إعـــــــلان

تقليص
1 من 3 < >

تحميل التطبيق الرسمي لموسوعة الآجري

2 من 3 < >

الإبلاغ عن مشكلة في المنتدى

تساعدنا البلاغات الواردة من الأعضاء على منتدى الآجري في تحديد المشكلات وإصلاحها في حالة توقف شيء ما عن العمل بشكل صحيح.
ونحن نقدّر الوقت الذي تستغرقه لتزويدنا بالمعلومات عبر مراسلتنا على بريد الموقع ajurryadmin@gmail.com
3 من 3 < >

فهرسة جميع الشروح المتوفرة على شبكة الإمام الآجري [مبوبة على حسب الفنون] أدخل يا طالب العلم وانهل من مكتبتك العلمية

بسم الله والصلاة والسلام على رسول الله -صلى الله عليه - وعلى آله ومن ولاه وبعد :

فرغبة منا في تيسير العلم واشاعته بين طلابه سعينا لتوفير جميع المتون وشروحها المهمة لتكوين طلبة العلم ، وقد قطعنا شوطا لابأس به في ذلك ولله الحمد والمنة وحده ، إلا أنه إلى الآن يعاني بعض الأعضاء والزوار من بعض الصعوبات في الوصول للشروح والمتون المرادة لتداخل الشروح أو لقلة الخبرة التقنية .

من أجل هذا وذاك جاء هذا الموضوع ليكون موضوعا مرجعا جامعا مرتبا بإذن الله لكل المواد العلمية الموضوعة حاليا في شبكتنا ومرتبا على حسب أبواب الفنون العلمية (العقيدة، الفقه، الحديث،...)وسنحاول أيضا ترتيبها على مستويات الطلب (المبتدئ ، المتوسط ، المنتهي) سيتم تحديثه تبعا بعد إضافة أي شرح جديد .

