القَوْلُ الأَكْلَد في ضَوَابط مراعَاة الفَتْوى لمَذْهَب البَلَد
بسم الله الرحمن الرحيم
القَوْلُ الأَكْلَد
في ضَوَابط مراعَاة الفَتْوى
لمَذْهَب البَلَد
للشيخ : عبد المجيد جمعة .
( خاصّ بمنتديات التصفية و التربية السلفية )
الحمد لله ربّ العالمين، والصّلاة والسّلام على أشرف المرسلين، نبيّنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أمّا بعد، فإنّ الفتوى أمرها عظيم، وخطبها جسيم، إذ هي توقيع عن العليم العلاّم، وبها تعرف الأحكام، ويتميّز الحلال عن الحرام، وتتحقّق مصالح الأنام، وصاحبها قائم مقام النبيّ عليه الصلاة والسلام، وقد عُني بها الإسلام، وأولاها أشدَّ الاهتمام، حيث ضبها باللّجام حتى يقوم بها المتصدّر لها خير قيام، ولا يلج أبوابها من هبّ ودبّ من العوام.
وقد كانت الفتوى في صدر الإسلام، يرجع مستندها إلى النصّ، فكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا سئل عن مسألة انتظر الوحي، قال تعالى: {يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ} [النساء: 176]، وقال تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ} [البقرة: 189]، وقال سبحانه: {وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ} [البقرة: 219]، ونحو ذلك من الآيات، فإذا لم ينزل عليه الوحي تولّى الإجابة، قال الإمام ابن القيم رحمه الله: «وأوّل من قام بهذا المنصب الشريف سيّد المرسلين وإمام المتقين وخاتم النبيّين عبدُ الله ورسوله وأمينُه على وحيه، وسفيره بينه وبين عباده، فكان يفتي عن الله بوحيه المبين، وكان كما قال له أحكم الحاكمين: {قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ} [ص: 86]، فكانت فتاويه صلى الله عليه وسلم جوامع الأحكام ومشتملة على فصل الخطاب، وهي في وجوب اتباعها وتحكيمها والتحاكم إليها ثانيةُ الكتاب»([1]).
ثم قام بالفتوى بعده أصحابه الكرام ما بين مكثر ومتوسّط ومقلّ، ثم صارت في التابعين وتابع التابعين، من الأئمّة المجتهدين، الذين حفظ الله بهم الدين، فصار الناس كلّهم يعوّلون في الفتاوى عليهم، ويرجعون في معرفة الأحكام إليهم، ثم استقرت الفتوى على الأئمة الأربعة أبي حنيفة ومالك والشافعيّ وأحمد رحمة الله عليهم.
ثم قام بعدهم تلاميذُهم، فضَبَطُوا مذاهبَهم، وحرّروا قواعدَهم، حتى ضُبط مذهبُ كلِّ إمامٍ منهم؛ ثم صار الناسُ على تقليدهم، و اتّباع مذاهبهم، والتفقّه على مآخذهم، والتّخريج على أصولهم والتّفريع على قواعدهم، فصارت الفتوى في المنتسبين إليهم.
ففي خضمّ هذا التّقيّد بالفتوى على مذاهب الأئمّة، شهد العالم الإسلامي نهضة علمية قوية، نادت بضرورة الرّجوع بالفتاوى والأحكام إلى العهد الأول، وبضرورة الاتّباع وفتح باب الاجتهاد، والنظر والاستدلال، وكسر قيود التقليد والتعصّب المذهبي. وقد واجهت هذه الدعوى هانت وهنات، و لقيتها صعوبات، ولعل من أبرزها مخالفة الفتوى للمذهب السائد في البلد.
ولهذا سأحاول في هذه المقالة -بحسب ضعف الحالة- أن أكشف النّقاب عن هذه القضية المهمة لأبيّن مدى مراعاة الفتوى للمذهب.
إنّ النّظر في مراعاة الفتوى للمذهب له مجالان: مجال يتعلّق بجانب القانوني القضائي، ومجال يتعلّق بواقع الناس العملي.
أما المجال القضائي، فلا أعرج عليه، لأنّ أحكام الشريعة الإسلامية قد استبدلت بالقوانين الوضعية والمحاكم المدنية والدّساتير النّظامية، في جميع الدّول الإسلامية إلا ما شاء الله، وأصبحت الأحكام الشّرعية تطبق في مجالات ضيّقة، خاصة بقانون الأسرة الذي يتمثل في الأحوال المدنية والشخصية، ومع ذلك فقد ترك العمل بها في بعض القضايا، وحكمت القوانين الوضعية كما لا يخفى، فما بقي مراعاة المذهب بل أهملت المذاهب الفقهية، ولم يعد العمل بها في هذه الديار، والله المستعان.
ولهذا سأوجه كلمتي هذه في المجال الواقعي العملي، فأقول وبالله التوفيق:
إنّ مراعاة المفتي للمذهب السائد في البلد أمر معتبر، لكن لا بد أن يضبط بضوابط علمية، من أهمّها:
الضابط الأول:
ألا يفضي إلى هدر النصوص وإهمالها، لأنّ الأصل أن يفتي المفتي بالنصوص، ويحرم أن يفتي بخلافها لقوله تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} [النساء: 59]، فأمر تعالى عند التنازع بالردّ إلى الله وإلى رسوله، والرد إلى الله هو ردّ إلى كتابه، والرد إلى رسوله هو ردّ إليه نفسِه في حياته، وإلى سنته بعد وفاته، ولم يأمر بالردّ إلى شيء معيّن أصلا، قال الإمام ابن القيم رحمه الله: «فأمر تعالى بطاعته وطاعة رسوله وأعاد الفعل إعلاما بأن طاعة الرسول تجب استقلالا من غير عرض ما أمر به على الكتاب بل إذا أمر وجبت طاعته مطلقا سواء كان ما أمر به في الكتاب أو لم يكن فيه فإنه أوتي الكتاب ومثله معه ولم يأمر بطاعة أولي الأمر استقلالا بل حذف الفعل وجعل طاعتهم في ضمن طاعة الرسول إيذانا بأنهم إنما يطاعون تبعا لطاعة الرسول فمن أمر منهم بطاعة الرسول وجبت طاعته ومن أمر بخلاف ما جاء به الرسول فلا سمع له ولا طاعة كما صحّ عنه صلى الله عليه وسلم أنّه قال: «لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق»([2])، وقال: «إنما الطاعة في المعروف»([3]).
ثم قال: «قوله: {فإن تنازعتم في شيء}، نكرة في سياق الشرط، تعمّ كلَّ ما تنازع فيه المؤمنون من مسائل الدين دقِّه وجلِّه، جليِّه وخفيِّه، ولو لم يكن في كتاب الله ورسوله بيان حكم ما تنازعوا فيه، ولم يكن كافيا لم يأمر بالردّ إليه، إذ من الممتنع أن يأمر تعالى بالردّ عند النزاع إلى من لا يوجد عنده فصلُ النزاع»([4]).
وهذه الطريقة هي محلّ الاتفاق بين أهل العلم، وهي أنّه لا يحلّ للمفتي أن يفتي بخلاف النصّ، قال الإمام الشافعي رحمه الله: «أجمع الناس على أنّ من استبانت له سنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن له أن يدعها لقول أحد من الناس»([5]).
وقال الإمام القرافي رحمه الله: كلُّ شيء أفتَى فيه المجتهدُفَخَرَجَتْ فُتْيَاهُفيه على خلاف الإجماعأو القواعدِ أو النَّصِّأو القياس الجليِّ السَّالم عن المعارض الرّاجح لا يجوز لمقَلِّدِهِ أنْ يَنْقُلَهُ للنّاس ولا يُفْتِي به في دين الله تعالى فإنَّ هذا الحكمَ لو حَكَمَ به حاكمٌ لَنَقَضْنَاهُ وما لا نُقِرُّهُ شرْعًا بعد تَقَرُّرِه بحُكْمِ الحاكم أولى أن لا نُقِرَّهُ شَرْعًا إذا لم يَتَأَكَّدْ وهذا لم يَتَأَكَّدْ فلا نُقِرُّه شرعًا والفتْيَا بغيرِ شَرْعٍ حَرَامٌ فالفتيا بهذا الحكمِ حَرَامٌ وإنْ كان الإمامُ المجتهدُ غَيْرَ عاصٍ به بل مُثَابًا عليه لأنّه بَذَلَ جَهْدَه على حسبِ ما أُمِرَ به وقد قال النّبيُّ عليه السلام «إذَا اجْتَهَدَ الْحَاكِمُ فَأَخْطَأَ فَلَهُ أَجْرٌ وَإِنْ أَصَابَ فَلَهُ أَجْرَانِ»([6]) فعلى هذا يجبُ على أهلِ العصرِ تَفَقُّدُ مذاهِبِهِم فكلُّ ما وجَدُوه من هذا النّوع يحرمُ عليهم الفتيا به ولا يَعْرَى مذهبٌ من المذاهبِ»([7]).
وقد سلك هذا المسلك علماء المذهب، فتمسّكوا بالنصوص وأفتوا بها وإن خالفت المذهب المتّبَع، وأنكروا على من ردّ النصوص بحجّة التقيّد بالمذهب، فهذا أبو بكر بن العربي رحمه الله أنكر على مالكية الأندلس في تركهم العمل بحديث: «قضى بالشاهد واليمين»([8])، فقال عند تفسيره قوله تعالى: {وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إنْ يُرِيدَا إصْلَاحًا يُوَفِّقْ اللَّهُ بَيْنَهُمَا} [النساء: 35]: هي من الآيات الأصول في الشّريعة، وَلَمْ نَجِدْ لها في بلادِنا أثرًا؛ بل لَيْتَهم يُرْسِلُونَ إلى الأَمِينَةِ، فلا بكتاب الله تعالى ائْتَمَرُوا، ولا بالأَقْيِسَةِ اجْتَزَوْا، وقد نَدَبْت إلَى ذلك فما أجابني إلى بَعْثِ الحَكَمَيْنِ عند الشّقاق إلا قَاضٍ واحدٌ، ولا إلى القضاء باليمين مع الشّاهد إلا قَاضٍ آخَرُ، فَلَمَّا ولاَّني اللهُ الأَمْرَ أَجْرَيْت السّنّةَ كما ينبغي، وأرسلت الحَكَمَيْنِ، وَقُمْت في مسائل الشّريعة كما عَلَّمَنِي الله سبحانه من الحكمة والأدب لأهل بلدنا لما غمرهم من الجهالة([9]).
ومن ذلك حديث ابن عمر في خيار المجلس، وقوله صلى الله عليه وسلم: «المتبايعان كل واحد منهما بالخيار ما لم يتفرقا إلا بيع الخيار»([10]), فقد ذكر الإمام ابن عبد البر رحمه الله عذر الإمام مالك رحمه الله في عدم العمل به، وهو أنّه معارض بإجماع أهل المدينة، وإجماعهم حجّة فيما أجمعوا عليه، فقال بعد أن حكى إجماع العلماء على أن هذا الحديث ثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم ، وأنّه من أثبت ما نقل الآحاد العدول، قال بعدما انتصر للحديث وترك قول الإمام: لا يصحّ دعوى إجماع أهل المدينة في هذه المسألة، لأنّ الاختلاف فيها بالمدينة معلوم. وأيّ إجماع يكون في هذه المسألة إذا كان المخالف فيها منهم عبد الله بن عمر وسعيد بن المسّيب وابن شهاب وابن أبي ذئب وغيرهم؟! وهل جاء فيها منصوصًا الخلافُ إلا عن أبي الزناد وربيعةَ ومالك ومن تبعه؟! وقد اختلف فيها أيضا عن ربيعة فيما ذكر بعض الشافعيين»([11]). وما أشبه هذين كثير.
