.:: في أولوية القول وشروط تقديمه على الفعل ::.
لفَضِيلَة الشَّيخ أبي عَبدِ المعِزّ مُحمَّد عَلي فَركُوس - حفظه الله -
السـؤال:
إذا تعارض القول مع الفعل، ما هو الراجح عندكم في ذلك؟
الجواب:
الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على من أرسله اللهُ رحمةً للعالمين، وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدِّين، أمَّا بعد:
فعندي أنَّ مسألة: تعارُض القول مع الفعل تتقدَّمها مسألةُ: المخاطِب هل يدخل في عموم خطابه؟ أو بعبارةٍ أوْضَحَ: هل إذا خاطب النبيُّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم أمَّتَه بصيغة العموم، هل يدخل هو في عموم ذلك الخطاب أم لا؟
ولا شكَّ أنَّ الخطاب من جهة الله سبحانه بالصيغة التي تشْمَله يتناول النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم بمقتضى اللغة العربية، فهذا لا شبهةَ فيه، وإنما الخلاف واردٌ في دخول النبيِّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم في خطابه الذي من جهته.
وفائدة هذه المسألة أنه على مذهب من يرى أنَّ المتكلِّم أو المخاطِب لا يدخل في عموم كلامه وخطابه إلاَّ بقرينةٍ، فإذا انتفتْ فلا إشكالَ في عدم التعارض بين قوله الذي يعمُّ سائرَ المخاطَبين، وبين فعله الذي لا يشْمَله خطابُه، ذلك لأنه -بناءً على هذا الرأي- فالنبيُّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم لا يدخل في عموم خطابه.
لكنَّ المسألة تتبلور -بوضوحٍ- على مذهب الجمهور القائلين: إنَّ المتكلِّم أو المخاطِب يشْمَله عمومُ خطابه ولا يخرج عنه إلاَّ بقرينةٍ وهو المذهب الصحيح، لأنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم لمَّا قال لأصحابه رضي الله عنهم: «لَنْ يُدْخِلَ أَحَدًا عَمَلُهُ الجَنَّةَ»، سألوه عن نفسه: «وَلاَ أَنْتَ يَا رَسُولَ اللهِ؟» أي: عن دخوله في الخطاب، فأجابهم بما يقتضي دخولَ المخاطِب في الخطاب فقَالَ: «لاَ، وَلاَ أَنَا، إِلاَّ أَنْ يَتَغَمَّدَنِي اللهُ بِفَضْلٍ وَرَحْمَةٍ..»(١)، ولقوله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: «مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ وَقَدْ وُكِّلَ بِهِ قَرِينُهُ مِنَ الْجِنِّ»، قَالُوا: وَإِيَّاكَ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: «وَإِيَّايَ، إِلاَّ أَنَّ اللهَ أَعَانَنِي عَلَيْهِ فَأَسْلَمَ، فَلاَ يَأْمُرُنِي إِلاَّ بِخَيْرٍ»(٢)، فإنَّ هذا الحديث يفيد ما أفاده سابقُه، فهو «عامٌّ لا يخصُّ المخاطَبين من الصحابة، بل كلُّ من يصحُّ أن يُخَاطَبَ داخلٌ فيه»(٣).
وإذا تقرَّر دخولُ المخاطِب في عموم خطابه بالأصالة على مذهب الجمهور، أو بالقرينة على مذهب غيرهم، فإنه -بهذا الوجه- يقع التعارض الظاهريُّ بين قول النبيِّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم وفِعْلِه، والمسألة خلافيةٌ(٤) بين من يقدِّم القولَ على الفعل، ومن يرى أنَّ الفعل أَوْلى منه، ومن يسوِّي بينهما في القوَّة وهو رأيُ ابنِ حزمٍ الظاهريِّ -رحمه الله-(٥).
وفي تقديري أنَّ القولَ أقوى من الفعل -وهو مذهب الجمهور-، وتظهر قوَّةُ القول من وجوهٍ:
- أنَّ القول أقوى في الدلالة على التشريع من الفعل(٦).
