إن الحمد لله نحمده ،ونستعينه ،من يهده الله فلا مضل له ،ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله ،وحده لا شريك له ، وأن محمدا عبده ورسوله ، أما بعد:
وإنما جعل الله الاعتبار بدور القمر، لان ظهوره في السماء لا يحتاج إلى حساب ولا كتاب، بل هو أمر ظاهر يشاهد بالبصر، بخلاف سير الشمس، فإنه تحتاج معرفته إلى حساب وكتاب، فلم يحوجنا إلى ذلك، كما قال النبي –صلى الله عليه وسلم- (إنا أمة أمية لا نكتب ولا نحسب، الشهر هكذا وهكذا وهكذا، وأشار بأصابعه العشر، وخنس إبهامه في الثالثة، صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته، فإن غم عليكم فأكملوا العدة). وإنما علق الله تعالى على الشمس أحكام اليوم من الصلاة والصيام، حيث كان ذلك أيضا مشاهدا بالبصر لا يحتاج إلى حساب ولا كتاب، فالصلاة تتعلق بطلوع الفجر إلى غروب الشمس. وقوله تعالى: (والحساب)، يعني بالحساب حساب ما يحتاج إليه الناس من مصالح دينهم ودنياهم، كصيامهم وفطرهم، ، وغير ذلك مما يتوقت بالشهور والسنين. وقد قال الله عز وجل:)يسألونك عن الأهلة قل هي مواقيت للناس والحج)، فأخبر أن الأهلة مواقيت للناس عموما، وخص الحج من بين ما يوقت به، للاهتمام به، وجعل الله سبحانه وتعالى في كل يوم وليلة لعباده المؤمنين وظائف موظفة عليهم من وظائف طاعته. فمنها ما هو مفترض كالصلوات الخمس، ومنها ما يندبون إليه من غير افتراض، كنوافل الصلاة والذكر وغير ذلك. وجعل في شهور الأهلة وظائف موظفة أيضا على عباده، كالصيام، والزكاة، والحج. ومنه فرض مفروض عليهم، كصيام رمضان، وحجة الإسلام. ومنه ما هو مندوب، كصيام شعبان، وشوال، والشهر الحرم. وجعل الله سبحانه لبعض الشهور فضلا على بعض، كما قال تعالى:(منها أربعة حرم ذلك الدين القيم فلا تظلموا فيهن أنفسكم)، وقال الله تعالى:(الحج أشهر معلومات)، وقال الله تعالى:(شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن). كما جعل بعض الأيام والليالي أفضل من بعض، وجعل ليلة القدر خيرا من ألف شهر، وأقسم بالعشر، وهو عشر ذي الحجة على الصحيح، وما من هذه المواسم الفاضلة موسم إلا ولله تعالى فيه وظيفة من وظائف طاعته، يتقرب بها إليه، ولله فيه لطيفة من لطائف نفحاته يصيب بها من يعود بفضله ورحمته عليه. فالسعيد من اغتنم مواسم الشهور والأيام والساعات، وتقرب فيها إلى مولاه بما فيها من وظائف الطاعات، فعسى أن تصيبه نفحة من تلك النفحات، فيسعد بها سعادة يأمن بعدها النار وما فيها من اللفحات.