الضابط الثاني:
أن تراعى الفتوى للمذهب إذا حقّقت مصلحة راجحة أو دفعت مضرّة، وهذا إنما هو في مسائل التي لا نصّ فيها ولا إجماع، وهو مبني على أصل الإمام مالك رحمه الله في اعتبار المصالح، لأنّ الشريعة الإسلامية مبنية على تحصيل المصالح وتكميلها، وتعطيل المفاسد وتقليلها، قال الإمام ابن القيم رحمه الله: «إنّ الشريعة مبناها وأساسها على الحِكَم ومصالح العباد في المعاش والمعاد، وهي عدل كلّها ورحمة كلّها ومصالح كلّها وحكمة كلّها، فكلّ مسألة خرجت عن العدل إلى الجور وعن الرحمة إلى ضدّها وعن المصلحة إلى المفسدة وعن الحكمة إلى العبث فليست من الشريعة، وإن أدخلت فيها بالتأويل»([12]).
وقال الإمام الشاطبي رحمه الله: «النظر في مآلات الأفعال معتبر مقصود شرعا، أكانت الأفعال موافقة أو مخالفة، وذلك أنّ المجتهد لا يحكم على فعل من الأفعال الصادرة عن المكلّفين بالإقدام أو بالإحجام إلا بعد نظره إلى ما يؤول إليه ذلك الفعل مشروعًا لمصلحة فيه تستجلب أو لمفسدة تدرأ، ولكن له مآل على خلاف ما قصد فيه وقد يكون غير مشروع لمفسدة تنشأ عنه أو مصلحة تندفع به ولكن له مآل على خلاف ذلك»([13]).
وهذا الأصل يدلّ عليه ما روته عائشة رضي الله عنها زوجُ النبيِّ صلى الله عليه وسلم: أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لها: «ألم تري أنّ قومك لما بنوا الكعبة اقتصروا عن قواعد إبراهيم؟! فقلت: يا رسول الله! ألا تردّها على قواعد إبراهيم؟! قال: لولا حدثان قومك بالكفر لفعلت»([14])؛ فامتنع النبي صلى الله عليه وسلم من تغيير الكعبة، وبنائها على قواعد إبراهيم مع قدرته عليه، خشية وقوع ما هو أعظم منه، من عدم احتمال قريش لذلك، لقرب عهدهم بالإسلام، وكونهم حديثي عهد بكفر، وأنّ ذلك ربما نفرهم عن الإسلام بعد دخولهم فيه.
وهذا الضابط له أمثلة كثيرة في الواقع، فكم من مسائل فقهية مقرّرة في المذهب قد تركت بحجّة الضرورة والمصلحة.
مثله: إخراج زكاة الفطر نقدًا، فإنّ المنصوص في المذهب وجوبُ إخراج صاع من غالب قوت البلد من أصناف تسعة فقط، ولا يجزئ إخراجها قيمة، قال ابن القاسم: «وقال مالك: ولا يجزئ الرجل أن يعطي مكان زكاة الفطر عرضًا من العروض»([15]). ومع ذلك قد عمل بخلاف المذهب رغم أنّ الإمام مالكا تمسّك بالنص في ذلك.
ومن ذلك مصارف الزكاة، فقد اتّفق العلماء على أنّها لا تعطى إلا للأصناف الثمانية التي سمّاهم الله تعالى في قوله: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاِبْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [التوبة: 60]، وإنما وقع الخلاف في المؤلفة قلوبهم. وقد قال ابن المنذر: وأجمعوا على أنّه إنْ فَرَضَ صَدَقَتَه في الأصناف التي ذكرها في سورة براءة في قوله تعالى: {إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها} الآية أنّه مؤدٍّ كما فُرِض عليه([16]).
وقد عمل بخلاف هذا الإجماع، وأجيز إعطاؤها قرضا للمستحقين وغير المستحقين من أجل استثمارات تنموية، والمنصوص في المذهب أنها لا يجزئ مثل ذلك، قال ابن القاسم: «قلت: فهل كان مالك يقول ويرضخ لمن سوى أهل الحاجة من الذين لا يستحقون الزكاة؟ فقال: ما علمت أنّه قال: يرضخ لهؤلاء. قلت: هل يرفع من الزكاة إلى بيت المال شيء في قول مالك؟ قال: لا ولكن تفرّق كلّها، ولا يرفع منها شيء، وإن لم يجد من يفرّق عليه في موضعها الذي أخذها فيه فأقرب البلدان إليه»([17]).
ومن ذلك صلاة الجنازة على الغائب، فإنّ المنصوص في المذهب أنّها مكروهة، وأنّ صلاة النبي صلى الله عليه وسلم على النجاشي خصوص له, قال ابن رشد: «لا تجوز الصلاة على الغائب عند مالك وأصحابه»([18]). ومع ذلك فقد عمل في هذا بخلاف هذا اتّباعا لمذهب الجمهور، وهو الصحيح، لأنّ الأصل عدم الخصوصية، ويدل عليه أيضا أنّ الصحابة صلّوا عليه.
ولو تتبعنا هذه المسائل التي عمل بها بخلاف مذهب البلد السائد لجمع ذلك في سفر ضخم، فلا تجد أهل مذهب إلا وقد خرجوا عن مذهب إمامهم، إما إلى قول بعض أصحابه، وإما خارج المذهب.
فما من إمام إلا وقد خولف مذهبه في بعض مسائل إما لدليل، وإما لضرورة أو حاجة([19]).
وقد سارت على هذا المسلك كثير من الدول الإسلامية، أخذت ببعض الفتاوى التي تخالف المذهب السائد في البلد للحاجة والمصلحة، فقد وضعت الدولة العثمانية مجلة الأحكام العدلية، انتقت الأحكام من المذهب الحنفي، وخرجت في بعض بنودها عن المذهب، وأخّذت فيه برأي الآخر في المذاهب الأخرى، للحاجة والمصلحة التي اقتضتها.
وأخذت مصر وسورية وغيرهما برأي شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم في مسألة الطلاق الثلاث، أنّ يقع طلقة واحدة، وهذا مخالف لمذهب البلدين القاضي باعتباره طلاقًا ثلاثًا.
ولهذا نرى أنّ هناك مسائل كثيرة تخالف المذهب، ولا شكّ أنّ مراعاتها فيه تحقيق للمصلحة والحاجة الملحّة، مثل سقوط الطواف عن الحائض، لا سيما مع برمجة الرحلات الجوية؛ والقول بجواز رضاع الكبير، لاسيما مع تفشي ظاهرة التبنّي، وما تصحبه من الخلوة وكشف العورة؛ والقول بوحدة المطالع في الصوم والإفطار، لا سيما مع وجود وسائل الاتصال العظيمة؛ ونحو ذلك كثير.
وينبني على هذه الضابط جواز ترك بعض المستحبّات لمصلحة الاجتماع والائتلاف، ونبذ الفرقة والاختلاف. لأنّ مصلحة الائتلاف أرجح من المستحبات, فيقدم أرجح المصلحتين بتفويت أدناهما. قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله بعدما ذكر خلاف العلماء في الجهر بالبسملة: «ومع ذلك فمراعاة الائتلاف هو الحقّ، فيجهر بها بالمصلحة راجحة ويسوغ ترك الأفضل لتأليف القلوب كما ترك النبي صلى الله عليه وسلم بناء البيت على قواعد إبراهيم خشية تنفير قريش نص الأئمة كأحمد على ذلك في البسملة وفي وصل الوتر وغيره كما فيه العدول عن الأفضل إلى الجائز مراعاة للائتلاف أو لتعريف السنة وأمثال ذلك»([20]).
وقال في موضع آخر: «وكان أحمد بن حنبل يرى الوضوء من الحجامة والرعاف فقيل له: فإن كان الإمام قد خرج منه الدم ولم يتوضّأ، تصلّي خلفه؟ فقال: كيف لا أصلي خلف سعيد بن المسيب ومالك!»([21]).
الضابط الثالث:
ألا يفضي مراعاة الفتوى للمذهب إلى شواذ الأقوال وغرائب المذهب وعجائب الوجوه وتتبّع الرخص والقول بالتلفيق، وتبنّي الآراء المهجورة، والأقوال المرجوحة، والروايات المطروحة؛ وكثير من هذه الأقوال لا يزال مبثوثا في بطون الحواشي والمتون، وقد نقل العلامة ابنُ عبد البر الإجماع على المنع من تتبّع الرخص، والأخذ بما يوافق الهوى والغرض من أقوال العلماء([22]).
وقال الإمام ابن القيم رحمه الله: لا يجوز العمل والإفتاء في دين الله بالتشهّي والتخيّر وموافقة الغرض، فيطلب القول الذي يوافق غرضه وغرض من يحابيه فيعمل به، ويفتي به، ويحكم به، ويحكم على عدوّه ويفتيه بضده، وهذا من أفسق الفسوق، وأكبر الكبائر، والله المستعان»([23]).
وقال الإمام الشاطبي رحمه الله: «في تتبّع الرخص ميل مع أهواء النفوس والشرع جاء بالنهي عن اتباع الهوى فهذا مضاد لذلك الأصل المتفق عليه ومضاد أيضا لقوله تعالى فإن تنازعتم فى شيء فردوه إلى الله والرسول وموضع الخلاف موضع تنازع فلا يصح أن يرد إلى أهواء النفوس وإنما يرد إلى الشريعة وهى تبين الراجح من القولين فيجب اتباعه لا الموافق للغرض»([24]).
وروى ابن سريج قال: «سمعت إسماعيل القاضي قال: دخلت على المعتضد فدفع إلي كتابًا نظرت فيه وقد جمع فيه الرخص من زلل العلماء وما احتج به كل منهم ، فقلت : مصنف هذا زنديق ، فقال : لم تصح هذه الأحاديث ؟ قلت : الأحاديث على ما رويت ولكن من أباح المسكر لم يبح المتعة ، ومن أباح المتعة لم يبح المسكر ، وما من عالم إلا وله زلة ، ومن جمع زلل العلماء ثم أخذ بها ذهب دينه ، فأمر المعتضد بإحراق ذلك الكتاب»([25]).
مثاله: كتاب «العُتْبية» لأبي عبد الله محمدبن أحمد بن أبي عتبة، المشهور بالعُتْبِي،المتوفى 255هـ، ويسمّى «المستخرجة»، سمّي بذلك لأنّه استخرجه من سماعات تلاميذ الإمام مالك عنه؛ وقد اهتمّ العلماء بشرحه وتهذيبه وتبويبه واختصاره وتدريسه وحفظ مسائله، وصار عمدة في المذهب حتى قال الفقيه أبو الوليد ابنرشد: «على أنهكتاب قد عوّل عليه الشيوخ المتقدمون من القرويين والأندلسيين، واعتقدوا أنّ من لميحفظه، ولا تفقه فيه كحفظه للمدونة وتفقّهه فيها؛ بعد معرفة الأصول، وحفظه لسننالرسول صلى الله عليه وسلم فليس من الراسخين في العلم، ولا من المعدودين فيمنيشار إليه من أهل الفقه»([26]). ومع ذلك، فيه من شواذ الأقوال ما لا يخفى، فقد نقل الإمام القاضي عياض عن ابن لبابة أنّه قال: «وهو الذي جمع المستخرجة، وكثّر فيها من الروايات المطروحة، والمسائل الشاذة، وكان يأتي بالمسائل الغريبة، فإذا أعجبته، قال: ادخلوها في المستخرجة. وقال ابن وضاح: وفيالمستخرجة خطأ كثير، وقال أسلم بن عبد العزيز: قال لي محمد بن عبد الحكم: أتيت بكتب حسنة الخط تدعى المستخرجة، من وضع صاحبكم العتبي، فرأيت جلّها مكذوباً. ومسائل لا أصول لها. ولما قد أسقط وطرح، وشواذ من مسائل المجالس، لم يوقف عليها أصحابها. فخشيت أن أموت، فتوجد في تركتي، فوهبتها لرجل يقرأ فيها. قال أحمد بن خالد: قلت لابن لبابة: أنت تقرأ هذه المستخرجة للناس، وأنت تعلم من باطنها ما تعلم فقال: إنما أقرأها لمن أعرف، أنه يعرف خطأها، من صوابها. وكان أحمد، ينكر على ابن لبابة قراءتها للناس، شديداً([27]).
