخذته عيدًا بدل الجمعة ".
وقد بَوَّبَ عليه البيهقي في سننه باب: (ما ورد من النهي عن تخصيص يوم السبت بالصوم) ... ثم قال: " وكأنه أراد بالنهي تخصيصه بالصوم على طريق التعظيم له، والله أعلم".
وقد لخص الشيخ ابن عثيمين - رحمه الله - كلام أهل العلم السابق، فقال: " وليعلم أن صيام يوم السبت له أحوال:
الحال الأولى: أن يكون في فرضٍ، كرمضان أَدَاءً، أو قضاءً، وكصيام الكَفَّارَةِ، وبدل هدي التَّمَتُّع، ونحو ذلك؛ فهذا لا بأس به ما لم يخصه بذلك مُعتَقِدًا أن له مزية.
الحال الثانية: أن يصوم قبله يوم الجمعة؛ فلا بأس به.
الحال الثالثة: أن يُصَادِف صيام أيام مشروعة؛ كأيام البيض، ويوم عرفة، ويوم عاشوراء، وستة أيام من شَوَّال - لمن صام رمضان - وتسع ذي الحجة؛ فلا بأس؛ لأنه لم يصمه لأنه يوم السبت، بل لأنه من الأيام التي يُشْرَع صومها.
الحال الرابعة: أن يُصادِف عادةً، كعادة من يصوم يومًا وَيُفْطِر يَوْمًا فَيُصَادِف يوم صومِهِ يوم السبت؛ فلا بأس به، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لما نهى عن تقدم رمضان بصوم يوم أو يومين: «إلا رجلاً كان يصوم صوما فليصمه»، وهذا مثله.
الحال الخامسة: أن يَخُصَّهُ بصوم تَطَوُّع؛ فيفرده بالصوم؛ فهذا محل النَّهي إن صَحَّ الحديثُ في النهي عَنْهُ ". انتهى.
وقال الشيخ ابن عثيمين رحمه في اللقاء المفتوح رقم 61 : وبهذه المناسبة أود أن أبين أنه قد ورد في حديث أخرجه أبو داود أن النبي صلى عليه وعلى آله وسلم قال: (لا تصوموا يوم السبت إلا فيما افترض عليكم وإن لم يجد أحدكم إلا لحاء شجرة أو عود عنب فليمضغه) فهذا الحديث قال أبو داود: إن مالكاً رحمه الله -وهو مالك بن أنس الإمام المشهور- قال: إن هذا الحديث كذب أي: مكذوب على الرسول صلى الله عليه وسلم لا يصح
والحقيقة أن من تأمل هذا الحديث وجد أن فيه اضطراباً في سنده وفيه شذوذ أو نكارة في متنه.
أما الاضطراب في سنده فقد تكلم عليه أهل العلم ومن شاء أن يراجعه فليراجعه
وأما الشذوذ في متنه والنكارة فهو أنه ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما رواه البخاري في صحيحه (أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل على جويرية بنت الحارث فقالت: إنها صائمة. فقال: أصمت أمس؟ قالت: لا. قال: أتصومين غداً؟ قالت: لا. قال: فأفطري) ومعلوم أن الغد من يوم الجمعة يكون يوم السبت، فهذا قول الرسول صلى الله عليه وسلم فيما رواه البخاري، أنه أذن في صوم يوم السبت،
وكذلك ما رواه أهل السنن عن أم سلمة رضي الله عنها أنها سئلت: ما هي أكثر الأيام التي كان الرسول صلى الله عليه وسلم يصومها؟ قالت: [يوم السبت ويوم الأحد]. فثبت من سنة الرسول عليه الصلاة والسلام القولية والفعلية أن صوم يوم السبت ليس حراماً... .
