أحكام السلام
للشيخ \ عبد السلام البرجس آل عبد الكريم
للشيخ \ عبد السلام البرجس آل عبد الكريم
الحمد لله ، وصلي الله وسلم علي رسول الله .
أما بعد :
فهذه مسائل تتعلق بأحـكـام السلام ، كتبتها علـى وجه الاختصار ، تذكرة للغافل ، وتعليماً للمبتدئ.
وقد كان أصلها محاضرة طبعت فيما سبق، فزدت علي منوالها مباحث وأصلحت ما فيها من أخطاء لفظية اقتضاها " الارتجال " والله الموفق والهادي إلى سواء السبيل .
أما بعد :
فهذه مسائل تتعلق بأحـكـام السلام ، كتبتها علـى وجه الاختصار ، تذكرة للغافل ، وتعليماً للمبتدئ.
وقد كان أصلها محاضرة طبعت فيما سبق، فزدت علي منوالها مباحث وأصلحت ما فيها من أخطاء لفظية اقتضاها " الارتجال " والله الموفق والهادي إلى سواء السبيل .
عبد السلام بن برجس آل عبد الكريم
الرياض 10/09/1412 هـ
الرياض 10/09/1412 هـ
من يبدأ بالسلام ؟
سنة لم يرعها كثير من الناس ، حتى أوشكت على الاندراس . وكان الأجدر بالمسلمين المحافظة عليها تعظيماً للسنة وإحياءً لها .
وإذا كان البعض يعجب باليهود الغربيين ، لما يرى من تقيدهم بما وضعه أربابهم من أنظمة اجتماعية ، وغيرها فإن المسلمين قد ضبطوا بآدابٍ اجتماعية وغيرها ، وهي أتم وأكمل علي وجه ، مما سواها ، إلا أن العيب فيمن تحملها إذ لم يعمل بها بل استنكف عنها ، ورغب إلي غيرها .
وما هذه السنة – سنة من يبدأ بالسلام – إلا دليل صدق وشاهد عدل علي ما يحظى به المسلمون من آدابٍ عالية ، في دقائق الأمور ، بَلْهَ جليلها .
وقد أخرج الترمذي ( 5/62 ) والبخاري في (( الأدب المفرد )) ( 2/460) من حديث فضالة بن عبيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :
(( يسلم الفارس على الماشي . والماشي علي القائم .. )) الحديث ([1])
قال الحافظ وإذا حمل القائم علي المستقر كان أعم من أن يكون جالساً ، أو واقفاً ، أو متكئاً ، أو مضطجعاً . ا هـ ([2])
ويسلم القليل علي الكثير :
والحكمة في ذلك : أن للجماعة فضلاً مطرداً في الشرع ، فناسب أن يبدؤا بالسلام .
أو أن الجماعة لو ابتدؤا لخيف علي الواحد الزهو ، فاحتيط له ([3])
ويسلم الصغير علي الكبير .
والحكمة في ذلك مراعاة السن فإنها معتبرة في أمور كثيرة في الشرع .
وإذا عرف هذا الأدب النبوي ، وتبينت حكمه فإن هناك صوراً مشكلة ، أو قد تشكل ، أو لم ينص عليها هذا المقام :
منها : إذا تلاقي مارات : راكبان ، أو ماشيان ، فأيهما يبدأ بالسلام ؟
الصحيح : استواؤهما ، فمن بدأ فهو أفضل . لما روى البخاري في ((الأدب المفرد )) ( 2/458 ) عقيب حديث أبي هريرة (( يسلم الراكب علي الماشي ... )) عن أبي جريج قال : فأخبرني أبو الزبير أنه سمع جابراً يقول : (( المشاشيان إذا اجتمعا فأيهما بدأ بالسلام فهو أفضل ([4])
ومنها إذا تعارض الصغر المعنوي ، والحسي ، كأن يكون الأصغر أعلم مثلاً .
فالذي يظهر اعتبار السن ، لأنه الظاهر كما تقدم الحقيقة علي المجاز ([5])
ومنها إذا التقي الكبير والصغير .
فإن كان أحدهما راكباً ، والآخر ماشياً : يبدأ الراكب .
وإن كانا راكبين ، أو ماشيين : بدأ الصغير . قاله ابن رشد ([6])
ومنها : إذا كان المشاة كثير ، والقعود قليلاً فيرجح جانب الماشي ، فيبدأ بالسلام .
