خطبة عن
أحكامِ الصَّومِ في شَعبان
أحكامِ الصَّومِ في شَعبان
الخطبة الأولى:
إنّ الحمدَ لله نحمده ونستعينُه ونستغفرُه ونعوذُ بالله من شرورِ أنفسِنا ومِن سيئاتِ أعمالِنا، مَن يَهْدِه اللهُ فلا مُضِلَّ له ومَن يُضلل فلا هادي له، وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحدَهُ لا شريكَ له، وأشهدُ أنّ محمداً عبدُه ورسولُه. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]، {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء:1] {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً - يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب: 70-71]. ألا وإنَّ خيرَ الحديثِ كتابُ اللهِ، وخيرَ الهدْيِ هدْيُ محمدٍ -صلى الله عليه وسلم-، وشرَّ الأمورِ مُحدَثاتُها، وكلَّ مُحدثةٍ بدعة، وكلَّ بدعةٍ ضلالة، وكلَّ ضلالةٍ في النار.
أمَّا بعدُ: أيُّها المؤمنون! اتقوا اللهَ تعالى حقَّ التقوى.
أيُّها المؤمنون! إنَّ المؤمنَ ليتقلَّبُ في هذا الزمان، ويَمُدُّ اللهُ له في الأجلِ، وكلُّ يومٍ يَعيشُه في هذه الدنيا هو غنيمةٌ له لِيتزوَّدَ منه لأخِرتِه، ويَبذرَ فيه مِن الأعمالِ ما استطاعتْهُ نفسُه وتحمَّلتُه. فحَرِيٌّ بالمؤمنِ الذي يرجو نجاةَ نفسِه مما ستلقاه مِن المخاوفِ ألا يَدعَ فُرصةً للطاعةِ ومَوسِماً مِن مواسمِ الأعمالِ الصالحةِ إلا واغتَنَمَه؛ لِيجِدَ ذلك مكتوبًا في صحيفةِ أعمالِه يومَ القيامة.
ثم اعلموا -عبادَ الله- أنَّ شهرَ شعبانَ شهرٌ عظيمٌ وموسمٌ مِن مواسمِ الأعمالِ الصالحةِ التي يغفلُ الناسُ عنه بين رجبَ ورمضانَ، ولا يعملُ فيه إلا مَن وفَّقه اللهُ تعالى. فعَن أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! لَمْ أَرَكَ تَصُومُ شَهْرًا مِنْ الشُّهُورِ مَا تَصُومُ مِنْ شَعْبَانَ! قَالَ: ((ذَلِكَ شَهْرٌ يَغْفُلُ النَّاسُ عَنْهُ بَيْنَ رَجَبٍ وَرَمَضَانَ، وَهُوَ شَهْرٌ تُرْفَعُ فِيهِ الْأَعْمَالُ إِلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ؛ فَأُحِبُّ أَنْ يُرْفَعَ عَمَلِي وَأَنَا صَائِمٌ)) [رواه النسائي]. (حديث حسن - تمام المنة / 412). ففي هذا الحديثِ -أيها المؤمنون- أنَّ هذا الشهرَ -شهرَ شعبانَ- فيه تُرفعُ الأعمالُ الصالحةُ إلى اللهِ عز وجل، وإنَّ مِن الأعمالِ الصالحةِ التي تُرفَعُ إلى ربِّ العالَمين: الصومُ؛ فيُستحبُّ الصومُ مِن هذا الشهر. وقد كان النبيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يصومُ أكثرَ هذا الشهرِ؛ لِما رَوَتْ عائشةُ -رضي الله عنها- أنها قَالَتْ: (كَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَصُومُ حَتَّى نَقُولَ لَا يُفْطِرُ، وَيُفْطِرُ حَتَّى نَقُولَ لَا يَصُومُ! فَمَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- اسْتَكْمَلَ صِيَامَ شَهْرٍ إِلَّا رَمَضَانَ، وَمَا رَأَيْتُهُ أَكْثَرَ صِيَامًا مِنْهُ فِي شَعْبَانَ) ، وقالتْ -أيضاً-رضي الله عنها-: (لم يكنِ النبيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يصومُ شهراً أكثرَ مِن شعبانَ) [رواهما البخاري في صحيحِه (4/213)]. ففي هذه الأحاديثِ -أيها المؤمنون- استحبابُ صومِ أيامٍ مِن هذا الشهرِ -شهرِ شعبانَ-؛ اقتداءً بِنبيِّنا -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، ورجاءَ أن تُرفعَ أعمالُنا فيه إلى اللهِ عزَّ وجلَّ؛ فتدركُنا رحمتُه ومغفرتُه -سبحانه وتعالى-.