الضابط الرابع:
ألا يفضي المراعاة إلى التقليد والتعصّب للمذهب، لأنّ التقليد ليس بعلم، وما ليس بعلم لا يحلّ الافتاء به، قال أبو عمر بن عبد البر وغيره: «أجمع الناس على أن المقلِّد ليس معدوداً من أهل العلم، وأن العلم معرفة الحق بدليله». قال ابن القيم معلّقا على هذا: «وهذا كما قال أبو عمر، فإنّ الناس لا يختلفون في أنّ العلم هو المعرفة الحاصلة عن الدليل، وأما بدون الدليل فإنما هو تقليد»([28]).
وقال أيضا في آداب الفتيا:«لا يجوز للمفتي أن يشهد على الله ورسول صلى الله عليه وسلم بأنّه أحلّ كذا أو حرّمه أو أوجبه أو كرهه إلاّ لما يعلم أنّ الأمر فيه كذلك مما نصّ الله ورسوله صلى الله عليه وسلم على إباحته أو تحريمه أو إيجابه أو كراهته، وأمّا ما وجده في كتابه الذي تلقّاه عمّن قلّده دينه، فليس له أن يشهد على الله ورسوله به، ويغرّ الناس بذلك، ولا علم له بحكم الله ورسوله. قال غير واحد من السلف: ليحذر أحدكم أن يقول: أحلّ الله كذا أو حرّم الله كذا، فيقول الله له: كذبت لم أحلَّ كذا ولم أحرّمه … وسمعت شيخ الإسلام يقول: حضرت مجلسًا فيه القضاة وغيرهم، فجرت حكومة حكم فيها أحدهم بقول زُفر. فقلت له: ما هذه الحكومة؟! فقال: هذا حكم الله. فقلت له: صار قول زفر هو حكم الله الذي حكـم به وألزم به الأمّة، قل هـذا حكـم زفر ولا تقـل: هذا حكم الله»([29]).
وقال الحجوي الفاسي في: «إنّ أحمد بن ميسر كان يقول في فتواه: إنّ الذي أذهب إليه كذا، وإنّ مذهب أهل بلدنا كذا، لأنهم مقيّدون في الفتوى والحكم بمذهب معيّن لضياع الثقة، وظهور الرشا، فلم يكونوا يجعلون للحاكم أو المفتي حرية الاجتهاد، إذ ربما يجعلها في قضاء غرضه»([30]).
وينبني على هذا:
الضابط الخامس:
أن يراعى المذهب إذا تبيّن أنّه هو الراجح، وأنّ مأخذه قويّ، فيتعيّن الإفتاء به، ولا يسع المفتي أن يفتي بما يعتقد الصواب في خلافه، فقد قطع كثير من علماء الأصول على أنّه ليس كل مجتهد بمصيب، وأنّ الصواب في واحد من الأقوال، لقوله صلى الله عليه وسلم: «إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران وإذا أخطأ فله أجر»([31]). وقد حكى الإمام القرافي إجماع العلماء على ذلك فقال: «أمّا الحكم أو الفتيا بما هو مرجوح فخلاف الإجماع»([32]).
قال الإمام النووي: «ليس للمفتي ولا للعامل المنتسب إلى مذهب الشافعي رحمه اللهفي مسألة القولين أو الوجهين: أن يعمل بما شاء منها بغير نظر، بل عليه العمل بآخرهما ان علمه والا فبالذى رجحه الشافعي»([33]).
وقال الإمام ابن القيم: «ليحذر المفتي الذي يخاف مقامه بين يدي الله سبحانه أن يفتي السائل بمذهبه الذي يقلّده وهو يعلم أن مذهب غيره في تلك المسألة أرجح من مذهبه وأصحّ دليلا، فتحمله الرياسة على أن يقتحم الفتوى بما يغلب على ظنّه أن الصواب في خلافه، فيكون خائنًا لله ورسوله وللسائل، وغاشًّا له، والله لا يهدي كيد الخائنين، وحرّم الجنّة على من لقيه وهو غاشّ للاسلام وأهله. والدين النصيحة، والغشّ مضاد للدين كمضادة الكذب للصدق والباطل للحقّ. وكثيرًا ما ترد المسألة نعتقد فيها خلاف المذهب فلا يسعنا أن نفتي بخلاف ما نعتقده فنحكي المذهب الراجح ونرجحه ونقول هذا هو الصواب وهو اولى ان يؤخذ به وبالله التوفيق»([34]).
ونقل في موضع آخر عن الإمام القفال الشاشي أنّه قال: «لو أدّى اجتهادي الى مذهب أبي حنيفة. قلت: مذهب الشافعي كذا، لكني أقول بمذهب أبي حنيفة، لأنّ السائل إنما يسألني عن مذهب الشافعي، فلا بد أن أعرّفه ان الذي أفتيته به غير مذهبه. فسألت شيخنا قدس الله روحه عن ذلك فقال: أكثر المستفتين لا يخطر بقلبه مذهب معيّن عند الواقعة التي سأل عنها، وإنما سؤاله عن حكمها، وما يعمل به فيها، فلا يسع المفتي أن يفتيه بما يعتقد الصواب في خلافه»([35]).
وقد نصّ علماء المذهب على هذا الضابط، فأوجبوا الفتيا بالراجح والمشهور، قال العلامة اللقاني (ت 1041هـ): «اعلم أنّ كلمتهم قامت على تعيّن الإفتاء والعمل بالراجح. وعبارة ابن عرفة: العمل بالراحج واجب لا راجح: فالذي يفتي به هو المشهور أو الراجح، ولا تجوز الفتوى، ولا الحكم بغير المشهور ولا بغير الراجح»([36]).
الضابط السادس:
أن تكون المراعاة في المسائل التي يراعى فيها الخلاف، لأنّ الخروج من الخلاف مستحبّ، كما هو مقرّرٌ في أصول المذهب. أما إذا خالف نصًّا أو خرق إجماعا أو ترك العمل بالراجح عند معتقده لمراعاة المرجوح، فلا يراعى الخلاف لضعف المأخذ، لأنّه لا يراعى من الخلاف إلا ما قوي دليله، كما نصّ على ذلك أهل العلم.
وقد بنى على ذلك علماءالمذهب مسائل لا تكاد تحصى، من ذلك: صلاة الفرائض بتيمّم واحد، فإنّ المنصوص عليه في المذهب أنّه لا تُصلّى صلاتان بتيمّم واحد نافلة ولا فريضة، لكنّهم أجازوا أن يصلّي بتيمّم واحد إذا اتّصلت من النافلة بالفريضة مراعاة للخلاف([37]).
ونظيره: مسألة تشفيع الإقامة، فالمنصوص عليه في المذهب أنّ الآذان مثنى والإقامة مفردة، فلو شفع الإقامة لا تجزئ، لكن لو شفعها غلطا أجزأته، فقد نقل الحطاب عن المازري أنّه قال: قال بعض أصحابنا: لو شفّع الإقامة غلطًا لأجزأه مراعاة للخلاف، والمشهور أنّه لا يجزئه([38]).
والأمثلة على ذلك كثيرة ومشهورة([39]).
الضابط السابع:
أن تكون المراعاة من المسائل التي تتغيّر فيها الفتوى بحسب الزمان والمكان والأعراف. فإذا تغيّر عرف البلد جاز مخالفة المذهب، لاسيما في المسائل التي بناها على ما كان في زمانه، وهذه قاعدة مهمة من قواعد الفقه، وباب واسع من أبواب الاجتهاد، فإن كثيرًا من المسائل تختلف باختلاف الزمان والمكان نظرا لتغيّر أعراف الناس وعاداتهم، أو حدوث ضرورة بحيث لو بقي الحكم على ما كان عليه أولا للزم منه وقوع مشقة وضرر بالناس، وهو مناف لقواعد الشريعة المبنية على رفع الحرج.
فالعرف يعتبر مصدرا أساسيا للمفتي، يرجع إليه في المسائل التي تخضع للعرف والعادة، لأنّ العادة محكّمة، والمعروف عرفا كالمشروط شرطا. وقد حكى الإمام القرافي إجماع العلماء على ذلك فقال: إنّ إجراء الأحكام التي مدركها العوائد مع تغيّر تلك العوائد: خلاف الإجماع، وجهالة في الدين، بل ما هو في الشريعة يتبع العوائد: يتغيّر الحكم فيه عند تغيّر العادة إلى ما تقتضيه العادة المتجدّدة.
ثم خرّج على ذلك مسائل كثيرة مشهورة في المذهب، منها:
قال: «ما وقع في «المدونة»: إذا قال لأمرأته: أنت عليّ حرام أو خَلِيَّة أو بَرِيَّة أو وهبتك لأهلك: يلزمه الطلاق الثلاث في المدخول بها، ولا تنفعه النيّة أنّه أراد أقلّ من الثلاث.
فعلّق على هذه المسألة فقال: «وهذا بناء على أنّ هذا اللفظ في عرف الاستعمال اشتهر في إزالة العصمة، واشتهر في العدد الذي هو الثلاث».
ثم قرّر أنّ هذه الألفاظ قد تغيّرت في زمانه، وجزم بتغيّر الحكم فيها بناء على ما تقتضيه العادة المتجدّدة، فقال: «إذا تقرّر هذا فأنت تعلمُ أنّك لا تجد الناس يستعملون هذه الصّيغ المتقدّمة في ذلك، بل تمضي الأعمار ولا يُسمعُ أحدٌ يقول لامرأته إذا أراد طلاقها: أنت خليّة، ولا: وهبتك لأهلك، ولا يَسمع أحدٌ أحدًا يستعمل هذه الألفاظ في إزالة العصمة، ولا في عدد طلقات. فالعرف حينئذ في هذه الألفاظ منتفٍ قطعا، وإذا انتفى العرف لم يبق إلا اللغة، لأنّ الكلام عند عدم النية والبِساط».
ثم قال: «نعم، لفظ الحرام في عرفنا اليوم لإزالة العصمة خاصة دون عدد، وهي مشتهرة في ذلك، بخلاف ما ذكر معها من الألفاظ. ومقتضى هذا أن يفتي بطلقة رجعية، ليس إلاّ، ويُنوَّى في غيرها من اللأفاظ التي ذكرت معها، فإن لم يكن له نيّة ولا بساط لم يلزمه شيء، لأنّها من الكنايات الخفية على هذا التقدير»([40]).
وما قرّره رحمه الله هو موافق لما عليه عرفنا اليوم، فإنّ هذا اللفظ، أعني: «أنت علي حرام»، وبلغتنا العامية:«راك محرمة علي»، شاع على ألسنة الناس، فأغلبهم يقصد به الطلاق، وقد يقصد به غير الطلاق، فيختلف الحكم باختلاف النية والعادة، والعبرة في العقود للمقاصد والمعاني لا للألفاظ والمباني. الله أعلم.