وقال في (( الإقناع )) : أما إذا وردوا علي قاعدٍ أو قعودٍ فإن الوارد يبدأ مطلقاً . ا هـ . ([7])
قال النووي في (( الأذكار )):
وهذا الأدب هو فيما إذا تلاقي الاثنان في طريق ، أما إذا ورد علي قعود أو قاعدٍ فإن الوارد يبدأ بالسلام علي كل حال ، سواء كان صغيراً أو كبيراً ، قليلاً أو كثيراً . ا هـ ([8])
وإذا خالف أحد هذا الأدب فسلم الماشي علي الراكب ، والكبير علي الصغير ، والكثير علي القليل : فلهم أجر إفشاء السلام إن شاء الله ، إلا أن العمل بهذا الحديث أولى طلباً للكمال ، وتحصيلاً للسنة .
قال النووي في (( شرح مسلم )) ([9]) :
وهذا الذي جاء به الحديث ... كله للاستحباب ، فلو عكسوا ، جاز وكان خلاف الأفضل . ا هـ .
قال ابن عبد القوي الحنبلي في منظومته :
وإن سلم المأمور بالرد منهم فقد حصل المسنون ، إذا هو مبتدي .
وقد استشكل ابن مفلح هذا البيت ، في (( الآداب )) ([10])
وأجاب السفاريني في ((شرح المنظومة )) ([11]) بأن مراد الناظيم : حصل المسنون في الابتداء فقط .
وعلي هذا فإنه لم يحز كمال السنة في البداءة بمن ذكر في الحديث ، فلا . والله أعلم .
وجوب رد السلام
سُئل الإمام أحمد – رحمه الله تعالي – عن رجل مَر بجماعة ، فسلم عليهم ، فلم يردوا عليه السلام ، فقال :
(( يُسرع في خطاهُ ، لا تلحقه اللعنة مع القوم )) ([12])
قال ابن عبد البر في (( التمهيد )) :
الحجة في فرض رد السلام ، قول الله تعالي :
) إِذَا حُيِّيْتُم بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّواْ بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا (
قال : والرد واجب عند جميعهم . ا هـ . ([13])
قال القرطبي :
أجمع العلماء علي أن الابتداء بالسلام سنة مرغب فيها ، ورده فريضة . ا هـ ([14])
وقد سبقه إلي نقل الإجماع : ابن عبد البر ، وابن حزم .
ونقله – أيضاً – شيخ الإسلام ابن تيمية ([15])
قال : ابن كثير – رحمه الله تعالي – علي قول الحسن البصري : (( السلام تطوع ، والرد فريضة )) .
وهذا الذي قاله هو قول العلماء قاطبة : أن الرد واجب علي من سلم عليه . فيأثم إن لم يفعل ، لأنه خالف أمر الله تعالي . هـ ([16])
فترك رد السلام منكر شنيع ، بلي به كثير من الناس في هذه الأزمان ، دافعهم إليه الكبر ، والعُجْبُ ، فإليهم جميعاً نقول : رويداً من أنتم ؟ وممن أنتم ؟
) قُتِلَ الْإِنسَانُ مَا أَكْفَرَهُ& من أى شيء خلقه &من نطفة خلقه فقدره ( .
أأنتم أعظم قدراً وأعلي مكاناً ، من رسول اللهr ؟ فقد رد السلام ، علي الصغير والكبير ، والحر والعبد . وسلم عليهم ، فليكن لكم في رسول الله أسوة حسنة . نسأل الله التوفيق والهداية للجميع .
تنبيه : إذا قام الإنسان من المجلس ، وسلم وجب الرد عليه ، خلاقاً لبعض العلماء .
قال المستظهري من الشافعية :
السلام سنة عند الانصراف فيكون الجواب واجبا
قال النووي : هذا هو الصواب . ا هـ ([17])
كيفية الرد
إذا كان السلام علي جماعة
أخرج أبو داود في سننه ( 5/387 ) من طريق سعيد بن خالد الخزاعي ، قال : حدثني عبد الله بن الفضل ([18]) حدثنا عبيد الله بن أبي رافع عن علي بن أبي طالب t – قال أبو داود : رفعه الحسن بن علي ([19]) – قال :
(( يجزئ عن الجماعة إذا مروا أن يسلم أحدهم ويجزئ عن الجلوس أن يرد أحدهم ))
قال الحافظ في (( الفتح )) ( 11/7 ) :
وفي سنده ضعف . لكن له شاهد من حديث الحسن بن علي عند الطبراني ، وفي سنده مقال ، وآخر مرسل في (( الموطأ )) عن زيد بن أسلم . ا هـ .