أيُّها المؤمنون! قد يتساءلُ بعضُ الإخوةِ؛ فيقولون: هلِ الصومُ في شعبانَ جائزٌ مُطلقاً مِن أولِ الشهرِ إلى نهايَتِه؟! أم هلِ الصومُ يكونُ في بِدايتِه فقط؟! وهلِ الناسُ في صيامِ هذا الشهرِ سواء؟! أم يختلفون وتختلفُ أحكامُ صومِهم فيه؟! وللإجابةِ على هذه التساؤلاتِ؛ نُلَخِّصُ ما ذَكره أهلُ العلمِ -رحمهم الله- في صيامِ هذا الشهرِ -جَمعاً وتوفيقاً بين الأحاديثِ- فنقول: الناسُ في صيامِ هذا الشهرِ على أقسام:
1- فمنهم: مَن لم تكنْ له عادةٌ في الصيامِ قبلَه ودخل عليه شعبانُ وهو مُستمِرٌّ في عدمِ الصيامِ. فهذا تَرَكَ فضلاً عظيمًا وأمْرًا مُستَحَبًّا مُرغَّبًا فيه؛ فلا يَحْرِمْ نفسَه هذا الفضلَ.
2- ومنهم: مَن كانت له عادةٌ في الصيامِ قبل شعبانَ مثلَ أنْ يكونَ قد اعتادَ صيامَ ثلاثةِ أيامٍ مِن كلِّ شهرٍ أو يكونَ قد اعتادَ صيامَ يَومَيِ الاثنينِ والخميسِ، أو يكونَ قد اعتادَ صومِ يومٍ وإفطارِ يومٍ، ودخل عليه شعبانُ؛ فَلْيَسْتَمِرَّ في صيامِه، ولْيُواظِبْ على عادَتِه التي كان قد اعتادَها .
3- ومِن الناسِ مَن لم تكنْ له عادةٌ في الصيامِ قبل هذا الشهرِ، لكنْ لَمَّا انتصفَ شعبانُ بدأ في الصومِ! فهذا ننصحُه بِتَرْكِ الصيامِ؛ لأنه ارتكبَ أمْراً مَنْهِيًّا عنه؛ فقد جاء في الحديثِ الصحيحِ الوارِدِ في ذلك: عن أبي هريرةَ -رضي الله عنه- قال: قال النبيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: ((إذا بَقِيَ نِصفٌ مِن شعبانَ؛ فلا تَصُوموا)) [المشكاة /(1974)].
4- ومنهم: مَن لم تكنْ له عادةٌ في الصومِ، ولكنْ لَمَّا بَقيَ على نهايةِ شهرِ شعبانَ يومٌ أو يومان صام هَذَيْنِ اليومَيْنِ أو هذا اليومَ مِن أجلِ أن يحتاطَ لرمضانَ! فهذا الأمرُ الذي فَعَلَه عَدَّهُ العلماءُ بِدعةً في دينِ اللهِ عزَّ وجلَّ؛ لأنه قد أتى بِمُحْدَثةٍ لم يفعلْها رسولُ اللهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، ولا أحدٌ مِن أصحابِه -رضوانُ الله عليهم-. وهو قد وَقع في الأمرِ الذي حذَّّر منه النبيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حيث جاء في الحديثِ: عن أبي هريرةَ -رضي الله عنه- قال: قال رسولُ اللهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: ((لا يَتَقَدَّمَنَّ أَحَدُكُمْ رَمضانَ بِصَوْمِ يَومٍ أو يَومَيْنِ، إلا أنْ يَكونَ رَجُلٌ كانَ يَصومُ صَوْماً فَلْيَصُمْ ذلك اليَومَ)) [متفق عليه]. فهذا نهيٌ صريحٌ مِنَ النبيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عن التقدمِ على شهرِ رمضانَ بيومٍ أو يومينِ، إلا مَن كان له اعتيادٌ قبل ذلك -كما تقدَّم معنا-.