وقد عقد ابن القيم فصلاًً مهما في تغيّر الفتوى واختلافها بحسب تغير الأزمنة والأمكنة والأحوال والنيات والعوائد، وقال: «ومن أفتى الناس بمجرّد المنقول في الكتب على اختلاف عرفهم وعوائدهم وأزمنتهم وأمكنتهم وأحوالهم وقرائن أحوالهم فقد ضلّ وأضلّ، وكانت جنايته على الدين أعظم من جناية منْ طبّب الناس كلّهم على اختلاف بلادهم وعوائدهم وأزمنتهم وطبائعهم بما في كتاب من كتب الطبّ على أبدانهم، بل هذا الطبيب الجاهل، وهذا المفتي الجاهل أضر على أديان الناس وأبدانهم»([41]).
وذكر أنّ من آداب المفتي العلم بعرف السائلين ليحمل ألفاظهم على ما اعتادوه، وعرفوه وإن كان مخالفا لحقائقها الأصلية، ونبّه إلى أنّه إذا لم يراع ذلك ضلّ وأضلّ فقال: «لا يجوز أن يفتي في الإقرار والأيمان والوصايا وغيرها مما يتعلّق باللفظ بما اعتاده هو من فهم تلك الألفاظ دون أن يعرف عرف أهلها والمتكلّمين بها، فيحملها على ما اعتادوه وعرفوه، وإن كان مخالفا لحقائقها الأصلية. فمتى لم يفعل ذلك ضل وأضل». ثم ضرب لذلك عدة أمثلة فقال: «فلفظ الدينار عند طائفة اسم لثمانية دراهم، وعند طائفة اسم لاثني عشر درهما. والدّرهم عند غالب البلاد اليوم اسم للمغشوش. فإذا أقر له بدراهم أو حلف ليعطينّه إيّاها أو أصدقها امرأة، لم يجز للمفتي ولا للحاكم أن يلزمه بالخالصة؛ فلو كان في بلد إنما يعرفون الخالصة، لم يجز له أن يلزم المستحق بالمغشوشة.
وكذلك في ألفاظ الطلاق و العتاق فلو جرى عرف أهل بلد أو طائفة في استعمالهم لفظ الحرية في العفة دون العتق فإذا قال أحدهم عن مملوكة إنه حر أو جاريته إنها حرة وعادته استعمال ذلك في العفة لم يخطر بباله غيرها لم يعتق بذلك قطعا وإن كان اللفظ صريحا عند من ألف استعماله في العتق. وكذلك إذا جرى عرف طائفة في الطلاق بلفظ التسميح بحيث لا يعرفون لهذا المعني غيره. فإذا قالت: اسمح لي. فقال: سمحت لك. فهذا صريح في الطلاق عندهم»([42]).
الضابط الثامن:
أن يراعى المذهب إذا كان الأمر فيه سعة، ولم يفض إلى الحرج والضيق على الناس، لأنّ الحرج مدفوع بنص الشرع مرفوع شرعا، مثل المسائل المتعلّقة باختلاف التنوّع كألفاظ الآذان والإقامة وصيغ التشهد والخلاف في القراءات ونحو ذلك.
وممّا يدخل في هذا الضابط مسالك الاجتهاد وموارد النزاع، وهي المسائل التي لا نصّ فيها، أو عُدم الدليل الظاهر فيها، أو تكافأت فيها الأدلة، فيسوغ فيها الخلاف، ولا ينكر على المخالف.
الضابط التاسع:
أن لا يكون من الأمور التي جرى عليه عمل الناس واستقرّت عليه عادتهم، والمذهب على خلافه، فيظنّ الناس أنّه منه، وليس منه، كما قال عبد الله بن مسعود: «كيف أنتم إذا لبستكم فتنة يهرم فيها الكبير ويربو فيها الصغير ويتّخذها الناس سنة فإذا غُيّرت. قالوا: غُيّرت السنة. قالوا: ومتى ذلك يا أبا عبد الرحمن؟ قال: إذا كثرت قراؤكم وقلّت فقهاؤكم وكثرت أمراؤكم وقلّت أمناؤكم والتمست الدنيا بعمل الآخرة»([43]).
قال الإمام ابن القيم: «إذا عرف أقوال الإمام نفسه، وسعه أن يخبر به، ولا يحلّ له أن ينسب إليه القول، ويطلق عليه أنّه قوله بمجرّد ما يراه في بعض الكتب التي حفظها أو طالعها من كلام المنتسبين إليه، فإنّه قد اختلطت أقوال الأئمّة وفتاويهم بأقوال المنتسبين إليهم واختياراتهم، فليس كلّ ما في كتبهم منصوصًا عن الأئمّة؛ بل كثير منه يخالف نصوصهم، وكثير منه لا نصّ لهم فيه، وكثير منه يخرج على فتاويهم، وكثير منه أفتوا به بلفظه أو بمعناه. فلا يحلّ لأحد أن يقول: هذا قول فلان ومذهبه إلا أن يعلم يقينًا أنّه قوله ومذهبه. فما أعظم خطر المفتي وأصعب مقامه بين يدى الله تعالى؟!»([44]).
ويدخل في هذا كثير العادات والمحدثات التي جرى عليها العمل، كرفع الصوت بالذكر الجماعي، قال الشيخ حطاب: «قال في المدخل: وكره مالك رفع الصوت بالقراءة والتقريب فيه انتهى بالمعنى. وقال بعده: المسجد إنما بني للصلاة وقراءة القرآن تبع للصلاة ما لم تضر بالصلاة, فإذا أضرت بها منعت, ثم قال: وهذه المسألة لا يعلم فيها خلاف بين أحد من متقدمي أهل العلم أعني رفع الصوت في القراءة والذكر في المسجد مع وجود مصل يقع له التشويش بسببه»([45]).
ومن ذلك رفع الصوت في الجنائز، فقد نصّ المذهب على عدم الجواز كا هو مذكور في «شروح خليل»، قال ابن رشد: «أمّا النداء بالجنازة في المسجد فلا يجوز لكراهة رفع الصوت في المسجد، فقد كره ذلك حتى في العلم. وأمّا النداء بها على أبواب المسجد فكرهه مالك هنا، ورآه من النعي المنهي عنه، وهو أن ينادي في الناس: مات فلان، فاشهدوا جنازته»([46]).
وقال الشيخ الصاوي: «وأمّا ما يفعله النساء من الزغروتة عند حمل جنازة صالح أو عند فرح يكون فإنّه من معنى رفع الصوت، وإنّه بدعة يجب النهي عنها»([47]).
ويندرج تحت هذا الضابط المسائل التي ثبت رجوع الإمام عنها، فلا ينبغي للمفتي أن يراعيها وإن وجدت في بعض كتب المذهب، ولأنّ ما صرّح بالرجوع عنه بمنزلة مالم يقله.
قال الإمام ابن القيم رحمه الله: «أتباع الأئمّة يفتون كثيرًا بأقوالهم القديمة التي رجعوا عنها، وهذا موجود في سائر الطوائف: فالحنفية يفتون بلزوم المنذورات التي مخرجها مخرج اليمين كالحج والصوم والصدقة، وقد حكوا هم عن أبي حنيفة أنّه رجع قبل موته بثلاثة أيام إلى التكفير. والحنابلة يفتي كثير منهم بوقوع طلاق السكران، وقد صرح الإمام أحمد بالرجوع عنه إلى عدم الوقوع. والشافعية يفتون بالقول القديم في مسألة التثويب، وامتداد وقت المغرب، ومسألة التباعد عن النجاسة في الماء الكثير، وعدم استحباب قراءة السورة في الركعتين الأخيرتين، وغير ذلك من المسائل، وهي أكثر من عشرين مسألة؛ ومن المعلوم أنّ القول الذي صرّح بالرجوع عنه لم يبق مذهبًا له، فإذا أفتى المفتي به مع نصّه على خلافه لرجحانه عنده لم يخرجه ذلك عن التمذهّب بمذهبه. فما الذي يحرم عليه أن يفتي بقول غيره من الأئمّة الأربعة وغيرهم إذا ترجّح»([48]).
هذه الضوابط التي ينبغي مراعتها لمن أراد أن يلزم بموافقة الفتيا للمذهب، ولا يعني هذا إهدار نصوص الأئمّة، بل هو أخذ بنصائحهم في ظل معرفة قدرهم ومراتبهم، والله يقول الحق، وهو يهدي السبيل، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
-----------------------
([1]) «إعلام الموقعين» (1/11).
([2])حديث صحيح ورد عن جمع كبير من الصحابة، منهم عمران بن الحصين، رواه أحمد (5/66)، وانظر «الصحيحة» (179 و180).
([3]) هو طرف من حديث مطوّل في قصة الأمير الذي أمر جنده بدخول النار، أخرجه البخاري (7145) ومسلم (1840).
([4]) «إعلام الموقعين» (1/4.
([5]) «إعلام الموقعين» (2/181).
([6]) أخرجه البخاري (7352) ومسلم (1617) عن عمرو بن العاص.
([7])أنظر «الفروق» (2/197).
([8]) أخرجه ابن ماجه (2370)، بإسناد صحيح.
([9]) أنظر «أحكام القرآن» (2/29.
([10]) أخرجه البخاري (2107) ومسلم (1531).
([11]) أنظر «الاستذكار» (6/476) «التمهيد» (14/7 وما بعدها).
([12]) «إعلام الموقعين» (3/3).
([13]) أنظر «الموافقات» (4/194).
([14]) أخرجه البخاري (1583) ومسلم (1333).
([15]) أنظر «المدونة» (2/390).
([16]) أنظر «الإجماع» (ف/116).
([17]) أنظر «المدونة» (1/343).
([18]) أنظر «شرح خليل للخرشي» (5/499).
([19])أنظر «الفكر السامي» (2/477).
([20]) أنظر «الفتاوى المصرية» (1/44).
([21]) أنظر «مجموع الفتاوى» (23/375).
([22]) أنظر «جامع بيان العلم وفضله» (2/92).
([23])أنظر «إعلام الموقعين» (4/211).
([24]) أنظر «الموافقات» (4/145).
([25]) أخرجه البيهقي (10/211).
([26]) أنظر «البيان والتحصيل» (1/28-29).
([27]) أنظر «ترتيب المدارك» (4/253).
([28]) أنظر «إعلام الموقعين» (1/7).
([29])أنظر «إعلام الموقعين» (1/39).
([30]) أنظر «الفكر السامي» (2/181).
([31]) تقدم تخريجه.
([32]) أنظر «الإحكام في تمييز الفتاوى عن الأحكام». (93)
([33]) أنظر «المجموع» (1/6.
([34]) أنظر «إعلام الموقعين» (4/177).
([35]) أنظر المصدر السابق (4/13.
([36]) أنظر «أصول الفتيا» (269).
([37]) أنظر أنظر «الشرح الكبير» (1/151) و«حاشية الدسوقي» (1/151) «البيان والتحصيل» (1/213).
([38]) أنظر «مواهب الجليل» (2/73).
([39]) أنظر «مراعاة الخلاف عند المالكية وأثره في الفروع الفقهية» (300 وما بعدها) و«مراعاة الخلاف في المذهب المالكي» (353 وما بعدها).
([40]) «الإحكام في تمييز الفتاوى عن الأحكام» (218-225)، وانظر «الفروق» (3/283).
([41]) أنظر «إعلام الموقعين» (3/7.
([42]) أنظر المصدر السابق (4/22.
([43]) رواه الدارمي (185) بإسناد صحيح.
([44]) أنظر«إعلام الموقعين» (4/176).
([45]) أنظر «مواهب الجليل» (2/322).
([46]) أنظر «التاج والإكليل» (2/241).
([47])أنظر «بلغة السالك لأقرب المسالك» (1/377).
