عدم ثبوت الإجماع المشهور! على نجاسة المذي والودي ، وثبوت الخلاف عن إمام السنة أحمد بن حنبل!
الحمدلله رب العالمين والصلاة والسلام على رسوله الأمين أما بعد
فمنذ سنين مضت كتبت في شبكتنا المباركة -بإذن الله- موضوعًا حول الإجماعات التي لم تصح وهي مؤثرة في الحكم الشرعي المترتب عليها، وكنت أريد بتلك المشاركة حث إخواني على جمع تلك المسائل التي كان الإجماع فيها مشهورًا ومرجحًا مهمًا في المسألة ولولاه لكان للنظر مجال واسع، وأظنني ذكرت حينها مسألة استحباب تقديم اليمنى على اليسرى في الوضوء، ومسألة دم الآدمي ونجاسته، ومسائل أخرى -إن لم تخني ذاكرتي- وها أنا أضيف هنا مسألة أخرى بل مسألتين شهيرتين ، اشتهر نقل الإجماع فيهما في كتب العلماء قديمًا وحديثًا، حتى تكاد لا تجد مَن ينقل الخلاف إلا الواحد بعد الواحد، فأحببت أن أشير إلى الخلاف فيهما وإثبات المرجع المعتمد في ذلك لعل الله أن ينفع بهذا:
بعض النقول لمن حكى الإجماع على نجاستهما:
قال النووي في "المجموع" : أجمعت الامة على نجاسة المذى والودي ا.هـوقال ابن قدامة في "المغني": عني ما خرج من السبيلين كالبول والغائط والمذي والودي والدم وغيره فهذا لا نعلم في نجاسته خلافا إلا أشياء يسيرة نذكرها إن شاء الله تعالى ا.هـ
وقال ابن عبدالبر في "الاستذكار" : وإنما النجاسة في الميتة وفيما ثبتت معرفته عند الناس من النجاسات المجتمع عليها والتي قامت الدلائل بنجاستها كالبول والغائط والمذي والخمر ا.هـ
قال ابن عبدالبر -رحمه الله- في الاستذكار": ولم يختلف العلماء فيما عدا المني من كل ما يخرج من الذكر أنه نجس ا.هـ
- وقال البغوي في شرح السنة: واتفقوا على نجاسة المذي والودي كالدم ا.هـ
وقال في "العرف الشذي شرح سنن الترمذي": المذي نجس إجماعاً ا.هـ
بل قال الشوكاني -رحمه الله- في نيل الأوطار: واتفق العلماء على أن المذي نجس ولم يخالف في ذلك إلا بعض الإمامية محتجين بأن النضح لا يزيله ولو كان نجسا لوجبت الإزالة ويلزمهم القول بطهارة العذرة لأن النبي صلى الله عليه و سلم أمر بمسح النعل منها بالأرض والصلاة فيها والمسح لا يزيلها وهو باطل بالاتفاق ا.هـ
وعجبي من الشوكاني -رحمه الله- كيف ينقل الإجماع وأقول له: لو قالها غيرك" فهو من أشد من ينتقد نقل الاتفاق دون تحرٍّ فسبحان مَن لا تخفى عليه خافية.
وأكتفي بهذا وإلا فالمراجع عديدة
نقل الخلاف في "المذي":
ولكن قد ثبت الخلاف عن الإمام أحمد -رحمه الله-- 1- قال في الفقيه المرداوي في "الإنصاف":
أفادنا المصنف رحمه الله تعالى أن المذي نجس وهو صحيح......-إلى أن قال:- وعنه ما يدل على طهارته اختاره أبو الخطاب في الانتصار وقدمه ابن رزين: في شرحه وجزم في نهايته ونظمها. ا.هـ
2- قال الفقيه ابن مفلح في "المبدع شرح المقنع" في خلال كلامه عن المذي: وعنه طاهر كالمني اختاره أبو الخطاب في خلافه لأنه خارج بسبب الشهوة. ا.هـ
3- بل قد نقل هذه الرواية الإمام ابن قدامة -رحمه الله- نفسه فقال في "الكافي":
و المذي نجس لقول النبي صلى الله عليه و سلم لعلي رضي الله عنه في المذي : [ اغسل ذكرك ] ولأنه خارج من الذكر لا يخلق منه الولد أشبه البول
وعنه : أنه كالمني : لأنه خارج بسبب الشهوة أشبه المني ا.هـ
4- الحافظ الفقيه الأصولي الأثري عبدالرحمن بن رجب -رحمه الله- قال في "فتح الباري":
وعن أحمد رواية : أن المذي طاهر كالمني .