وسئل العلامة ابن باز رحمه الله :"ما حكم صيام يوم السبت، حيث إنني سمعت آراء كثيرة في صيام هذا اليوم, فمن الناس من يقول: إنه لا يصام إلا إذا سبق وألحق بيوم صيام, ومنهم من يقول: إنه لا يجوز أن يصام هذا أبداً إلا إذا كان صيام فرض أما تطوع فلا, وإذا كان كذلك وأردت أن أصوم صيام داوود عليه السلام فلا بد من مرور يوم السبت للصيام فيه دون أن أسبقه بيوم صيام، أو أن ألحقه بيوم صيام, فما هو رأيكم في ذلك؟"
الحديث في السبت في النهي عن صيام يوم السبت حديث ضعيف شاذ مطرب وهو ما يروى عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: (لا يصومن أحدكم يوم السبت إلا فيما افترض عليه فإن لم يجد إلا لحاء عنب أو عود شجرة فليمضغه) هذا الحديث ضعيف ومضطرب نبه عليه الحفاظ, فالحديث غير صحيح فلا بأس بصوم يوم السبت مع الجمعة, أو مع الأحد أو مفرداً لا حرج في ذلك هذا هو الصواب وهذا هو الصحيح, والحديث ضعيف لا يصح الاحتجاج به, ومما يدل على ضعفه ما ثبت في الصحيحين عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: (لا يصومن أحدكم يوم الجمعة إلا أن يصوم يوماً قبله أو يوماً بعده), فأباح للناس أن يصوموا يوماً بعده يوماً بعد الجمعة وهو السبت في النافلة, فدل على أن الحديث الذي فيه النهي عن صومه إلا في الفريضة حديث باطل مخالف للأحاديث الصحيحة, وهكذا كان- عليه الصلاة والسلام يصوم- الأحد ويوم السبت ويقول: (إنهما يوما عيد للمشركين فأنا أريد أن أخالفهم), والخلاصة أن الحديث في النهي عن صوم يوم السبت حديث ضعيف بل باطل غير صحيح, ولا حرج في صوم يوم السبت مفرداً, أو مع الجمعة, أو مع الأحد كل ذلك لا بأس به والحمد لله".
الجمع مقدَّم على التَّرجيح
أما ما ذهب إليه شيخنا الألباني -رحمهُ اللهُ- (الكلام للشيخ العتيبي من رسالته القول القويم بتصرف يسير) من تقديم حديث الصماء وترجيحه على الأحاديث المتكاثرة في جواز صيام يوم السبت إما بالخصوص أو العموم فهذا يسمى عند العلماء : الترجيح ..
فقد رجح حديث الصماء على ما خالفه –ظاهراً- من الأحاديث المتواترة المستفيضة ..
ومن القواعد المرعية عند أهل العلم : أن إعمال الدليل أولى من إهماله ..
فالقول بأن النهي عن صيام السبت يراد به الإفراد ليس إهمالاً للنص بل إعمال له، ونكون في الوقت نفسه أعملنا بقية الأدلة القاضية بجواز صيام يوم السبت إذا وافق عادة كصيام يوم وإفطار يوم أو كان بانضمام يوم آخر إليه كالجمعة أو الأحد..
ومن القواعد كذلك : أن الجمع مقدم على الترجيح ..
فنجمع بين الأدلة بما سبق ولا نرجح حديث الصماء على غيره ..
ولكن الذي دعا الشيخ الألباني -رحمهُ اللهُ- إلى أن يذهب إلى الترجيح دون الأخذ بالجمع بين النصوص هو أنه رأى أن الجمع غير ممكن لأن الاستثناء في الحديث صريح لا يجوز الزيادة عليه ...
ولكن يقال له -رحمهُ اللهُ- : إن السلف -رحمهُم اللهُ-من أهل الفقه والاجتهاد كالترمذي وأبي داود والنسائي والطحاوي والبيهقي وغيرهم بالمئات رأوا أنه يمكن الجمع بين النصوص ..
ففهمهم مقدم على فهمنا ، واجتهادهم مقدم على اجتهادنا ..
وهذا ليس مصيراً إلى التقليد بل هو ظاهر ولله الحمد ..
فلا أتكلم على الاستثناء وكونه دليلاً للتناول أو لا ؟ وكون النهي عنه يتناول كل صور صومه إلا صورة الفرض كما ذكر ذلك شيخ الإسلام وابن القيم والشيخ الألباني؟
إنما النظر في معنى قوله -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ- : ((لا تصوموا يوم السبت)) ما المراد بالنهي عن الصيام ؟ وبعد ذلك يتكلم عن الاستثناء ..
لأن حديث الصماء لم يرد أن النبي -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ- قاله على فراش الموت حتى لا نستطيع تأوله أو الجمع بينه وبين غيره من النصوص.
وسيأتي مزيد بيان لذلك -إنْ شاءَ اللهُ تعالَى-
فأكثر السلف والخلف ذهبوا إلى أن المراد بقوله ذلك : لا تصوموا يوم السبت وحده أو لا تتقصدوا صومه ..
وهذا التأويل أو هذا التقييد في اللفظ أوجبه الجمع بين النصوص حتى لا تختلف ولا تتعارض ..
نظائر لحديث النهي عن صيام السبت
ونظائر هذا في الكتاب والسنة كثيرة يرجع إليها في كتب مختلف الحديث ومشكل الآثار..