وقول الحافظ (( سنده ضعيف )) لأن فيه علتين :
الأولي : سعيد بن خالد ، فإنه ليس بالقوي ([20]) وقد ضعفه جماعة منهم أبو ذرعة ، وأبو حاتم ، ويعقوب بن شيبة . وجعلوا حديثه هذا منكراً ، لأنه انفرد فيه بهذا الإسناد ([21])
قال ابن حبان :
لا يعجبني الاحتجاج بخبره إذا انفرد ([22])
والعلة الثانية : الانقطاع بين عبد الله بن الفضل وعبيد الله بن أبي رافع . قال ابن عبد البر : عبد الله ابن الفضل لم يسمع من عبيد الله بن أبي رافع ، بينهما الأعرج في غير ما حديث . ا هـ .
وقد رواه المحاملي في (( أماليه )) ([23]) عن عبد الله بن الفضل عن الأعرج عن عبيد الله بن أبي رافع .
قال الدراقطني في (( العلل )) ( 4/22 ) :
والصواب قول من لم يذكر الأعرج فيه والحديث غير ثابت . ا هـ .
لكن للحديث شواهد – كما قال ابن حجر – وقد قال عبد البر عن حديث علي : (( هو حديث حسن )) ، وقد حسنه من المعاصرين المحدث شيخ الإسلام الألباني ([24]) والله تعالي أعلم بالصواب .
قال ابن مفلح – رحمه الله - :
ويجزئ سلام واحدٍ من جماعة ورد أحدهم ([25])
قال ابن عبد البر :
قال مالك والشافعي ، وأصحابهما ، وهو قول أهل المدينة : إذا سلم رجل علي جماعةٍ من الرجال فرد عليه واحد منهم .
وشبهه الشافعي – رحمه الله – بصلاة الجماعة ، والتفقه في دين الله ، وغسل الموتى ، ودفنهم ، وبالسفر إلي أرض العدو لقتالهم . قال هذه كلها فروض علي الكفاية ، وإذا قام منها بشيء بعض القوم ، أجزأ عن غيرهم . ا هـ . ([26])
وقد خالف في ذلك الحنفية . قال أبو يوسف لا يجزئ إلا أن يردوا جميعاً .
قال أبو جعفر الطحاوي :
ولا نعلم في هذا الباب شيئاً روي عن النبيr غير حديث مالك عن زيد بن اسلم ، وشيء روي فيه عن أبي النضر مولي عمر بن عبيد الله ، عن رسول اللهr وكلا الوجهين لا يحتج به ... ا هـ ([27]) .
إرسال السلام وتبليغه
كان النبيr يحمل السلام لمن يريد السلام عليه من الغائبين عنه . ويتحمل –r – السلام لمن يبلغه إليه .
فمن الأول ما رواه مسلم في صحيحه ( 3/1506 ) عن أنس بن مالك – t – أن فتىً من أسلم قال : يا رسول الله ، إني أريد الغزو وليس معي ما أتجهز . قال : ائت فلاناً فإنه قد كان تجهز فمرض . فأتاه فقال : إن رسول اللهr يقرئك السلام ويقول : أعطني الذي تجهزت به . قال : يا فلانة أعطيه الذي تجهزت به . ولا تحبسي عنه شيئاً ، فوا الله لا تحبسي منه شيئاً فيبارك لك فيه .
ففي هذا الحديث مشروعية إرسال السلام إلي الغائب ، وعليه العمل عند المسلمين .
من ذلك ما رواه أبو داود عن ابن عباس قال :
أراد رسول اللهr الحج ، فقالت أمرأة لزوجها : أحجني مع رسول اللهr فقال : ما عندي ما أحجك عليه قالت أحجني علي جملك فلان . قال ذاك حبيس في سبيل الله عز وجل فأتي رسول اللهr فقال : إن امرأتي تقرأ عليك السلام ورحمة الله ، وأنها سألتني الحج معك ، قالت أحجني مع رسول اللهr فقلت ما عندي ما أحجك عليه قالت أحجني علي جملك فلان . فقلت ذاك حبيس في سبيل الله فقال :
(( أما إنك لو أحججتها عليه كان ذلك في سبيل الله ))
قال : وإنها أمرتني أن أسألك ما يعدل حجةً معك ، فقال رسول اللهr : (( أقرأها السلام ورحمة الله وبركاته ، وأخبرها أنها تعدل حجة معي )) يعني عمرةً في رمضان ([28]) .
ولا يختص إرسال السلام إلي غائب عند الحاجة إليه ، بل هو عام عند الحاجة ، وغيرها كما وردت بذلك النصوص والآثار ، وسيأتي بعضها .
أما الهدي الثاني وهو تحمل النبيr لمن يبلغه إليه ، فمنه ما في الصحيحين ([29]) عن أبي هريرة - t – قال : أتي جبريل النبيr فقال : يا رسول الله هذه خديجة قد أتت معها إناء فيه إدام أو طعام ، أو شراب ، فإذا هي أتتك فاقر أ عليها السلام من ربها ، ومني ، وبشرها ببيت في الجنة من قصبٍ لا صخب فيه ولا نصب .
