التنبيهات على رسالة الألباني في الصلاة
تأليف الفقير إلى الله تعالى
تأليف الفقير إلى الله تعالى
حمود بن عبد الله التويجري
غفر الله له و لوالديه
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله نحمده ، و نستعينه ، و نستغفره ، و نتوب إليه ، و نعوذ بالله من شرور أنفسنا ، و سيئات أعمالنا ، من يهده الله فلا مضل له ، و من يضلل فلا هادي له.
و أشهد أن لا إله إلا الله ، وحده لا شريك له ، و أشهد أن محمداً عبده و رسوله. أرسله بالهدى و دين الحق ليظهره على الدين كله و لو كره المشركون. اللهم صل على عبدك و رسولك محمد و على آله و أصحابه ، و من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين ، و سلم تسليماً كثيراً.
أما بعد ، فهذه تنبيهات على النبذة المسماة " صفة صلاة النبي صلى الله عليه و سلم " تأليف الشيخ محمد ناصر الدين الألباني الدمشقي. الطبعة الثانية سنة 1375 هـ بدمشق.
و قبل ذكر التنبيهات نبدأ بشكر الشيخ الألباني على اعتنائه بشأن الصلاة ، و على إنكاره على المبتدعين في النية ، و على رده على من أنكر الصلاة على آل النبي صلى الله عليه و سلم ، و على إنكاره على المحافظين على التوسلات المبتدعة ؛ كالتوسل بالجاه ، و الحرمة ، و الحق ، و غير ذلك مما لا يجوز التوسل به.
و الله المسئول أن يجعلنا و إياه من حزبه المفلحين الذين يدعون إلى الخير ، و يأمرون بالمعروف ، و ينهون عن المنكر.
التنبيه الأول
قال المؤلف في آخر الصفحة الأولى من مقدمة الطبع و أول الصفحة الثانية منها ما نصه : ( و قد أظهروا إعجابهم باسلوب الكتاب و طريقة عرضه لهدي النبي صلى الله عليه و سلم في أعظم ركن من أركان الإسلام ، ألا و هو الصلاة ) ا.هـ.
أقول : قد سهى المؤلف عفا الله عنا و عنه فيما أطلقه من القول بأن الصلاة هي أعظم أركان الإسلام إذ لا بد من تقييد ذلك بما بعد الشهادتين ، و هذا مما لا خلاف فيه بين المسلمين.
و في الصحيحين ، و مسند الإمام أحمد ، و جامع الترمذي ، و سنن النسائي ؛ عن ابن عمر رضي الله عنهما ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : ( بني الإسلام على خمس شهادة أن لا إله إلا الله و أن محمداً رسول الله ، و اقام الصلاة ، و إيتاء الزكاة ، و حج البيت ، و صوم رمضان ). و قد رواه محمد بن نصر المروذي في كتاب الصلاة بلفظ : ( بني الإسلام على خمس دعائم ) و الباقي مثله. و في رواية لمسلم ( بني الإسلام على خمسة ) و الباقي نحوه.
و روى الإمام أحمد ، و أبو بكر الآجري : عن جرير بن عبد الله البجلي رضي الله عنه ، قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : ( إن الإسلام بني على خمس ... ) فذكر مثل حديث ابن عمر رضي الله عنهما.
و في المسند ، و صحيح مسلم ، و السنن : عن عمر رضي الله عنه ، أن جبريل قال للنبي صلى الله عليه و سلم : أخبرني عن الإسلام ؟. قال : ( الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله و أن محمداً رسول الله ، و تقيم الصلاة ، و تؤتي الزكاة ، و تصوم رمضان ، و تحج البيت إن استطعت إليه سبيلاً ). قال : صدقت.
و رواه البخاري ، و مسلم ، و أهل السنن إلا الترمذي من حديث أبي هريرة رضي الله عنه بنحوه.
ففي هذه الأحاديث كلها الأهم فالأهم ، و من المعلوم بالضرورة أن النبي صلى الله عليه و سلم لم يؤمر في أول البعثة بغير الدعاء إلى التوحيد و الإقرار برسالته و كان على هذا في مدة عشر سنين أو نحوها ، ثم فرضت عليه الصلوات الخمس بعد. و هذا يدل على الاهتمام بالشهادتين ، و يدل على أنهما أعظم أركان الإسلام.
و في الصحيحين ، و المسند ، و السنن عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه و سلم لما بعث معاذاً إلى اليمن قال : ( إنك تأتي قوماً من أهل الكتاب فادعهم إلى شهادة أن لا إله إلا الله و أني رسول الله فإن هم أطاعوك لذلك فاعلمهم أن الله افترض عليهم خمس صلوات في كل يوم و ليلة ... ) الحديث.
و هذا يدل على الاهتمام بالشهادتين ، و انهما اعظم أركان الإسلام ، و قد اختلف العلماء في كفر تارك الصلاة عمداً ، و حل دمه و ماله إذا دعي إلى فعلها فأصر على الترك ، و لم يختلفوا في كفر تارك الشهادتين أو إحداهما و حل دمه و ماله و الدليل على ذلك ما في الصحيحين ، و المسند ، و السنن ، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : ( أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله فمن قال لا إله إلا الله فقد عصم مني نفسه و ماله إلا بحقه و حسابه على الله ).
و في صحيح مسلم عنه رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : ( أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله و يؤمنوا بي و بما جئت به فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دمائهم و أموالهم إلا بحقها و حسابهم على الله ).
و الأحاديث في هذا كثيرة. و كلها تدل على الاهتمام بالشهادتين قبل جميع الواجبات و تفيد أنها أعظم أركان الإسلام.
و قد أفاد هذان الحديثان و غيرهما من الأحاديث أن الصلاة من حقوق لا إله إلا الله بل هي آكد حقوقها بعد الشهادة بالرسالة و هذا دليل على أن الصلاة ليست بأعظم أركان الإسلام و إنما أعظم أركانه الشهادتان ثم الصلاة بعدهما ، و هذا بيّن بحمد الله تعالى و لا خلاف فيه بين المسلمين.
و ما وقع من المؤلف وفقنا الله و إياه فهو لا شك سهو منه ، و قل من يسلم من ذلك ، و لا معصوم إلا الأنبياء صلوات الله و سلامه عليهم أجمعين
التنبيه الثاني
قال المؤلف في حاشية صفحة 43 ما نصه ( و أما الجمع بين الوضع و القبض فبدعة ) ا.هـ.
و أقول الجزم بالتبديع فيما ذكر ههنا فيه نظر ، إذ لا يخفى أن من قبض بيمينه على شماله فقد وضعها عليها، و لا يتأتى قبض بدون وضع. و الظاهر من الأحاديث أن النبي صلى الله عليه و سلم كان يقبض باليمنى على اليسرى تارة. و تارة يضعها عليها بدون قبض. و القبض يستلزم الوضع ، و لا ينعكس. و إذا كان من المعلوم أن القبض لا يكون إلا بعد الوضع فكيف يطلق على فاعله أنه مبتدع.
التنبيه الثالث
قال المؤلف في حاشية صفحة 48 تعليقاً على قول النبي صلى الله عليه و سلم في الدعاء المشهور : " و الشر ليس إليك " ما نصه : ( أي لا ينسب الشر إلى الله تعالى لانه ليس من فعله تعالى ، بل أفعاله عز و جل كلها خير لأنها دائرة بين العدل و الفضل و الحكمة ، و هذا كله خير لا شر فيه . و الشر إنما صار شراً لانقطاع نسبته و اضافته إليه تعالى. قال ابن القيم – رحمه الله تعالى - : و هو سبحانه خالق الخير و الشر ، فالشر في بعض مخلوقاته لا في خلقه و فعله ، و لهذا تنزه سبحانه عن الظلم الذي حقيقته وضع الشيء في غير محله فلا يضع الأشياء إلا في مواضعها اللائقة بها و ذلك خير كله . و الشر وضع الشيء في غير محله فإذا وضع في محله لم يكن شراً فعلم أن الشر ليس إليه . ا.هـ.
و أقول : في أول كلام الشيخ الألباني نظر ، لأن إخراج الشر من أفعال الله تعالى يقتضي أن يكون للشر خالق غير الله تعالى ، و هذا من أقوال المجوس و القدرية ، و قد قال الله تعالى ( الله خالق كل شيء ) و قال تعالى ( هل من خالق غير الله ) و قال تعالى ( و نبلوكم بالشر و الخير فتنة ) و هذه الآية الكريمة صريحة في رد قول من قال إن الشر ليس من فعل الله تعالى. و مثلها قوله تعالى ( و بلوناهم بالحسنات و السيئات ) أي بالنعم و المصائب ( لعلهم يرجعون ) و قوله تعالى ( و إن تصبهم حسنة يقولوا هذه من من عند الله و إن تصبهم سيئة يقولوا هذه من عندك قل كل من عند الله ... ) الآية. و قال تعالى ( و إذا أراد الله بقوم سوءاً فلا مرد له و ما لهم من دونه من وال ) و قال تعالى ( قل من ذا الذي يعصمكم من الله إن أراد بكم سوءاً أو أراد بكم رحمة ) و قال تعالى إخباراً عن الجن ( و أنا لا ندري أشر أريد بمن في الأرض أم أراد بهم ربهم رشداً ). قال ابن كثير – رحمه الله تعالى - : و هذا من أدبهم في العبارة حيث اسندوا الشر إلى غير فاعل ، و الخير أضافوه إلى الله عز و جل انتهى.
و قال تعالى ( قل هل أنبئكم بشر من ذلك مثوبة عند الله من لعنه الله و غضب عليه و جعل منهم القردة و الخنازير و عبد الطاغوت أولئك شر مكاناً و أضل عن سواء السبيل ). و قال تعالى ( قل أفانبئكم بشر من ذلكم النار و عدها الله الذين كفروا و بئس المصير ) و قال تعالى ( إنا كل شيء خلقناه بقدر ) و قال تعالى ( فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام ، و من يرد أن يضله يجعل صدره ضيقاً حرجاً كأنماً يصعد في السماء ، كذلك يجعل الله الرجس على الذين لا يؤمنون ) و قال تعالى ( فأما من أعطى و اتقى ، و صدق بالحسنى ، فسنيسره لليسرى ، و أما من بخل و استغنى ، و كذب بالحسنى ، فسنيسره للعسرى ) و قال تعالى ( فألهمها فجورها و تقواها ).
إلى غير ذلك من الآيات الدالة على أن الله تبارك و تعالى خالق الخير و الشر و أنه لا يكون في الوجود شيء إلا بقضائه و قدره ، و ما شاء كان و ما لم يشأ لم يكن ، و أنه تبارك و تعالى يفعل بمن شاء من عباده خيراً و ييسر لهم أسباب ذلك نعمة منه و فضلا ، و يفعل بآخرين شراً و ييسر لهم أسباب ذلك حكمة منه و عدلاً ، لا يسأل عما يفعل و هم يسألون.
و في الدعاء المأثور عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه كان يقول ( اللهم إني أسألك من كل خير خزائنه بيدك ، و أعوذ بك من كل شر خزائنه بيدك ) رواه الحاكم في مستدركه من حديث ابن مسعود – رضي الله عنه – و صححه.
و في حديث آخر ( أسألك أن تجعل كل قضاء قضيته لي خيراً ) رواه ابن ماجه من حديث عائشة – رضي الله عنها – و صححه الحاكم و وافقه الذهبي في تلخيصه.و في حديث المنام المشهور أن الله تعالى قال لنبيه صلى الله عليه و سلم ( يا محمد إذا صليت فقل : اللهم إني أسألك فعل الخيرات ، و ترك المنكرات ، و حب المساكين ، و إذا أردت بعبادك فتنة فاقبضني إليك غير مفتون ) رواه الترمذي و غيره من حديث ابن عباس – رضي الله عنهما – و قال الترمذي : حسن غريب. و رواه الإمام أحمد و الحاكم و غيرهما من حديث معاذ بن جبل – رضي الله عنه -.
و رواه الحاكم أيضاً من حديث عبد الرحمن بن عائش الحضرمي – رضي الله عنه – و قال : صحيح الإسناد و لم يخرجاه ، و وافقه الحافظ الذهبي في تلخيصه.
و في هذه الأحاديث مع ما تقدم من الآيات أبلغ رد على من قال : إن الله تعالى لم يخلق الشر أو إن الله تعالى لا يفعله بأحد من خلقه. كما يقول ذلك المجوس و القدرية الذين هم مجوس هذه الأمة.
قال الخطابي : إنما جعلهم مجوساً لمضاهاة مذهبهم مذهب المجوس في قولهم بالأصلين و هما النور و الظلمة ، يزعمون أن الخير من فعل النور ، و الشر من فعل الظلمة ، فصاروا ثانوية ، و كذلك القدرية يضيفون الخير إلى الله عز و جل ، و الشر إلى غيره.
و الله سبحانه و تعالى خالق الخير و الشر لا يكون شيء منهما إلا بمشيئته ، و خلقه الشر شراً في الحكمة كخلقه الخير خيراً. فالأمران معا مضافان إليه خلقاً و إيجاداً ، و إلى الفاعلين لهما من عباده فعلا و اكتساباً . انتهى.
و أحسن ما قيل في قوله صلى الله عليه و سلم ( و الشر ليس إليك ) ما نقله النووي عن الخطابي ، و نقله ابن الأثير عن الهروي : إنه إرشاد إلى الأدب في الثناء على الله تعالى بأن تضاف إليه محاسن الأمور دون مساويها على جهة الأدب.
قلت و هذا كما أخبر الله تعالى عن الجن أنهم أضافوا الخير إليه ، و أضافوا الشر إلى غير فاعل ، و مثل ذلك ما في فاتحة الكتاب ( إهدنا الصراط المستقيم ، صراط الذين أنعمت عليهم ، غير المغضوب عليهم و لا الضالين ). ففي هؤلاء الآيات الكريمات الإرشاد إلى الأدب في الدعاء و الثناء على الله تعالى بأن تضاف إليه محاسن الأمور كالانعام و الهداية و غير ذلك من أنواع الخير بأن يضاف الشر و الغضب و ما في معنى ذلك إلى غير فاعل مع العلم بأن الله تعالى هو خالق الخير و الشر و المتصف بالانعام و الغضب.
قال النووي – رحمه الله - : و أما قوله ( و الشر ليس إليك ) فمما يجب تأويله لأن مذهب أهل الحق أن كل المحدثات فعل الله تعالى و خلقه ، سواء خيرها و شرها ، و حينئذ يجب تأويله ، و فيه خمسة أقوال أحدها معناه لا يتقرب به إليك قاله الخليل بن أحمد ، و النضر بن شميل ، و إسحاق بن راهويه ، و يحيى بن معين ، و أبو بكر بن خزيمة ، و الأزهري ، و غيرهم.
و الثاني حكاه الشيخ أبو حامد عن المزني و قاله غيره أيضا معناه لا يضاف إليك على انفراده ، لا يقال يا خالق القرده و الخنازير ، و يا رب الشر ، و نحو هذا ، و إن كان خالق كل شيء ، و رب كل شيء ، و حينئذ يدخل الشر في العموم.
و الثالث : معناه و الشر لا يصعد إليك إنما يصعد الكلم الطيب و العمل الصالح.
و الرابع : معناه و الشر ليس شرا بالنسبة إليك فإنك خلقته بحكمة بالغة ، و إنما هو شر بالنسبة إلى المخلوقين.
و الخامس : حكاه الخطابي أنه كقولك فلان إلى بني فلان إذا كان عداده فيهم أوصفوه إليهم. انتهى.
و القول الرابع هو الذي قرره ابن القيم – رحمه الله تعالى – كما تقدم في كلامه فإنه قرر أولاً أن الله تعالى خالق الخير و الشر ، ثم قرر أن الشر إنما يكون شراً بالنسبة إلى المخلوقين ، و أما بالنسبة إلى الخالق فلا يكون شراً ، لانه لا يضع شيئاً إلا في محله اللائق به ، و هذا معنى قوله " لا في خلقه و فعله " يعني أن خلقه و فعله الشر لا يسمى في حقه شراً لانه تعالى حكيم يضع الأشياء في مواضعها و عدل لا يجور و لا يظلم أحداً فعلم من هذا أن الشر ليس إليه ، و أن خلقه و فعله كله خير ، و إن تضرر بذلك بعض المخلوقين ، و كان شراً بالنسبة إليهم.
فإن قيل إن كلام الشيخ الألباني قريب من كلام ابن القيم – رحمه الله تعالى – فما وجه الاعتراض على الألباني ؟.
فالجواب أن يقال : إن بين كلام ابن القيم و بين أول كلام الألباني بوناً بعيداً. أما الألباني فانه نفى أن يكون الشر من أفعال الله تعالى و هذا هو قول القدرية بعينه ، و أما ابن القيم – رحمه الله تعالى – فانه أثبت أن الله تعالى خالق الخير و الشر ، ثم نزه أفعال الرب تبارك و تعالى عن الاتصاف بوصف الشر ، لانه تعالى لا يضع شيئاً إلا في موضعه اللائق به ، و ذلك عدل منه تعالى و ليس شراً بالنسبة إليه ، و هذا من أقوال أهل الحق.
و لو أن الشيخ الألباني قال : إن الشر لا ينسب إلى الله تعالى لانه ليس في فعله تبارك و تعالى شر أي بالنسبة إليه لسلم من الاعتراض و لكان قوله موافقاً لقول ابن القيم – رحمه الله تعالى – و الله سبحانه و تعالى أعلم.
ثم إن قول الألباني : و الشر ليس إليك إنما صار شراً لانقطاع نسبته و اضافته إلى الله تعالى بالكلية فلا يقال إنه خالق الشر و لا انه يفعل الشر بأحد من خلقه. و هذا هو قول القدرية بعينه. و الذي اتفق عليه أهل السنة و الجماعة أن الله تعالى خالق الشر كما أنه خالق الخير ، و أنه يفعل بمن شاء خيراً ، و بمن شاء شراً ، فالأمران معاً مضافان إليه خلقاً و إيجاداً كما قال تعالى ( و نبلوكم بالشر و الخير فتنة ) و غيرها من الآيات التي تقدم ذكرها.
و إنما كان أهل السنة و الجماعة يعدلون عن نسبة الشر و إضافته إلى الله تعالى على وجه الأدب في العبارة لا على أنه منقطع النسبة و الإضافة إلى الله بالكلية. و من تدبر ما قرره الشيخ الألباني في أثناء كلامه لم يشك في حسن عقيدته في باب القدر ، و ما وقع في أول كلامه و آخره فذلك خطأ في العبارة و قل أن يسلم من الخطأ أحد من البشر .
و الله المسئول أن يوفقنا و إياه و جميع المسلمين لما يحب و يرضى من الأقوال و الأعمال ، و أن يسلك بالجميع سبيل السلف الصالح من الصحابة و التابعين لهم بإحسان إن ربي لسميع الدعاء قريب مجيب.
التنبيه الرابع
الرابع قال المؤلف في صفحة 82 ما نصه ( صلاة الجنازة السنة أن يقرأ فيها بفاتحة الكتاب و سورة ) ا.هـ. ثم ذكره في الحاشية أنه رواه البخاري و أبو داود و النسائي. و هذا فيه إيهام فان رواية البخاري و أبي داود ليس فيها ذكر السورة و إنما ذلك في إحدى روايتي النسائي ، و هو ما رواه : عن الهيثم بن أيوب ، قال : حدثنا إبراهيم و هو ابن سعد ، قال : حدثنا أبي ، عن طلحة بن عبد الله بن عوف ، قال : صليت خلف ابن عباس رضي الله عنهما على جنازة فقرأ بفاتحة الكتاب و سورة و جهر حتى أسمعنا فلما فرغ أخذت بيده ، فسألته ، فقال : " سنة و حق ".
و قد رواه الإمام الشافعي في مسنده بدون ذكر السورة فقال : أخبرنا إبراهيم بن سعد ، عن أبيه ، عن طلحة بن عبد الله بن عوف ، قال : صليت خلف ابن عباس رضي الله عنهما على جنازة فقرأ فاتحة الكتاب فلما سلم سألته عن ذلك ، فقال : " سنة و حق ". إسناده صحيح على شرط البخاري.
فهذا هو المحفوظ عن ابن عباس رضي الله عنهما ، ليس فيه ذكر السورة ، و كذا رواه شعبة و سفيان ، عن سعد بن إبراهيم بدون ذكر السورة ، فأما رواية شعبة فأخرجها البخاري و النسائي ، و أما رواية سفيان فأخرجها البخاري و أبو داود و الترمذي ، و قال : هذا حديث حسن صحيح.
قال البيهقي : ذكر السورة غير محفوظ. قلت : و يدل على ذلك ما ذكرته ههنا ، و يدل عليه أيضاً ما رواه الشافعي في مسنده : أخبرنا ابن عيينة ، عن محمد بن عجلان ، عن سعيد بن أبي سعيد ، قال : سمعت ابن عباس رضي الله عنهما يجهر بفاتحة الكتاب على الجنازة و يقول : إنما فعلت لتعلموا أنها سنة.
و قد رواه الحاكم في مستدركه من طريق : ابن أبي عمر ، عن سفيان بن عيينة . و قال : هذا حديث صحيح على شرط مسلم . و وافقه الذهبي في تلخيصه. قال الحاكم : و قد أجمعوا على أن قول الصحابي سنة حديث مسند.