([48]) أنظر «إعلام الموقعين» (4/239).
بسم الله الرحمن الرحيم
القَوْلُ الأَكْلَد
في ضَوَابط مراعَاة الفَتْوى
لمَذْهَب البَلَد
للشيخ : عبد المجيد جمعة .
( خاصّ بمنتديات التصفية و التربية السلفية )
الحمد لله ربّ العالمين، والصّلاة والسّلام على أشرف المرسلين، نبيّنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أمّا بعد، فإنّ الفتوى أمرها عظيم، وخطبها جسيم، إذ هي توقيع عن العليم العلاّم، وبها تعرف الأحكام، ويتميّز الحلال عن الحرام، وتتحقّق مصالح الأنام، وصاحبها قائم مقام النبيّ عليه الصلاة والسلام، وقد عُني بها الإسلام، وأولاها أشدَّ الاهتمام، حيث ضبها باللّجام حتى يقوم بها المتصدّر لها خير قيام، ولا يلج أبوابها من هبّ ودبّ من العوام.
وقد كانت الفتوى في صدر الإسلام، يرجع مستندها إلى النصّ، فكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا سئل عن مسألة انتظر الوحي، قال تعالى: {يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ} [النساء: 176]، وقال تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ} [البقرة: 189]، وقال سبحانه: {وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ} [البقرة: 219]، ونحو ذلك من الآيات، فإذا لم ينزل عليه الوحي تولّى الإجابة، قال الإمام ابن القيم رحمه الله: «وأوّل من قام بهذا المنصب الشريف سيّد المرسلين وإمام المتقين وخاتم النبيّين عبدُ الله ورسوله وأمينُه على وحيه، وسفيره بينه وبين عباده، فكان يفتي عن الله بوحيه المبين، وكان كما قال له أحكم الحاكمين: {قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ} [ص: 86]، فكانت فتاويه صلى الله عليه وسلم جوامع الأحكام ومشتملة على فصل الخطاب، وهي في وجوب اتباعها وتحكيمها والتحاكم إليها ثانيةُ الكتاب»([1]).
ثم قام بالفتوى بعده أصحابه الكرام ما بين مكثر ومتوسّط ومقلّ، ثم صارت في التابعين وتابع التابعين، من الأئمّة المجتهدين، الذين حفظ الله بهم الدين، فصار الناس كلّهم يعوّلون في الفتاوى عليهم، ويرجعون في معرفة الأحكام إليهم، ثم استقرت الفتوى على الأئمة الأربعة أبي حنيفة ومالك والشافعيّ وأحمد رحمة الله عليهم.
ثم قام بعدهم تلاميذُهم، فضَبَطُوا مذاهبَهم، وحرّروا قواعدَهم، حتى ضُبط مذهبُ كلِّ إمامٍ منهم؛ ثم صار الناسُ على تقليدهم، و اتّباع مذاهبهم، والتفقّه على مآخذهم، والتّخريج على أصولهم والتّفريع على قواعدهم، فصارت الفتوى في المنتسبين إليهم.
ففي خضمّ هذا التّقيّد بالفتوى على مذاهب الأئمّة، شهد العالم الإسلامي نهضة علمية قوية، نادت بضرورة الرّجوع بالفتاوى والأحكام إلى العهد الأول، وبضرورة الاتّباع وفتح باب الاجتهاد، والنظر والاستدلال، وكسر قيود التقليد والتعصّب المذهبي. وقد واجهت هذه الدعوى هانت وهنات، و لقيتها صعوبات، ولعل من أبرزها مخالفة الفتوى للمذهب السائد في البلد.
ولهذا سأحاول في هذه المقالة -بحسب ضعف الحالة- أن أكشف النّقاب عن هذه القضية المهمة لأبيّن مدى مراعاة الفتوى للمذهب.
إنّ النّظر في مراعاة الفتوى للمذهب له مجالان: مجال يتعلّق بجانب القانوني القضائي، ومجال يتعلّق بواقع الناس العملي.
أما المجال القضائي، فلا أعرج عليه، لأنّ أحكام الشريعة الإسلامية قد استبدلت بالقوانين الوضعية والمحاكم المدنية والدّساتير النّظامية، في جميع الدّول الإسلامية إلا ما شاء الله، وأصبحت الأحكام الشّرعية تطبق في مجالات ضيّقة، خاصة بقانون الأسرة الذي يتمثل في الأحوال المدنية والشخصية، ومع ذلك فقد ترك العمل بها في بعض القضايا، وحكمت القوانين الوضعية كما لا يخفى، فما بقي مراعاة المذهب بل أهملت المذاهب الفقهية، ولم يعد العمل بها في هذه الديار، والله المستعان.
ولهذا سأوجه كلمتي هذه في المجال الواقعي العملي، فأقول وبالله التوفيق:
إنّ مراعاة المفتي للمذهب السائد في البلد أمر معتبر، لكن لا بد أن يضبط بضوابط علمية، من أهمّها:
الضابط الأول:
ألا يفضي إلى هدر النصوص وإهمالها، لأنّ الأصل أن يفتي المفتي بالنصوص، ويحرم أن يفتي بخلافها لقوله تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} [النساء: 59]، فأمر تعالى عند التنازع بالردّ إلى الله وإلى رسوله، والرد إلى الله هو ردّ إلى كتابه، والرد إلى رسوله هو ردّ إليه نفسِه في حياته، وإلى سنته بعد وفاته، ولم يأمر بالردّ إلى شيء معيّن أصلا، قال الإمام ابن القيم رحمه الله: «فأمر تعالى بطاعته وطاعة رسوله وأعاد الفعل إعلاما بأن طاعة الرسول تجب استقلالا من غير عرض ما أمر به على الكتاب بل إذا أمر وجبت طاعته مطلقا سواء كان ما أمر به في الكتاب أو لم يكن فيه فإنه أوتي الكتاب ومثله معه ولم يأمر بطاعة أولي الأمر استقلالا بل حذف الفعل وجعل طاعتهم في ضمن طاعة الرسول إيذانا بأنهم إنما يطاعون تبعا لطاعة الرسول فمن أمر منهم بطاعة الرسول وجبت طاعته ومن أمر بخلاف ما جاء به الرسول فلا سمع له ولا طاعة كما صحّ عنه صلى الله عليه وسلم أنّه قال: «لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق»([2])، وقال: «إنما الطاعة في المعروف»([3]).
ثم قال: «قوله: {فإن تنازعتم في شيء}، نكرة في سياق الشرط، تعمّ كلَّ ما تنازع فيه المؤمنون من مسائل الدين دقِّه وجلِّه، جليِّه وخفيِّه، ولو لم يكن في كتاب الله ورسوله بيان حكم ما تنازعوا فيه، ولم يكن كافيا لم يأمر بالردّ إليه، إذ من الممتنع أن يأمر تعالى بالردّ عند النزاع إلى من لا يوجد عنده فصلُ النزاع»([4]).
وهذه الطريقة هي محلّ الاتفاق بين أهل العلم، وهي أنّه لا يحلّ للمفتي أن يفتي بخلاف النصّ، قال الإمام الشافعي رحمه الله: «أجمع الناس على أنّ من استبانت له سنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن له أن يدعها لقول أحد من الناس»([5]).
وقال الإمام القرافي رحمه الله: كلُّ شيء أفتَى فيه المجتهدُفَخَرَجَتْ فُتْيَاهُفيه على خلاف الإجماعأو القواعدِ أو النَّصِّأو القياس الجليِّ السَّالم عن المعارض الرّاجح لا يجوز لمقَلِّدِهِ أنْ يَنْقُلَهُ للنّاس ولا يُفْتِي به في دين الله تعالى فإنَّ هذا الحكمَ لو حَكَمَ به حاكمٌ لَنَقَضْنَاهُ وما لا نُقِرُّهُ شرْعًا بعد تَقَرُّرِه بحُكْمِ الحاكم أولى أن لا نُقِرَّهُ شَرْعًا إذا لم يَتَأَكَّدْ وهذا لم يَتَأَكَّدْ فلا نُقِرُّه شرعًا والفتْيَا بغيرِ شَرْعٍ حَرَامٌ فالفتيا بهذا الحكمِ حَرَامٌ وإنْ كان الإمامُ المجتهدُ غَيْرَ عاصٍ به بل مُثَابًا عليه لأنّه بَذَلَ جَهْدَه على حسبِ ما أُمِرَ به وقد قال النّبيُّ عليه السلام «إذَا اجْتَهَدَ الْحَاكِمُ فَأَخْطَأَ فَلَهُ أَجْرٌ وَإِنْ أَصَابَ فَلَهُ أَجْرَانِ»([6]) فعلى هذا يجبُ على أهلِ العصرِ تَفَقُّدُ مذاهِبِهِم فكلُّ ما وجَدُوه من هذا النّوع يحرمُ عليهم الفتيا به ولا يَعْرَى مذهبٌ من المذاهبِ»([7]).
وقد سلك هذا المسلك علماء المذهب، فتمسّكوا بالنصوص وأفتوا بها وإن خالفت المذهب المتّبَع، وأنكروا على من ردّ النصوص بحجّة التقيّد بالمذهب، فهذا أبو بكر بن العربي رحمه الله أنكر على مالكية الأندلس في تركهم العمل بحديث: «قضى بالشاهد واليمين»([8])، فقال عند تفسيره قوله تعالى: {وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إنْ يُرِيدَا إصْلَاحًا يُوَفِّقْ اللَّهُ بَيْنَهُمَا} [النساء: 35]: هي من الآيات الأصول في الشّريعة، وَلَمْ نَجِدْ لها في بلادِنا أثرًا؛ بل لَيْتَهم يُرْسِلُونَ إلى الأَمِينَةِ، فلا بكتاب الله تعالى ائْتَمَرُوا، ولا بالأَقْيِسَةِ اجْتَزَوْا، وقد نَدَبْت إلَى ذلك فما أجابني إلى بَعْثِ الحَكَمَيْنِ عند الشّقاق إلا قَاضٍ واحدٌ، ولا إلى القضاء باليمين مع الشّاهد إلا قَاضٍ آخَرُ، فَلَمَّا ولاَّني اللهُ الأَمْرَ أَجْرَيْت السّنّةَ كما ينبغي، وأرسلت الحَكَمَيْنِ، وَقُمْت في مسائل الشّريعة كما عَلَّمَنِي الله سبحانه من الحكمة والأدب لأهل بلدنا لما غمرهم من الجهالة([9]).
ومن ذلك حديث ابن عمر في خيار المجلس، وقوله صلى الله عليه وسلم: «المتبايعان كل واحد منهما بالخيار ما لم يتفرقا إلا بيع الخيار»([10]), فقد ذكر الإمام ابن عبد البر رحمه الله عذر الإمام مالك رحمه الله في عدم العمل به، وهو أنّه معارض بإجماع أهل المدينة، وإجماعهم حجّة فيما أجمعوا عليه، فقال بعد أن حكى إجماع العلماء على أن هذا الحديث ثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم ، وأنّه من أثبت ما نقل الآحاد العدول، قال بعدما انتصر للحديث وترك قول الإمام: لا يصحّ دعوى إجماع أهل المدينة في هذه المسألة، لأنّ الاختلاف فيها بالمدينة معلوم. وأيّ إجماع يكون في هذه المسألة إذا كان المخالف فيها منهم عبد الله بن عمر وسعيد بن المسّيب وابن شهاب وابن أبي ذئب وغيرهم؟! وهل جاء فيها منصوصًا الخلافُ إلا عن أبي الزناد وربيعةَ ومالك ومن تبعه؟! وقد اختلف فيها أيضا عن ربيعة فيما ذكر بعض الشافعيين»([11]). وما أشبه هذين كثير.