وفي الصحيحين ([30]) – أيضاً – عن عائشة – رضي الله عنها – قالت : قال رسول اللهr يوماً : (( يا عائش : هذا جبريل يقرئك السلام )) فقلت : وعليه السلام ورحمة الله وبركاته ، ترى ما لا أرى . تريد رسول اللهr . وهذا لفظ البخاري ، وليس في رواية مسلم : (( وبركاته )) .
قال النووي في شرح مسلم ( 15/211 )
وفيه استحباب بعث السلام ويجب علي الرسول تبليغه . ا هـ .
قال العلامة ابن مفلح – رحمه الله – في ( الآداب 1/419 ) :
وهذا ينبغي أن يجب إذا تحمله لأنه مأمور بأداء الأمانة ، وإلا فلا يجب . ا هـ .
قال الحافظ ابن حجر في ( الفتح 11/38 ) :
والتحقيق أن الرسول إنِ ألتزمه أشبه الأمانة ، وإلا فوديعة ، والودائع إذا لم تقبل لم يلزمه شيء . ا هـ .
فعلي هذا إذا حمل اشخص سلاماً ، فلا يخلوا من أحد أمرين :
الأول : أن يحمل سلاماً ، فلا يتحمله إما بقوله : لا أتحمل سلامك . وإما بقوله إن شاء الله قاصداً التعليق لا التحقيق .وما شابه ذلك .
الثاني : أن لتزم ما حمله . وذلك بقوله : سأبلغ سلامك ، أو سأبلغه إن شاء الله . قاصداً التحقيق وما شابه ذلك .
فالأول : لا يجب عليه تبليغ السلام .
والثاني : يجب لأنه تحمل أمانة ، فأوجب علي نفسه تبليغها والدليل علي ذلك عموم ([31]) الآيات والأحاديث الدالة علي وجوب حفظ الأمانة وتأديتها والله أعلم .
كيفية رد السلام المبلغ
إذا بلغك شخص سلا م شخصٍ عليك ، وجب أن ترد عليه السلام ، فإذا قال لك : فلان يقرأ عليك السلام . أو فلان يسلم عليك قلت : وعليه السلام ، وإن زدت : ورحمة الله وبركاته ، فحسن .
وذلك لما في الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها – أن النبيr قال لها يوماً : (( يا عائش : هذا جبريل يقرئك السلام )) فقالت : وعليه السلام ، ورحمة الله وبركاته . هذا لفظ البخاري .
لأن رد السلام واجب كما هو متقرر ، فيستوي فيه المشافهة ، والإبلاغ .
قال النووي في شرح مسلم ( 15/211 ) علي حديث عائشة :
قال أصحابنا هذا الرد واجب علي الفور . وكذا لو بلغه سلام في ورقة من غائب لزمه أن يرد السلام عليه باللفظ علي الفور إذا قرأه . ا هـ .
وهل يرد السلام علي المرسلل أيضاً ، فيقول عليه وعليك السلام ؟
في حديث عائشة أنها ردت علي جبريل فقط .
فدل ذلك علي أن الواجب رد السلام علي المرسِل
وقد وردت أحاديث في رد السلام علي المرسل والمرسَل وأمثلها ما رواه النسائي في (( عمل اليوم والليلة )) ص 301 من طرف جعفر بن سليمان عن ثابت عن أنس ، قال : جاء جبريل إلي النبيr وعنده خديجة ، وقال إن الله يقرئ خديجة السلام . فقالت إن الله هو السلام وعلي جبريل السلام وعليك السلام ورحمة الله وبركاته .
قال الحاكم في (( المستدرك )) ( 3/186 ) :
حديث صحيح علي شرط مسلم ولم يخرجاه . ا هـ ([32])
قال ابن مفلح في (( الآداب ( 1/419 ) :
ويستحب أن يسلم علي الرسول . قيل لأحمد : إن فلاناً يقرئك السلام . قال : عليك وعليه السلام . وقال في نوضع آخر : وعليك وعليه السلام . ا هـ .
وقال النووي في الأذكار ص 212
ويستحب أن يرد علي المبلغ أيضاَ ، فيقول : وعليك وعليه السلام . ا . هـ .
قرن المعانقة بالسلام
يعتقد بعض العامة أن من كمال التحية مصاحبة المعانقة لها ، فكلما سلم علي شخص عانقه ، وربما يغضب إذا لم يعامل بذلك وقد جاء النهي الصريح عن هذا العمل . ففي مسند الإمام أحمد ، وسنن الترمذي ، وابن ماجة ، عن أنس بن مالك - t – قال :
(( قال رجل : يا رسول الله : أحدنا يلقي صديقه أينحني له ؟ فقال رسول اللهr : لا ، قال : فيلتزمه ويقبله ؟ قال : لا . قال يصافحه ؟ قال : نعم )) .