و قال الشافعي أيضاً : أخبرنا بعض أصحابنا ، عن ليث بن سعد ، عن الزهري ، عن أبي أمامة – و هو : ابن سهل بن حنيف – قال : السنة أن يقرأ على الجنازة بفاتحة الكتاب. و قد رواه النسائي في سننه ، فقال : أخبرنا قتيبة ، قال : حدثنا الليث ، عن ابن شهاب ، عن أبي أمامة ، أنه قال : السنة في الصلاة على الجنازة أن يقرأ في التكبيرة الأولى بأم القرآن مخافتة ، ثم يكبر ثلاثاً ، و التسليم عن الآخرة. إسناده صحيح على شرط الشيخين.
ثم قال النسائي : أخبرنا قتيبة ، قال : حدثنا الليث ، عن ابن شهاب ، عن محمد بن سويد الدمشقي الفهري ، عن الضحاك بن قيس الدمشقي ، بنحو ذلك. و هذا إسناد جيد.
و قد رواه الشافعي في مسنده من طريق معمر ، عن الزهري ، حدثني محمد الفهري ، عن الضحاك بن قيس ، أنه قال مثل قول أبي أمامة.
و قد جاء في هذا الباب أحاديث مرفوعة ، منها ما رواه الترمذي و ابن ماجه من حديث الحكم ، عن مقسم ، عن ابن عباس رضي الله عنهما ، أن النبي صلى الله عليه و سلم قرأ على الجنازة بفاتحة الكتاب. قال الترمذي : ليس إسناده بذاك القوي و الصحيح عن ابن عباس رضي الله عنهما قوله من السنة القراءة على الجنازة بفاتحة الكتاب.
قال : و في الباب عن أم شريك. قلت : و هو ما رواه ابن ماجه في سننه بإسناد حسن عنها رضي الله عنها قالت : أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نقرأ على الجنازة بفاتحة الكتاب.
و قال الشافعي في مسنده : أخبرنا إبراهيم بن محمد ، عن عبد الله بن محمد بن عقيل ، عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه و سلم كبر على الميت أربعاً ، و قرأ بأم القرآن يمد التكبيرة الأولى.
إبراهيم بن محمد ، هو : ابن أبي يحيى المدني وثقه الشافعي ، و ضعفه غير واحد من الأئمة ، و تركه بعضهم ، و قال ابن عقدة : ليس بمنكر الحديث. و قال ابن عدي : هو كما قال ابن عقدة.
و قد روى هذا الحديث الحاكم في مستدركه مستشهداً به ، و لم يتكلم فيه بشيء ، و أقره الذهبي. فإن قيل إن الهيثم بن أيوب ثقة عند النسائي ، و قد زاد ذكر السورة مع الفاتحة ، و الزيادة من الثقة مقبولة. فالجواب : أن يقال إنها زيادة شاذة لمخالفتها لرواية شعبة و سفيان و الشافعي و كل منهم أوثق و أثبت و أجل من الهيثم بن أيوب ، فالعمدة في حديث ابن عباس رضي الله عنهما على روايتهم لا على ما خالفها ، و الله أعلم
التنبيه الخامس
قال المؤلف في حاشية صفحة 99 ما نصه ( و لست أشك أن وضع اليدين على الصدر في هذا القيام بدعة ضلالة لانه لم يرد مطلقاً في شيء من أحاديث صفة الصلاة ) ا.هـ و القيام الذي أشار إليه هو القيام بعد الركوع.
و أقول : إن الجزم بالتبديع و التضليل فيما ذكر ههنا فيه نظر ، لما رواه النسائي في أول كتاب الافتتاح من سننه الصغرى عن وائل بن حجر رضي الله عنه ، قال : رأيت رسول الله صلى الله عليه و سلم إذا كان قائماً في الصلاة قبض يمينه على شماله. إسناده جيد.
و قد رواه الدارقطني في سننه من طريق النسائي ، و لا أعلم لهذا الحديث معارضاً و لا مخصصاً ، و ظاهره يفيد العموم لما قبل الركوع و ما بعده لان كلا منهما يسمى قياماً. و من خصص ذلك بما قبل الركوع فعليه الدليل. و ليس في باقي الروايات عن وائل رضي الله عنه و لا في الأحاديث عن غيره ما ينفي وضع اليدين على الصدر أو تحت السرة فيما بعد الركوع كما يفعل قبله ، و الله أعلم.
و قد ذكر ابن مفلح في الفروع و النكت عن الإمام أحمد – رحمه الله تعالى – أنه قال : إن شاء أرسل يديه – يعني بعد الرفع من الركوع – و إن شاء وضع يمينه على شماله. قال في النكت : و قطع به القاضي في الجامع لأنه حالة قيام في الصلاة فأشبه ما قبل الركوع . قال : و ذكر في المذهب و التلخيص أنه يرسلهما بعد رفعه و ذكر في الرعاية أن الخلاف هنا كحالة وضعهما بعد تكبيرة الإحرام. انتهى.
و من المعلوم عند العلماء كافة ما كان عليه الإمام أحمد – رحمه الله تعالى – من مزيد التمسك بالآثار و البعد عن البدع و الضلالات ، و قد قال في هذه الرواية بالتخيير بين إرسال اليدين في القيام بعد الركوع و بين وضع اليمين على الشمال. و القول بالوضع هو الصواب لعموم حديث وائل الذي ذكرنا ، و الله أعلم.
التنبيه السادس
قال المؤلف في صفحة 100 ما نصه ( و كان أحياناً يرفع يديه إذا سجد ) ا.هـ و قال أيضاً في صفحة 162 ما نصه ( و كان يرفع يديه مع هذا التكبير أحياناً ) ا.هـ يعني به التكبير عند الرفع من السجود. و قال مثل ذلك في صفحة 115 ، و قال أيضاً في صفحة 133 ما نصه ( و كان يرفع يديه مع هذا التكبير أحياناً ) ا.هـ يعني به التكبير عند القيام من السجود إلى الركعة الرابعة.
و جميع ما ذكره في هذه المواضع مردود بالحديث المتفق على صحته عن ابن عمر رضي الله عنهما ( أن النبي صلى الله عليه و سلم كان لا يرفع يديه في السجود ) . رواه مالك ، و الشيخان ، و أهل السنن. و في رواية للبخاري و النسائي ( و لا يفعل ذلك حين يسجد ، و لا حين يرفع رأسه من السجود). و في رواية للشافعي ، و أحمد ، و مسلم ( و لا يرفعهما بين السجدتين ) و رواه أهل السنن بهذا اللفظ ، و قال الترمذي : حديث حسن صحيح. و في رواية لمسلم ( و لا يفعله حين يرفع رأسه من السجود ).
و روى الإمام أحمد أيضاً في مسنده ، و البخاري في جزء رفع اليدين ، و أبو داود ، و الترمذي ، و الدارقطني ، و في سننهم عن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - ، عن رسول الله صلى الله عليه و سلم ( أنه كان لا يرفع يديه في شيء من صلاته و هو قاعد ). قال الترمذي : حديث حسن صحيح. و صححه أيضاً : أحمد ، و البخاري ، و ابن خزيمة ، و ابن حبان.
و روى الدارقطني أيضاً ، و البيهقي من طريق حماد بن سلمة ، عن الأزرق بن قيس ، عن حطان بن عبد الله ، عن أبي موسى الأشعري – رضي الله عنه – قال : هل أريكم صلاة رسول الله صلى الله عليه و سلم ، فكبر و رفع يديه ، ثم كبر و رفع يديه للركوع ، ثم قال سمع الله لمن حمده ، ثم رفع يديه ، ثم قال هكذا فاصنعوا. و لا يرفع بين السجدتين.
و قد وردت أحاديث كثيرة صحيحة أنه صلى الله عليه و سلم كان يرفع يديه إذا افتتح الصلاة ، و إذا أراد أن يركع ، و إذا أراد رفع رأسه من الركوع. و في بعضها أنه كان يفعل ذلك إذا قام من التشهد الأول. و كلها توافق حديث ابن عمر ، و علي ، و أبي موسى – رضي الله عنهم – و ترد الروايات الشاذة أنه كان يرفع يديه في السجود و الرفع منه.
قال العلامة ابن القيم – رحمه الله تعالى – في الهدي : روي عنه – يعني عن النبي صلى الله عليه و سلم – أنه كان يرفعهما – أي يرفع يديه إذا خر للسجود – و صححه بعض الحفاظ كأبي محمد بن حزم و هو وهم فلا يصح ذلك عنه البتة . و الذي غره أن الراوي غلط من قوله و كان يكبر في كل خفض و رفع إلى قوله : كان يرفع يديه عند كل خفض و رفع. و هو ثقة و لم يفطن لسبب غلط الراوي و وهمه فصححه.
و قال صاحب القاموس في كتابه سفر السعادة : الذي ورد في بعض الأحاديث أنه كان يرفع يديه في كل خفض و رفع سهو ، و الرواية الصحيحة أنه كان يكبر في كل خفض و رفع. انتهى.
و قد جاء في رفع اليدين في السجود و في كل خفض و رفع أحاديث ضعيفة جداً ، منها ما رواه الإمام أحمد ، و ابن ماجه من حديث إسماعيل بن عياش ، عن صالح بن كيسان ، عن عبد الرحمن الأعرج ، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - ( أن النبي صلى الله عليه و سلم كان يرفع يديه حذو منكبيه حين يكبر و يفتتح الصلاة ، و حين يركع ، و حين يسجد ). و إسماعيل بن عياش فيه مقال.
قال النسائي : ضعيف. و قال مسلم في مقدمة صحيحه : حدثنا عبد الله بن عبد الرحمن الدارمي ، أخبرنا زكريا بن عدي ، قال : قال لي أبو إسحاق الفزاري : لا تكتب عن إسماعيل بن عياش ما روى عن المعروفين و لا عن غيرهم. و قد وثقه أحمد ، و ابن معين ، و دحيم ، و الفلاس ، و البخاري ، و الفسوي ، و ابن عدي : في أهل الشام ، و ضعفوه في الحجازيين. و ذكر البيهقي عن البخاري أنه قال : إسماعيل منكر الحديث عن أهل الحجاز و أهل العراق. و قال الطبراني في معجمه الصغير : حدثنا محمد بن عثمان بن أبي شيبة ، قال : سمعت يحيى بن معين يقول : إسماعيل بن عياش ثقة فيما روى عن الشاميين ، و أما روايته عن أهل الحجاز فان كتابه ضاع فخلط في حفظه عنهم.
و قال دحيم : هو في الشاميين غاية ، و خلط عن المدنيين. و قال عمرو بن علي : إذا حدث عن أهل بلاده فصحيح ، و إذا حدث عن أهل المدينة فليس بشيء.