وقد خرج ابن أبي الدنيا والطبراني وغيرهما، من حديث أبي هريرة مرفوعا (أطلبوا الخير دهركم كله، وتعرضوا لنفحات ربكم، فإن لله نفحات من رحمته يصيب بها من يشاء من عباده، وسلوا الله أن يستر عوراتكم ويؤمن روعاتكم) وفي رواية للطبراني من حديث محمد بن مسلمة مرفوعا: (إن لله في أيام الدهر نفحات فتعرضوا لها، فلعل أحدكم أن تصيبه نفحة فلا يشقى بعدها أبدا).ومن أعظم مواسم الخير شهر رمضان المبارك فيه عبادة جليلة هي الصيام ثبت في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي –صلى الله عليه وسلم- قال: (كل عمل ابن آدم له، الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف، قال عز وجل: إلا الصيام فإنه لي وأنا الذي أجزي به، إنه ترك شهوته وطعامه وشرابه من أجلي، للصائم فرحتان: فرحة عند فطره وفرحة عند لقاء ربه، ولخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك) وفي رواية: (كل عمل ابن آدم له إلا الصيام فإنه لي) وفي رواية للبخاري: (لكل عمل كفارة، والصوم لي وأنا الذي أجزي به) وخرجه الإمام أحمد من هذا الوجه ولفظه: (كل عمل ابن آدم له كفارة إلا الصوم والصوم لي وأنا أجزي به). واعلم أن مضاعفة الأجر للأعمال تكون بأسباب:منها: شرف المكان المعمولفيه ذلك العمل كالحرم، ولذلك تضاعف الصلاة في مسجدي مكة والمدينة، كما ثبت ذلك في الحديث الصحيح عن النبي -صلى الله عليه وسلم -قال: (صلاة في مسجدي هذا خير من ألف صلاة فيما سواه من المساجد إلا المسجد الحرام) ومنها: شرف الزمان، كشهر رمضان وعشر ذي الحجة) مثل ماجاء في الصحيحين عن النبي -صلى الله عليه وسلم-قال: (عمرة في رمضان تعدل بحجة) فإن الله خص الصيام بإضافته إلى نفسه دون سائر الأعمال وهو سر بين العبد وربه لا يطلع عليه غيره، لأنه مركب من نية باطنة لا يطلع عليها إلا الله، الصائم تقرب إلى الله بترك ما تشتهيه نفسه من الطعام والشراب والنكاح، وهذه أعظم شهوات النفس، وفي التقرب بترك هذه الشهوات بالصيام فوائد:
منها: كسر النفس، فإن الشبع والري ومباشرة النساء تحمل النفس على الأشر والبطر والغفلة.
ومنها تخلي القلب للفكر والذكر، فإن تناول هذه الشهوات قد تقسي القلب وتعميه، وتحول بين العبد وبين الذكر والفكر، وتستدعي الغفلة، وخلو الباطن من الطعام والشراب ينور القلب، ويوجب رقته، ويزيل قسوته، ويخليه للذكر والفكر.
ومنها: أن الغني يعرف قدر نعمة الله عليه بإقداره له على ما منعه كثيرا من الفقراء من فضول الطعام والشراب والنكاح، فإنه بامتناعه من ذلك في وقت مخصوص، وحصول المشقة له بذلك يتذكر به من منع من ذلك على الإطلاق، فيوجب له ذلك شكر نعمة الله عليه بالغنى، ويدعوه إلى رحمة أخيه المحتاج، ومواساته بما يمكن من ذلك.
ومنها: أن الصيام يضيق مجاري الدم التي هي مجاري الشيطان من ابن آدم، فإن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم، فتسكن بالصيام وساوس الشيطان، وتنكسر سورة الشهوة والغضب، ولهذا جعل النبي –صلى الله عليه وسلم- (الصوم وجاء) لقطعه عن شهوة النكاح.
واعلم أنه لا يتم التقرب إلى الله تعالى بترك هذه الشهوات المباحة في غير حالة الصيام إلا بعد التقرب إليه، بترك ما حرم الله في كل حال من الكذب والظلم والعدوان على الناس في دمائهم وأموالهم وأعراضهم، ولهذا قال النبي –صلى الله عليه وسلم- (من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه) خرجه البخاري وفي حديث آخر: (ليس الصيام من الطعام والشراب إنما الصيام من اللغو والرفث). قال الحافظ أبوموسى المديني: على شرط مسلم. قال بعض السلف: أهون الصيام ترك الشراب والطعام. وقال جابر: إذا صمت فليصم سمعك وبصرك ولسانك عن الكذب والمحارم، ودع أذى الجار، وليكن عليك وقار وسكينة يوم صومك، ولا تجعل يوم صومك ويوم فطرك سواء.
