.:: في دلالة مفهوم الموافقة وأثره في الخلاف ::.
للشّيخ الفَاضِل أبي عَبدِ المعِزّ مُحمَّد عَلي فَركُوس - حفظه الله -
للشّيخ الفَاضِل أبي عَبدِ المعِزّ مُحمَّد عَلي فَركُوس - حفظه الله -
السؤال:
اختلف الجمهورُ المثبتون لمفهومِ الموافقةِ في دلالتِه، حيث ذهب الشّافعيُّ وبعضُ أصحابِه إلى أنّها قياسٌ في معنى الأصلِ أو قياسٌ جليٌّ، وذهب سائرُ المثبتين له إلى أنّ دلالتَه من دلالةِ اللّفظِ، فما هو الصّحيحُ من القولين؟ وهل يصحّ أن نقولَ: إنّ ثمرةَ الخلافِ تكمن في أنّ حجيّتَه في حالِ اعتبارِه قياسًا جليًّا أضعفُ ممّا لو اعتُبر من دلالةِ الألفاظِ؟ وجزاكم اللهُ خيرًا.
الجواب:
الحمد لله رب العالمين، والصّلاة والسّلام على من أرسله الله رحمةً للعالمين، وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدّين، أمّا بعد:
فإنّ القولَ بأنّ دلالةَ المفهومِ دلالةٌ لفظيّةٌ هو الصّحيحُ؛ لأنّ التّنبيهَ بالأدنى على الأعلى أو بأحدِ المتساوِيَيْن على الآخَرِ من الأساليبِ الفصيحةِ التي تجري على اللّسانِ العربيِّ للمبالغةِ في تأكيدِ الحكمِ في محلِّ المسكوتِ عنه؛ ولأنّ دلالةَ المفهومِ ثابتةٌ قبل استعمالِ القياسِ، فلا يتوقّف فهمُه على الاجتهادِ والاستنباطِ والتّأمُّلِ والاعتبارِ الدّقيقِ، بل مجرّدُ سماعِ اللّفظِ ينتقل مباشرةً بالعارفِ باللّغةِ من المنطوقِ إلى المسكوتِ انتقالاً ذهنيًّا سريعًا، كتحريمِ التّأفيفِ، فيفهم منه العارفُ باللّغةِ جميعَ أنواعِ الأذى من ضربٍ وشتمٍ وقتلٍ ونحوِ ذلك، من غيرِ توقُّفٍ على مقدّماتٍ شرعيّةٍ أو استنتاجيّةٍ، وقولِه تبارك وتعالى: ﴿وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ﴾[الطّلاق: 2]، فإنّه يتبادر إلى الذِّهن مباشرةً أنّ الأربعةَ عدولٍ المسكوتَ عنهم أَوْلى عند العارفِ باللّغةِ سواء علم شرعيّةَ القياسِ أو جهلها، فكان الحكمُ الثّابتُ بمفهومِ الموافقةِ مستنِدًا في فهمِه إلى المناطِ اللّغويِّ، علمًا أنّ من شروطِ المقيسِ عليه أنْ لا يكونَ جزءًا من الفرعِ المقيسِ مندرجًا تحته، وهذا بخلافِ شرطِ مفهومِ الموافقةِ، فإنّ الاثنين يدخلان في الأربعةِ، والتّأفيفَ يدخل في عمومِ الأذى، وهما جزءٌ من الزّيادةِ. ومن جهةٍ أخرى، فإنّ من شرطِ الفرعِ المقيسِ أن يكونَ حكمُه دون الأصلِ المقيسِ عليه، بخلافِ مفهومِ الموافقةِ، فمِن شرطِه مساواتُه بالأصلِ المنطوقِ أو أن يكونَ أعلى منه، لذلك كان المعنى المشتركُ بين المنطوقِ والمفهومِ شرطًا لغويًّا؛ لدلالةِ المنطوقِ على المسكوتِ وليس قياسيًّا.
وبناءً على ما تقدَّم فَمَن رأى أنّ دلالةَ مفهومِ الموافقةِ لفظيّةٌ قال بجوازِ النّسخِ بالمفهومِ، وتقديمِه على القياسِ؛ لكونِه أقوى منه، إذ هو معدودٌ من الألفاظِ الشّرعيّةِ، واللّفظُ يُنْسَخُ ويُنسَخُ به، ودلالتُه مقدَّمةٌ على القياسِ، أمَّا من رأى أنّ دلالةَ مفهومِ الموافقةِ قياسيّةٌ منع النّسخَ، وجعله أضْعَفَ من دلالةِ الألفاظِ معاملةً له بما يعامل به القياسَ.
والعلم عند الله تعالى، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدّين وسلم تسليما.
الجزائر في: 18 ربيع الثاني 1432 ﻫ