الضابط الثاني:
أن تراعى الفتوى للمذهب إذا حقّقت مصلحة راجحة أو دفعت مضرّة، وهذا إنما هو في مسائل التي لا نصّ فيها ولا إجماع، وهو مبني على أصل الإمام مالك رحمه الله في اعتبار المصالح، لأنّ الشريعة الإسلامية مبنية على تحصيل المصالح وتكميلها، وتعطيل المفاسد وتقليلها، قال الإمام ابن القيم رحمه الله: «إنّ الشريعة مبناها وأساسها على الحِكَم ومصالح العباد في المعاش والمعاد، وهي عدل كلّها ورحمة كلّها ومصالح كلّها وحكمة كلّها، فكلّ مسألة خرجت عن العدل إلى الجور وعن الرحمة إلى ضدّها وعن المصلحة إلى المفسدة وعن الحكمة إلى العبث فليست من الشريعة، وإن أدخلت فيها بالتأويل»([12]).
وقال الإمام الشاطبي رحمه الله: «النظر في مآلات الأفعال معتبر مقصود شرعا، أكانت الأفعال موافقة أو مخالفة، وذلك أنّ المجتهد لا يحكم على فعل من الأفعال الصادرة عن المكلّفين بالإقدام أو بالإحجام إلا بعد نظره إلى ما يؤول إليه ذلك الفعل مشروعًا لمصلحة فيه تستجلب أو لمفسدة تدرأ، ولكن له مآل على خلاف ما قصد فيه وقد يكون غير مشروع لمفسدة تنشأ عنه أو مصلحة تندفع به ولكن له مآل على خلاف ذلك»([13]).
وهذا الأصل يدلّ عليه ما روته عائشة رضي الله عنها زوجُ النبيِّ صلى الله عليه وسلم: أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لها: «ألم تري أنّ قومك لما بنوا الكعبة اقتصروا عن قواعد إبراهيم؟! فقلت: يا رسول الله! ألا تردّها على قواعد إبراهيم؟! قال: لولا حدثان قومك بالكفر لفعلت»([14])؛ فامتنع النبي صلى الله عليه وسلم من تغيير الكعبة، وبنائها على قواعد إبراهيم مع قدرته عليه، خشية وقوع ما هو أعظم منه، من عدم احتمال قريش لذلك، لقرب عهدهم بالإسلام، وكونهم حديثي عهد بكفر، وأنّ ذلك ربما نفرهم عن الإسلام بعد دخولهم فيه.
وهذا الضابط له أمثلة كثيرة في الواقع، فكم من مسائل فقهية مقرّرة في المذهب قد تركت بحجّة الضرورة والمصلحة.
مثله: إخراج زكاة الفطر نقدًا، فإنّ المنصوص في المذهب وجوبُ إخراج صاع من غالب قوت البلد من أصناف تسعة فقط، ولا يجزئ إخراجها قيمة، قال ابن القاسم: «وقال مالك: ولا يجزئ الرجل أن يعطي مكان زكاة الفطر عرضًا من العروض»([15]). ومع ذلك قد عمل بخلاف المذهب رغم أنّ الإمام مالكا تمسّك بالنص في ذلك.
ومن ذلك مصارف الزكاة، فقد اتّفق العلماء على أنّها لا تعطى إلا للأصناف الثمانية التي سمّاهم الله تعالى في قوله: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاِبْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [التوبة: 60]، وإنما وقع الخلاف في المؤلفة قلوبهم. وقد قال ابن المنذر: وأجمعوا على أنّه إنْ فَرَضَ صَدَقَتَه في الأصناف التي ذكرها في سورة براءة في قوله تعالى: {إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها} الآية أنّه مؤدٍّ كما فُرِض عليه([16]).
وقد عمل بخلاف هذا الإجماع، وأجيز إعطاؤها قرضا للمستحقين وغير المستحقين من أجل استثمارات تنموية، والمنصوص في المذهب أنها لا يجزئ مثل ذلك، قال ابن القاسم: «قلت: فهل كان مالك يقول ويرضخ لمن سوى أهل الحاجة من الذين لا يستحقون الزكاة؟ فقال: ما علمت أنّه قال: يرضخ لهؤلاء. قلت: هل يرفع من الزكاة إلى بيت المال شيء في قول مالك؟ قال: لا ولكن تفرّق كلّها، ولا يرفع منها شيء، وإن لم يجد من يفرّق عليه في موضعها الذي أخذها فيه فأقرب البلدان إليه»([17]).
ومن ذلك صلاة الجنازة على الغائب، فإنّ المنصوص في المذهب أنّها مكروهة، وأنّ صلاة النبي صلى الله عليه وسلم على النجاشي خصوص له, قال ابن رشد: «لا تجوز الصلاة على الغائب عند مالك وأصحابه»([18]). ومع ذلك فقد عمل في هذا بخلاف هذا اتّباعا لمذهب الجمهور، وهو الصحيح، لأنّ الأصل عدم الخصوصية، ويدل عليه أيضا أنّ الصحابة صلّوا عليه.
ولو تتبعنا هذه المسائل التي عمل بها بخلاف مذهب البلد السائد لجمع ذلك في سفر ضخم، فلا تجد أهل مذهب إلا وقد خرجوا عن مذهب إمامهم، إما إلى قول بعض أصحابه، وإما خارج المذهب.
فما من إمام إلا وقد خولف مذهبه في بعض مسائل إما لدليل، وإما لضرورة أو حاجة([19]).
وقد سارت على هذا المسلك كثير من الدول الإسلامية، أخذت ببعض الفتاوى التي تخالف المذهب السائد في البلد للحاجة والمصلحة، فقد وضعت الدولة العثمانية مجلة الأحكام العدلية، انتقت الأحكام من المذهب الحنفي، وخرجت في بعض بنودها عن المذهب، وأخّذت فيه برأي الآخر في المذاهب الأخرى، للحاجة والمصلحة التي اقتضتها.
وأخذت مصر وسورية وغيرهما برأي شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم في مسألة الطلاق الثلاث، أنّ يقع طلقة واحدة، وهذا مخالف لمذهب البلدين القاضي باعتباره طلاقًا ثلاثًا.
ولهذا نرى أنّ هناك مسائل كثيرة تخالف المذهب، ولا شكّ أنّ مراعاتها فيه تحقيق للمصلحة والحاجة الملحّة، مثل سقوط الطواف عن الحائض، لا سيما مع برمجة الرحلات الجوية؛ والقول بجواز رضاع الكبير، لاسيما مع تفشي ظاهرة التبنّي، وما تصحبه من الخلوة وكشف العورة؛ والقول بوحدة المطالع في الصوم والإفطار، لا سيما مع وجود وسائل الاتصال العظيمة؛ ونحو ذلك كثير.
وينبني على هذه الضابط جواز ترك بعض المستحبّات لمصلحة الاجتماع والائتلاف، ونبذ الفرقة والاختلاف. لأنّ مصلحة الائتلاف أرجح من المستحبات, فيقدم أرجح المصلحتين بتفويت أدناهما. قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله بعدما ذكر خلاف العلماء في الجهر بالبسملة: «ومع ذلك فمراعاة الائتلاف هو الحقّ، فيجهر بها بالمصلحة راجحة ويسوغ ترك الأفضل لتأليف القلوب كما ترك النبي صلى الله عليه وسلم بناء البيت على قواعد إبراهيم خشية تنفير قريش نص الأئمة كأحمد على ذلك في البسملة وفي وصل الوتر وغيره كما فيه العدول عن الأفضل إلى الجائز مراعاة للائتلاف أو لتعريف السنة وأمثال ذلك»([20]).
وقال في موضع آخر: «وكان أحمد بن حنبل يرى الوضوء من الحجامة والرعاف فقيل له: فإن كان الإمام قد خرج منه الدم ولم يتوضّأ، تصلّي خلفه؟ فقال: كيف لا أصلي خلف سعيد بن المسيب ومالك!»([21]).
الضابط الثالث:
ألا يفضي مراعاة الفتوى للمذهب إلى شواذ الأقوال وغرائب المذهب وعجائب الوجوه وتتبّع الرخص والقول بالتلفيق، وتبنّي الآراء المهجورة، والأقوال المرجوحة، والروايات المطروحة؛ وكثير من هذه الأقوال لا يزال مبثوثا في بطون الحواشي والمتون، وقد نقل العلامة ابنُ عبد البر الإجماع على المنع من تتبّع الرخص، والأخذ بما يوافق الهوى والغرض من أقوال العلماء([22]).
وقال الإمام ابن القيم رحمه الله: لا يجوز العمل والإفتاء في دين الله بالتشهّي والتخيّر وموافقة الغرض، فيطلب القول الذي يوافق غرضه وغرض من يحابيه فيعمل به، ويفتي به، ويحكم به، ويحكم على عدوّه ويفتيه بضده، وهذا من أفسق الفسوق، وأكبر الكبائر، والله المستعان»([23]).
وقال الإمام الشاطبي رحمه الله: «في تتبّع الرخص ميل مع أهواء النفوس والشرع جاء بالنهي عن اتباع الهوى فهذا مضاد لذلك الأصل المتفق عليه ومضاد أيضا لقوله تعالى فإن تنازعتم فى شيء فردوه إلى الله والرسول وموضع الخلاف موضع تنازع فلا يصح أن يرد إلى أهواء النفوس وإنما يرد إلى الشريعة وهى تبين الراجح من القولين فيجب اتباعه لا الموافق للغرض»([24]).
وروى ابن سريج قال: «سمعت إسماعيل القاضي قال: دخلت على المعتضد فدفع إلي كتابًا نظرت فيه وقد جمع فيه الرخص من زلل العلماء وما احتج به كل منهم ، فقلت : مصنف هذا زنديق ، فقال : لم تصح هذه الأحاديث ؟ قلت : الأحاديث على ما رويت ولكن من أباح المسكر لم يبح المتعة ، ومن أباح المتعة لم يبح المسكر ، وما من عالم إلا وله زلة ، ومن جمع زلل العلماء ثم أخذ بها ذهب دينه ، فأمر المعتضد بإحراق ذلك الكتاب»([25]).
مثاله: كتاب «العُتْبية» لأبي عبد الله محمدبن أحمد بن أبي عتبة، المشهور بالعُتْبِي،المتوفى 255هـ، ويسمّى «المستخرجة»، سمّي بذلك لأنّه استخرجه من سماعات تلاميذ الإمام مالك عنه؛ وقد اهتمّ العلماء بشرحه وتهذيبه وتبويبه واختصاره وتدريسه وحفظ مسائله، وصار عمدة في المذهب حتى قال الفقيه أبو الوليد ابنرشد: «على أنهكتاب قد عوّل عليه الشيوخ المتقدمون من القرويين والأندلسيين، واعتقدوا أنّ من لميحفظه، ولا تفقه فيه كحفظه للمدونة وتفقّهه فيها؛ بعد معرفة الأصول، وحفظه لسننالرسول صلى الله عليه وسلم فليس من الراسخين في العلم، ولا من المعدودين فيمنيشار إليه من أهل الفقه»([26]). ومع ذلك، فيه من شواذ الأقوال ما لا يخفى، فقد نقل الإمام القاضي عياض عن ابن لبابة أنّه قال: «وهو الذي جمع المستخرجة، وكثّر فيها من الروايات المطروحة، والمسائل الشاذة، وكان يأتي بالمسائل الغريبة، فإذا أعجبته، قال: ادخلوها في المستخرجة. وقال ابن وضاح: وفيالمستخرجة خطأ كثير، وقال أسلم بن عبد العزيز: قال لي محمد بن عبد الحكم: أتيت بكتب حسنة الخط تدعى المستخرجة، من وضع صاحبكم العتبي، فرأيت جلّها مكذوباً. ومسائل لا أصول لها. ولما قد أسقط وطرح، وشواذ من مسائل المجالس، لم يوقف عليها أصحابها. فخشيت أن أموت، فتوجد في تركتي، فوهبتها لرجل يقرأ فيها. قال أحمد بن خالد: قلت لابن لبابة: أنت تقرأ هذه المستخرجة للناس، وأنت تعلم من باطنها ما تعلم فقال: إنما أقرأها لمن أعرف، أنه يعرف خطأها، من صوابها. وكان أحمد، ينكر على ابن لبابة قراءتها للناس، شديداً([27]).