وقوله –صلى الله عليه وسلم -: (وللصائم فرحتان: فرحة عند فطره وفرحة عند لقاء ربه) أما فرحة الصائم عند فطره، فإن النفوس مجبولة على الميل إلى ما يلائمها من مطعم ومشرب ومنكح، فإذا منعت من ذلك في وقت من الأوقات ثم أبيح لها في وقت آخر، فرحت بإباحة ما منعت منه، خصوصا عند اشتداد الحاجة إليه، فإن النفوس تفرح بذلك طبعا. فإن كان ذلك محبوبا لله كان محبوبا شرعا، والصائم عند فطره كذلك فكما أن الله تعالى حرم على الصائم في نهار الصيام تناول هذه الشهوات فقد أذن له فيها في ليل الصيام، بل أحب منه المبادرة إلى تناولها في أول الليل وآخره، فأحب عباده إليه أعجلهم فطرا، والله وملائكته يصلون على المتسحرين، فالصائم ترك شهواته لله بالنهار تقربا إلى الله وطاعة له، وبادر إليها في الليل تقربا إلى الله وطاعة له، فما تركها إلا بأمر ربه، ولا عاد إليها إلا بأمر ربه، فهو مطيع له في الحالين.
ولهذا نهى عن الوصال في الصيام، فإذا بادر الصائم إلى الفطر تقربا إلى مولاه، وأكل وشرب وحمد الله فإنه يرجى له المغفرة أو بلوغ الرضوان بذلك. وفي الحديث: (إن الله ليرضى عن عبده أن يأكل الأكلة فيحمده عليها، ويشرب الشربة فيحمده عليها)
فالصائم في ليله ونهاره في عبادة، ويستجاب دعاؤه في صيامه وعند فطره، فهو في نهاره صائم صابر، وفي ليله طاعم شاكر. وأما فرحه عند لقاء ربه: فيما يجده عند الله من ثواب الصيام مدخرا، فيجده أحوج ما كان إليه كما قال تعالى: (وما تقدموا لأنفسكم من خير تجدوه عند الله هو خيرا وأعظم أجرا) وقال تعالى: (يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضرا) وقال: (فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره) وقد تقدم قول ابن عيينة: أن ثواب الصيام لا يأخذه الغرماء في المظالم، بل يدخره الله عنده للصائم حتى يدخله به الجنة. والصائمون على طبقتين: إحداهما: من ترك طعامه وشرابه وشهوته لله تعالى، يرجو عنده عوض ذلك في الجنة، فهذا قد تاجر مع الله وعامله والله تعالى (لا نضيع أجر من أحسن عملا) ولا يخيب معه من عامله بل يربح عليه أعظم الربح، وقال رسول الله –صلى الله عليه وسلم-: (إنك لن تدع شيئا اتقاء الله إلا آتاك الله خيرا منه) خرجه الإمام أحمد. فهذا الصائم يعطى في الجنة ما شاء الله من طعام وشراب ونساء. قال الله تعالى: (كلوا واشربوا هنيئا بما أسلفتم في الأيام الخالية) قال مجاهد وغيره: نزلت في الصائمين..
وفي الصحيحين عن النبي -صلى الله عليه وسلم -قال: (إن في الجنة بابا يقال له الريان، يدخل منه الصائمون لا يدخل منه غيرهم)
الطبقة الثانية من الصائمين: من يصوم في الدنيا عما سوى الله، فيحفظ الرأس وما حوى، ويحفظ البطن وما وعى، ويذكر الموت والبلى، ويريد الآخرة فيترك زينة الدنيا، فهذا عيد فطره يوم لقاء ربه وفرحه برؤيته و العارفون لا يسليهم عن رؤية مولاهم قصر، ولا يرويهم دون مشاهدته نهر، هممهم أجلّ من ذلك:من صام عن شهواته في الدنيا أدركها غدا في الجنة، ومن صام عما سوى الله فعيده يوم لقائه، من كان يرجو لقاء الله فإن أجل الله لآت.
يتبع ان شاء الله
</i>
تعليق