- ولأنَّ للقول صيغةَ دلالةٍ، بخلاف الفعل «فإنه لا صيغةَ له تدلُّ بنفسها، وإنما دلالة الفعل لأمرٍ خارجٍ وهو كونُه -عليه السلام- واجبَ الاتِّباع»(٧).
- ولأنَّ القول أبلغُ في البيان، إذ له عمومٌ في الزمان والمكان والأشخاص، بخلاف الفعل فلا عمومَ له، ولا يشْمَل جميعَ الأوقات المستقبلية، ولا يدلُّ على التَّكرار، فلذلك لا تتعارض الأفعال فيما بينها ما لم تكن بيانًا للأقوال، قال الشوكانيُّ -رحمه الله-: «والحقُّ أنه لا يُتصوَّر تعارُض الأفعال، فإنه لا صِيَغَ لها يمكن النظرُ فيها والحكمُ عليها، بل هي مجرَّدُ أكوانٍ متغايرةٍ واقعةٍ في أوقاتٍ مختلفةٍ، وهذا إذا لم تقعْ بياناتٍ للأقوال، أمَّا إذا وقعتْ بياناتٍ للأقوال فَقَدْ تتعارض في الصورة، ولكنَّ التعارض في الحقيقة راجعٌ إلى المبيَّناتِ من الأقوال، لا إلى بيانها من الأفعال»(٨).
- ولصراحة القول؛ لأنَّ القول متَّفقٌ على كونه حجَّةً، والفعل مختلفٌ فيه، ذلك لأنَّ ما يفعله النبيُّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم يحتمل أن يكون تشريعًا عامًّا، ويحتمل أن يكون من خصائصه، ولا يتميَّز أحدُهما عن الآخَر إلاَّ بمنفصلٍ، وهذا بخلاف القول فإنه متميِّزٌ بنفسه، فتعيَّن القولُ تقديمًا للمتَّفق عليه على المختلَف فيه(٩).
وضِمْنَ آكدِيَّةِ قوله على فعله يقرِّر شيخُ الإسلام ابنُ تيميَّةَ -رحمه الله- هذا المعنى بقوله: «وطاعة الرسول فيما أَمَرَنا به هو الأصل الذي على كلِّ مسلمٍ أن يعتمده، وهو سبب السعادة كما أنَّ تَرْكَ ذلك سببُ الشقاوة، وطاعتُه في أمره أَوْلى بنا من موافقته في فعلٍ لم يأمرْنا بموافقته فيه باتِّفاق المسلمين، ولم يتنازعِ العلماءُ أنَّّّّ أمْرَه أَوْكَدُ مِن فعله؛ فإنَّ فعله قد يكون مختصًّا به وقد يكون مستحَبًّا، وأمَّا أمرُه لنا فهو مِن دين الله الذي أَمَرَنا به»(١٠).
هذا وحقيقٌ بالتنبيه أنه لا يُصار إلى تقديم القول على الفعل إلاَّ بالشروط التالية:
أوَّلا: عند تعذُّر الجمع بين القول والفعل على وجهٍ مقبولٍ، فإن أمكن الجمعُ والتوفيق وجب المصير إليه تقديمًا للجمع على الترجيح، إذ في الجمع إعمالٌ للدليلين، و«الإِعْمَالُ أَوْلَى مِنَ الإِهْمَالِ»، كحملِ صيغة النهي على الكراهة كما في قوله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: «كَسْبُ الْحَجَّامِ خَبِيثٌ»(١١)، وما يعارضه مِن فعله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم من حديث ابن عبَّاسٍ رضي الله عنهما أنه قال: «احْتَجَمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَعْطَى الحَجَّامَ أَجْرَهُ»(١٢)، فقد حمل الجمهور النهيَ على الكراهة بالقرينة الصارفة إليها جمعًا بين الدليلين(١٣)، كما حملوا حديثَ الحكم بن عمرٍو الغفاريِّ رضي الله عنه «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى أَنْ يَتَوَضَّأَ الرَّجُلُ بِفَضْلِ طَهُورِ الْمَرْأَةِ»(١٤)، الذي يعارضه حديثُ ابنِ عبَّاسٍ رضي الله عنهما «أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَغْتَسِلُ بِفَضْلِ مَيْمُونَةَ»(١٥) على الكراهة التنزيهية جمعًا بين الدليلين(١٦).