أيُّها المؤمنون! كما أنه لا يجوزُ للمسلمِ صيامُ يومِ الشكِّ وهو اليومُ الثلاثونَ مِن شعبانَ إذَا لم يُرَ الهلالُ في ليلَتِه بِسَببِ غيمٍ أو ساترٍ أو نحوِه. فيجوزُ أن يكونَ مِن رمضانَ ويجوزُ أنْ يكونَ مِن شعبانَ. فهذا جاء النهيُ عن صومِه صريحاً في قولِ عمارَ بنِ ياسرٍ -رضي الله عنهما- قال: (مَن صامَ اليومَ الذي يُشَكُّ فيه؛ فقد عَصَى أبا القاسمِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) [رواه أبو داودَ والترمذيُّ، وهو حديثٌ صحيحٌ: (الإرواء: 961)]. أمَّا لو تَبيَّنَ بعد ذلك أنه يومٌ مِن رمضانَ؛ فيُقضَى مكانَه يومٌ بعد رمضانَ.
فاحرصوا -أيها المؤمنون- على الصومِ في شعبانَ، واغتنموا هذه الأيامَ التي جعلها اللهُ تعالى مواسمَ للخيراتِ يتزوَّدُ منها المرءُ لآخِرَتِه.
أقولُ ما تسمعونَ وأستغفرُ اللهَ لي ولكم ولسائرِ المسلمين مِن كلِّ ذنبٍ، فاستغفروه إنه هو الغفورُ الرحيمُ ..
الخطبة الثانية:
الحمدُ للهِ ربِّ العالمين، والصلاةُ والسلامُ على مَن أرسله اللهُ رحمةً للعالَمين، وعلى آلِه وصحبِه أجمعين.
أيها الناسُ! اتقوا اللهَ تعالى وتَمَسَّكوا بكتابِه وسُنةِ نبيِّه؛ ففيهما الكفايةُ والهُدى والنورُ.
أيها الإخوةُ المؤمنون! اغتنموا هذا الشهرَ ففيه تُرفعُ الأعمالُ إلى ربِّ الأعمالِ، فكونوا ممن يُرفعُ له عملٌ صالحٌ في هذا الشهرِ. عن أسامةَ بنِ زيدٍ -رضي الله عنهما- قال: قلت: يا رسول الله! لم أرَكَ تَصومُ مِن شهرٍ مِنَ الشهورِ ما تَصومُ مِن شعبانَ؟! قال: ((ذاكَ شَهرٌ يغفُلُ الناسُ عنه بين رجبٍ ورمضانَ، وهو شهرٌ تُرفعُ فيه الأعمالُ إلى ربِّ العالَمين؛ وَأُحِبُّ أنْ يُرفعَ عَملي وأنا صائمٌ)) [رواه النسائي الترغيب : 1022 (حسن )]، قال بعضُ العلماءِ: (إنَّ أعمالَ الأسبوعِ تُعرضُ على اللهِ تعالى كلَّ اثنينٍ وخميسٍ، وأعمالُ السَّنَةِ كلِّها تعرضُ في شعبانَ) [شرح النسائي.بتصرف]. وقولُه: ((يغفُلُ الناسُ عنه)): فيهِ أنَّ إحياءَ أزمنةِ الغفلةِ فيه أجرٌ كبيرٌ إذا وَرَدَ فيها الأثرُ عن نبيِّنا -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-. ومثلُ ذلك: ما وردَ في صحيحِ مسلمٍ: أنَّ رسولَ اللهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: ((الْعِبَادَةُ فِي الْهَرْجِ كَهِجْرَةٍ إِلَيَّ))، والهرجُ: هو زمنُ الفِتنِ وكثرةِ اختلاطِ أمورِ الناسِ؛ ففيها يغفلُ الناسُ عن عبادةِ اللهِ تعالى. ومثلُه: قولُه -عليه الصلاة والسلام-: ((مَنْ دَخَلَ السُّوقَ فَقَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَهُوَ حَيٌّ لَا يَمُوتُ بِيَدِهِ الْخَيْرُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ؛ كَتَبَ اللَّهُ لَهُ أَلْفَ أَلْفِ حَسَنَةٍ وَمَحَا عَنْهُ أَلْفَ أَلْفِ سَيِّئَةٍ وَرَفَعَ لَهُ أَلْفَ أَلْفِ دَرَجَةٍ)) [ 1684(حسن لغيره)- الترغيب]؛ فالسوقُ موطنٌ مِن مواطنِ الغفلةِ حيث البيعُ والشراءُ وغفلةُ الناسِ عن ذكرِ الله تعالى، والغفلةُ عن اللهِ وعن مراقبَتِه تُورِثُ الوقوعَ في المعاصي واقترافَها؛ فصار الذاكرُ فيها للهِ بِلسانِه أو بعبادتِه عظيمَ الأجرِ مُضاعَفَ الثوابِ. وهذا لا يحصلُ إلا لمن كان دائمَ الحذَرِ مما هو مُقدِمٌ عليه مِنَ الأهوالِ العظيمةِ في قبرِه ويومَ يقومُ العبادُ لربِّهم خائفينَ وَجِلِين يَطلبونَ السلامةَ مما أمامهم مُترقِّبين منازِلَهم التي سينزلون فيها، ففَريقٌ في الجنةِ وفريقٌ في السعير.
وقانا اللهُ وإياكم وسائرَ المسلمين مِن غضبِه وعقابِه ومن شرورِ أنفسِنا ومِن غفلتِنا ومعاصينا ورَزَقَنا تدارُكَ الأعمارِ فيما يُقرِّبُ إليه سبحانه ووفَّقنا بمنِّه وكرمِه للتوبةِ والإنابةِ قبل المماتِ؛ إنه سميعٌ قريبٌ مجيبُ الدعاءِ ... وآخِرُ دعوانا أنِ الحمدُ للهِ ربِّ العالَمين.
-----------------------------
المصدر
http://www.morsall.com/vb/showthread.php?t=1000
إنّ الحمدَ لله نحمده ونستعينُه ونستغفرُه ونعوذُ بالله من شرورِ أنفسِنا ومِن سيئاتِ أعمالِنا، مَن يَهْدِه اللهُ فلا مُضِلَّ له ومَن يُضلل فلا هادي له، وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحدَهُ لا شريكَ له، وأشهدُ أنّ محمداً عبدُه ورسولُه. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]، {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء:1] {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً - يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب: 70-71]. ألا وإنَّ خيرَ الحديثِ كتابُ اللهِ، وخيرَ الهدْيِ هدْيُ محمدٍ -صلى الله عليه وسلم-، وشرَّ الأمورِ مُحدَثاتُها، وكلَّ مُحدثةٍ بدعة، وكلَّ بدعةٍ ضلالة، وكلَّ ضلالةٍ في النار.
أمَّا بعدُ: أيُّها المؤمنون! اتقوا اللهَ تعالى حقَّ التقوى.
أيُّها المؤمنون! إنَّ المؤمنَ ليتقلَّبُ في هذا الزمان، ويَمُدُّ اللهُ له في الأجلِ، وكلُّ يومٍ يَعيشُه في هذه الدنيا هو غنيمةٌ له لِيتزوَّدَ منه لأخِرتِه، ويَبذرَ فيه مِن الأعمالِ ما استطاعتْهُ نفسُه وتحمَّلتُه. فحَرِيٌّ بالمؤمنِ الذي يرجو نجاةَ نفسِه مما ستلقاه مِن المخاوفِ ألا يَدعَ فُرصةً للطاعةِ ومَوسِماً مِن مواسمِ الأعمالِ الصالحةِ إلا واغتَنَمَه؛ لِيجِدَ ذلك مكتوبًا في صحيفةِ أعمالِه يومَ القيامة.