قلت : و هذا الحديث من روايته عن أهل المدينة ، فالحديث لذلك ضعيف ، و المحفوظ عن أبي هريرة – رضي الله عنه – ما رواه أبو داود من حديث أبي بكر بن عبد الرحمن – كما سيأتي قريباً إن شاء الله -.
و منها ما رواه الإمام أحمد أيضاً من حديث إسماعيل بن عياش ، عن صالح بن كيسان ، عن نافع ، عن ابن عمر – رضي الله عنهما - ، عن النبي صلى الله عليه و سلم. مثل حديث أبي هريرة – رضي الله عنه - . و الكلام في هذا الحديث مثل الكلام في الذي قبله. و المحفوظ عن ابن عمر - رضي الله عنهما – نفي الرفع في السجود – كما تقدم قريباً -.
و منها ما رواه ابن ماجه من حديث رفده بن قضاعة الغساني : حدثنا الأوزاعي ، عن عبد الله بن عبيد بن عمير ، عن أبيه ، عن جده عمير بن حبيب – رضي الله عنه – قال : ( كان رسول الله صلى الله عليه و سلم يرفع يديه مع كل تكبيرة في الصلاة المكتوبة ). قال النسائي : رفده بن قضاعة ليس بالقوي. و قال البخاري : في أحاديثه مناكير . و قال أيضاً : لا يتابع في حديثه. و قال أبو حاتم : منكر الحديث. و قال الدارقطني : متروك . و قال الإمام أحمد : لا أعرف رفده.
و عبد الله بن عبيد قيل لم يسمع من أبيه. قال الإمام أحمد ، و يحيى بن معين في هذا الحديث : ليس بصحيح و لا يعرف عبد الله بن عبيد بن عمير يحدث عن أبيه شيئاً ، و لا عن جده.
و منها ما رواه ابن ماجه أيضاً من حديث عمر بن رباح ، عن عبد الله بن طاوس ، عن أبيه ، عن ابن عباس – رضي الله عنهما – ( أن رسول الله صلى الله عليه و سلم كان يرفع يديه عند كل تكبيرة ). قال البخاري : - رحمه الله تعالى - : حدثني عمرو بن علي – يعني الفلاس – قال عمر بن رباح أبو حفص الضرير البصري عن ابن طاوس دجال. و قال النسائي : متروك الحديث.
و منها ما رواه الإمام أحمد في مسنده ، و أبو داود في سننه من حديث ابن لهيعة ، عن ابن هبيرة ، عن ميمون المكي أنه رأى ابن الزبير عبد الله و صلى بهم يشير بكفه حين يقوم ، و حين يركع ، و حين يسجد ، و حين ينهض للقيام ، فيقوم فيشير بيديه. قال : فانطلقت إلى ابن عباس – رضي الله عنهما – فقلت له : إني قد رأيت ابن الزبير صلى صلاة لم أر أحداً يصليها . فوصف له هذه الإشارة ، فقال : إن أحببت أن تنظر إلى صلاة رسول الله صلى الله عليه و سلم ، فاقتد بصلاة ابن الزبير.
ابن لهيعة قال فيه يحيى بن معين : ليس بالقوي. و قال أيضاً : هو ضعيف قبل أن تحترق كتبه و بعد احتراقها. و قال يحيى أيضاً و أبو زرعة : لا يحتج به. و قال النسائي : ضعيف. و قال البخاري : حدثنا محمد ، حدثنا الحميدي ، عن يحيى بن سعيد أنه كان لا يراه شيئاً. و قال مسلم : تركه وكيع ، و يحيى القطان ، و ابن مهدي. و ميمون المكي مجهول.
و منها ما رواه أبو داود ، و النسائي في سننيهما من حديث النضر بن كثير – يعني السعدي – قال : صلى إلى جنبي عبد الله بن طاوس في مسجد الخيف ، فكان إذا سجد السجدة الأولى فرفع رأسه منها ، رفع يديه تلقاء وجهه فأنكرت ذلك ، فقلت لوهيب بن خالد ، فقال له وهيب : تصنع شيئاً لم أر أحداً يصنعه. قال ابن طاوس : رأيت أبي يصنعه ، و قال أبي : رأيت ابن عباس يصنعه ، و لا أعلم إلا أنه قال كان النبي صلى الله عليه و سلم يصنعه.
قال المنذري في تهذيب السنن : النضر بن كثير أبو سهل السعدي البصري ضعيف الحديث. و قال الحافظ أبو أحمد النيسابوري : هذا حديث منكر من حديث ابن طاوس. قلت : و قال أبو حاتم في النضر بن كثير : فيه نظر . و قال البخاري : عنده مناكير . و قال ابن حبان : يروي الموضوعات عن الثقات لا يجوز الاحتجاج به بحال.
إذا علم ما ذكرنا فأصح ما رأيته في هذا الباب ما رواه النسائي في سننه : أخبرنا محمد بن المثنى ، قال : حدثنا ابن أبي عدي ، عن شعبة ، عن قتادة ، عن نصر بن عاصم ، عن مالك بن الحويرث – رضي الله عنه – أنه رأى النبي صلى الله عليه و سلم رفع يديه في صلاته ، و إذا ركع ، و إذا رفع رأسه من الركوع ، و إذا سجد ، و إذا رفع رأسه من السجود ، حتى يحاذي بهما فروع أذنيه.
حدثنا محمد بن المثنى ، قال حدثنا عبد الأعلى ، قال حدثنا سعيد ، عن قتادة ، عن نصر بن عاصم ، عن مالك بن الحويرث – رضي الله عنه – أنه رأى النبي صلى الله عليه و سلم رفع يديه ... فذكر مثله.
حدثنا محمد بن المثنى ، قال : حدثنا معاذ بن هشام ، قال : حدثني أبي ، عن قتادة ، عن نصر بن عاصم ، عن مالك بن الحويرث – رضي الله عنه – أن نبي الله صلى الله عليه و سلم كان إذا دخل في الصلاة ... فذكر نحوه ، و زاد فيه : و إذا ركع فعل مثل ذلك ، و إذا رفع رأسه من الركوع فعل مثل ذلك ، و إذا رفع رأسه من السجود فعل مثل ذلك.
و هذه روايات شاذة انفرد بإخراجها النسائي ، و قد رواها الأئمة بدون ذكر الزيادة الشاذة ، فأما حديث شعبة فقال البخاري – رحمه الله تعالى – في جزء رفع اليدين : حدثنا أبو الوليد هشام بن عبد الملك و سليمان بن حرب ، قالا : حدثنا شعبة ، عن قتادة ، عن نصر بن عاصم ، عن مالك بن الحويرث – رضي الله عنه – قال : كان النبي صلى الله عليه و سلم إذا كبر رفع يديه ، و إذا ركع ، و إذا رفع رأسه من الركوع.
و قال البخاري أيضاً : حدثنا آدم بن أبي إياس ، حدثنا شعبة ، حدثنا قتادة ، عن نصر بن عاصم ، عن مالك بن الحويرث – رضي الله عنه - قال : كان النبي صلى الله عليه و سلم يرفع يديه إذا كبر ، و إذا ركع ، و إذا رفع رأسه من الركوع حذاء أذنيه.
و قال أبو داود في سننه : حدثنا حفص بن عمر ، أخبرنا شعبة ، عن قتادة ، عن نصر بن عاصم ، عن مالك بن الحويرث – رضي الله عنه – قال : رأيت النبي صلى الله عليه و سلم يرفع يديه إذا كبر ، و إذا ركع ، و إذا رفع رأسه من الركوع حتى يبلغ بهما فروع أذنيه.
و قال النسائي في سننه : أخبرنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا خالد ، قال : حدثنا شعبة ، عن قتادة ، قال : سمعت نصر بن عاصم ، عن مالك بن الحويرث و كان من أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم أن رسول الله صلى الله عليه و سلم كان إذا صلى رفع يديه حين يكبر حيال أذنيه ، و إذا أراد أن يركع ، و إذا رفع رأسه من الركوع.
و روى الدارقطني في سننه من طريقين : عن عبد الرحمن بن مهدي ، حدثنا شعبة ، عن قتادة ... فذكر نحو ما تقدم. فهؤلاء ستة من الأئمة الأثبات رووا حديث شعبة لم يذكروا ما ذكره ابن أبي عدي عنه من رفع اليدين إذا سجد ، و إذا رفع رأسه من السجود.
و أما حديث سعيد بن أبي عروبة ، فرواه مسلم في صحيحه : عن محمد بن المثنى ، حدثنا ابن أبي عدي ، عن سعيد ، عن قتادة. و ليس فيه ذكر رفع اليدين إذا سجد و إذا رفع رأسه من السجود. و قال البخاري – رحمه الله تعالى – في جزء رفع اليدين : حدثنا خليفة بن خياط ، حدثنا يزيد بن زريع ، حدثنا سعيد ، عن قتادة ، أن نصر بن عاصم حدثهم ، عن مالك بن الحويرث – رضي الله عنه – قال : رأيت النبي صلى الله عليه و سلم يرفع يديه إذا ركع ، و إذا رفع رأسه من الركوع حتى يحاذي بهما فروع أذنيه.
و قال النسائي في سننه : أخبرنا إسماعيل بن مسعود ، قال : حدثنا يزيد و هو : ابن زريع ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، عن نصر بن عاصم ، أنه حدثهم ، عن مالك بن الحويرث – رضي الله عنه – أنه رأى رسول الله صلى الله عليه و سلم يرفع يديه إذا ركع ، و إذا رفع رأسه من الركوع حتى يحاذي بهما فروع أذنيه.
قال النسائي : يزيد بن زريع من أثبت أصحاب سعيد بن أبي عروبة. و قال النسائي أيضاً : أخبرنا يعقوب بن إبراهيم ، قال : حدثناابن أبي علية ، عن ابن أبي عروبة ، عن قتادة ، عن نصر بن عاصم ، عن مالك بن الحويرث – رضي الله عنه – قال : رأيت رسول الله صلى الله عليه و سلم حين دخل في الصلاة رفع يديه ، و حين ركع ، و حين رفع رأسه من الركوع حتى حاذى فروع أذنيه.
و قال النسائي أيضاً : أخبرنا علي بن حجر ، قال : أنبأنا إسماعيل ، عن سعيد ، عن قتادة ، عن نصر بن عاصم الليثي ، عن مالك بن الحويرث – رضي الله عنه – قال : رأيت رسول الله صلى الله عليه و سلم يرفع يديه إذا كبر ، و إذا ركع ، و إذا رفع رأسه من الركوع حتى بلغتا فروع أذنيه.
فهؤلاء ثلاثة من الأئمة الأثبات رووا حديث سعيد بن أبي عروبة ، و لم يذكروا ما ذكره عبد الأعلى من رفع اليدين إذا سجد و إذا رفع رأسه من السجود.
