دلالة الأمر بعد الحظر
هذه مشاركة لطيفة مختصرة عن مسألة من مسائل أصول الفقه وهي ورود الأمر بشيء قد نُهي عنه في الكتاب و السنة ، ودلالة ذلك .صورة المسألة :
أن ينهى الله عن فعل ما ، ومن ثم يأمر به .
مثاله : نهى الله عز وجل عن الصيد حالة الإحرام بقوله : { وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا } [ المائدة : 96 ]
ثم أمر به بقوله : { وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا } [ المائدة : 2 ]
و نحن نعرف أن الأمر للوجوب – على الصحيح – ما لم يأت صارف ، فما دلالة الأمر في الآية الثانية ؟! هذا محل البحث ، فنستعين بالله :
اختلف العلماء في دلالة الأمر بعد الحظر على أقوال :
الأول : من العلماء من اختار التوقف مثل الجويني و الآمدي ، وقالوا إن أحد القولين ليس بأولى من الآخر [ الإحكام للآمدي ( 1/220 ) ] .
الثاني : أنه يفيد الوجوب ، منهم الأصفهاني شارح المنهاج ، وقالوا إن الحائض منهية عن الصلاة حال حيضتها فإذا طهرت أمرت بالصلاة ، فالأمر بعد الحظر للوجوب لديهم .
فهؤلاء بقوا على الأصل أن الأمر يفيد الوجوب فبنوا حكم هذه المسألة على هذا الأصل .
الثالث : أنه يفيد الإباحة ، وهذا اختيار غالب الأصولين ، و استدلوا على قولهم بالاستقراء ، فقالوا إن جل الأوامر التي وردت بعد النهي إنما هي للإباحة :
قال الإمام العثيمين [ شرح الأصول من علم الأصول : 123] :
( اختلف الأصوليون : هل الأمر بعد الحظر للإباحة أو لرفع الحظر :
فقال بعض العلماء : الأمر بعد الحظر للإباحة و استدلوا بهذه الآية – يعني آية الصيد التي سبق ذكرها – و بقوله تعالى : { فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ } [ الجمعة : 10 ] ، قالوا : فالأمر للإباحة لأنه قال : { وَذَرُوا الْبَيْعَ } ثم قال : { فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا }
وذهب البعض إلى أن الأمر بعد الحظر لرفع الحظر :
فإذا قلنا الثاني فإنه إذا ارتفع الحظر عاد الأمر إلى الحكم الأول ، فإذا كان الذي نهى عنه إن كان في الأول مستحباً صار مستحباً ، وإن كان واجباً صار واجباً .
أما الذين يقولون : إن الأمر بعد الحظر للإباحة يقولون : إن هذا الحظر نسخ الحكم الذي قبله ، فإذا رفع عادت الإباحة ، و صار للإباحة ) ا.هـ
فالإمام العثيمين يذهب إلى هذا القول ، لأنه قال في الأصول من علم الأصول – معدداً احتمال معنى الأمر غير الوجوب – : ( للإباحة : و أكثر ما يقع ذلك بعد الحظر …. مثاله .. قوله تعالى { وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا } فالأمر بالاصطياد للإباحة لوقوعه بعد الحظر المستفاد من قوله تعالى { غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ } [ المائدة : 1 ] ) ا.هـ
فائدة [ حاشية محقق شرح المنهاج ]: " الذين يقولون أن الأمر بعد الحظر يفيد الوجوب اختلفوا في النهي الوارد بعد الوجوب إلى أقوال :
هل هو للإباحة ؟!
أم للتحريم ؟!
أو للكراهة ؟!
أما الذين ذهبوا إلى أنه يفيد الوجوب ، اتفقوا على أن النهي بعد الوجوب يفيد التحريم "
الرابع [ وهو الراجح من هذه الأقول ] : أن الأمر يفيد ما كان قبل النهي ، فإن كان قبل النهي مباحاً فيكون كذلك بعد الأمر ، وكذا إن كان واجباً قبل النهي فهو بعد الأمر واجب ، و إن كان مستحباً قبل النهي فهو بعد الأمر الوارد على النهي يكون مستحباً .
قال في تيسير التحرير [1/347] : [ ... ( والحق أن الاستقراء دل على أنه ) أي الأمر ( بعد الحظر لما اعترض ) أي طرأ الحظر ( عليه ، فإن ) اعترض ( على الإباحة ) بأن كان ذلك المحظور مباحا ، قبل الحظر ثم اتصل به الأمر ( كاصطادوا ) فإن الصيد كان مباحا قبل الإحرام فصار محظورا به ، فأمر به بعد التحلل ( فلها ) جواب أن : أي فالأمر حينئذ للإباحة ( أو ) اعترض ( على الوجوب : كاغسلي عنك الدم وصلي فله ) أي فالأمر للوجوب ، لأن الصلاة كانت واجبة ثم حرمت بالحيض ( فلنختر ذلك ) أي التفصيل المذكور ] ا.هـ
قال الإمام ابن كثير في تفسيره [2 / 12] : ( الصحيح الذي يثبت على السبر ، أنه يردُّ الحكم إلى ما كان عليه قبل النهي
فإذا كان واجباً رده واجباً .
و إن كان مستحباً فمستحب .
أو مباحاً فمباح .
و من قال إنه على الوجوب يُنتقض عليه بآيات كثيرة ، و من قال إنه للإباحة يَرِد عليه آيات أخرى .
و الذي ينتظم الأدلة كلها هذا الذي ذكرناه ، كما اختاره بعض علماء الأصول ، و الله أعلم )
وهو ترجيح الإمام الشنقيطي في أضواء البيان ، و الله أعلم .
و هو الراجح كما قال الإمام ابن كثير .
و الله الموفق لا رب سواه .
أخوكم محمد جميل حمامي