من هـــــــــــنا
شاهد أكثر
شاهد أقل

فضل الصيام

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • فضل الصيام

    لطائف المعارف فيما لمواسم العام من وظائف للامم ابن رجب الحنبلي ص130-142
    فضل الصيام
    ثبت في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبيصلى الله عليه وسلمقال: (كل عمل ابن آدم له، الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف، قال عز وجل: إلا الصيام فإنه لي وأنا الذي أجزي به، إنه ترك شهوته وطعامه وشرابه من أجلي، للصائم فرحتان: فرحة عند فطره وفرحة عند لقاء ربه، ولخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك) وفي رواية: (كل عمل ابن آدم له إلا الصيام فإنه لي) وفي رواية للبخاري: (لكل عمل كفارة، والصوم لي وأنا الذي أجزي به) وخرجه الإمام أحمد من هذا الوجه ولفظه: (كل عمل ابن آدم له كفارة إلا الصوم والصوم لي وأنا أجزي به).
    فعلى الرواية الأولى: يكون استثناء الصوم من الأعمال المضاعفة، فتكون الأعمال كلها تضاعف بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف إلا الصيام، فإنه لا ينحصر تضعيفه في هذا العدد بل يضاعفه الله عز وجل أضعافا كثيرة بغير حصر عدد، فإن الصيام من الصبر، وقد قال الله تعالى: (إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب) ولهذا ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم: (أنه سمى شهر رمضان شهر الصبر) وفي حديث آخر عنه صلى الله عليه وسلمقال: (الصوم نصف الصبر) خرجه الترمذي.
    والصبر ثلاثة أنواع: صبر على طاعة الله، وصبر عن محارم الله، وصبر على أقدار الله المؤلمة.وتجتمع الثلاثة في الصوم، فإن فيه صبرا على طاعة الله، وصبرا عما حرم الله على الصائم من الشهوات، وصبرا على ما يحصل للصائم فيه من ألم الجوع والعطش وضعف النفس والبدن، وهذا الألم الناشئ من أعمال الطاعات يثاب عليه صاحبه كما قال الله تعالى في المجاهدين: (ذلك بأنهم لا يصيبهم ظمأ ولا نصب ولا مخمصة في سبيل الله ولا يطؤون موطئا يغيظ الكفار ولا ينالون من عدو نيلا إلا كتب لهم به عمل صالح، إن الله لا يضيع أجر المحسنين) وفي حديث سلمان المرفوع الذي أخرجه ابن خزيمة في صحيحه في فضل شهر رمضان: (وهو شهر الصبر والصبر ثوابه الجنة) وفي الطبراني عن ابن عمر مرفوعا: (الصيام لا يعلم ثواب عمله إلا الله عز وجل) وروي مرسلا وهو أصح.
    واعلم أن مضاعفة الأجر للأعمال تكون بأسباب:منها: شرف المكان المعمول فيه ذلك العمل كالحرم، ولذلك تضاعف الصلاة في مسجدي مكة والمدينة، كما ثبت ذلك في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلمقال: (صلاة في مسجدي هذا خير من ألف صلاة فيما سواه من المساجد إلا المسجد الحرام) وفي رواية: (فإنه أفضل) وكذلك روي: (أن الصيام يضاعف بالحرم). وفي سنن ابن ماجة بإسناد ضعيف عن ابن عباس مرفوعا: (من أدرك رمضان بمكة فصامه وقام منه ما تيسر كتب الله له مائة ألف شهر رمضان فيما سواه) وذكر له ثوابا كثيرا.
    ومنها: شرف الزمان، كشهر رمضان وعشر ذي الحجة. وفي حديث سلمان الفارسي المرفوع الذي أشرنا إليه في فضل شهر رمضان: (من تطوع فيه بخصلة من خصال الخير كان كمن أدى فريضة فيما سواه، ومن أدى فيه فريضة كان كمن أدى سبعين فريضة فيما سواه) وفي الترمذي عن أنس: سئل النبي صلى الله عليه وسلمأي الصدقة أفضل ؟ قال: (صدقة في رمضان) وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلمقال: (عمرة في رمضان تعدل بحجة) أو قال: (حجة معي) وورد في حديث آخر: (أن عمل الصائم مضاعف) وذكر أبوبكر بن أبي مريم عن أشياخه أنهم كانوا يقولون: إذا حضر شهر رمضان فانبسطوا فيه بالنفقة، فإن النفقة فيه مضاعفة كالنفقة في سبيل الله، وتسبيحة فيه أفضل من ألف تسبيحة. في غيره قال النخعي: صوم يوم من رمضان أفضل من ألف يوم، وتسبيحة فيه أفضل من ألف تسبيحة، وركعة فيه أفضل من ألف ركعة.
    فلما كان الصيام في نفسه مضاعفا أجره بالنسبة إلى سائر الأعمال كان صيام شهر رمضان مضاعفا على سائر الصيام لشرف زمانه، وكونه هو الصوم الذي فرضه الله على عباده، وجعل صيامه أحد أركان الإسلام التي بني الإسلام عليها، وقد يضاعف الثواب بأسباب أخر، منها: شرف العامل عند الله وقربه منه، وكثرة تقواه، كما ضوعف أجر هذه الأمة على أجور من قبلهم من الأمم، وأعطوا كفلين من الأجر.
    وأما على الرواية الثانية: فاستثناء الصيام من بين الأعمال، يرجع إلى أن سائر الأعمال للعباد، والصيام اختصه الله تعالى لنفسه من بين أعمال عباده وأضاف إليه، وسيأتي ذكر توجيه هذا الاختصاص إن شاء الله تعالى.
    وأما على الرواية الثالثة: فالاستثناء يعود إلى التكفير بالأعمال، ومن أحسن ما قيل في معنى ذلك ما قاله سفيان بن عيينة رحمه الله قال: هذا من أجود الأحاديث وأحكمها: (إذا كان يوم يوم القيامة يحاسب الله عبده، ويؤدي ما عليه من المظالم من سائر عمله حتى لا يبقى إلا الصوم، فيتحمل الله عز وجل ما بقي عليه من المظالم، ويدخله بالصوم الجنة) خرجه البيهقي في شعب الإيمان وغيره. وعلى هذا فيكون المعنى: أن الصيام لله عز وجل، فلا سبيل لأحد إلى أخذ أجره من الصيام، بل أجره مدخر لصاحبه عند الله عز وجل، وحينئذ فقد يقال: إن سائر الأعمال قد يكفر بها ذنوب صاحبها فلا يبقى لها أجر، فإنه روي: (أنه يوازن يوم القيامة بين الحسنات والسيئات، ويقص بعضها من بعض، فإن بقي من الحسنات حسنة دخل بها صاحبها إلى الجنة) قاله سعيد بن جبير وغيره، وفيه حديث مرفوع خرجه الحاكم من حديث ابن عباس مرفوعا، فيحتمل أن يقال في الصوم: إنه لا يسقط ثوابه بمقاصة ولا غيرها، بل يوفر أجره لصاحبه حتى يدخل الجنة فيوفى أجره فيها.
    وأما قوله: (فإنه لي) فإن الله خص الصيام بإضافته إلى نفسه دون سائر الأعمال، وقد كثر القول في معنى ذلك من الفقهاء والصوفية وغيرهم، وذكروا فيه وجوها كثيرة، ومن أحسن ما ذكر فيه وجهان:
    أحدهما: أن الصيام هو مجرد ترك حظوظ النفس وشهواتها الأصلية التي جبلت على الميل إليها لله عز وجل، ولا يوجد ذلك في عبادة أخرى غير الصيام، لأن الإحرام إنما يترك فيه الجماع ودواعيه من الطيب دون سائر الشهوات من الأكل والشرب، وكذلك الاعتكاف مع أنه تابع للصيام، وأما الصلاة فإنه وإن ترك المصلي فيها جميع الشهوات إلا أن مدتها لا تطول، فلا يجد المصلي فقد الطعام والشراب في صلاته، بل قد نهي أن يصلي ونفسه تشوق إلى طعام بحضرته حتى يتناول منه ما يسكن نفسه، ولهذا أمر بتقديم العشاء على الصلاة.
    وذهبت طائفة من العلماء إلى إباحة شرب الماء في صلاة التطوع، وكان ابن الزبير يفعله في صلاته وهو رواية عن الإمام أحمد، وهذا بخلاف الصيام فإنه يستوعب النهار كله، فيجد الصائم فقد هذه الشهوات، وتشوق نفسه إليها خصوصا في نهار الصيف لشدة حره وطوله. ولهذا روي: (أن من خصال الإيمان الصوم في الصيف) وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلميصوم رمضان في السفر في شدة الحر دون أصحابه، كما قال أبوالدرداء: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلمفي رمضان في سفر، وأحدنا يضع يده على رأسه من شدة الحر، وما فينا صائم إلا رسول الله صلى الله عليه وسلموعبد الله بن رواحة. وفي الموطأ: إنه صلى الله عليه وسلمكان بالعرج يصب الماء على رأسه وهو صائم من العطش أوالحر، فإذا اشتد توقان النفس إلى ما تشتهيه مع قدرتها عليه ثم تركته لله عز وجل في موضع لا يطلع عليه إلا الله. كان ذلك دليلا على صحة الإيمان، فإن الصائم يعلم أن له ربا يطلع عليه في خلوته، وقد حرم عليه أن يتناول شهواته المجبول على الميل إليها في الخلوة، فأطاع ربه وامتثل أمره، واجتنب نهيه خوفا من عقابه، ورغبة في ثوابه، فشكر الله تعالى له ذلك، واختص لنفسه عمله هذا من بين سائر أعماله، ولهذا قال بعد ذلك: (إنه إنما ترك شهواته وطعامه وشرابه من أجلي) قال بعض السلف: طوبى لمن ترك شهوة حاضرة لموعد غيب لم يره.
    لما علم المؤمن الصائم أن رضا مولاه في ترك شهواته قدم رضا مولاه على هواه، فصارت لذته في ترك شهواته لله لإيمانه باطلاع الله عليه، وثوابه أعظم من لذته في تناولها في الخلوة إيثارا لرضا ربه على هوى نفسه، بل المؤمن يكره ذلك في خلوته أشد من كراهته لألم الضرب، ولهذا كثير من المؤمنين لو ضرب على أن يفطر في شهر رمضان لغير عذر لم يفعل، لعلمه لكراهة الله لفطره في هذا الشهر، وهذا من علامات الإيمان أن يكره المؤمن ما يلائمه من شهواته إذا علم أن الله يكره، فتصير لذته فيما يرضى مولاه، وإن كان مخالفا لهواه ويكون ألمه فيما يكره مولاه، وإن كان موافقا لهواه، وإذا كان هذا فيما حرم لعارض الصوم من الطعام والشراب ومباشرة النساء، فينبغي أن يتأكد ذلك فيما حرم على الإطلاق: كالزنا وشرب الخمر وأخذ الأموال أو الأعراض بغير حق وسفك الدماء المحرمة، فإن هذا يسخط الله على كل حال وفي كل زمان ومكان، فإذا كمل إيمان المؤمن كره ذلك كله أعظم من كراهته للقتل والضرب، ولهذا جعل النبي صلى الله عليه وسلممن علامات وجود حلاوة الإيمان أن يكره أن يرجع إلى الكفر بعد أن أنقذه الله كما يكره أن يلقى في النار.
    وقال يوسف عليه السلام: (رب السجن أحب إلي مما يدعونني إليه).
    سئل ذوالنون المصري: متى أحب ربي ؟ قال: إذا كان ما يكرهه أمرّ عندك من الصبر. وقال غيره: ليس من أعلام المحبة أن تحب ما يكرهه حبيبك. وكثير من الناس يمشي على العوائد دون ما يوجبه الإيمان ويقتضيه، فلهذا كثير منه لو ضرب ما أفطر في رمضان لغير عذر، ومن جهالهم من لا يفطر لعذر ولو تضرر بالصوم مع أن الله يحب منه أن يقبل رخصته جريا على العادة، وقد اعتاد مع ذلك ما حرم الله من الزنا وشرب الخمر وأخذ الأموال والأعراض أو الدماء بغير حق، فهذا يجري على عوائده في ذلك كله لا على مقتضى الإيمان، ومن عمل بمقتضى الإيمان صارت لذته في مصابرة نفسه عما تميل نفسه إليه إذا كان فيه سخط الله، وربما يرتقي إلى أن يكره جميع ما يكره الله منه، وينفر منه وإن كان ملائما للنفوس. كما قيل:
    إن كان رضاكم في سهري