ثم اعلموا -عبادَ الله- أنَّ شهرَ شعبانَ شهرٌ عظيمٌ وموسمٌ مِن مواسمِ الأعمالِ الصالحةِ التي يغفلُ الناسُ عنه بين رجبَ ورمضانَ، ولا يعملُ فيه إلا مَن وفَّقه اللهُ تعالى. فعَن أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! لَمْ أَرَكَ تَصُومُ شَهْرًا مِنْ الشُّهُورِ مَا تَصُومُ مِنْ شَعْبَانَ! قَالَ: ((ذَلِكَ شَهْرٌ يَغْفُلُ النَّاسُ عَنْهُ بَيْنَ رَجَبٍ وَرَمَضَانَ، وَهُوَ شَهْرٌ تُرْفَعُ فِيهِ الْأَعْمَالُ إِلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ؛ فَأُحِبُّ أَنْ يُرْفَعَ عَمَلِي وَأَنَا صَائِمٌ)) [رواه النسائي]. (حديث حسن - تمام المنة / 412). ففي هذا الحديثِ -أيها المؤمنون- أنَّ هذا الشهرَ -شهرَ شعبانَ- فيه تُرفعُ الأعمالُ الصالحةُ إلى اللهِ عز وجل، وإنَّ مِن الأعمالِ الصالحةِ التي تُرفَعُ إلى ربِّ العالَمين: الصومُ؛ فيُستحبُّ الصومُ مِن هذا الشهر. وقد كان النبيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يصومُ أكثرَ هذا الشهرِ؛ لِما رَوَتْ عائشةُ -رضي الله عنها- أنها قَالَتْ: (كَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَصُومُ حَتَّى نَقُولَ لَا يُفْطِرُ، وَيُفْطِرُ حَتَّى نَقُولَ لَا يَصُومُ! فَمَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- اسْتَكْمَلَ صِيَامَ شَهْرٍ إِلَّا رَمَضَانَ، وَمَا رَأَيْتُهُ أَكْثَرَ صِيَامًا مِنْهُ فِي شَعْبَانَ) ، وقالتْ -أيضاً-رضي الله عنها-: (لم يكنِ النبيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يصومُ شهراً أكثرَ مِن شعبانَ) [رواهما البخاري في صحيحِه (4/213)]. ففي هذه الأحاديثِ -أيها المؤمنون- استحبابُ صومِ أيامٍ مِن هذا الشهرِ -شهرِ شعبانَ-؛ اقتداءً بِنبيِّنا -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، ورجاءَ أن تُرفعَ أعمالُنا فيه إلى اللهِ عزَّ وجلَّ؛ فتدركُنا رحمتُه ومغفرتُه -سبحانه وتعالى-.
أيُّها المؤمنون! قد يتساءلُ بعضُ الإخوةِ؛ فيقولون: هلِ الصومُ في شعبانَ جائزٌ مُطلقاً مِن أولِ الشهرِ إلى نهايَتِه؟! أم هلِ الصومُ يكونُ في بِدايتِه فقط؟! وهلِ الناسُ في صيامِ هذا الشهرِ سواء؟! أم يختلفون وتختلفُ أحكامُ صومِهم فيه؟! وللإجابةِ على هذه التساؤلاتِ؛ نُلَخِّصُ ما ذَكره أهلُ العلمِ -رحمهم الله- في صيامِ هذا الشهرِ -جَمعاً وتوفيقاً بين الأحاديثِ- فنقول: الناسُ في صيامِ هذا الشهرِ على أقسام:
1- فمنهم: مَن لم تكنْ له عادةٌ في الصيامِ قبلَه ودخل عليه شعبانُ وهو مُستمِرٌّ في عدمِ الصيامِ. فهذا تَرَكَ فضلاً عظيمًا وأمْرًا مُستَحَبًّا مُرغَّبًا فيه؛ فلا يَحْرِمْ نفسَه هذا الفضلَ.
2- ومنهم: مَن كانت له عادةٌ في الصيامِ قبل شعبانَ مثلَ أنْ يكونَ قد اعتادَ صيامَ ثلاثةِ أيامٍ مِن كلِّ شهرٍ أو يكونَ قد اعتادَ صيامَ يَومَيِ الاثنينِ والخميسِ، أو يكونَ قد اعتادَ صومِ يومٍ وإفطارِ يومٍ، ودخل عليه شعبانُ؛ فَلْيَسْتَمِرَّ في صيامِه، ولْيُواظِبْ على عادَتِه التي كان قد اعتادَها .