ثانيًا: عند تعذُّر النسخ بين القول والفعل: فإنْ أمكن نسخُ دليلِ القول بدليل الفعل وجب المصيرُ إلى الناسخ؛ لأنَّ المنسوخ -وهو الدليل القوليُّ- انتهتْ حجِّيَّتُه، فلا يصلح أنْ يعارِضَ الدليلَ الناسخ، مِثْلَ قولِ جابرِ بنِ عبدِ الله رضي الله عنهما: «كَانَ آخِرُ الأَمْرَيْنِ مِنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَرْكَ الْوُضُوءِ مِمَّا غَيَّرَتِ النَّارُ»(١٧)، فهو ناسخٌ لقوله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: «تَوَضَّئُوا مِمَّا مَسَّتِ النَّارُ»(١٨).
فصورةُ التعارض الظاهريِّ تنتفي بالجمع والنسخ فلا سبيلَ إلى الترجيح.
ثالثًا: عند عدم دخول احتمال الاختصاص في القول، ذلك لأنَّ تقديم القول على الفعل إنما هو من جهةِ احتمالِ الفعل الخصوصيةَ به صلَّى الله عليه وآله وسلَّم، فإنْ دخلَتِ الخصوصيةُ على القول فَقَدَ -حالتئذٍ- أَوْلَوِيَّةَ التقديم على الفعل، وبهذا الصدد قال الشنقيطيُّ -رحمه الله-: «وإنما كان القول أقوى من الفعل لاحتمال الفعل الاختصاصَ به صلَّى الله عليه وآله وسلَّم، ويُفهم منه أنه ليس كلُّ قولٍ أقوى، بل إذا احْتَمَل القولُ الاختصاصَ فلا يكون أقوى من الفعل، فلا يَرِدُ قولُهم: إنَّ الإحرام بالعمرة من الجِعِرَّانة أفضل منه من التنعيم؛ تقديمًا لفعله صلَّى الله عليه وسلَّم على أمره لعائشةَ بالإحرام من التنعيم، لأنَّ أمره -وإن كان قولاً- يَحتمل الخصوصيةَ لعائشة، فليس أقوى من فعله، بل هو دونه -كما قالوا-؛ لاحتمالِ أنه إنما أَمَرَها بذلك لضيق الوقت، لا لأنه أفضل، ويمكن على هذا أن يُقاس على عائشةَ كلُّ من كان له عذرٌ»(١٩).
والعلم عند الله تعالى، وآخر دعوانا أن الحمد لله ربِّ العالمين وصلَّى الله على محمَّدٍ وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين وسلَّم تسليمًا.
الجزائر في: 27 شعبان 1432ﻫ
المـوافق ﻟ: 28 جويلية 2011م
ــــــــــــ ١- أخرجه البخاري في «المرضى» باب تمنِّي المريض الموتَ (5673)، ومسلم في «صفة القيامة والجنة والنار» (2816) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وأخرجه البخاري «الرقاق» باب القصد والمداومة على العمل (6467)، ومسلم في «صفة القيامة والجنة والنار» (281 من حديث عائشة رضي الله عنها.
٢- أخرجه مسلم في «صفة القيامة والجنة والنار» (2814) من حديث ابن مسعود رضي الله عنه.
٣- «مرقاة المفاتيح» للقاري (1/ 139).
٤- انظر: «المعتمد» لأبي الحسين (1/ 390)، «الإحكام» للآمدي (3/ 271)، «جمع الجوامع» لابن السبكي (2/ 365)، «شرح مختصر الروضة» للطوفي (3/ 705)، «تيسير التحرير» لبادشاه (3/ 14، «شرح الكوكب المنير» للفتوحي (4/ 656)، «تشنيف المسامع» للزركشي (3/ 514).
٥- «الإحكام» لابن حزم (1/ 171، 432).
٦- «جمع الجوامع» لابن السبكي (2/ 366).
٧- «شرح مختصر الروضة» للطوفي (3/ 705).