    فسلام الله على وسني


    وقال آخر:
    عذابه فيك عذاب



    وبعده فيك قرب


    وأنت عندي كروحي



    بل أنت منها أحب



    حسبي من الحب أني



    لما تحب أحب


    الوجه الثاني: إن الصيام سر بين العبد وربه لا يطلع عليه غيره، لأنه مركب من نية باطنة لا يطلع عليها إلا الله، وترك لتناول الشهوات التي يستخفى بتناولها في العادة، ولذلك قيل: لا تكتبه الحفظة. وقيل: إنه ليس فيه رياء. كذا قاله الإمام أحمد وغيره. وفيه حديث مرفوع مرسل، وهذا الوجه اختيار أبي عبيد وغيره، وقد يرجع إلى الأول فإن من ترك ما تدعوه نفسه إليه لله عز وجل حيث لا يطلع عليه غير من أمره ونهاه دل على صحة إيمانه، والله تعالى يحب من عباده أن يعاملوه سرا بينهم وبينه، وأهل محبته يحبون أن يعاملوه سرا بينهم وبينه، بحيث لا يطلع على معاملتهم إياه سواه حتى كان بعضهم يود لو تمكن من عبادة لا تشعر بها الملائكة الحفظة. وقال بعضهم: لما اطلع على بعض سرائره إنما كانت تطيب الحياة لما كانت المعاملة بيني وبينه سرا ثم دعا لنفسه بالموت فمات. المحبون يغارون من اطلاع الأغيار على الأسرار التي بينهم وبين من يحبهم ويحبونه.
    نسيم صبا نجد متى جئت حاملا