وفي لفظ أحمد : (( إن شاء )) .
وعند ابن ماجه : (( لا ، ولكن تصافحوا )) قال الترمذي : حديث حسن .
فدل الحديث علي أن الصديق إذا لقي صديقه أكتفي بالمصافحة – مع السلام – ويستنثي من ذلك من قدم من سفر ، فإن معانقته مستحبة عندئذ ، لما ثبت عن أنس بن مالك - t –من قوله : (( كان أصحاب رسول اللهr إذا تلاقوا تصافحوا ، وإذا قدموا من سفر تعانقوا )) .
رواه الطبراني في الأوسط وقال الهيثمي في ((المجمع )) : رجاله رجال الصحيح . ا هـ .
فدل الأثر علي أن الصحابة إذا لاقى بعضهم بعضاً اكتفوا بالمصافحة ما لم يكن أحدهم قدم من سفر ففي هذه الحالة يعانقونه ويقبلونه .
تنبيه :
يخطئ كثير من الناس عندما يعانقون أهل الميت حال تعزيتهم ، لأن المعانقة محلها السرور لا الحزن ولما في ذلك من الوقوع في النهي المتقدم ، مع مخالفة السنة النبوية والخروج عن منهج السلف الصالح والله تعالي أعلم .
القيام للداخل عند السلام عليه
مسألة القيام للداخل كثر النزاع فيها ، وطال الجدل حولها . وقبل البدء في تقرير المسألة أشير إلي أمرين ينبغي لطالب العلم استحضارهما عند هذه المسألة ونحوها من المسائل الاجتهادية التي تتنازع الأفهام فيها نصوص الشرع :
الأمر الأول :
أن مسائل الاجتهاد لا إنكار فيها .
بمعني أن المسألة إذا تجاذبنها الأدلة ، أو اختلفت الأفهام في مدلول نصوصها ، ولم يكن الصواب واضحاً كالشمس ، فإن علي الطالب أن يذكر ما وصل إليه اجتهاده ، وأداه إليه فهمه ، مع الإجابة عن حجج المخالف ، ويكتفي بهذا القدر لأنه لو أنكر فعل المخالف ، لخرج من يُنكر عليه قوله ، فتصبح المسألة دوراً ، ويشغل المسلمون عما هو أهم من هذه المسائل ، بالإضافة إلي تشتيت أذهان العوام ، وجعلهم في حيرة من أمرهم .
الأمر الثاني
وجوب مراعاة القاعدة الشرعية التالية :
(( إذا تعارض مفسدتان روعي أعظمهما ضرراً بارتكاب أخفهما ))
وكذا القاعدة القائلة (( درء المفاسد أولي من جلب المصالح )) .
وبعد هذا العرض نقول :
اختلف العلماء رحمهم الله تعالي قديماً وحديثاً في القيام للداخل هل يجوز أم يحرم ، أم يجوز في حق أُناس ، ويحرم في حق آخرين ، إلي غير ذلك من الآراء .
وقبل الدخول في هذا الخلاف نحرر محل النزاع ، فنقول : القيام علي أقسام ، وهي :
1- القيام علي الرجل :
بمعني أن يقوم شخص أو أكثر علي شخص جالسٍ كما هو حال الملوك والجبابرة .
فهذا القيام محرم ، لورود النهي عنه صراحة في حديث جابر بن عبد الله ، ونصه قال :
(( اشتكي رسول اللهr فصلينا وراءه وهو قاعد ، وأبو بكر يسمع الناس تكبيره ، فالتفت إلينا فرآنا قياماً ، فأشار إلينا فقعدنا ، فصلينا بصلاته قعوداً ، فلما سلم قال : كدتم أنفاً لتفعلون فعل فارس والروم يقومون علي ملوكهم وهم قعود فلا تفعلوا ... )
أخرجه مسلم في صحيحه ( 1/176 ط الحلبي )
ويستثني من ذلك ما إذا كان القيام لفائدة . قال ابن مفلح في ( الآداب ) ( 1/460 ) : (( وأما القيام لمصلحة أو فائدة ، كقيام معقل بن يسارٍ يرفع غصناً من شجرة عن رأس رسول اللهr وقت البيعة . رواه مسلم وقيام أبي بكر يظله من الشمس : فمستحب )) . ا هـ .