٨- «إرشاد الفحول» للشوكاني (39).
٩- انظر: «شرح مختصر الروضة» للطوفي (3/ 705)، «تشنيف المسامع» للزركشي (3/ 514).
١٠- «مجموع الفتاوى» (22/ 321).
١١- أخرجه مسلم في «المساقاة» (156 من حديث رافع بن خديج رضي الله عنه.
١٢- أخرجه البخاري في «الإجارة» باب خراج الحجَّام (2279)، ومسلم في «المساقاة» (1202).
١٣- انظر: «بداية المجتهد» لابن رشد (2/ 225)، «المجموع» للنووي (9/ 60)، «شرح مسلم» للنووي (10/ 233)، «معالم السنن» للخطابي (3/ 707)، «فتح الباري» لابن حجر (4/ 459)، «سبل السلام» للصنعاني (3/ 170).
١٤- أخرجه أبو داود في «الطهارة» باب النهي عن الوضوء بفضل طهور المرأة (82)، والترمذي في «الطهارة» باب في كراهية فضل طهور المرأة (63)، وأحمد (20655)، وابن أبي شيبة (354)، وصحَّحه الألباني في «صحيح أبي داود» (75).
١٥- أخرجه مسلم في «الحيض» (323).
١٦- انظر: «المغني» لابن قدامة (1/ 214)، «المجموع» للنووي (2/ 190)، «معالم السنن» للخطابي (1/ 63)، «سبل السلام» للصنعاني (1/ 49).
١٧- أخرجه أبو داود في «الطهارة» باب في ترك الوضوء مما مسَّت النار (192)، والنسائي في «الطهارة» باب ترك الوضوء مما غيَّرت النار (185)، والطبراني في «الأوسط» (4663)، والبيهقي في «الكبرى» (721)، وابن حبَّان (1134)، وصحَّحه الألباني في «صحيح أبي داود» (187).
١٨- أخرجه مسلم في «الحيض» (352) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، و(353) من حديث عائشة رضي الله عنها.
١٩-«مذكِّرة أصول الفقه» للشنقيطي (320).
... من موقع الشيخ -حفظه الله- ...
لفَضِيلَة الشَّيخ أبي عَبدِ المعِزّ مُحمَّد عَلي فَركُوس - حفظه الله -
السـؤال:
إذا تعارض القول مع الفعل، ما هو الراجح عندكم في ذلك؟
الجواب:
الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على من أرسله اللهُ رحمةً للعالمين، وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدِّين، أمَّا بعد:
فعندي أنَّ مسألة: تعارُض القول مع الفعل تتقدَّمها مسألةُ: المخاطِب هل يدخل في عموم خطابه؟ أو بعبارةٍ أوْضَحَ: هل إذا خاطب النبيُّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم أمَّتَه بصيغة العموم، هل يدخل هو في عموم ذلك الخطاب أم لا؟
ولا شكَّ أنَّ الخطاب من جهة الله سبحانه بالصيغة التي تشْمَله يتناول النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم بمقتضى اللغة العربية، فهذا لا شبهةَ فيه، وإنما الخلاف واردٌ في دخول النبيِّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم في خطابه الذي من جهته.
وفائدة هذه المسألة أنه على مذهب من يرى أنَّ المتكلِّم أو المخاطِب لا يدخل في عموم كلامه وخطابه إلاَّ بقرينةٍ، فإذا انتفتْ فلا إشكالَ في عدم التعارض بين قوله الذي يعمُّ سائرَ المخاطَبين، وبين فعله الذي لا يشْمَله خطابُه، ذلك لأنه -بناءً على هذا الرأي- فالنبيُّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم لا يدخل في عموم خطابه.