    تحيتهم فاطو الحديث عن الركب


    ولا تذع السر المصون فإنني



    أغار على ذكر الأحبة من صحبي


    وقوله: (ترك شهوته وطعامه وشرابه من أجلي): فيه إشارة إلى المعنى الذي ذكرناه، وأن الصائم تقرب إلى الله بترك ما تشتهيه نفسه من الطعام والشراب والنكاح، وهذه أعظم شهوات النفس، وفي التقرب بترك هذه الشهوات بالصيام فوائد:
    منها: كسر النفس، فإن الشبع والري ومباشرة النساء تحمل النفس على الأشر والبطر والغفلة.
    ومنها تخلي القلب للفكر والذكر، فإن تناول هذه الشهوات قد تقسي القلب وتعميه، وتحول بين العبد وبين الذكر والفكر، وتستدعي الغفلة، وخلو الباطن من الطعام والشراب ينور القلب، ويوجب رقته، ويزيل قسوته، ويخليه للذكر والفكر.
    ومنها: أن الغني يعرف قدر نعمة الله عليه بإقداره له على ما منعه كثيرا من الفقراء من فضول الطعام والشراب والنكاح، فإنه بامتناعه من ذلك في وقت مخصوص، وحصول المشقة له بذلك يتذكر به من منع من ذلك على الإطلاق، فيوجب له ذلك شكر نعمة الله عليه بالغنى، ويدعوه إلى رحمة أخيه المحتاج، ومواساته بما يمكن من ذلك.
    ومنها: أن الصيام يضيق مجاري الدم التي هي مجاري الشيطان من ابن آدم، فإن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم، فتسكن بالصيام وساوس الشيطان، وتنكسر سورة الشهوة والغضب، ولهذا جعل النبي صلى الله عليه وسلم(الصوم وجاء) لقطعه عن شهوة النكاح.
    واعلم أنه لا يتم التقرب إلى الله تعالى بترك هذه الشهوات المباحة في غير حالة الصيام إلا بعد التقرب إليه، بترك ما حرم الله في كل حال من الكذب والظلم والعدوان على الناس في دمائهم وأموالهم وأعراضهم، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه) خرجه البخاري وفي حديث آخر: (ليس الصيام من الطعام والشراب إنما الصيام من اللغو والرفث). قال الحافظ أبوموسى المديني: على شرط مسلم. قال بعض السلف: أهون الصيام ترك الشراب والطعام. وقال جابر: إذا صمت فليصم سمعك وبصرك ولسانك عن الكذب والمحارم، ودع أذى الجار، وليكن عليك وقار وسكينة يوم صومك، ولا تجعل يوم صومك ويوم فطرك سواء.
    إذا لم يكن في السمع مني تصاون