2- القيام للتهنئة أو التعزية :
وهذا القيام جائز لأن النبيr أقر طلحة بن عبيد الله علي قيامه لكعب بن مالك تهنئة له بتوبة الله عليه ، وهذا نص الشاهد من القصة . قال كعب :
(( حتى دخلت المسجد فإذا رسول اللهr جالس في المسجد ، وحوله الناس ، فقام طلحة بن عبيد الله يهرول حتى صافحني وهنأني والله ما قام رجل من المهاجرين غيره ، فكان كعب لا ينساها لطلحة ))
ويلحق بذلك التعزية ، لأنه لما جوز القيام في شدة الفرح ، فالقيام في شدة الحزن أولى والله أعلم .
3- القيام لإعانة العاجز :
وهذا القيام مستحب ، لما ثبت في مسند الإمام أحمد عن عائشة – رضي الله عنها – في قصة بني قريظة ، وفيه ( قال أبو سعيد : فلما طلع – يعني سعد بن معاذ – علي رسول اللهr قال : (( قوموا إلي سيدكم فأنزلوه )) ، فقال عمر : سيدنا الله عز وجل . قال : (( أنزلوه )) ، فأنزلوه . قال الحافظ ابن حجر : سنده صحيح ( الفتح 11/51 )
فهذه الرواية تبين أن الأمر بالقيام إليه إنما هو لأجل إعانته ، لأنه كان مصاباً يوم الخندق ، ففيها استحباب القيام لمساعدة العاجز .
ولو كان القيام المأمور به في هذا الحديث لغير المنى المذكور لما خص الأنصار دون غيرهم . قاله ابن الحجاج في المدخل ( 1/159 ) وقال أيضاً : لو كان القيام لسعد علي سبيل البر والإكرام لكان هوr أول من فعله ، وأمر به من حضر من أكابر الصحابة ، فلما لم يأمر به ، ولا فعله ولا فعلوه ، دل علي أن الأمر بالقيام لغير ما وقع فيه النزاع ، وإنما لينزلوه عن دابته ، لما كان فيه من المرض ... إلخ . ا هـ .
4- قيام الابن لأبيه والزوجة لزوجها ، والعكس :
وهذا القيام جائز ، لما ثبت في صحيح البخاري عن عائشة – رضي الله عنها – في حديث الإفك ، وفيه :
(( فقالت لي أمي : قومي إليه ، فقلت : والله إني لا أقوم إليه إني لا أحمد إلا الله عز وجل )) فأقر النبيr أم عائشة علي هذا ويستفاد منه - أيضاً – القيام للتهنئة ، وقد سبقت .
وعن عائشة – رضي الله عنها – قالت :
ما رأيت أحداً كان أشبه سمتاً ودلاً وهدياً – وقال الحسن – ( حديثاً وكلاماً ) برسول اللهr من فاطمة – رضي الله عنها – كانت إذا دخلت عليه قام إليها فأخذ بيدها فقبلها وأجلسها في مجلسه . وكان إذا دخل عليها قامت إليه فأخذت بيده فقبلته وأجلسته في مجلسها ))
أخرجه أبو داود في سننه ( 20 / البذل )
وقال ابن مفلح في ( الآداب) بعد أن ساق سنده : إسناد صحيح ، ورواه النسائي والترمذي وقال : صحيح غريب من هذا الوجه . ا هـ .
ففي هذا الحديث جواز قيام الابن لأبيه والعكس . وفي معني الأب : الأم والعم والخال والخالة والله أعلم .
وقد سأل حنبل الإمام أحمد – وهي احدي الروايات عنه – فقال : قلت لعمي تري للرجل أن يقوم للرجل إذا رآه ؟ قال : لا يقوم أحد لأحد إلا الولد لوالده أو لأمه . فأما لغير الوالدين فلا ، تهى النبيr عن ذلك . ا هـ من ( الآداب ) لابن مفلح ( 1/463 )
وسئل الإمام مالك عن المرآة تبالغ في إكرام زوجها فتتلقاه ، وتنزع ثيابه ، وتقف حتى يجلس ، فقال أما التلقي فلا بأس وأما القيام حتى يجلس فلا ، فإن هذا فعل الجبابرة . وقد أنكره عمر بن عبد العزيز . ا هـ من ( فتح الباري ) ( 11/51 )
5- القيام للقادم من سفر :
وهذا القيام جائز ، لأن الصحابة كانوا إذا قدموا من سفر تعانقوا . قال ابن مفلح في ( الآداب 1/459 ) : والمعانقة لا تكون إلا بالقيام . ا هـ .