لكنَّ المسألة تتبلور -بوضوحٍ- على مذهب الجمهور القائلين: إنَّ المتكلِّم أو المخاطِب يشْمَله عمومُ خطابه ولا يخرج عنه إلاَّ بقرينةٍ وهو المذهب الصحيح، لأنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم لمَّا قال لأصحابه رضي الله عنهم: «لَنْ يُدْخِلَ أَحَدًا عَمَلُهُ الجَنَّةَ»، سألوه عن نفسه: «وَلاَ أَنْتَ يَا رَسُولَ اللهِ؟» أي: عن دخوله في الخطاب، فأجابهم بما يقتضي دخولَ المخاطِب في الخطاب فقَالَ: «لاَ، وَلاَ أَنَا، إِلاَّ أَنْ يَتَغَمَّدَنِي اللهُ بِفَضْلٍ وَرَحْمَةٍ..»(١)، ولقوله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: «مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ وَقَدْ وُكِّلَ بِهِ قَرِينُهُ مِنَ الْجِنِّ»، قَالُوا: وَإِيَّاكَ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: «وَإِيَّايَ، إِلاَّ أَنَّ اللهَ أَعَانَنِي عَلَيْهِ فَأَسْلَمَ، فَلاَ يَأْمُرُنِي إِلاَّ بِخَيْرٍ»(٢)، فإنَّ هذا الحديث يفيد ما أفاده سابقُه، فهو «عامٌّ لا يخصُّ المخاطَبين من الصحابة، بل كلُّ من يصحُّ أن يُخَاطَبَ داخلٌ فيه»(٣).
وإذا تقرَّر دخولُ المخاطِب في عموم خطابه بالأصالة على مذهب الجمهور، أو بالقرينة على مذهب غيرهم، فإنه -بهذا الوجه- يقع التعارض الظاهريُّ بين قول النبيِّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم وفِعْلِه، والمسألة خلافيةٌ(٤) بين من يقدِّم القولَ على الفعل، ومن يرى أنَّ الفعل أَوْلى منه، ومن يسوِّي بينهما في القوَّة وهو رأيُ ابنِ حزمٍ الظاهريِّ -رحمه الله-(٥).
وفي تقديري أنَّ القولَ أقوى من الفعل -وهو مذهب الجمهور-، وتظهر قوَّةُ القول من وجوهٍ:
- أنَّ القول أقوى في الدلالة على التشريع من الفعل(٦).
- ولأنَّ للقول صيغةَ دلالةٍ، بخلاف الفعل «فإنه لا صيغةَ له تدلُّ بنفسها، وإنما دلالة الفعل لأمرٍ خارجٍ وهو كونُه -عليه السلام- واجبَ الاتِّباع»(٧).
- ولأنَّ القول أبلغُ في البيان، إذ له عمومٌ في الزمان والمكان والأشخاص، بخلاف الفعل فلا عمومَ له، ولا يشْمَل جميعَ الأوقات المستقبلية، ولا يدلُّ على التَّكرار، فلذلك لا تتعارض الأفعال فيما بينها ما لم تكن بيانًا للأقوال، قال الشوكانيُّ -رحمه الله-: «والحقُّ أنه لا يُتصوَّر تعارُض الأفعال، فإنه لا صِيَغَ لها يمكن النظرُ فيها والحكمُ عليها، بل هي مجرَّدُ أكوانٍ متغايرةٍ واقعةٍ في أوقاتٍ مختلفةٍ، وهذا إذا لم تقعْ بياناتٍ للأقوال، أمَّا إذا وقعتْ بياناتٍ للأقوال فَقَدْ تتعارض في الصورة، ولكنَّ التعارض في الحقيقة راجعٌ إلى المبيَّناتِ من الأقوال، لا إلى بيانها من الأفعال»(٨).
- ولصراحة القول؛ لأنَّ القول متَّفقٌ على كونه حجَّةً، والفعل مختلفٌ فيه، ذلك لأنَّ ما يفعله النبيُّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم يحتمل أن يكون تشريعًا عامًّا، ويحتمل أن يكون من خصائصه، ولا يتميَّز أحدُهما عن الآخَر إلاَّ بمنفصلٍ، وهذا بخلاف القول فإنه متميِّزٌ بنفسه، فتعيَّن القولُ تقديمًا للمتَّفق عليه على المختلَف فيه(٩).
وضِمْنَ آكدِيَّةِ قوله على فعله يقرِّر شيخُ الإسلام ابنُ تيميَّةَ -رحمه الله- هذا المعنى بقوله: «وطاعة الرسول فيما أَمَرَنا به هو الأصل الذي على كلِّ مسلمٍ أن يعتمده، وهو سبب السعادة كما أنَّ تَرْكَ ذلك سببُ الشقاوة، وطاعتُه في أمره أَوْلى بنا من موافقته في فعلٍ لم يأمرْنا بموافقته فيه باتِّفاق المسلمين، ولم يتنازعِ العلماءُ أنَّّّّ أمْرَه أَوْكَدُ مِن فعله؛ فإنَّ فعله قد يكون مختصًّا به وقد يكون مستحَبًّا، وأمَّا أمرُه لنا فهو مِن دين الله الذي أَمَرَنا به»(١٠).
هذا وحقيقٌ بالتنبيه أنه لا يُصار إلى تقديم القول على الفعل إلاَّ بالشروط التالية:
أوَّلا: عند تعذُّر الجمع بين القول والفعل على وجهٍ مقبولٍ، فإن أمكن الجمعُ والتوفيق وجب المصير إليه تقديمًا للجمع على الترجيح، إذ في الجمع إعمالٌ للدليلين، و«الإِعْمَالُ أَوْلَى مِنَ الإِهْمَالِ»، كحملِ صيغة النهي على الكراهة كما في قوله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: «كَسْبُ الْحَجَّامِ خَبِيثٌ»(١١)، وما يعارضه مِن فعله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم من حديث ابن عبَّاسٍ رضي الله عنهما أنه قال: «احْتَجَمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَعْطَى الحَجَّامَ أَجْرَهُ»(١٢)، فقد حمل الجمهور النهيَ على الكراهة بالقرينة الصارفة إليها جمعًا بين الدليلين(١٣)، كما حملوا حديثَ الحكم بن عمرٍو الغفاريِّ رضي الله عنه «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى أَنْ يَتَوَضَّأَ الرَّجُلُ بِفَضْلِ طَهُورِ الْمَرْأَةِ»(١٤)، الذي يعارضه حديثُ ابنِ عبَّاسٍ رضي الله عنهما «أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَغْتَسِلُ بِفَضْلِ مَيْمُونَةَ»(١٥) على الكراهة التنزيهية جمعًا بين الدليلين(١٦).
ثانيًا: عند تعذُّر النسخ بين القول والفعل: فإنْ أمكن نسخُ دليلِ القول بدليل الفعل وجب المصيرُ إلى الناسخ؛ لأنَّ المنسوخ -وهو الدليل القوليُّ- انتهتْ حجِّيَّتُه، فلا يصلح أنْ يعارِضَ الدليلَ الناسخ، مِثْلَ قولِ جابرِ بنِ عبدِ الله رضي الله عنهما: «كَانَ آخِرُ الأَمْرَيْنِ مِنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَرْكَ الْوُضُوءِ مِمَّا غَيَّرَتِ النَّارُ»(١٧)، فهو ناسخٌ لقوله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: «تَوَضَّئُوا مِمَّا مَسَّتِ النَّارُ»(١٨).
فصورةُ التعارض الظاهريِّ تنتفي بالجمع والنسخ فلا سبيلَ إلى الترجيح.
ثالثًا: عند عدم دخول احتمال الاختصاص في القول، ذلك لأنَّ تقديم القول على الفعل إنما هو من جهةِ احتمالِ الفعل الخصوصيةَ به صلَّى الله عليه وآله وسلَّم، فإنْ دخلَتِ الخصوصيةُ على القول فَقَدَ -حالتئذٍ- أَوْلَوِيَّةَ التقديم على الفعل، وبهذا الصدد قال الشنقيطيُّ -رحمه الله-: «وإنما كان القول أقوى من الفعل لاحتمال الفعل الاختصاصَ به صلَّى الله عليه وآله وسلَّم، ويُفهم منه أنه ليس كلُّ قولٍ أقوى، بل إذا احْتَمَل القولُ الاختصاصَ فلا يكون أقوى من الفعل، فلا يَرِدُ قولُهم: إنَّ الإحرام بالعمرة من الجِعِرَّانة أفضل منه من التنعيم؛ تقديمًا لفعله صلَّى الله عليه وسلَّم على أمره لعائشةَ بالإحرام من التنعيم، لأنَّ أمره -وإن كان قولاً- يَحتمل الخصوصيةَ لعائشة، فليس أقوى من فعله، بل هو دونه -كما قالوا-؛ لاحتمالِ أنه إنما أَمَرَها بذلك لضيق الوقت، لا لأنه أفضل، ويمكن على هذا أن يُقاس على عائشةَ كلُّ من كان له عذرٌ»(١٩).