و أما حديث هشام الدستوائي ، فقال ابن ماجه في سننه : حدثنا حميد بن مسعدة ، حدثنا يزيد بن زريع ، حدثنا هشام ، عن قتادة ، عن نصر بن عاصم ، عن مالك بن الحويرث – رضي الله عنه – أن رسول الله صلى الله عليه و سلم كان إذا كبر رفع يديه حتى يجعلهما قريباً من أذنيه ، و إذا ركع صنع مثل ذلك ، و إذا رفع رأسه من الركوع صنع مثل ذلك . فهذا يزيد بن زريع ، و هو من الحفاظ الأعلام روى حديث هشام الدستوائي و لم يذكر ما ذكره معاذ عن أبيه من رفع اليدين إذا رفع رأسه من السجود.
و يزيد و معاذ ليسا سواء عند أهل العلم بالرجال. أما يزيد ، فقال فيه ابن معين : ثقة مأمون. و قال أبو حاتم : ثقة إمام. و قال الإمام أحمد : ما أتقنه ، ما أحفظه. و أما معاذ ، فقال فيه : ابن معين صدوق ، ليس بحجة. و قال ابن عدي : له حديث كثير ، ربما يغلط ، و أرجو أنه صدوق.
و بما ذكرنا يعلم شذوذ رواية ابن أبي عدي عن شعبة ، و رواية عبد الأعلى عن سعيد بن أبي عروبة ، و رواية معاذ بن هشام ، عن أبيه. و مما يدل على شذوذ رواياتهم أيضاً ما رواه حماد بن سلمه و أبو عوانة عن قتادة.
فأما حديث حماد بن سلمة ، فقال البخاري – رحمه الله تعالى – في جزء رفع اليدين : حدثنا موسى بن إسماعيل ، حدثنا حماد بن سلمة ، أنبأنا قتادة ، عن نصر بن عاصم ، عن مالك بن الحويرث – رضي الله عنه - أن النبي صلى الله عليه و سلم كان إذا دخل في الصلاة رفع يديه إلى فروع أذنيه ، و إذا رفع رأسه من الركوع فعل مثله.
و أما حديث أبي عوانة ، فقال مسلم في صحيحه : حدثنا أبو كامل الجحدري ، حدثنا أبو عوانة ، عن قتادة ، عن نصر بن عاصم ، عن مالك بن الحويرث – رضي الله عنه – أن رسول الله صلى الله عليه و سلم كان إذا كبر رفع يديه حتى يحاذي بهما أذنيه ، و إذا ركع رفع يديه حتى يحاذي بهما أذنيه ، و إذا رفع رأسه من الركوع فقال : سمع الله لمن حمده فعل مثل ذلك. و قد رواه الدارقطني في سننه : عن عبد الله بن عبد العزيز ، عن أبي كامل فذكره بنحوه.
فهذا هو المحفوظ عن قتادة ، ليس فيه ذكر رفع اليدين إذا سجد ، و إذا رفع رأسه من السجود ، و مما يدل على شذوذ الرواية بذلك أيضاً ما رواه الشيخان في صحيحيهما من حديث خالد الحذاء ، عن أبي قلابة أنه رأى مالك بن الحويرث – رضي الله عنه – إذا صلى كبر ، و رفع يديه ، و إذا أراد أن يركع رفع يديه ، و إذا رفع رأسه من الركوع رفع يديه ، و حدث أن رسول الله صلى الله عليه و سلم صنع هكذا.
فهذه الرواية المتفق على صحتها توافق ما رواه الأئمة الأثبات من حديث قتادة ، عن نصر بن عاصم ، عن مالك بن الحويرث – رضي الله عنه – و ترد ما شذ به من شذ عنهم. و العمدة في حديث مالك بن الحويرث – رضي الله عنه - على هذه الرواية ، و على ما وافقها ، و أيضاً فان الروايات التي فيها ذكر الرفع في السجود ، و الرفع منه قد عنعنها قتادة ، و هو مدلس ، و هذه علة أخرى غير الشذوذ. و الله أعلم.
و من أصح ما رأيت أيضاً في رفع اليدين عند الرفع من السجود ما رواه أبو داود في سننه : حدثنا عبيد الله بن عمر بن ميسرة ، حدثنا عبد الوارث بن سعيد ، حدثنا محمد بن جحادة ، حدثني عبد الجبار بن وائل بن حجر ، قال : كنت غلاماً لا أعقل صلاة أبي ، فحدثني علقمة بن وائل ، عن أبي حجر – رضي الله عنه – قال : صليت مع رسول الله صلى الله عليه و سلم ، فكان إذا كبر رفع يديه ، قال : ثم التحف ، ثم أخذ شماله بيمينه ، و أدخل يده في ثوبه . قال : فإذا أراد أن يركع أخرج يديه ثم رفعهما ، و إذا أراد أن يرفع رأسه من الركوع رفع يديه ثم سجد ، و وضع وجهه بين كفيه ، و إذا رفع رأسه من السجود أيضاً رفع يديه ، حتى فرغ من صلاته. قال محمد : فذكرت ذلك للحسن بن أبي الحسن ، فقال : هي صلاة رسول الله صلى الله عليه و سلم فعله من فعله و تركه من تركه.
قال أبو داود : روى هذا الحديث همام ، عن ابن جحادة لم يذكر الرفع مع الرفع من السجود. قلت : و حديث همام رواه مسلم في صحيحه عن زهير بن حرب ، حدثنا عفان ، عن حدثنا همام ، حدثنا محمد بن جحادة ، حدثني عبد الجبار بن وائل ، عن علقمة بن وائل و مولى لهم أنهما حدثاه ، عن أبيه وائل بن حجر – رضي الله عنه – أنه رأى النبي صلى الله عليه و سلم رفع يديه حين دخل في الصلاة كبر – وصف همام حيال اذنيه – ثم التحف بثوبه ، ثم وضع يده اليمنى على اليسرى ، فلما أراد أن يركع أخرج يديه من الثوب ، ثم رفعهما ، ثم كبر فركع ، فلما قال : سمع الله لمن حمده رفع يديه ، فلما سجد سجد بين كفيه.
و قد روي حديث علقمة من وجه آخر ، و ليس فيه ذكر الرفع إذا رفع من السجود. قال البخاري – رحمه الله تعالى – في جزء رفع اليدين : حدثنا أبو نعيم الفضل بن دكين ، أنبأنا قيس بن سليم العنبري ، قال : سمعت علقمة بن وائل بن حجر ، حدثني أبي ، قال : صليت مع النبي صلى الله عليه و سلم فكبر حين افتتح الصلاة و رفع يديه ، ثم رفع يديه حين أراد أن يركع و بعد الركوع. إسناده صحيح على شرط مسلم.
و قد رواه النسائي في سننه عن سويد بن نصر ، عن عبد الله بن المبارك ، عن قيس بن سليم ، فذكره بنحوه ، و إسناده جيد.
و روى هذا الحديث أيضاً من وجه آخر عن وائل – رضي الله عنه – و ليس فيه ذكر الرفع إذا رفع من السجود. قال البخاري – رحمه الله تعالى – في جزء رفع اليدين : حدثنا محمد بن مقاتل ، أنبأنا عبد الله – يعني ابن المبارك – أنبأنا زائدة بن قدامة ، حدثنا عاصم بن كليب الجرمي ، حدثنا أبي ، أن وائل بن حجر – رضي الله عنه – أخبره ، قال : قلت لأنظرن إلى صلاة رسول الله صلى الله عليه و سلم كيف يصلي. قال فنظرت إليه ، قال : فكبر و رفع يديه ، ثم لما أراد أن يركع رفع يديه مثلها ، ثم رفع رأسه فرفع يديه مثلها. إسناده جيد. و قد رواه النسائي في سننه عن سويد بن نصر ، عن عبد الله بن المبارك. و رواه البخاري أيضاً من حديث ابن إدريس ، عن عاصم بن كليب. و رواه النسائي أيضاً و الدارقطني من حديث سفيان ، عن عاصم بن كليب. و رواه أبو داود و ابن ماجه من حديث بشر بن المفضل ، عن عاصم بن كليب.
و رواه الدارقطني أيضاً من حديث جرير و صالح بن عمر الواسطي و أبي الأحوص كلهم عن عاصم بن كليب.
فهذه الروايات المتعاقدة تدل على شذوذ ما في رواية أبي داود من ذكر الرفع إذا رفع من السجود و الله أعلم.
و قد روى الدارقطني في سننه من طريق هشيم و جرير ، عن حصين بن عبد الرحمن ، قال : دخلنا على إبراهيم فحدثه عمرو بن مرة ، قال : صلينا في مسجد الحضرميين فحدثني علقمة بن وائل ، عن أبيه – رضي الله عنه – أنه رأى رسول الله صلى الله عليه و سلم يرفع يديه حين يفتتح الصلاة ، و إذا ركع ، و إذا سجد. و قد رواه البخاري في جزء رفع اليدين ، و ليس فيه ذكر الرفع عند السجود ، فقال : حدثنا مسدد ، حدثنا خالد ، حدثنا حصين ، عن عمرو بن مرة ، قال : دخلت مسجد حضرموت ، فإذا علقمة بن وائل يحدث عن أبيه – رضي الله عنه – قال : كان النبي صلى الله عليه و سلم يرفع يديه قبل الركوع. فقد اختلفت الرواية عن علقمة بن وائل عن أبيه ، كما ترى ففي رواية أبي داود أن النبي صلى الله عليه و سلم كان يرفع يديه إذا رفع رأسه من السجود. و في رواية الدارقطني أنه كان يرفع يديه إذا سجد ، و ليس ذلك في رواية مسلم ، و لا في رواية البخاري و النسائي. و هذا مما يدل على أن هذه الزيادة الشاذة غير محفوظة. و أما رواية عاصم بن كليب ، عن أبيه ، عن وائل – رضي الله عنه - . فلم يختلف فيها ، و الأخذ بها أولى من الأخذ بما اختلف فيه لا سيما و قد اعتضدت رواية عاصم برواية همام التي أخرجها مسلم في صحيحه ، و برواية قيس بن سليم التي رواها البخاري و النسائي و بالأحاديث الكثيرة الصحيحة مما تقدم ذكره ، و ما سيأتي قريباً ، و ما لم يذكر ههنا ، و الله أعلم.
و قد اعتمد الشيخ الألباني في إثبات رفع اليدين في السجود و الرفع منه على ما ذكرنا من الروايات الشاذة عن مالك بن الحويرث ، و وائل بن حجر – رضي الله عنهما - ، و لا ينبغي الاعتماد على مثلها لشذوذها و مخالفتها لما هو أصح منها ، و هو ما تقدم في حديث ابن عمر ، و علي – رضي الله عنهم - ، و الله أعلم.