3- ومِن الناسِ مَن لم تكنْ له عادةٌ في الصيامِ قبل هذا الشهرِ، لكنْ لَمَّا انتصفَ شعبانُ بدأ في الصومِ! فهذا ننصحُه بِتَرْكِ الصيامِ؛ لأنه ارتكبَ أمْراً مَنْهِيًّا عنه؛ فقد جاء في الحديثِ الصحيحِ الوارِدِ في ذلك: عن أبي هريرةَ -رضي الله عنه- قال: قال النبيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: ((إذا بَقِيَ نِصفٌ مِن شعبانَ؛ فلا تَصُوموا)) [المشكاة /(1974)].
4- ومنهم: مَن لم تكنْ له عادةٌ في الصومِ، ولكنْ لَمَّا بَقيَ على نهايةِ شهرِ شعبانَ يومٌ أو يومان صام هَذَيْنِ اليومَيْنِ أو هذا اليومَ مِن أجلِ أن يحتاطَ لرمضانَ! فهذا الأمرُ الذي فَعَلَه عَدَّهُ العلماءُ بِدعةً في دينِ اللهِ عزَّ وجلَّ؛ لأنه قد أتى بِمُحْدَثةٍ لم يفعلْها رسولُ اللهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، ولا أحدٌ مِن أصحابِه -رضوانُ الله عليهم-. وهو قد وَقع في الأمرِ الذي حذَّّر منه النبيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حيث جاء في الحديثِ: عن أبي هريرةَ -رضي الله عنه- قال: قال رسولُ اللهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: ((لا يَتَقَدَّمَنَّ أَحَدُكُمْ رَمضانَ بِصَوْمِ يَومٍ أو يَومَيْنِ، إلا أنْ يَكونَ رَجُلٌ كانَ يَصومُ صَوْماً فَلْيَصُمْ ذلك اليَومَ)) [متفق عليه]. فهذا نهيٌ صريحٌ مِنَ النبيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عن التقدمِ على شهرِ رمضانَ بيومٍ أو يومينِ، إلا مَن كان له اعتيادٌ قبل ذلك -كما تقدَّم معنا-.
أيُّها المؤمنون! كما أنه لا يجوزُ للمسلمِ صيامُ يومِ الشكِّ وهو اليومُ الثلاثونَ مِن شعبانَ إذَا لم يُرَ الهلالُ في ليلَتِه بِسَببِ غيمٍ أو ساترٍ أو نحوِه. فيجوزُ أن يكونَ مِن رمضانَ ويجوزُ أنْ يكونَ مِن شعبانَ. فهذا جاء النهيُ عن صومِه صريحاً في قولِ عمارَ بنِ ياسرٍ -رضي الله عنهما- قال: (مَن صامَ اليومَ الذي يُشَكُّ فيه؛ فقد عَصَى أبا القاسمِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) [رواه أبو داودَ والترمذيُّ، وهو حديثٌ صحيحٌ: (الإرواء: 961)]. أمَّا لو تَبيَّنَ بعد ذلك أنه يومٌ مِن رمضانَ؛ فيُقضَى مكانَه يومٌ بعد رمضانَ.
فاحرصوا -أيها المؤمنون- على الصومِ في شعبانَ، واغتنموا هذه الأيامَ التي جعلها اللهُ تعالى مواسمَ للخيراتِ يتزوَّدُ منها المرءُ لآخِرَتِه.
أقولُ ما تسمعونَ وأستغفرُ اللهَ لي ولكم ولسائرِ المسلمين مِن كلِّ ذنبٍ، فاستغفروه إنه هو الغفورُ الرحيمُ ..
الخطبة الثانية:
الحمدُ للهِ ربِّ العالمين، والصلاةُ والسلامُ على مَن أرسله اللهُ رحمةً للعالَمين، وعلى آلِه وصحبِه أجمعين.
أيها الناسُ! اتقوا اللهَ تعالى وتَمَسَّكوا بكتابِه وسُنةِ نبيِّه؛ ففيهما الكفايةُ والهُدى والنورُ.