والعلم عند الله تعالى، وآخر دعوانا أن الحمد لله ربِّ العالمين وصلَّى الله على محمَّدٍ وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين وسلَّم تسليمًا.
الجزائر في: 27 شعبان 1432ﻫ
المـوافق ﻟ: 28 جويلية 2011م
ــــــــــــ ١- أخرجه البخاري في «المرضى» باب تمنِّي المريض الموتَ (5673)، ومسلم في «صفة القيامة والجنة والنار» (2816) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وأخرجه البخاري «الرقاق» باب القصد والمداومة على العمل (6467)، ومسلم في «صفة القيامة والجنة والنار» (281 من حديث عائشة رضي الله عنها.
٢- أخرجه مسلم في «صفة القيامة والجنة والنار» (2814) من حديث ابن مسعود رضي الله عنه.
٣- «مرقاة المفاتيح» للقاري (1/ 139).
٤- انظر: «المعتمد» لأبي الحسين (1/ 390)، «الإحكام» للآمدي (3/ 271)، «جمع الجوامع» لابن السبكي (2/ 365)، «شرح مختصر الروضة» للطوفي (3/ 705)، «تيسير التحرير» لبادشاه (3/ 14، «شرح الكوكب المنير» للفتوحي (4/ 656)، «تشنيف المسامع» للزركشي (3/ 514).
٥- «الإحكام» لابن حزم (1/ 171، 432).
٦- «جمع الجوامع» لابن السبكي (2/ 366).
٧- «شرح مختصر الروضة» للطوفي (3/ 705).
٨- «إرشاد الفحول» للشوكاني (39).
٩- انظر: «شرح مختصر الروضة» للطوفي (3/ 705)، «تشنيف المسامع» للزركشي (3/ 514).
١٠- «مجموع الفتاوى» (22/ 321).
١١- أخرجه مسلم في «المساقاة» (156 من حديث رافع بن خديج رضي الله عنه.
١٢- أخرجه البخاري في «الإجارة» باب خراج الحجَّام (2279)، ومسلم في «المساقاة» (1202).
١٣- انظر: «بداية المجتهد» لابن رشد (2/ 225)، «المجموع» للنووي (9/ 60)، «شرح مسلم» للنووي (10/ 233)، «معالم السنن» للخطابي (3/ 707)، «فتح الباري» لابن حجر (4/ 459)، «سبل السلام» للصنعاني (3/ 170).
١٤- أخرجه أبو داود في «الطهارة» باب النهي عن الوضوء بفضل طهور المرأة (82)، والترمذي في «الطهارة» باب في كراهية فضل طهور المرأة (63)، وأحمد (20655)، وابن أبي شيبة (354)، وصحَّحه الألباني في «صحيح أبي داود» (75).
١٥- أخرجه مسلم في «الحيض» (323).
١٦- انظر: «المغني» لابن قدامة (1/ 214)، «المجموع» للنووي (2/ 190)، «معالم السنن» للخطابي (1/ 63)، «سبل السلام» للصنعاني (1/ 49).
١٧- أخرجه أبو داود في «الطهارة» باب في ترك الوضوء مما مسَّت النار (192)، والنسائي في «الطهارة» باب ترك الوضوء مما غيَّرت النار (185)، والطبراني في «الأوسط» (4663)، والبيهقي في «الكبرى» (721)، وابن حبَّان (1134)، وصحَّحه الألباني في «صحيح أبي داود» (187).
١٨- أخرجه مسلم في «الحيض» (352) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، و(353) من حديث عائشة رضي الله عنها.
١٩-«مذكِّرة أصول الفقه» للشنقيطي (320).
... من موقع الشيخ -حفظه الله- ...