التنبيه السابع
قال المؤلف في حاشية صفحة 100 ما نصه ( و عمل به إمام السنة أحمد بن حنبل ) ا.هـ.
يعني بذلك رفع اليدين عند السجود ، و أقول إن أراد الشيخ الألباني إن أحمد – رحمه الله تعالى – كان مداوماً على هذا ، و أنه كان مذهبه كما هو ظاهر عبارته في حاشية صفحة 112 فهذا غير صحيح عن أحمد – رحمه الله تعالى -.
و إن أراد أنه قال به أو فعله في بعض الأحيان و لم يداوم عليه فهذا قد نقل عن أحمد – رحمه الله تعالى – و الصحيح عنه خلافه ، و في المسألة ثلاثة روايات إحداها أن الرفع خاص بثلاثة مواضع الأول عند افتتاح الصلاة ، و الثاني عند الركوع ، و الثالث عند الرفع منه. و قد نقل هذا من فعل أحمد – رحمه الله تعالى – و قوله.
قال أبو داود – رحمه الله تعالى – رأيت أحمد يرفع يديه عند الركوع و عند الرفع من الركوع كرفعه عند افتتاح الصلاه يحاذيان اذنيه و ربما قصر عن رفع الافتتاح . و قال حنبل : سمعت أبا عبد الله و سأله رجل عن رفع اليدين في الصلاة ؟ فقال : يروي عن رسول الله صلى الله عليه و سلم من غير وجه ، و عن أصحابه أنهم فعلوه إذا افتتح الصلاة ، و إذا أراد أن يركع ، و إذا رفع رأسه من الركوع. قلت له : فبين السجدتين ؟ قال : لا. قلت : فإذا أراد أن ينحط ساجداً ؟ قال : لا. فقال له عباس العنبري : يا أبا عبد الله ، أليس يروى عن رسول الله صلى الله عليه و سلم أنه فعله ؟ قال : هذه الأحاديث أقوى و أكثر.
و هذه الرواية هي أشهر الروايات عن الإمام أحمد – رحمه الله تعالى – و عليها جماهير الحنابلة قديماً و حديثاً ، و هي المذهب عند المتأخرين منهم و حكاها الترمذي في جامعه عن أحمد ، و لم يحك عنه غيرها. و الأدلة عليها من الأحاديث الصحاح و الحسان كثيرة جداً ، و ليس هذا موضع ذكرها.
و قد تقدم إيراد جملة منها في التنبيه السادس .
الرواية الثانية أن الرفع في أربعة مواضع في الثلاثة التي تقدم ذكرها ، و الرابع إذا قام من التشهد الأول. و هذا اختيار الإمام شيخ الإسلام أبي العباس ابن تيمية ، و جده أبي البركات ، و صاحب الفائق ، و ابن عبدوس في تذكرته. قال ابن مفلح في الفروع : و هو أظهر. و كذا قال حفيده في المبدع. و قال المرداوي في الإنصاف : و هو الصواب. و ذكر شيخ الإسلام أبو العباس ابن تيمية – رحمه الله تعالى – أنه قول طائقة من الحنابلة و الشافعية و غيرهم انتهى. و يدل لهذه الرواية عدة أحاديث من الصحاح يأتي ذكرها قريباً إن شاء الله تعالى.
و هذه الرواية أرجح الروايات عندي لصحة دليلها و سلامته من المعارض. قال الخطابي – رحمه الله تعالى – و أما ما روي في حديث أبي حميد الساعدي – رضي الله عنه – من رفع اليدين عند النهوض من التشهد فهو حديث صحيح ، و قد شهد بذلك عشرة من الصحابة منهم أبو قتادة الأنصاري ، و قد قال به جماعة من أهل الحديث ، و لم يذكره الشافعي ، و القول به لازم على أصله في قبول الزيادات.
قلت : بل قد ذكر ذلك عن الشافعي – رحمه الله تعالى - قال النووي في شرح مسلم : و الشافعي قول أنه يستحب رفعهما في موضع رابع و هو إذا قام من التشهد الأول و هذا القول هو الصواب فقد صح فيه حديث ابن عمر - رضي الله عنهما- عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه كان يفعله و صح أيضاً من حديث أبي حميد الساعدي . رواه أبو داود ، و الترمذي بأسانيد صحيحه.
قلت : أما حديث ابن عمر – رضي الله عنهما – فهو مروي من ثلاثة أوجه كلها صحيحة . الوجه الأول ما رواه البخاري في صحيحه ، و أبو داود في سننه من حديث عبيد الله بن عمر العمري ، عن نافع ، أن ابن عمر – رضي الله عنهما – كان إذا دخل في الصلاة كبر و رفع يديه ، و إذا ركع رفع يديه ، و إذا قال سمع الله لمن حمده رفع يديه ، و إذا قام من الركعتين رفع يديه. و رفع ذلك ابن عمر – رضي الله عنهما – إلى النبي صلى الله عليه و سلم.
الوجه الثاني قال البخاري – رحمه الله تعالى – في جزء رفع اليدين : حدثنا محمد بن أبي بكر المقدمي ، حدثنا معتمر ، عن عبيد الله بن عمر ، عن ابن شهاب ، عن سالم بن عبد الله ، عن أبيه – رضي الله عنه – عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه كان يرفع يديه إذا دخل في الصلاة ، و إذا أراد أن يركع ، و إذا رفع رأسه ، و إذا قام من الركعتين يرفع يديه في ذلك كله ، و كان عبد الله يفعله. إسناده صحيح رجاله كلهم من رجال الصحيحين ، و قد رواه النسائي في سننه عن محمد بن عبد الأعلى الصنعاني عن معتمر به و في روايته : و إذا قام من الركعتين يرفع يديه كذلك حذو المنكبين. و إسناده صحيح على شرط مسلم.
الوجه الثالث قال الإمام أحمد – رحمه الله تعالى – في مسنده : حدثنا محمد بن فضيل ، عن عاصم بن كليب ، عن محارب بن دثار ، قال : رأيت ابن عمر – رضي الله عنهما – يرفع يديه كلما ركع و كلما رفع رأسه من الركوع. قال : فقلت له ما هذا ؟. قال : كان النبي صلى الله عليه و سلم إذا قام في الركعتين كبر و رفع يديه. إسناده صحيح على شرط مسلم.
و قد رواه البخاري في جزء رفع اليدين ، فقال : حدثنا إسحاق بن إبراهيم الحنظلي ، حدثنا محمد بن فضيل ، عن عاصم بن كليب ، عن محارب بن دثار : رأيت ابن عمر – رضي الله عنهما – رفع يديه في الركوع فقلت له : مه ذلك ؟ فقال : كان رسول الله صلى الله عليه و سلم إذا قام من الركعتين كبر و رفع يديه . إسناده صحيح على شرط مسلم. و رواه أبو داود في سننه عن عثمان بن أبي شيبة و محمد بن عبيد المحاربي ، قالا : حدثنا محمد بن فضيل ، عن عاصم بن كليب ، عن محارب بن دثار ، عن ابن عمر – رضي الله عنهما – قال : كان رسول الله صلى الله عليه و سلم إذا قام من الركعتين كبر و رفع يديه . إسناده جيد. و هو من جهة عثمان بن أبي شيبة صحيح على شرط مسلم.
و أما حديث أبي حميد الساعدي – رضي الله عنه – فرواه الإمام أحمد في مسنده ، و البخاري في جزء رفع اليدين ، و أهل السنن الأربعة من حديث عبد الحميد بن جعفر ، حدثنا محمد بن عمرو بن عطاء ، عن أبي حميد الساعدي – رضي الله عنه - ، قال : سمعته و هو في عشرة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم كان إذا قام في الصلاة اعتدل قائماً و رفع يديه حتى يحاذي بهما منكبيه ، ثم قال : الله أكبر ، و إذا أراد أن يركع رفع يديه حتى يحاذي بهما منكبيه ، فإذا قال : سمع الله لمن حمده رفع يديه فاعتدل ، فإذا قام من الثنتين كبر و رفع يديه حتى يحاذي بهما منكبيه كما صنع حين افتتح الصلاة.
هذا لفظ إحدى روايتي ابن ماجه ، و في رواية للبخاري " فقالوا كلهم : صدقت ". و في رواية أحمد ، و أبي داود ، و الترمذي ، و الرواية الأخرى لابن ماجه : " قالوا : صدقت هكذا كان يصلي رسول الله صلى الله عليه و سلم ". قال الترمذي : هذا حديث حسن صحيح. و صححه البخاري كما سيأتي ، و ابن خزيمة ، و ابن حبان ، و قال ابن القيم – رحمه الله تعالى - : حديث أبي حميد حديث صحيح متلقى بالقبول لا علة له.
قلت : و أسانيد المذكورين كلها على شرط مسلم ، و في الباب أيضاً عن علي بن أبي طالب ، و أبي هريرة – رضي الله عنهما – فأما حديث علي – رضي الله عنه – فرواه الإمام أحمد في مسنده ، و البخاري في جزء رفع اليدين ، و أبو داود ، و الترمذي ، و ابن ماجه ، و الدارقطني في سننهم من حديث عبيد الله بن أبي رافع ، عن علي بن أبي طالب – رضي الله عنه – عن رسول الله صلى الله عليه و سلم أنه كان إذا قام إلى الصلاة المكتوبة كبر و رفع يده حذو منكبيه ، و يصنع مثل ذلك إذا قضى قراءته و أراد أن يركع ، و يصنعه إذا رفع رأسه من الركوع ، و لا يرفع يديه في شيء من صلاته و هو قاعد ، و إذا قام من السجدتين رفع يديه كذلك و كبر.
قال الترمذي : هذا حديث حسن صحيح. و صححه أيضاً ابن خزيمة ، و ابن حبان. و ذكر الخلال عن إسماعيل بن إسحاق الثقفي قال : سئل أحمد – رحمه الله تعالى – عن حديث علي – رضي الله عنه – ؟ فقال : صحيح. و قال البخاري في جزء رفع اليدين : ما زاد ابن عمر و علي و أبو حميد – رضي الله عنهم – في عشرة من أصحاب النبي صلى الله عليه و سلم أنه كان يرفع يديه إذا قام من السجدتين كله صحيح انتهى.