وهي اختيار أبي حفص البرمكي من أصحابنا ، أوجب مع ذَلِكَ نضحه تعبداً .
ومن الأصحاب من قالَ : إذا قلنا بطهارته ، لم يجب غسل ما أصاب الثوب منه .
وهل يجب الاستنجاء منه ؟ على وجهين ، كالمني .
وهذا بعيد ، وهو مخالف للأمر بغسله . ا.هـ
4- الزركشي في شرحه النفيس على مختصر الخرقي حيث قال:
( ومختلف فيه ) وهو المني ، وسيأتي إن شاء الله تعالى ، والمذي لتردده بين البول لكونه لا يخلق منه آدمي والمني ا.هـ
ثم وقفت على نقل في كتاب ابن الجوزي "كشف المشكل من حديث الصحيحين" نقل فيه نقلا نفيسًا عن الخلال:
وكان أبو بكر الخلال من أصحابنا يقول استقر قول أحمد أنه كالبول ا.هــ
وأبو بكر الخلال حاوي كلام الإمام أحمد -رحمه الله- فإن صح هذا الكلام فيكون هذا سبب تخريج الإجماع المنقول في كلام الكثيرين، لكن يبقى خلاف أبي الخطاب وغيره ممن ذكرهم صاحب الإنصاف، فالإجماع مقدوح فيه وتحتاج المسألة إلى تأمل أكثر.
نقل الخلاف في الودي:
1- قال المرداوي في الإنصاف:فائدة: الصحيح من المذهب: أن الودي نجس وعنه أنه كالمذي جزم به ناظم الهداية ا.هـ
وقد حاولت المرور على غيره من كتب المذهب التي تُكثر من ذكر الخلاف في المذهب فلم أجد مَن نقله غيره، بل كما سبق عن الزركشي لم ينقل الخلاف فيه بل في المذي وحده.
ولكن:
2- في المبدع شرح المقنع عبارة:
واقتضى ذلك أن الودي وهو ماء أبيض يخرج عقيب البول نجس وأنه لا يعفى عنه مطلقا وصرح به الأصحاب وعنه هو كالمذي.ا.هـ
فقوله "وعنه هو كالمذي" هل في العفو عن يسيره أم في الطهارة.
حقيقة كثير من فقهاء المذهب حملوا الرواية على العفو لا على الطهارة، بخلاف صاحب الإنصاف، وإن كان هو خبير بالمذهب.
وصاحب كتاب "موسوعة أحكام الطهارة " حمله على الطهارة كالنقل الأول عن المرداوي.
3- وقد وقفت في شرح "الخرشي على مختصر خليل" ما نصه:
وأما المذي والودي فقد حكى بعضهم الإجماع على نجاستهما وتعقبه ابن دقيق العيد بنقل رواية عن أحمد بطهارة الودي ا.هــ
وهذا من غرائب النقول فالشارح مالكي وفي كتاب من كتب المذهب المعتمدة التي لا يخرج متمذهبة المالكية عنها فكيف وقع هذا النقل فيه وخلت منه كتب الخلاف العالي لا أدري!؟
وسواءٌ صح الأخير أم لم يصح؟ فقد ثبت من كلام المرداوي الخلاف، وإن كان ثبوت الخلاف في المذي عن أحمد أظهر، وهو حريٌ بأن يثبت في الودي فلا دليل على نجاسته ألبتة سوى ما قيل من ملازمته للخروج بعد البول، ولكن قد نقل بعض الفقهاء خلاف ذلك فيحتاج للبحث عن دليل خارج الإجماع وخارج ملازمته للبول وإلا فالأصل الطهارة إذا لم يخرج بعد البول، أما المذي فقد ورد الحديث والأمر بغسله حتى قال الشوكاني في "السيل الجرار..":
وأما المذى والودى فقد قام الدليل الصحيح على غسلهما فأفاد ذلك بنجاستهما ا.هـ
وبهذا تنتهي هذه الإشارة والإلماحة، ولو خرج القارئ بفائدة واحدة وهي عدم الاغترار بكثرة النقول ولكن العبرة بالتحرير والتتبع في بطون الكتب، فلا تستعجل بمخالفة الإجماع ولا تستعجل بقبوله، وكما قال غير واحد من الفحول "كم ترك الأول للآخر" والحمدلله رب العالمين.
تعليق