    وفي بصري غض وفي منطقي

    صمت

    فحظي إذا من صومي الجوع
    والظمأ


    فإن قلت إني صمت يومي صمت


    وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (رب صائم حظه من صيامه الجوع والعطش، ورب قائم حظه من قيامه السهر) وسر هذا: أن التقرب إلى الله تعالى بترك المباحات لا يكمل إلا بعد التقرب إليه بترك المحرمات، فمن ارتكب المحرمات ثم تقرب إلى الله تعالى بترك المباحات كان بمثابة من يترك الفرائض ويتقرب بالنوافل، وإن كان صومه مجزئا عند الجمهور، بحيث لا يؤمر بإعادته لأن العمل إنما يبطل بارتكاب ما نهي عنه فيه لخصوصه دون ارتكاب ما نهي عنه لغير معنى يختص به. هذا هو قول جمهور العلماء.
    وفي مسند الإمام أحمد: أن امرأتين صامتا في عهد النبي صلى الله عليه وسلمفكادتا أن تموتا من العطش فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلمفأعرض، ثم ذكرتا له فدعاهما فأمرهما أن تتقيآ، فقاءتا ملء قدح قيحا ودما وصديدا ولحما عبيطا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن هاتين صامتا عما أحل الله لهما، وأفطرتا على ما حرم الله عليهما، جلست إحداهما إلى الأخرى فجعلتا تأكلان في لحوم الناس).
    ولهذا المعنى والله أعلم ورد في القرآن بعد ذكر تحريم الطعام والشراب على الصائم بالنهار ذكر تحريم أكل أموال الناس بالباطل، فإن تحريم هذا عام في كل زمان ومكان، بخلاف الطعام والشراب فكان إشارة إلى أن من امتثل أمر الله في اجتناب الطعام والشراب في نهار صومه، فليمتثل أمره في اجتناب أكل الأموال بالباطل، فإنه محرم بكل حال لا يباح في وقت من الأوقات.
    وقوله صلى الله عليه وسلم: (وللصائم فرحتان: فرحة عند فطره وفرحة عند لقاء ربه) أما فرحة الصائم عند فطره، فإن النفوس مجبولة على الميل إلى ما يلائمها من مطعم ومشرب ومنكح، فإذا منعت من ذلك في وقت من الأوقات ثم أبيح لها في وقت آخر، فرحت بإباحة ما منعت منه، خصوصا عند اشتداد الحاجة إليه، فإن النفوس تفرح بذلك طبعا. فإن كان ذلك محبوبا لله كان محبوبا شرعا، والصائم عند فطره كذلك فكما أن الله تعالى حرم على الصائم في نهار الصيام تناول هذه الشهوات فقد أذن له فيها في ليل الصيام، بل أحب منه المبادرة إلى تناولها في أول الليل وآخره، فأحب عباده إليه أعجلهم فطرا، والله وملائكته يصلون على المتسحرين، فالصائم ترك شهواته لله بالنهار تقربا إلى الله وطاعة له، وبادر إليها في الليل تقربا إلى الله وطاعة له، فما تركها إلا بأمر ربه، ولا عاد إليها إلا بأمر ربه، فهو مطيع له في الحالين.
    ولهذا نهى عن الوصال في الصيام، فإذا بادر الصائم إلى الفطر تقربا إلى مولاه، وأكل وشرب وحمد الله فإنه يرجى له المغفرة أو بلوغ الرضوان بذلك. وفي الحديث: (إن الله ليرضى عن عبده أن يأكل الأكلة فيحمده عليها، ويشرب الشربة فيحمده عليها) وربما استجيب دعاؤه عند ذلك كما جاء في الحديث المرفوع الذي خرجه ابن ماجه: (إن للصائم عند فطره دعوة ما ترد، وإن نوى بأكله وشربه تقوية بدنه على القيام والصيام كان مثابا على ذلك، كما أنه إذا نوى بنومه في الليل والنهار التقوّي على العمل كان نومه عبادة) وفي حديث مرفوع: (نوم الصائم عبادة). قالت حفصة بنت سيرين: قال أبوالعالية: الصائم في عبادة ما لم يغتب أحدا وإن كان نائما على فراشه، فكانت حفصة تقول: يا حبذا عبادة وأنا نائمة على فراشي. خرجه عبد الرزاق.
    فالصائم في ليله ونهاره في عبادة، ويستجاب دعاؤه في صيامه وعند فطره، فهو في نهاره صائم صابر، وفي ليله طاعم شاكر. وفي الحديث الذي خرجه الترمذي وغيره: (الطاعم الشاكر بمنزلة الصائم الصابر) ومن فهم هذا الذي أشرنا إليه لم يتوقف في معنى فرح الصائم عند فطره، فإن فطره على الوجه المشار إليه من فضل الله ورحمته، فيدخل في قول الله تعالى: (قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا هو خير مما يجمعون) ولكن شرط ذلك أن يكون فطره على حلال، فإن كان فطره على حرام كان ممن صام عما أحل الله، وأفطر على ما حرم الله، ولم يستجب له دعاء كما قال النبي صلى الله عليه وسلمفي الذي يطيل السفر، يمد يديه إلى السماء: يا رب! يا رب! ومطعمه حرام، ومشربه حرام، وملبسه حرام، وغذّي بالحرام، فأنى يستجاب لذلك!).
    فرحة الصائم عند لقاء ربه
    وأما فرحه عند لقاء ربه: فيما يجده عند الله من ثواب الصيام مدخرا، فيجده أحوج ما كان إليه كما قال تعالى: (وما تقدموا لأنفسكم من خير تجدوه عند الله هو خيرا وأعظم أجرا) وقال تعالى: (يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضرا) وقال: (فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره) وقد تقدم قول ابن عيينة: أن ثواب الصيام لا يأخذه الغرماء في المظالم، بل يدخره الله عنده للصائم حتى يدخله به الجنة. وفي المسند عن عقبة بن عامر عن النبي صلى الله عليه وسلمقال: (ليس من عمل يوم إلا يختم عليه).
    وعن عيسى عليه السلام قال: إن هذا الليل والنهار خزانتان فانظروا ما تضعون فيهما، فالأيام خزائن للناس ممتلئة بما خزنوه فيها من خير وشر، وفي يوم القيامة تفتح هذه الخزائن لأهلها، فالمتقون يجدون في خزائنهم العز والكرامة، والمذنبون يجدون في خزائنهم الحسرة والندامة.
    والصائمون على طبقتين: إحداهما: من ترك طعامه وشرابه وشهوته لله تعالى، يرجو عنده عوض ذلك في الجنة، فهذا قد تاجر مع الله وعامله والله تعالى (لا نضيع أجر من أحسن عملا) ولا يخيب معه من عامله بل يربح عليه أعظم الربح، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إنك لن تدع شيئا اتقاء الله إلا آتاك الله خيرا منه) خرجه الإمام أحمد. فهذا الصائم يعطى في الجنة ما شاء الله من طعام وشراب ونساء. قال الله تعالى: (كلوا واشربوا هنيئا بما أسلفتم في الأيام الخالية) قال مجاهد وغيره: نزلت في الصائمين.
    قال يعقوب بن يوسف الحنفي: بلغنا أن الله تعالى يقول لأوليائه يوم القيامة: يا أوليائي طالما نظرت إليكم في الدنيا وقد قلصت شفاهكم عن الأشربة، وغارت أعينكم، وجفت بطونكم، كونوا اليوم في نعيمكم، وتعاطوا الكأس فيما بينكم: (كلوا واشربوا هنيئا بما أسلفتم في الأيام الخالية). وقال الحسن: تقول الحوراء لولي الله وهو متكئ معها على نهر العسل تعاطيه الكأس: إن الله نظر إليك في يوم صائف بعيد ما بين الطرفين، وأنت في ظمأ هاجرة من جهد العطش، فباهى بك الملائكة وقال: انظروا إلى عبدي ترك زوجته وشهوته ولذته وطعامه وشرابه من أجلي، رغبة فيما عندي، اشهدوا إني قد غفرت له، فغفر لك يومئذ وزوجنيك.
    وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلمقال: (إن في الجنة بابا يقال له الريان، يدخل منه الصائمون لا يدخل منه غيرهم) وفي رواية: (فإذا دخلوا أغلق) وفي رواية: (من دخل منه شرب ومن شرب لم يظمأ أبدا) وفي حديث عبد الرحمن بن سمرة عن النبي صلى الله عليه وسلمفي منامه الطويل قال: ورأيت رجلا من أمتي يلهث عطشا، كلما ورد حوضا منع منه، فجاءه صيام رمضان فسقاه وأرواه) خرجه الطبراني وغيره.
    وروى ابن أبي الدنيا بإسناد فيه ضعف، عن أنس مرفوعا: (الصائمون ينفح من أفواههم ريح المسك، ويوضع لهم مائدة تحت العرش يأكلون منها والناس في الحساب).
    وعن أنس موقوفا: إن لله مائدة لم تر مثلها عين، ولم تسمع أذن، ولا خطر على قلب بشر، لا يقعد عليها إلا الصائمون) وعن بعض السلف قال: بلغنا أنه يوضع للصوام مائدة يأكلون عليها والناس في الحساب. فيقولون: يا رب نحن نحاسب وهم يأكلون. فيقال: إنهم طالما صاموا وأفطرتم، وقاموا ونمتم.
    رأى بعضهم بشر بن الحارث في المنام وبين يديه مائدة وهو يأكل. ويقال له: كل يا من لم يأكل، واشرب يا من لم يشرب.كان بعض الصالحين قد صام حتى انحنى وانقطع صوته فمات، فرآه بعض أصحابه في المنام فسئل عن حاله فضحك، وأنشد:
    قد كسي حلة البهاء وطافت