و قوله هنا و في الحديث " إذا قام من السجدتين " معناه : إذا قام من الركعتين نبه على ذلك الترمذي في جامعه. و قد جاء مصرحاً به في إحدى روايتي البخاري و لفظه : عن علي بن أبي طالب – رضي الله عنه – أن رسول الله صلى الله عليه و سلم كان يرفع يديه إذا كبر للصلاة حذو منكبيه ، و إذا أراد أن يركع ، و إذا رفع رأسه من الركوع ، و إذا قام من الركعتين فعل مثل ذلك. و أما حديث أبي هريرة – رضي الله عنه – فرواه أبو داود في سننه من حديث الزهري ، عن أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام ، عن أبي هريرة – رضي الله عنه - أنه قال : كان رسول الله صلى الله عليه و سلم إذا كبر للصلاة جعل يديه حذو منكبيه ، و إذا ركع فعل مثل ذلك ، و إذا رفع للسجود فعل مثل ذلك ، و إذا قام من الركعتين فعل مثل ذلك. إسناده صحيح على شرط مسلم.
الرواية الثالثة عن الإمام أحمد – رحمه الله تعالى – أن الرفع في كل خفض و رفع. ذكرها القاضي و غيره ، و هذه الرواية خلاف المشهور عنه و هي أضعف الروايات ، و العمل عن أحمد و جماهير الحنابلة ، أو جميعهم على خلافها ، و من جعلها مذهباً لأحمد فهو جاهل بمذهبه.
و قد تقدم نصه على خلافها في رواية حنبل ، و قال أبو داود : قيل له – يعني لأحمد – بين السجدتين أرفع يدي ؟ قال : لا. و يحتمل أن أحمد – رحمه الله تعالى – أراد بقوله في كل خفض و رفع الركوع و الرفع منه ، و يؤخذ ذلك بما ذكره صاحب المغني عن الإمام أحمد – رحمه الله تعالى – أنه سئل عن رفع اليدين في الصلاة ؟ فقال : في كل خفض و رفع. و قال فيه عن ابن عمر ، و أبي حميد أحاديث صحاح انتهى.
فظاهر احتجاجه بأحاديث ابن عمر ، و أبي حميد – رضي الله عنهم – يدل على أنه أراد بالخفض و الرفع الركوع و الرفع منه لأن الأحاديث الصحيحة عن ابن عمر و أبي حميد – رضي الله عنهم - إنما جاءت بذلك ، و لم تجئ بالرفع في السجود و الرفع منه ، و الله أعلم.
التنبيه الثامن
قال المؤلف في حاشية صفحة 101 ما نصه ( و وجه مخالفة البعير بوضع اليدين قبل الركبتين هو أن البعير يضع أول ما يضع ركبتيه ، و هما في يديه كما في لسان العرب و غيره من كتب اللغة ، و ذكر مثله الطحاوي في مشكل الآثار و شرح معاني الآثار ، و قد أغرب ابن القيم فقال أنه كلام لا يعقل و لا يعرفه أهل اللغة ، و يرد عليه المصادر التي أشرنا إليها فلتراجع ) ا.هـ و أقول هذا المنقول عن ابن القيم – رحمه الله تعالى – مقتطع من كلام له في زاد المعاد و لو استوفاه الناقل لكان أولى.
و نص كلام ابن القيم – رحمه الله تعالى - : ( و أما ما في حديث أبي هريرة – رضي الله عنه – يرفعه " إذا سجد أحدكم فلا يبرك كما يبرك البعير ، و ليضع يديه قبل ركبتيه " فالحديث – و الله أعلم – قد وقع فيه وهم من بعض الرواة فإن أوله يخالف آخره فإنه إذا وضع يديه قبل ركبتيه فقد برك كما يبرك البعير فإن البعير إنما يضع يديه أولاً ، و لما علم أصحاب هذا القول ذلك قالوا ركبتا البعير في يديه لا في رجليه فهو إذا برك وضع ركبتيه أولاً فهذا هو المنهي عنه. و هو فاسد لوجوه أحدها أن البعير إذا برك فإنه يضع يديه أولاً و تبقى رجلاه قائمتين فإذا نهض فإنه ينهض برجليه أولاً و تبقى يداه على الأرض و هذا هو الذي نهى عنه صلى الله عليه و سلم و فعل خلافه و كان أول ما يقع منه على الأرض منه الأقرب منها فالأقرب ، و أول ما يرتفع عن الأرض منه الأعلى فالأعلى ، و كان يضع ركبتيه أولاً ثم يديه ثم جبهته ، و إذا رفع رفع رأسه أولاً ثم يديه ثم ركبتيه ، و هذا عكس فعل البعير ، و هو صلى الله عليه و سلم نهى في الصلاة عن التشبه بالحيوانات فنهى عن بروك كبروك البعير ، و التفات كالتفات الثعلب ، و افتراش كافتراش السبع ، و إقعاء كإقعاء الكلب ، و نقر كنقر الغراب ، و رفع الأيدي وقت السلام كأذناب الخيل الشمس ، فهدي المصلي مخالف لهدي الحيوانات.
الثاني أن قولهم ركبتا البعير في يديه كلام لا يعقل و لا يعرفه أهل اللغة و إنما الركبة في الرجلين ، و إن أطلق اللتين في يده اسم الركبة فعلى سبيل التغليب . انتهى كلام ابن القيم – رحمه الله تعالى - و قوله هذا غير مدفوع ، و استغراب المؤلف له هو المستغرب في الحقيقة.
و أما قول بعضهم أن ركبتي البعير في يديه و هو الذي نقله المؤلف عن لسان العرب و غيره فقد رده صاحب القاموس في كتابه سعر السعادة ، و قال : الذي قال ركبة البعير في يديه وهم و غلط و خالف قول أئمة اللغة. و قال ياقوت الحموي في معجم البلدان : ركبة بضم أوله و سكون ثانيه و باء موحدة بلفظ الركبة التي في الرجل من البعير و غيره.
و هذا القول من صاحب القاموس و ياقوت موافق لقول ابن القيم – رحمه الله تعالى – و به يرد ما ادعي عليه من الإغراب و الله أعلم.
و لا يخفى على الصبيان الصغار فضلاً عن الرجال الكبار أن البعير إذا أراد البروك وضع يديه أولا ثم رجليه . و المصلي إذا قدم يديه على ركبتيه في السجود فقد برك كما يبرك البعير بلا شك. و إذا قدم ركبتيه على يديه عند القيام من السجود فقد قام كما يقوم البعير و كذلك من اعتمد بيديه على الأرض و رفع ركبتيه قبلهما ، و إذا قام من التشهد الأول.
فهذا متشبه بالبعير عند قيامه ، و الأول متشبه به عند بروكه ، و كل ذلك منهي عنه و علة النهي التشبه بالبعير في هيئة بروكه ، و هيئة قيامه ، و سواء قيل إن ركبتي البعير في يديه أو في رجليه فلا عبرة بذلك ، و إنما الاعتبار بالهيئة الفعلية. و من توقف فيما ذكرنا من التشبه فليشاهد البعير عند بروكه و عند قيامه و ليشاهد المقدم ليديه عند السجود ، و المقدم لركبتيه عند القيام حتى يرى تمام المشابهة منهما للبعير.
و هذا مما يستدل به على وقوع الغلط فيما رواه الدراوردي من حديث ابن عمر و أبي هريرة – رضي الله عنهم – فأما حديث ابن عمر رضي الله عنهما فرواه الدارقطني في سننه من طريق الدراوردي عن عبيد الله بن عمر ، عن نافع ، عن ابن عمر – رضي الله عنهما – أن رسول الله صلى الله عليه و سلم كان إذا سجد يضع يديه قبل ركبتيه. و رواه الحاكم في مستدركه بنحوه . و قال : صحيح على شرط مسلم و لم يخرجاه.
و أما حديث أبي هريرة – رضي الله عنه – فرواه أبو داود ، و النسائي ، و الدارقطني في سننهم من حديث الدراوردي عن محمد بن عبد الله بن الحسن ، عن أبي الزناد ، عن الأعرج ، عن أبي هريرة –رضي الله عنه – قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : إذا سجد أحدكم فلا يبرك كما يبرك البعير ، و ليضع يديه قبل ركبتيه. و قد اختلف الأئمة في الدراوردي فوثقه يحيى بن معين ، و علي بن المديني ، و قال أحمد كان معروفاً بالطلب ، و إذا حدث من كتابه فهو صحيح ، و إذا حدث من كتب الناس وهم. و كان يقرأ من كتبهم فيخطئ و ربما قلب حديث عبد الله بن عمر يرويها عن عبيد الله بن عمر. و قال أبو زرعة : كان سيئ الحفظ ، و ربما حدث من حفظه السيئ فيخطئ . و قال النسائي : ليس به بأس ، و حديثه عن عبيد الله بن عمر منكر. و قال أبو حاتم : لا يحتج به. و قال الساجي : كان من أهل الصدق و الأمانة إلا أنه كثير الوهم. و قال ابن سعد : كان ثقة كثير الحديث يغلط. قلت : فلعل ما في هذين الحديثين من أغلاطه. و الله أعلم.
قال ابن القيم – رحمه الله تعالى - : و كان يقع لي أن حديث أبي هريرة – رضي الله عنه – مما انقلب على بعض الرواة متنه و أصله ، و لعله : " و ليضع ركبتيه قبل يديه ". و قال علي القاري : الذي يظهر لي و الله أعلم أن هذا الحديث آخره انقلب على بعض الرواة و أنه كان " و لا يضع يديه قبل ركبتيه ". و قال صاحب القاموس في سفر السعادة : في حديث أبي هريرة – رضي الله عنه – وهم من بعض الرواة لأن أول الحديث ينقض آخره فإن البعير يضع يديه قبل ركبتيه حال البروك ، و الذي قال ركبة البعير في يديه وهم و غلط و خالف قول آئمة اللغة.
قلت : و قد رواه عبد الله بن نافع ، عن محمد بن عبد الله بن الحسن ، عن أبي الزناد ، عن الأعرج ، عن أبي هريرة – رضي الله عنه – أن النبي صلى الله عليه و سلم ، قال : ( يعمد أحدكم فيبرك في صلاته برك الجمل ) رواه أهل السنن إلا ابن ماجه ، و قال الترمذي : حديث غريب ، لا نعرفه من حديث أبي الزناد إلا من هذا الوجه انتهى.
و هذه الرواية سالمة من الانقلاب الذي في رواية الدراوردي ، و إذا فسرت بالتفسير الصحيح المعروف بالمشاهدة من بروك البعير صارت موافقة لحديث وائل بن حجر – رضي الله عنه – قال : ( رأيت رسول الله صلى الله عليه و سلم إذا سجد وضع ركبتيه قبل يديه ، و إذا نهض رفع يديه قبل ركبتيه ) رواه أهل السنن. و قال الترمذي : حسن غريب . و صححه ابن خزيمة ، و ابن حبان ، و الحاكم. و قال الذهبي : على شرط مسلم.