وسأل مُثني أبا عبد الله أحمد بن حنبل : ما تقول في المعانقة ؟ وهل يقوم أحد لأحد في السلام إذا رآه ؟ قال : لا يقوم أحد لأحد في السلام إذا رآه ؟ قال : لا يقوم أحد لأحد وأما إذا قدم من سفر فلا أعلم به بأساً ، إذا كان علي التدين يحبه في الله ، أرجوا ، لحديث جعفر أن النبيr اعتنقه وقبل جلده بين عينيه . ا هـ .
6- القيام للاستقبال عند القدوم :
وهذا القيام لا بأس به وصورته أن يقوم الشخص من مجلسه لاستقبال إنسان قادم عليه . وقد حمل العلامة ابن القيم الأحاديث الواردة في القيام
- كحديث قيام فاطمة للنبيr وقيامها له – علي هذا النوع من القيام . كما قال – رحمه الله تعالي – جمعاً بين الأحاديث الواردة في القيام والناهية عنه :
وأما الأحاديث المتقدمة: فالقيام فيها عارض للقادم ، مع أنه قيام للرجل للقائه ، لا قياماً له وهو وجه حديث فاطمة .
فالمذموم القيام للرجل وأما القيام إليه للتلقي إذا قدم : فلا بأس به . وبهذا تجتمع الأحاديث والله أعلم . ا هـ من (( حاشية السنن )) ( 4/84 )
وقال أيضاً في الحاشية ( 8/93 ) :
ففرق بين القايم للشخص المنهي عنه ، والقيام عليه : المشبه لفعل فارس والروم . والقيام إليه عند قدومه الذي هو سنة العرب ، وأحاديث الجواز تدل عليه فقط . ا هـ .
وقد نقل اللفظ ابن حجر – رحمه الله تعالي – في (( الفتح )) ( 11/51 ) كلاماً لابن القيم وعزاه إلي حاشية السنن )) هذا نصه :
قال – أي ابن القيم – والقيام يتقسم إلى ثلاث مراتب :
قيام علي رأس الرجل . وهو فعل الجبابرة .
وقيام إليه عند قدومه . لا بأس به .
وقيام له عند رؤيته . وهو المتنازع فيه . ا هـ .
7- القيام عند رؤية الرجل :
وذلك بأن يكون الناس في مجلس فيدخل واحد ، فيقومون له ، ويسلمون عليه .
وقد كثر الكلام حول حكم هذه الصورة من صور القيام . والقول الراجح – إن شاء الله تعالي – تحريمها والنهي عنها ، وذلك لورود الأدلة الصحيحة بالزجر عنها ، والترهيب منها ، وما خالف ذلك من الأحاديث فإنه صحيح غير صريح أو صحيح لا دلالة فيه ، أو غير صحيح البتة . ومن الأدلة علي ذلك :
مما رواه الإمام أحمد في مسنده ( 20/353 فتح ) وأبو داود في سننه ( 20/167 بذل ) والترمذي ، وغيرهم ، عن أبي مجلز أن معاوية دخل بيتاً فيه ابن عامر وابن الزبير . فقام ابن عامر وجلس ابن الزبير . فقال معاوية - t – اجلس فإني سمعت رسول اللهr يقول (( من سره أن يتمثل له العباد قياماً فليتبوأ مقعده من النار )) . هذا لفظ أحمد .
قال الترمذي : حديث حسن . ا هـ .
فدل الحديث علي تحريم القيام للداخل عند رؤيته .
ووجه دلالته أن الصحابي الجليل راوي الحديث : معاوية – t – فهم منه تحرم القيام للداخل ، ولم يعترض عليه من كان حاضراً .
وهذا هو المستقر في أذهان الصحابة – t – ولذا لم يقر ابن الزبير لمعاوية لما دخل .
وقد استدل بهذا الحديث علي تحريم القيام في هذه الصورة : العلامة ابن القيم – رحمه الله تعالي – ووضح وجه دلالته الحديث علي المراد ، ورد علي من زعم أن الحديث لا يتناول هذه الصورة . وذلك في حاشيته علي السنن ( 8/93 ) . ويتلخص كلامه فيما يلي :
( أ ) الرد علي من زعم أن هذا الحديث يتناول القيام علي الرجل ، كما هو فعل فارس والروم . وذلك من وجوه :
1- سياق حديث معاوية يدل علي خلاف ذلك .
2- أنهr كان ينهي عن القيام له إذا خرج عليهم .
3- لأن العرب لم يكونوا يعرفوا هذا .
4- لأن هذا لا يقال له : قيام للرجل ، وإنما هو قيام عليه .
( ب) أن هذا الحديث يدل علي تحريم القيام للشخص .