    بأباريق حوله الخدام


    ثم حلى وقيل يا قاريء ارقه



    فلعمري لقد براك الصيام


    اجتاز بعض الصالحين بمناد ينادي على السحور في رمضان: يا ما خبأنا للصوام، فتنبه بهذه الكلمة وأكثر من الصيام. رأى بعض العارفين في منامه كأنه أدخل الجنة فسمع قائلا يقول له: هل تذكر أنك صمت لله يوما قط؟ فقال: نعم. قال: فأخذتني صوانيء النثار من الجنة، من ترك لله في الدنيا طعاما وشرابا وشهوة مدة يسيرة عوضه الله عنده طعاما وشرابا لا ينفذ، وأزواجا لا يمتن أبدا. شهر رمضان فيه يزوج الصائمون في الحديث: (إن الجنة لتزخرف وتنجد من الحول إلى الحول لدخول رمضان، فتقول الحور: يا رب اجعل لنا في هذا الشهر من عبادك أزواجا تقرّ أعيننا بهم، وتقرّ أعينهم بنا) وفي حديث آخر (أن الحور ينادين في شهر رمضان: هل من خاطب إلى الله فنزوجه)
    مهور الحور العين: طول التهجد، وهو حاصل في شهر رمضان أكثر من غيره. كان بعض الصالحين كثير التهجد والصيام، فصلى ليلة في المسجد ودعا فغلبته عيناه فرأى في منامه جماعة علم أنهم ليسوا من الآدميين، بأيديهم أطباق عليها أرغفة، بياض الثلج فوق كل رغيف، درّ كأمثال الرمان، فقالوا: كل. فقال: إني أريد الصوم. قالوا له: يأمرك صاحب هذا البيت أن تأكل. قال: فأكلت وجعلت آخذ ذلك الدر لاحتمله، فقالوا له: دعه نغرسه لك شجرا ينبت لك خيرا من هذا. قال: أين ؟ قالوا: في دار لا تخرب، وثمر لا يتغير، وملك لا ينقطع، وثياب لا تبلى فيها رضوى، وعينا، وقرة أعين، أزواج رضيات مرضيات، راضيات لا يَغرن ولا يُغرن، فعليك بالانكماش فيما أنت، فإنما هي غفوة حتى ترتحل، فتنزل الدار. فما مكث بعد هذه الرؤيا إلا جمعتين حتى توفي. فرآه ليلة وفاته في المنام بعض أصحابه الذين حدثهم برؤياه وهو يقول: لا تعجب من شجر غرس لي في يوم حدثتك وقد حمل. فقال له: ما حمل ؟ قال: لا تسأل، لا يقدر أحد على صفته، لم ير مثل الكريم إذا حل به مطيع.
    يا قوم ألا خاطب في هذا الشهر إلى الرحمن! ألا راغب فيما أعده الله للطائعين في الجنان! ألا طالب لما أخبر به من النعيم المقيم مع أنه ليس الخبر كالعيان!.
    من يرد ملك الجنان