بل إذا كان النهي عاماً لم يخصص باستثناء ولا غيره إذا وجد دليل آخر يعارضه فإنه يصار إلى الجمع –إن أمكن- دون الوقوف عند عموم النهي..
مثال: ذلك نهي النبي -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ- عن الصلاة بعد العصر ، وهو نهي عام لم يستثن منه النص شيئاً ، ومع ذلك ذهب جماعة من العلماء إلى استحباب ركعتين بعد العصر مع علمهم بالنهي لأنهم رأوا النبي -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ- يفعل ذلك ، ومع تعارض القول والفعل ، والحاظر والمبيح رجحوا –ومنهم شيخنا الألباني -رحمهُ اللهُ- استحباب الركعتين بعد العصر..
وسبب ذلك أخذهم بالجمع بين النصوص ، وتقديم ذلك على الترجيح.
والنص إذا استثني بعض أفراده كما هو الحال في حديث الصماء : ((لا تصوموا يوم السبت إلا فيما افترض عليكم)) ، لم يكن ثمة مانع من استثناء أفراد أخرى من العام بمخصص منفصل أو بدليل آخر ..
فمخصصات العام كثيرة وليس هذا من الأخبار حتى لا ينسخ ، وليس هذا مما قاله النبي -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ- عند وفاته حتى نجعله ناسخاً لما يعارضه..
مثال للمخصص المنفصل:
وسأورد هذا المثال مع وجود الاستثناء فيه كحديث الصماء ..
عن أبي هريرة -رضيَ اللهُ عنهُ- قال: قال رسول الله -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ- : ((لا تعمل المطي إلا إلى ثلاثة مساجد..)) الحديث متواتر ..
فظاهر النص أن شد الرحال مطلقاً وعلى العموم لا يجوز إلا إلى ثلاثة مساجد ..
وهذا النهي من أبلغ النهي وأشده...
قال الطيبي : "هو أبلغ من صريح النهي كأنه قال لا يستقيم أن يقصد بالزياره إلا هذه البقاع لاختصاصها بما اختصت به".
قال الحافظ ابن حجر -رحمهُ اللهُ- في فتح الباري(3/64) : "والتقدير لا تشد الرحال إلى موضع ولازمه منع السفر إلى كل موضع غيرها لأن المستثنى منه في المفرغ مقدر بأعم العام لكن يمكن أن يكون المراد بالعموم هنا الموضع المخصوص وهو المسجد".
ومع ذلك وجد في الأدلة جواز سفر عبادةٍ كالرحلة في طلب العلم كسفر موسى إلى الخضر عليهما السلام ، وسفر الصحابة لذلك ، والسفر لزيارة الأصدقاء وصلة الأرحام كحديث الرجل الذي زار أخاً له في الله وسافر لذلك فأرصد الله على مدرجته ملكاً ، وكمن سافر عن بلده السيء إلى بلد صالح كحديث الذي قتل مائة نفس
وغير ذلك من الأدلة التي تبين أن المراد بشد الرحال لا يقصد به عموم السفر بل إذا قصد به التعبد في بقعة معينة أو لفضل مكان معين غير المواضع المستثناة..
قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمهُ اللهُ- : "يتناول المنع من السفر إلى كل بقعة مقصودة، بخلاف السفر للتجارة، وطلب العلم، ونحو ذلك. فإن السفر لطلب تلك الحاجة حيث كانت، وكذلك السفر لزيارة الأخ في الله فإنه هو المقصود حيث كان" .
وهذا التفسير أوجبه تلك الأحاديث التي تعارضه ، ولا يقال هنا : إن الحاظر مقدم على المبيح أو القول مقدم على الفعل أو أن الاستثناء دليل التناول فلا يستثنى غيرها ..
فمن قارن بين هذا الحديث ، وبين حديث النهي عن صيام السبت في غير الفرض عرف أن الذي أوجب تفسير الحديث بخلاف ما يظهر منه هو النصوص المعارضة ..
والجمع مقدم على الترجيح..
مثال ثانٍ:
ثبت عن النبي -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ- أنه قال: ((لا يحل دم امرئ مسلم، يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله، إلا بإحدى ثلاث : النفس بالنفس، والثيب الزاني، والمفارق لدينه التارك للجماعة))
ومع أن الاستثناء دليل التناول ، وعليه يكون معنى الحديث أن دم المسلم لا يحل إلا في هذه الحالات الثلاث ولا يجوز استثناء حالة رابعة حتى لا يكون استدراك على الشرع!!
وهذا غلط ..
بل قد جاء في الشرع استثناءات أخرى كقتل اللوطي ، وفاعل الفاحشة بالبهيمة.