الضابط الرابع:
ألا يفضي المراعاة إلى التقليد والتعصّب للمذهب، لأنّ التقليد ليس بعلم، وما ليس بعلم لا يحلّ الافتاء به، قال أبو عمر بن عبد البر وغيره: «أجمع الناس على أن المقلِّد ليس معدوداً من أهل العلم، وأن العلم معرفة الحق بدليله». قال ابن القيم معلّقا على هذا: «وهذا كما قال أبو عمر، فإنّ الناس لا يختلفون في أنّ العلم هو المعرفة الحاصلة عن الدليل، وأما بدون الدليل فإنما هو تقليد»([28]).
وقال أيضا في آداب الفتيا:«لا يجوز للمفتي أن يشهد على الله ورسول صلى الله عليه وسلم بأنّه أحلّ كذا أو حرّمه أو أوجبه أو كرهه إلاّ لما يعلم أنّ الأمر فيه كذلك مما نصّ الله ورسوله صلى الله عليه وسلم على إباحته أو تحريمه أو إيجابه أو كراهته، وأمّا ما وجده في كتابه الذي تلقّاه عمّن قلّده دينه، فليس له أن يشهد على الله ورسوله به، ويغرّ الناس بذلك، ولا علم له بحكم الله ورسوله. قال غير واحد من السلف: ليحذر أحدكم أن يقول: أحلّ الله كذا أو حرّم الله كذا، فيقول الله له: كذبت لم أحلَّ كذا ولم أحرّمه … وسمعت شيخ الإسلام يقول: حضرت مجلسًا فيه القضاة وغيرهم، فجرت حكومة حكم فيها أحدهم بقول زُفر. فقلت له: ما هذه الحكومة؟! فقال: هذا حكم الله. فقلت له: صار قول زفر هو حكم الله الذي حكـم به وألزم به الأمّة، قل هـذا حكـم زفر ولا تقـل: هذا حكم الله»([29]).
وقال الحجوي الفاسي في: «إنّ أحمد بن ميسر كان يقول في فتواه: إنّ الذي أذهب إليه كذا، وإنّ مذهب أهل بلدنا كذا، لأنهم مقيّدون في الفتوى والحكم بمذهب معيّن لضياع الثقة، وظهور الرشا، فلم يكونوا يجعلون للحاكم أو المفتي حرية الاجتهاد، إذ ربما يجعلها في قضاء غرضه»([30]).
وينبني على هذا:
الضابط الخامس:
أن يراعى المذهب إذا تبيّن أنّه هو الراجح، وأنّ مأخذه قويّ، فيتعيّن الإفتاء به، ولا يسع المفتي أن يفتي بما يعتقد الصواب في خلافه، فقد قطع كثير من علماء الأصول على أنّه ليس كل مجتهد بمصيب، وأنّ الصواب في واحد من الأقوال، لقوله صلى الله عليه وسلم: «إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران وإذا أخطأ فله أجر»([31]). وقد حكى الإمام القرافي إجماع العلماء على ذلك فقال: «أمّا الحكم أو الفتيا بما هو مرجوح فخلاف الإجماع»([32]).
قال الإمام النووي: «ليس للمفتي ولا للعامل المنتسب إلى مذهب الشافعي رحمه اللهفي مسألة القولين أو الوجهين: أن يعمل بما شاء منها بغير نظر، بل عليه العمل بآخرهما ان علمه والا فبالذى رجحه الشافعي»([33]).
وقال الإمام ابن القيم: «ليحذر المفتي الذي يخاف مقامه بين يدي الله سبحانه أن يفتي السائل بمذهبه الذي يقلّده وهو يعلم أن مذهب غيره في تلك المسألة أرجح من مذهبه وأصحّ دليلا، فتحمله الرياسة على أن يقتحم الفتوى بما يغلب على ظنّه أن الصواب في خلافه، فيكون خائنًا لله ورسوله وللسائل، وغاشًّا له، والله لا يهدي كيد الخائنين، وحرّم الجنّة على من لقيه وهو غاشّ للاسلام وأهله. والدين النصيحة، والغشّ مضاد للدين كمضادة الكذب للصدق والباطل للحقّ. وكثيرًا ما ترد المسألة نعتقد فيها خلاف المذهب فلا يسعنا أن نفتي بخلاف ما نعتقده فنحكي المذهب الراجح ونرجحه ونقول هذا هو الصواب وهو اولى ان يؤخذ به وبالله التوفيق»([34]).
ونقل في موضع آخر عن الإمام القفال الشاشي أنّه قال: «لو أدّى اجتهادي الى مذهب أبي حنيفة. قلت: مذهب الشافعي كذا، لكني أقول بمذهب أبي حنيفة، لأنّ السائل إنما يسألني عن مذهب الشافعي، فلا بد أن أعرّفه ان الذي أفتيته به غير مذهبه. فسألت شيخنا قدس الله روحه عن ذلك فقال: أكثر المستفتين لا يخطر بقلبه مذهب معيّن عند الواقعة التي سأل عنها، وإنما سؤاله عن حكمها، وما يعمل به فيها، فلا يسع المفتي أن يفتيه بما يعتقد الصواب في خلافه»([35]).
وقد نصّ علماء المذهب على هذا الضابط، فأوجبوا الفتيا بالراجح والمشهور، قال العلامة اللقاني (ت 1041هـ): «اعلم أنّ كلمتهم قامت على تعيّن الإفتاء والعمل بالراجح. وعبارة ابن عرفة: العمل بالراحج واجب لا راجح: فالذي يفتي به هو المشهور أو الراجح، ولا تجوز الفتوى، ولا الحكم بغير المشهور ولا بغير الراجح»([36]).
الضابط السادس:
أن تكون المراعاة في المسائل التي يراعى فيها الخلاف، لأنّ الخروج من الخلاف مستحبّ، كما هو مقرّرٌ في أصول المذهب. أما إذا خالف نصًّا أو خرق إجماعا أو ترك العمل بالراجح عند معتقده لمراعاة المرجوح، فلا يراعى الخلاف لضعف المأخذ، لأنّه لا يراعى من الخلاف إلا ما قوي دليله، كما نصّ على ذلك أهل العلم.
وقد بنى على ذلك علماءالمذهب مسائل لا تكاد تحصى، من ذلك: صلاة الفرائض بتيمّم واحد، فإنّ المنصوص عليه في المذهب أنّه لا تُصلّى صلاتان بتيمّم واحد نافلة ولا فريضة، لكنّهم أجازوا أن يصلّي بتيمّم واحد إذا اتّصلت من النافلة بالفريضة مراعاة للخلاف([37]).
ونظيره: مسألة تشفيع الإقامة، فالمنصوص عليه في المذهب أنّ الآذان مثنى والإقامة مفردة، فلو شفع الإقامة لا تجزئ، لكن لو شفعها غلطا أجزأته، فقد نقل الحطاب عن المازري أنّه قال: قال بعض أصحابنا: لو شفّع الإقامة غلطًا لأجزأه مراعاة للخلاف، والمشهور أنّه لا يجزئه([38]).
والأمثلة على ذلك كثيرة ومشهورة([39]).
الضابط السابع:
أن تكون المراعاة من المسائل التي تتغيّر فيها الفتوى بحسب الزمان والمكان والأعراف. فإذا تغيّر عرف البلد جاز مخالفة المذهب، لاسيما في المسائل التي بناها على ما كان في زمانه، وهذه قاعدة مهمة من قواعد الفقه، وباب واسع من أبواب الاجتهاد، فإن كثيرًا من المسائل تختلف باختلاف الزمان والمكان نظرا لتغيّر أعراف الناس وعاداتهم، أو حدوث ضرورة بحيث لو بقي الحكم على ما كان عليه أولا للزم منه وقوع مشقة وضرر بالناس، وهو مناف لقواعد الشريعة المبنية على رفع الحرج.
فالعرف يعتبر مصدرا أساسيا للمفتي، يرجع إليه في المسائل التي تخضع للعرف والعادة، لأنّ العادة محكّمة، والمعروف عرفا كالمشروط شرطا. وقد حكى الإمام القرافي إجماع العلماء على ذلك فقال: إنّ إجراء الأحكام التي مدركها العوائد مع تغيّر تلك العوائد: خلاف الإجماع، وجهالة في الدين، بل ما هو في الشريعة يتبع العوائد: يتغيّر الحكم فيه عند تغيّر العادة إلى ما تقتضيه العادة المتجدّدة.
ثم خرّج على ذلك مسائل كثيرة مشهورة في المذهب، منها:
قال: «ما وقع في «المدونة»: إذا قال لأمرأته: أنت عليّ حرام أو خَلِيَّة أو بَرِيَّة أو وهبتك لأهلك: يلزمه الطلاق الثلاث في المدخول بها، ولا تنفعه النيّة أنّه أراد أقلّ من الثلاث.
فعلّق على هذه المسألة فقال: «وهذا بناء على أنّ هذا اللفظ في عرف الاستعمال اشتهر في إزالة العصمة، واشتهر في العدد الذي هو الثلاث».
ثم قرّر أنّ هذه الألفاظ قد تغيّرت في زمانه، وجزم بتغيّر الحكم فيها بناء على ما تقتضيه العادة المتجدّدة، فقال: «إذا تقرّر هذا فأنت تعلمُ أنّك لا تجد الناس يستعملون هذه الصّيغ المتقدّمة في ذلك، بل تمضي الأعمار ولا يُسمعُ أحدٌ يقول لامرأته إذا أراد طلاقها: أنت خليّة، ولا: وهبتك لأهلك، ولا يَسمع أحدٌ أحدًا يستعمل هذه الألفاظ في إزالة العصمة، ولا في عدد طلقات. فالعرف حينئذ في هذه الألفاظ منتفٍ قطعا، وإذا انتفى العرف لم يبق إلا اللغة، لأنّ الكلام عند عدم النية والبِساط».
ثم قال: «نعم، لفظ الحرام في عرفنا اليوم لإزالة العصمة خاصة دون عدد، وهي مشتهرة في ذلك، بخلاف ما ذكر معها من الألفاظ. ومقتضى هذا أن يفتي بطلقة رجعية، ليس إلاّ، ويُنوَّى في غيرها من اللأفاظ التي ذكرت معها، فإن لم يكن له نيّة ولا بساط لم يلزمه شيء، لأنّها من الكنايات الخفية على هذا التقدير»([40]).
وما قرّره رحمه الله هو موافق لما عليه عرفنا اليوم، فإنّ هذا اللفظ، أعني: «أنت علي حرام»، وبلغتنا العامية:«راك محرمة علي»، شاع على ألسنة الناس، فأغلبهم يقصد به الطلاق، وقد يقصد به غير الطلاق، فيختلف الحكم باختلاف النية والعادة، والعبرة في العقود للمقاصد والمعاني لا للألفاظ والمباني. الله أعلم.