    فليدع عنه التواني


    وليقم في ظلمة اللي



    ل إلى نور القرآن


    وليصل صوما بصوم



    إن هذا العيش فاني


    إنما العيش جوار الل



    ه في دار الأمان


    الطبقة الثانية من الصائمين: من يصوم في الدنيا عما سوى الله، فيحفظ الرأس وما حوى، ويحفظ البطن وما وعى، ويذكر الموت والبلى، ويريد الآخرة فيترك زينة الدنيا، فهذا عيد فطره يوم لقاء ربه وفرحه برؤيته:
    أهل الخصوص من الصوام
    صومهم


    صون اللسان عن البهتان
    والكذب

    والعارفون وأهل الإنس صومهم



    صون القلوب عن الأغيار
    والحجب

    العارفون لا يسليهم عن رؤية مولاهم قصر، ولا يرويهم دون مشاهدته نهر، هممهم أجلّ من ذلك:
    كبرت همة عبد



    طمعت في أن تراك


    من يصم عن مفطرات



    فصيامي عمن سواك


    من صام عن شهواته في الدنيا أدركها غدا في الجنة، ومن صام عما سوى الله فعيده يوم لقائه، من كان يرجو لقاء الله فإن أجل الله لآت.
    وقد صمت عن لذات دهري
    كلها


    ويوم لقاكم ذاك فطر صيامي


    رؤي بشر في المنام فسئل عن حاله ؟ فقال: علم قلة رغبتي في الطعام فأباحني النظر إليه. وقيل لبعضهم: أين نطلبك في الآخرة ؟ قال: في زمرة الناظرين إلى الله. قيل له: كيف علمت ذلك ؟ قال: بغض طرفي له عن كل محرم، وباجتنابي فيه كل منكر ومأثم، وقد سألته أن يجعل جنتي النظر إليه.
    يا حبيب القلوب مالي سواكا



    ارحم اليوم مذنبا قد أتاكا


    ليس لي في الجنان مولاي رأي



    غير أني أريدها لأراكا


    يا معشر التائبين صوموا اليوم عن شهوات الهوى لتدركوا عيد الفطر يوم اللقاء، لا يطولن عليكم الأمل باستبطاء الأجل، فإن معظم نهار الصيام قد ذهب، وعيد اللقاء قد اقترب.
    إن يوما جامعا شملي بهم



    ذاك عيدي ليس لي عيد سواه


    وقوله: (ولخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك)، خلوف الفم: رائحة ما يتصاعد منه من الأبخرة لخلو المعدة من الطعام بالصيام، وهي رائحة مستكرهة في مشام الناس في الدنيا، لكنها طيبة عند الله، حيث كانت ناشئة عن طاعته، وابتغاء مرضاته، كما أن دم الشهيد يجيء يوم القيامة يثغب دما، لونه لون الدم، وريحه ريح المسك، وبهذا استدل من كره السواك للصائم، أولم يستحبه من العلماء. وأول من علمناه استدل بذلك عطاء بن أبي رباح، وروي عن أبي هريرة: أنه استدل به لكن من وجه لا يثبت. وفي المسألة خلاف مشهور بين العلماء. وإنما كرهه من كرهه في آخر نهار الصوم، لأنه وقت خلو المعدة وتصاعد الأبخرة. وهل وقت الكراهة بصلاة العصر ؟ أو بزوال الشمس ؟ أو بفعل صلاة الظهر في أول وقتها ؟ على أقوال ثلاثة: والثالث: هو المنصوص عن أحمد.
    وفي طيب ريح خلوف الصائم عند الله عز وجل معنيان:
    أحدهما: أن الصيام لما كان سرا بين العبد وبين ربه في الدنيا أظهره الله في الآخرة علانية للخلق، ليشتهر بذلك أهل الصيام، ويعرفون بصيامهم بين الناس جزاء لإخفائهم صيامهم في الدنيا. وروى أبوالشيخ الأصبهاني بإسناد فيه ضعف عن أنس مرفوعا: (يخرج الصائمون من قبورهم يعرفون بريح أفواههم، أفواههم أطيب من ريح المسك) حكي عن سهل بن عبد الله التستري الزاهد رحمه الله: أنه كان يواظب على الصيام، فمرّ يوما بثمار، وبين يديه رطب حسن، فاشتهت نفسه فردّ شهوتها فقالت نفسه: فعلت بي كل بلية من سهر الليالي، وظمأ الهواجر، فأعطني هذه الشهوة واستعملني في الطاعة كيف شئت. فاشترى سهل من الرطب وخبز الحواري وقليل شوى ودخل موضعا ليأكل، فإذا رجلان يختصمان فقال أحدهما: إني محقّ وأنت مبطل، أتريد أن أحلف لك أني محق؟ وأن الأمر على ما زعمت؟ قال: بلى! فحلف قال: وحق الصائمين إني محق في دعواي. فقال: هذا مبعوث الحق تعالى إلى هذا السوط بي، ثم أخذ بلحيته وقال: يا سهل! بلغ من شرفك وشرف صومك حتى يحلف العباد بصومك فيقول: وحق الصائمين! فيقول: وحق الصائمين ثم تفطر أنت على قليل رطب. والله أعلم.
    قال مكحول: يروح أهل الجنة برائحة فيقولون: ربنا ما وجدنا ريحا منذ دخلنا الجنة أطيب من هذه الريح. فيقال: هذه رائحة أفواه الصوام، وقد تفوح رائحة الصيام في الدنيا وتستنشق قبل الآخرة. وهو نوعان:
    أحدهما: ما يدرك بالحواس الظاهرة، كان عبد الله بن غالب من العبّاد المجتهدين في الصلاة والصيام، فلما دفن كان يفوح من تراب قبره رائحة المسك، فرؤي في المنام فسئل عن تلك الرائحة التي توجد من قبره؟ فقال: تلك رائحة التلاوة والظمأ.
    والنوع الثاني: ما تستنشقه الأرواح والقلوب، فيوجب ذلك للصائمين المخلصين المودة والمحبة في قلوب المؤمنين. وحديث الحارث الأشعري عن النبي صلى الله عليه وسلم: أن زكريا عليه السلام قال لبني إسرائيل: آمركم بالصيام، فإن مثل ذلك كمثل رجل في عصابة معه صرة فيها مسك، فكلهم تعجبه ريحه، وأن ريح الصيام أطيب عند الله من ريح المسك) خرجه الترمذي وغيره.
    لما كان أمر المخلصين بصيامهم لمولاهم سرا بينه وبينهم أظهر الله سرّهم لعباده، فصار علانية، فصار هذا التجلّي والإظهار جزاء لذلك الصون والإسرار. في الحديث: (ما أسرّ أحد سريرة إلا ألبسه الله رداءها علانية) قال يوسف بن أسباط: أوحى الله تعالى إلى نبي من الأنبياء: قل لقومك يخفون لي أعمالهم وعليّ إظهارها لهم.
    تذلل أرباب الهوى في الهوى عز