وعمل مَن عمِل بتلك الأحاديث جمعاً بين النصوص..
مثال ثالث :
يقول الله تعالى: {ولا تقربوهن حتى يطهرن} ، فظاهر الآية أن قرب المرأة الحائض حرام حتى تطهر .
وهذا حاظر ، وهو لفظي .
وقد خصص أكثر العلماء ذلك بقوله وفعله -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ-
فأما قوله -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ- : فقال رسول الله -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ- : ((اصنعوا كل شيء إلا النكاح)).
وأما فعله -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ- فكما في حديث ميمونة -رضيَ اللهُ عنهُا- : كان رسول الله -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ- يباشر نساءه فوق الإزار وهن حيَّض. متفق عليه واللفظ لمسلم.
فيكون معنى الآية : ولا تجامعوهن ..
مع أن الجماع فرد من أفراد القرب ، ولكن الذي أوجب تفسير القرب في الآية بالجماع هذا الحديثان القولي والفعلي (وهما مبيحان).
لأن القاعدة عند العلماء : الجمع مقدم على الترجيح.
والحديث العام أبلغ مما ورد فيه الاستثناء..
فوجود الاستثناء فيه النص دليل على قابليته للتخصيص ..
وهذا هو الأصل في العام كذلك ..
فكوننا نخصص العام الذي لم يستثن منه شيء بسبب مخصص منفصل ، كذلك يجوز لنا أن نخصص عموم لفظ آخر قد خصص بمخصص متصل ..
والمستنكر في هذا الباب أن يأتي شخص ويخصص العام الذي استثني: بعقله، وبدون دليل موجب لذلك..
فلو جاء شخص وقال : إن معنى قوله -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ- : ((لا تصوموا يوم السبت إلا فيما افترض عليكم)) إنه أراد : لا تخصوا صيام السبت ولا تفردوه ، ولم يكن عنده دليل يحمله على هذا التوجيه والتفسير لأنكرنا عليه وقلنا إن اللفظ يأبى هذا التفسير العقلي ..
ولكن لَمَّا وُجدت الأدلة الكثيرة الدالة على استحباب صيام السبت في بعض الأحوال فعارضت هذا الحديث وجب حمل هذا النهي عن التخصيص أو قصد التعظيم ..
الجواب عن قياس النهي عن صيام يوم السبت بالنهي عن صيام يومي العيد
ولا يعترض هنا بيومي العيد، فالفرق بين النهي عن صيام يومي العيد ويوم السبت من أوجه منها:
أولاً: أن النبي -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ- ثبت عنه أنه كان يصوم يوم السبت والأحد ويعزو ذلك إلى حبه مخالفة أهل الكتاب ، وهذه العلة لم توجد في يومي العيدين.
ثانياً: لم يرد أن النبي -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ- أو أحد من أصحابه صاموا يومي العيدين، بخلاف يوم السبت فثبت أن النبي -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ- ، بل أمر بصيامه لمن صام الجمعة ولم يصم الخميس.
ثالثاً: لأن النهي عن صيامهما قد شاع وذاع في الأخبار ، كذلك صيام أيام التشريق لغير من لم يجد الهدي قد أمر النبي -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ- بالإعلان به في حجة الوداع .
رابعاً: كذلك فإن يومي العيدين لا يتكرران في الأسبوع كما هو حال يوم السبت.
فهذه الفروق وأهمها الأول والثاني تَرُدُّ على من أراد التسوية بين النهي عن صيام يومي العيدين وبين النهي عن صيام السبت.
الخلاصة:
الحق؛ أنه كيفما قلنا؛ فصيام السبت مشروع، على التفصيل المذكور سابقا لوجوه: منها: أننا لو قلنا بالجمع بين الأدلة - وهو الأولى عند التعارض فأحاديث مشروعية صيام السبت لسبب أَخَصُّ من حديث النهي مطلقًا كما سبق بيانه.
ومنها: أننا لو قلنا بالترجيح؛ لوجب ترجيح أحاديث جواز صيام يوم السبت عموما بغير كراهة - كما هو الرواية الثانية عن أحمد، والتي نصرها شيخ الإسلام ابن تيمية - لأن تلك الأحاديث أكثر من جهة العدد وأصح من جهة الإسناد كما لا يخفى!
ومما سبق يتبين أن تشدد كثير من الناس في النهي عن صيام يوم السبت حتى وإن وافق يوم عرفة أو عاشوراء مجانب للصواب والله أعلم.
أبو أسامة سمير الجزائري
بلعباس
8 ذو الحجة 1432
الموافق: 4 نوفمبر2011
تعليق