وقد عقد ابن القيم فصلاًً مهما في تغيّر الفتوى واختلافها بحسب تغير الأزمنة والأمكنة والأحوال والنيات والعوائد، وقال: «ومن أفتى الناس بمجرّد المنقول في الكتب على اختلاف عرفهم وعوائدهم وأزمنتهم وأمكنتهم وأحوالهم وقرائن أحوالهم فقد ضلّ وأضلّ، وكانت جنايته على الدين أعظم من جناية منْ طبّب الناس كلّهم على اختلاف بلادهم وعوائدهم وأزمنتهم وطبائعهم بما في كتاب من كتب الطبّ على أبدانهم، بل هذا الطبيب الجاهل، وهذا المفتي الجاهل أضر على أديان الناس وأبدانهم»([41]).
وذكر أنّ من آداب المفتي العلم بعرف السائلين ليحمل ألفاظهم على ما اعتادوه، وعرفوه وإن كان مخالفا لحقائقها الأصلية، ونبّه إلى أنّه إذا لم يراع ذلك ضلّ وأضلّ فقال: «لا يجوز أن يفتي في الإقرار والأيمان والوصايا وغيرها مما يتعلّق باللفظ بما اعتاده هو من فهم تلك الألفاظ دون أن يعرف عرف أهلها والمتكلّمين بها، فيحملها على ما اعتادوه وعرفوه، وإن كان مخالفا لحقائقها الأصلية. فمتى لم يفعل ذلك ضل وأضل». ثم ضرب لذلك عدة أمثلة فقال: «فلفظ الدينار عند طائفة اسم لثمانية دراهم، وعند طائفة اسم لاثني عشر درهما. والدّرهم عند غالب البلاد اليوم اسم للمغشوش. فإذا أقر له بدراهم أو حلف ليعطينّه إيّاها أو أصدقها امرأة، لم يجز للمفتي ولا للحاكم أن يلزمه بالخالصة؛ فلو كان في بلد إنما يعرفون الخالصة، لم يجز له أن يلزم المستحق بالمغشوشة.
وكذلك في ألفاظ الطلاق و العتاق فلو جرى عرف أهل بلد أو طائفة في استعمالهم لفظ الحرية في العفة دون العتق فإذا قال أحدهم عن مملوكة إنه حر أو جاريته إنها حرة وعادته استعمال ذلك في العفة لم يخطر بباله غيرها لم يعتق بذلك قطعا وإن كان اللفظ صريحا عند من ألف استعماله في العتق. وكذلك إذا جرى عرف طائفة في الطلاق بلفظ التسميح بحيث لا يعرفون لهذا المعني غيره. فإذا قالت: اسمح لي. فقال: سمحت لك. فهذا صريح في الطلاق عندهم»([42]).
الضابط الثامن:
أن يراعى المذهب إذا كان الأمر فيه سعة، ولم يفض إلى الحرج والضيق على الناس، لأنّ الحرج مدفوع بنص الشرع مرفوع شرعا، مثل المسائل المتعلّقة باختلاف التنوّع كألفاظ الآذان والإقامة وصيغ التشهد والخلاف في القراءات ونحو ذلك.
وممّا يدخل في هذا الضابط مسالك الاجتهاد وموارد النزاع، وهي المسائل التي لا نصّ فيها، أو عُدم الدليل الظاهر فيها، أو تكافأت فيها الأدلة، فيسوغ فيها الخلاف، ولا ينكر على المخالف.
الضابط التاسع:
أن لا يكون من الأمور التي جرى عليه عمل الناس واستقرّت عليه عادتهم، والمذهب على خلافه، فيظنّ الناس أنّه منه، وليس منه، كما قال عبد الله بن مسعود: «كيف أنتم إذا لبستكم فتنة يهرم فيها الكبير ويربو فيها الصغير ويتّخذها الناس سنة فإذا غُيّرت. قالوا: غُيّرت السنة. قالوا: ومتى ذلك يا أبا عبد الرحمن؟ قال: إذا كثرت قراؤكم وقلّت فقهاؤكم وكثرت أمراؤكم وقلّت أمناؤكم والتمست الدنيا بعمل الآخرة»([43]).
قال الإمام ابن القيم: «إذا عرف أقوال الإمام نفسه، وسعه أن يخبر به، ولا يحلّ له أن ينسب إليه القول، ويطلق عليه أنّه قوله بمجرّد ما يراه في بعض الكتب التي حفظها أو طالعها من كلام المنتسبين إليه، فإنّه قد اختلطت أقوال الأئمّة وفتاويهم بأقوال المنتسبين إليهم واختياراتهم، فليس كلّ ما في كتبهم منصوصًا عن الأئمّة؛ بل كثير منه يخالف نصوصهم، وكثير منه لا نصّ لهم فيه، وكثير منه يخرج على فتاويهم، وكثير منه أفتوا به بلفظه أو بمعناه. فلا يحلّ لأحد أن يقول: هذا قول فلان ومذهبه إلا أن يعلم يقينًا أنّه قوله ومذهبه. فما أعظم خطر المفتي وأصعب مقامه بين يدى الله تعالى؟!»([44]).
ويدخل في هذا كثير العادات والمحدثات التي جرى عليها العمل، كرفع الصوت بالذكر الجماعي، قال الشيخ حطاب: «قال في المدخل: وكره مالك رفع الصوت بالقراءة والتقريب فيه انتهى بالمعنى. وقال بعده: المسجد إنما بني للصلاة وقراءة القرآن تبع للصلاة ما لم تضر بالصلاة, فإذا أضرت بها منعت, ثم قال: وهذه المسألة لا يعلم فيها خلاف بين أحد من متقدمي أهل العلم أعني رفع الصوت في القراءة والذكر في المسجد مع وجود مصل يقع له التشويش بسببه»([45]).
ومن ذلك رفع الصوت في الجنائز، فقد نصّ المذهب على عدم الجواز كا هو مذكور في «شروح خليل»، قال ابن رشد: «أمّا النداء بالجنازة في المسجد فلا يجوز لكراهة رفع الصوت في المسجد، فقد كره ذلك حتى في العلم. وأمّا النداء بها على أبواب المسجد فكرهه مالك هنا، ورآه من النعي المنهي عنه، وهو أن ينادي في الناس: مات فلان، فاشهدوا جنازته»([46]).
وقال الشيخ الصاوي: «وأمّا ما يفعله النساء من الزغروتة عند حمل جنازة صالح أو عند فرح يكون فإنّه من معنى رفع الصوت، وإنّه بدعة يجب النهي عنها»([47]).
ويندرج تحت هذا الضابط المسائل التي ثبت رجوع الإمام عنها، فلا ينبغي للمفتي أن يراعيها وإن وجدت في بعض كتب المذهب، ولأنّ ما صرّح بالرجوع عنه بمنزلة مالم يقله.
قال الإمام ابن القيم رحمه الله: «أتباع الأئمّة يفتون كثيرًا بأقوالهم القديمة التي رجعوا عنها، وهذا موجود في سائر الطوائف: فالحنفية يفتون بلزوم المنذورات التي مخرجها مخرج اليمين كالحج والصوم والصدقة، وقد حكوا هم عن أبي حنيفة أنّه رجع قبل موته بثلاثة أيام إلى التكفير. والحنابلة يفتي كثير منهم بوقوع طلاق السكران، وقد صرح الإمام أحمد بالرجوع عنه إلى عدم الوقوع. والشافعية يفتون بالقول القديم في مسألة التثويب، وامتداد وقت المغرب، ومسألة التباعد عن النجاسة في الماء الكثير، وعدم استحباب قراءة السورة في الركعتين الأخيرتين، وغير ذلك من المسائل، وهي أكثر من عشرين مسألة؛ ومن المعلوم أنّ القول الذي صرّح بالرجوع عنه لم يبق مذهبًا له، فإذا أفتى المفتي به مع نصّه على خلافه لرجحانه عنده لم يخرجه ذلك عن التمذهّب بمذهبه. فما الذي يحرم عليه أن يفتي بقول غيره من الأئمّة الأربعة وغيرهم إذا ترجّح»([48]).
هذه الضوابط التي ينبغي مراعتها لمن أراد أن يلزم بموافقة الفتيا للمذهب، ولا يعني هذا إهدار نصوص الأئمّة، بل هو أخذ بنصائحهم في ظل معرفة قدرهم ومراتبهم، والله يقول الحق، وهو يهدي السبيل، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
-----------------------
([1]) «إعلام الموقعين» (1/11).
([2])حديث صحيح ورد عن جمع كبير من الصحابة، منهم عمران بن الحصين، رواه أحمد (5/66)، وانظر «الصحيحة» (179 و180).
([3]) هو طرف من حديث مطوّل في قصة الأمير الذي أمر جنده بدخول النار، أخرجه البخاري (7145) ومسلم (1840).
([4]) «إعلام الموقعين» (1/4.
([5]) «إعلام الموقعين» (2/181).
([6]) أخرجه البخاري (7352) ومسلم (1617) عن عمرو بن العاص.
([7])أنظر «الفروق» (2/197).
([8]) أخرجه ابن ماجه (2370)، بإسناد صحيح.
([9]) أنظر «أحكام القرآن» (2/29.
([10]) أخرجه البخاري (2107) ومسلم (1531).
([11]) أنظر «الاستذكار» (6/476) «التمهيد» (14/7 وما بعدها).
([12]) «إعلام الموقعين» (3/3).
([13]) أنظر «الموافقات» (4/194).
([14]) أخرجه البخاري (1583) ومسلم (1333).
([15]) أنظر «المدونة» (2/390).
([16]) أنظر «الإجماع» (ف/116).
([17]) أنظر «المدونة» (1/343).
([18]) أنظر «شرح خليل للخرشي» (5/499).
([19])أنظر «الفكر السامي» (2/477).
([20]) أنظر «الفتاوى المصرية» (1/44).
([21]) أنظر «مجموع الفتاوى» (23/375).
([22]) أنظر «جامع بيان العلم وفضله» (2/92).
([23])أنظر «إعلام الموقعين» (4/211).
([24]) أنظر «الموافقات» (4/145).
([25]) أخرجه البيهقي (10/211).
([26]) أنظر «البيان والتحصيل» (1/28-29).
([27]) أنظر «ترتيب المدارك» (4/253).
([28]) أنظر «إعلام الموقعين» (1/7).
([29])أنظر «إعلام الموقعين» (1/39).
([30]) أنظر «الفكر السامي» (2/181).
([31]) تقدم تخريجه.
([32]) أنظر «الإحكام في تمييز الفتاوى عن الأحكام». (93)
([33]) أنظر «المجموع» (1/6.
([34]) أنظر «إعلام الموقعين» (4/177).
([35]) أنظر المصدر السابق (4/13.
([36]) أنظر «أصول الفتيا» (269).
([37]) أنظر أنظر «الشرح الكبير» (1/151) و«حاشية الدسوقي» (1/151) «البيان والتحصيل» (1/213).
([38]) أنظر «مواهب الجليل» (2/73).
([39]) أنظر «مراعاة الخلاف عند المالكية وأثره في الفروع الفقهية» (300 وما بعدها) و«مراعاة الخلاف في المذهب المالكي» (353 وما بعدها).
([40]) «الإحكام في تمييز الفتاوى عن الأحكام» (218-225)، وانظر «الفروق» (3/283).
([41]) أنظر «إعلام الموقعين» (3/7.
([42]) أنظر المصدر السابق (4/22.
([43]) رواه الدارمي (185) بإسناد صحيح.
([44]) أنظر«إعلام الموقعين» (4/176).
([45]) أنظر «مواهب الجليل» (2/322).
([46]) أنظر «التاج والإكليل» (2/241).
([47])أنظر «بلغة السالك لأقرب المسالك» (1/377).
([48]) أنظر «إعلام الموقعين» (4/239).