وقال ابن القيم - رحمه الله تعالي – في موضع آخر من (( الحاشية )) ( 8/48 ) علي هذا الحديث :
(( وفيه رد علي من زعم أن معناه : أن يقوم الرجل للرجل في حضرته وهو قاعد ، فإن معاوية روى الخبر لما قاما ([33]) له حين خرج )) . ا هـ .
وقال ابن الحجاج – رحمه الله تعالي – في كتابه (( المدخل )) ( 1/185 ) : (( وانظر – رحمك الله وإيانا – إلي معاوية الذي تلقي الحديث من صاحب الشريعة – صلوات الله وسلامه عليه – كيف نهي عن ذلك علي العموم ، وذلك الذي فهم ، فكان ينبغي أتباعه في فهمه وفقهه )) . ا هـ .
فإن قال قائل : إن قولهr : (( من سره أن يتمثل له الرجال قياماً فليتبوأ مقعده من النار )) .
يدل علي أن الإنسان إذا أحب أن يقوم له الناس ، وقع في الوعيد . أما إذا لم يحب فلا شيء عليه . وكذا لا حرج علي القائم له ، لأن الحديث ليس فيه ذكر له ولا وعيد عليه .
*****
والجواب عن هذه الشبهة يحصل بالمقدمات التالية :
أولاً : أن معرفة من يحب قيام الناس له ، ممن لا يحب ذلك ، أمر يستحيل علي المكلف معرفته .
ثانياً : أن التعاون علي البر والتقوى ، وعدم التعاون علي الإثم والعدوان واجب شرعي ، ويبني عليه من الأحكام ما لا يحصى .
إذا تبين هذا فإن ترك القيام واجب ، سدا للذريعة ، لأنك لا تعلم هل يحب من قمت له ، قيامك ، أم يكرهه . وإذا كنت لا تعلم فترجيح المحظور أحوط ، وهو أنه يحب القيام ، لما جبلت عليه النفوس من محبة التعظيم ، وهذا أحد صوره فيحرم القيام تعاوناً علي البر والتقوى .
ويجلي هذا ويوضحه ما رواه الإمام أحمد في المسند ( 3/132 ) والترمذي ، عن أنس بن مالك – t – قال :
(( ما كان أحد أحب إليهم من رسول اللهr وكانوا إذا رأوه لم يقوموا لما يعلمون من كراهيته لذلك )) .
قال الترمذي : حديث حسن صحيح غريب من هذا الوجه . ا هـ .
فانظر غلي هذا الهدي النبوي العظيم وتأمله ، يتبين لك ما كان عليه النبيr من سد أبواب الذرائع المفضية إلي المعاصي وغيرها .
فها هوr يربي أصحابه علي ترك القيام له ، حتى أصبحوا لا يقومون له ، وهو أحب الناس إلي نفوسهم .
فالأولي بأهل العلم أن يأخذوا بهذا الهدي وينهوا العامة عن القيام لهم ، حتى تنتشر السنة ، وتعلوا رايتها . وما يؤمن أحدهم أن يحب قيام الناس له ، فيدخل صراحة في الوعيد الشديد ، الوارد في الحديث
وماذا علي عامة المسلمين لو علموا بهذا الهدي ، فدرأوا عن علمائهم وصلحائهم وكبرائهم الشر والضرر ؟
إنك لتأسف أسفاً شديداً عندما ترى عالماً يتمعر وجهه إذا لم يقم له ، وإن كلم ، تذرع بأحاديث الجواز – التي لا تصح حجة – ونسي أننا لو سلمنا له الجواز ، فأين مفره من هذا الحديث الذي يبين هدي المصطفيr في القيام . أليس هو أحق الناس بالتأسي برسول اللهr ؟
وفي هذا الهدي النبوي أبلغ ردً علي من زعم أن القيام لأهل العلم ونحوهم علي سبيل البر والإكرام ، مسنون ومندوب ( وذلك أن القيام لو كان إكراماً شرعاً ، لم يجز لهr أن يكرهه من أصحابه له ، وهو أحق الناس بالإكرام ، وهو أحق الناس بحقه عليه الصلاة والسلام ) قاله العلامة المحدث الألباني .
وأما قول القائل أن القائم لا حرج عليه لأن الحديث لم يتعرض لذكره ، ولوعيده .
فجوابه : أن معاوية بن أبي سفيان – راوي الحديث – من فقهاء الصحابة ، وقد استدل بهذا الحديث الذي سمعته أذنه من فم رسول اللهr علي المنع من القيام للداخل ، وأقره علي ذلك ابن الزبير وهو من الصحابة ، وغيره ممن حضر . ففهمهما أحق وأولي من فهم غيرهما ..
والمتأمل يجد أن القائم له نصيب من هذا الحديث جزاء إعانة الشيطان علي أخيه القادم والله أعلم.
تعليق