    وفقرهم نحو الحبيب هو الكنز



    وسترهم فيه السرائر شهرة




    وغير تلاف النفس فيه هو العجز



    والمعنى الثاني: أن من عبد الله وأطاعه وطلب رضاه في الدنيا بعمل، فنشأ من عمله آثار مكروهة للنفوس في الدنيا، فإن تلك الآثار غير مكروهة عند الله، بل هي محبوبة له وطيبة عنده، لكونها نشأت عن طاعته واتباع مرضاته، فإخباره بذلك للعاملين في الدنيا فيه تطبيب لقلوبهم، لئلا يكره منهم ما وجد في الدنيا. قال بعض السلف: وعد الله موسى ثلاثين ليلة أن يكلمه على رأسها فصام ثلاثين يوما، ثم وجد من فيه خلوفا، فكره أن يناجي ربه على تلك الحال، فأخذ سواكا فاستاك به، فلما أتى لموعد الله إياه قال له: يا موسى أما علمت إن خلوف فم الصائم أطيب عندنا من ريح المسك، ارجع فصم عشرة أخرى.
    ولهذا المعنى كان دم الشهيد ريحه يوم القيامة كريح المسك، وغبار المجاهدين في سبيل الله ذريرة أهل الجنة.
    ورد في حديث مرسل. كل شيء ناقص في عرف الناس في الدنيا حتى إذا انتسب إلى طاعته ورضاه، فهو الكامل في الحقيقة.
    خلوف أفواه الصائمين له أطيب من ريح المسك، عري المحرمين لزيارة بيته أجمل من لباس الحلل، نوح المذنبين على أنفسهم من خشيته أفضل من التسبيح، انكسار المخبتين لعظمته هو الجبر، ذل الخائفين من سطوته هو العز، تهتك المحبين في محبته أحسن من الستر، بذل النفوس للقتل في سبيله هو الحياة، جوع الصائمين لأجله هو الشبع، عطشهم في طلب مرضاته هو الريّ، نصب المجتهدين في خدمته هو الراحة.
    ذل الفتى في الحب مكرمة



    وخضوعه لحبيبه شرف


    هبت اليوم على القلوب نفحة من نفحات نسيم القرب، سعى سمسار المواعظ للمهجورين في الصلح، وصلت البشارة للمنقطعين بالوصل، وللمذنبين بالعفو، والمستوجبين النار بالعتق، لما سلسل الشيطان في شهر رمضان، وخمدت نيران الشهوات بالصيام انعزل سلطان الهوى، وصارت الدولة لحاكم العقل بالعدل، فلم يبق للعاصي عذر.
    يا غيوم الغفلة عن القلوب تقشعي، يا شموس التقوى والإيمان اطلعي، يا صحائف أعمال الصائمين ارتفعي، يا قلوب الصائمين اخشعي، يا أقدام المتهجدين اسجدي لربك واركعي، يا عيون المجتهدين لا تهجعي، يا ذنوب التائبين لا ترجعي، يا أرض الهوى ابلعي ماءك ويا سماء النفوس أقلعي، يا بروق العشاق للعشاق المعي، يا خواطر العارفين ارتعي، يا همم المحبين بغير الله لا تقنعي، يا جنيد اطرب، يا شبلي احضر، يا رابعة اسمعي، قد مدت في هذه الأيام موائد الإنعام للصوام، فما منكم إلا من دعي، (يا قومنا أجيبوا داعي الله) ويا همم المؤمنين اسرعي، فطوبى لمن أجاب فأصاب، وويل لمن طرد عن الباب وما دعي.
    ليت شعري إن جئتهم يقبلوني



    أم تراهم عن بابهم يصرفوني


    أم تراني إذا وقفت لديهم



    يأذنوا بالدخول أم يطردوني


يعمل...
X