أيها الإخوةُ المؤمنون! اغتنموا هذا الشهرَ ففيه تُرفعُ الأعمالُ إلى ربِّ الأعمالِ، فكونوا ممن يُرفعُ له عملٌ صالحٌ في هذا الشهرِ. عن أسامةَ بنِ زيدٍ -رضي الله عنهما- قال: قلت: يا رسول الله! لم أرَكَ تَصومُ مِن شهرٍ مِنَ الشهورِ ما تَصومُ مِن شعبانَ؟! قال: ((ذاكَ شَهرٌ يغفُلُ الناسُ عنه بين رجبٍ ورمضانَ، وهو شهرٌ تُرفعُ فيه الأعمالُ إلى ربِّ العالَمين؛ وَأُحِبُّ أنْ يُرفعَ عَملي وأنا صائمٌ)) [رواه النسائي الترغيب : 1022 (حسن )]، قال بعضُ العلماءِ: (إنَّ أعمالَ الأسبوعِ تُعرضُ على اللهِ تعالى كلَّ اثنينٍ وخميسٍ، وأعمالُ السَّنَةِ كلِّها تعرضُ في شعبانَ) [شرح النسائي.بتصرف]. وقولُه: ((يغفُلُ الناسُ عنه)): فيهِ أنَّ إحياءَ أزمنةِ الغفلةِ فيه أجرٌ كبيرٌ إذا وَرَدَ فيها الأثرُ عن نبيِّنا -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-. ومثلُ ذلك: ما وردَ في صحيحِ مسلمٍ: أنَّ رسولَ اللهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: ((الْعِبَادَةُ فِي الْهَرْجِ كَهِجْرَةٍ إِلَيَّ))، والهرجُ: هو زمنُ الفِتنِ وكثرةِ اختلاطِ أمورِ الناسِ؛ ففيها يغفلُ الناسُ عن عبادةِ اللهِ تعالى. ومثلُه: قولُه -عليه الصلاة والسلام-: ((مَنْ دَخَلَ السُّوقَ فَقَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَهُوَ حَيٌّ لَا يَمُوتُ بِيَدِهِ الْخَيْرُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ؛ كَتَبَ اللَّهُ لَهُ أَلْفَ أَلْفِ حَسَنَةٍ وَمَحَا عَنْهُ أَلْفَ أَلْفِ سَيِّئَةٍ وَرَفَعَ لَهُ أَلْفَ أَلْفِ دَرَجَةٍ)) [ 1684(حسن لغيره)- الترغيب]؛ فالسوقُ موطنٌ مِن مواطنِ الغفلةِ حيث البيعُ والشراءُ وغفلةُ الناسِ عن ذكرِ الله تعالى، والغفلةُ عن اللهِ وعن مراقبَتِه تُورِثُ الوقوعَ في المعاصي واقترافَها؛ فصار الذاكرُ فيها للهِ بِلسانِه أو بعبادتِه عظيمَ الأجرِ مُضاعَفَ الثوابِ. وهذا لا يحصلُ إلا لمن كان دائمَ الحذَرِ مما هو مُقدِمٌ عليه مِنَ الأهوالِ العظيمةِ في قبرِه ويومَ يقومُ العبادُ لربِّهم خائفينَ وَجِلِين يَطلبونَ السلامةَ مما أمامهم مُترقِّبين منازِلَهم التي سينزلون فيها، ففَريقٌ في الجنةِ وفريقٌ في السعير.
وقانا اللهُ وإياكم وسائرَ المسلمين مِن غضبِه وعقابِه ومن شرورِ أنفسِنا ومِن غفلتِنا ومعاصينا ورَزَقَنا تدارُكَ الأعمارِ فيما يُقرِّبُ إليه سبحانه ووفَّقنا بمنِّه وكرمِه للتوبةِ والإنابةِ قبل المماتِ؛ إنه سميعٌ قريبٌ مجيبُ الدعاءِ ... وآخِرُ دعوانا أنِ الحمدُ للهِ ربِّ العالَمين.
-----------------------------
المصدر
http://www.morsall.com/vb/showthread.php?t=1000
تعليق