قال الحافظ ابن حجر العسقلاني : و لا يقدح فيه أن في سنده شريكاً القاضي و ليس بالقوي لأن مسلماً روى له فهو على شرطه. قلت و روى له البخاري في صحيحه تعليقاً . و لحديث وائل هذا شاهد من حديث أنس – رضي الله عنه – قال : " رأيت رسول الله صلى الله عليه و سلم انحط بالتكبير حتى سبقت ركبتاه يديه ". رواه الدارقطني ، و الحاكم ، و البيهقي. و قال الحاكم : صحيح على شرط الشيخين و لا أعرف له علة و لم يخرجاه. و أقره الذهبي في تلخيصه.
قال البخاري – رحمه الله تعالى – حديث أبي الزناد ، عن الأعرج ، عن أبي هريرة لا يتابع عليه فيه محمد بن عبد الله بن الحسن. قال : و لا أدري سمع من أبي الزناد أم لا. و قال الخطابي : حديث وائل بن حجر أثبت من هذا. يشير إلى ما رواه الدراوردي ، عن محمد بن عبد الله بن الحسن ، عن أبي الزناد ، عن الأعرج ، عن أبي هريرة – رضي الله عنه -. و قال الترمذي : و العمل عليه – يعني حديث وائل – عند أكثر أهل العلم يرون أن يضع الرجل ركبتيه قبل يديه و إذا نهض رفع يديه قبل ركبتيه.
و قال الإمام أحمد – رحمه الله – في كتاب الصلاة : و خصلة قد غلبت على الناس في صلاتهم و قد يفعله شبانهم و أهل القوة و الجلد منهم ينحط أحدهم من قيامه للسجود و يضع يديه على الأرض قبل ركبته و إذا نهض من السجود أو بعد ما يفرغ من التشهد يرفع ركبتيه من الأرض قبل يديه و هذا خطأ و خلاف ما عليه الفقهاء ، و إنما ينبغي له إذا انحط من قيامه للسجود أن يضع ركبتيه على الأرض ثم يديه ثم جبهته بذلك جاء الأمر عن النبي صلى الله عليه و سلم فأمروا بذلك و انهوا من رأيتم يفعل ذلك انتهى.
و قد روى حديث أبي هريرة – رضي الله عنه – مستقيم المتن على وفق ما جاء في حديث وائل و أنس - رضي الله عنهما – و لكن إسناده ضعيف. فروى البيهقي من طريق إبراهيم بن موسى ، عن محمد بن فضيل ، عن عبد الله بن سعيد ، عن جده ، عن أبي هريرة – رضي الله عنه – عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : ( إذا سجد أحدكم فليبدأ بركبتيه قبل يديه و لا يبرك بروك الجمل ). قال البيهقي : و كذلك رواه أبو بكر بن أبي شيبة عن محمد بن فضيل إلا أن عبد الله بن سعيد المقبري ضعيف.
قلت : و رواه الترمذي في جامعه تعليقاً ، و قال فيه عن عبد الله بن سعيد المقبري ، عن أبيه ، عن أبي هريرة – رضي الله عنه – عن النبي صلى الله عليه و سلم . قال : و عبد الله بن سعيد المقبري ضعفه يحيى بن سعيد القطان و غيره انتهى.
و يتأيد حديث عبد الله بن سعيد بما تقدم عن وائل ، و أنس رضي الله عنهما ، و يؤيده أيضاً ما رواه أبو داود في سننه بإسناد جيد عن ابن عمر – رضي الله عنهما – أن رسول الله صلى الله عليه و سلم نهى أن يعتمد الرجل على يده في الصلاة . و في لفظ نهى أن يعتمد الرجل على يديه إذا نهض في الصلاة.
قال ابن القيم – رحمه الله تعالى : و لا ريب أنه إذا وضع يديه قبل ركبتيه اعتمد عليهما فيكون قد أوقع جزءاً من الصلاة معتمداً على يديه بالأرض ، و أيضاً فهذا الاعتماد بالسجود نظير الاعتماد في الرفع منه سواء فإذا نهى عن ذلك كان نظيره كذلك انتهى.
فإن قيل إن النبي صلى الله عليه و سلم كان إذا رفع رأسه من السجود من السجدة الثانية جلس و اعتمد على الأرض رواه البخاري من حديث مالك بن الحويرث – رضي الله عنه – و ظاهر هذا الحديث أنه معارض لما في حديث ابن عمر رضي الله عنهما.
فالجواب أن يقال ليس هذا مما نحن فيه فإن هذه الجلسة تسمى جلسة الاستراحة و من اعتمد على الأرض إذا أراد أن يقوم من هذه الجلسة فإنما يعتمد بيديه و هما بحذاء جنبه لا من أمامه فلا يكون متشبهاً بالبعير حال قيامه.
قال العيني في شرح البخاري : فيه بيان الكيفية بأن يجلس أولاً ثم يعتمد ثم يقوم. قال الفقهاء يعتمد كما يعتمد العاجن للخمير.
قلت : و هذا يفعله من تشق عليه المبادرة بالقيام كالشيوخ و من به علة و نحوهم. و قد روي أن النبي صلى الله عليه و سلم كان يفعل ذلك لما بدن – أي أخذه اللحم -.
قال الحافظ ابن حجر في فتح الباري لما ذكر قوله صلى الله عليه و سلم ( لا تبادروني بالقيام فإني قد بدنت ) قال فدل على أنه يفعلها لهذا السبب فلا تشرع إلا في حق من اتفق له نحو ذلك انتهى.
و مما ذكرنا يعلم أن الاعتماد المنهي عنه في حديث ابن عمر – رضي الله عنهما – هو ما كان فيه تشبه بالبعير عند بروكه و عند قيامه. و ما جاء في حديث مالك بن الحويرث – رضي الله عنه – فهو أن يعتمد بيديه على الأرض و هما بحذاء جنبيه لا من أمامه. و هذا الاعتماد نوع و ما في حديث ابن عمر – رضي الله عنهما – نوع آخر فلا تعارض حينئذ بين الحديثين ، و الله أعلم.
التنبيه التاسع
قال المؤلف في صفحة 112 : ( و كان يرفع يديه مع هذا التكبير أحياناً – يعني عند الرفع من السجود - ) ثم قال المؤلف في الحاشية ما نصه : ( و بالرفع ههنا و عند كل تكبيرة قال أحمد ) ا.هـ و نحوه في صفحة 115 و حاشيتها ، و ظاهر كلام المؤلف في هذين الموضعين أن هذا هو قول أحمد و ليس له قول غيره.
و قد تقدم في التنبيه السابع أن هذا هو أضعف الروايات عن الإمام أحمد ، و أن الصحيح عنه الرفع في ثلاثة مواضع لا غير : عند افتتاح الصلاة ، و عند الركوع ، و عند الرفع منه. و هذا هو الذي حكاه الترمذي عن أحمد و لم يحك عنه غيره. و نقله عنه أيضاً أبو داود ، و حنبل. و نقلا أيضاً نصه بخلاف ما قرره الشيخ الألباني في هذين الموضعين . و قد تقدم كل هذا في التنبيه السابع فليراجع
التنبيه العاشر
قال المؤلف في حاشية صفحة 112 نقلاً عن بدائع الفوائد لابن القيم – رحمه الله تعالى – ما نصه : ( و نقل عنه ابن الأثرم ) ثم قال أيضاً : ( قال ابن الأثرم ) ا.هـ و لفظ هذا الأخير في البدائع قال ابن أثرم بدون أل.
و الذي يظهر لي و الله أعلم أنه قد وقع في هذا الاسم غلط إما مطبعي و إما من بعض النساخ قبل ذلك إذ لم أر في أصحاب الإمام أحمد من يقال له ابن الأثرم و لا ابن أثرم. و إنما فيهم الأثرم بدون لفظ ابن . و هو لقب : لأبي بكر أحمد بن محمد بن هانئ الطائي. و فيهم أيضاً : أحمد بن أصرم بالصاد المهملة.
فالمنقول عنه ههنا يحتمل أنه الأثرم بدون لفظة ابن و يحتمل أنه ابن أصرم ، و أن الصاد أبدلت بالثاء تحريفاً ، و الله أعلم.
التنبيه الحادي عشر
في هامش صحفة 126 تعقب الألباني على ابن القيم - رحمه الله تعالى – في قوله تبعاً لشيخه شيخ الإسلام أبي العباس ابن تيمية – رحمه الله تعالى – أنه لم يجئ حديث صحيح فيه لفظ إبراهيم و آل إبراهيم معاً – يعني في قوله " كما صليت على إبراهيم و آل إبراهيم ، و كما باركت على إبراهيم و آل إبراهيم ". ثم تبجح الألباني بإيراد الرواية بذلك ، قال : ( و هذا في الحقيقة من فوائد هذا الكتاب ) – يعني بذلك كتابه إلى آخر كلامه.
و أقول : بل هذا من فوائد كتاب الاختيارات للشيخ علاء الدين المعروف بابن اللحام ، و من فوائد فتح الباري للحافظ ابن حجر العسقلاني. أما ابن اللحام فإنه ذكر في باب صفة الصلاة أن شيخ الإسلام أبا العباس – رحمه الله تعالى – قال الأحاديث التي في الصحاح لم أجد في شيء منها : " كما صليت على إبراهيم ، و على آل إبراهيم " بل المشهور في أكثر الأحاديث و الطرق لفظ آل إبراهيم ، و في بعضها لفظ إبراهيم و روى البيهقي الجمع بين لفظ إبراهيم و آل إبراهيم بإسناد ضعيف عن ابن مسعود . قال ابن اللحام : قلت بل روى البخاري في صحيحه الجمع بينهما.
و أما ابن حجر فقال في شرح كتاب الدعوات من صحيح البخاري ما ملخصه : و ادعى ابن القيم أن أكثر الأحاديث بل كلها مصرحة بذكر محمد و آل محمد و بذكر آل إبراهيم فقط أو بذكر إبراهيم و آل إبراهيم معاً. قال ابن حجر : و غفل عما وقع في صحيح البخاري كما تقدم في أحاديث الأنبياء في ترجمة إبراهيم عليه السلام من طريق عبد الله بن عيسى بن عبد الرحمن بن أبي ليلى ، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى بلفظ " كما صليت على إبراهيم و على آل إبراهيم إنك حميد مجيد " كذا في قوله كما باركت.
ثم ذكر الحافظ روايات أخر لغير البخاري فيها الجمع بين إبراهيم و آل إبراهيم. و الظاهر أن الشيخ الألباني أخذ تعقبه على ابن القيم من كلام ابن حجر و يدل على ذلك إحالته في هامش صفحة 128 على فتح الباري في معرفة الأجوبة عن وجه التشبيه في قوله " كما صليت على إبراهيم و آل إبراهيم " ، و الأجوبة و التعقب على ابن القيم كلها في باب واحد فلو أن الألباني نسب التعقب إلى قائله الأول لكان أليق به و أولى من نسبته إلى نفسه.
التنبيه الثاني عشر
في صفحة 138 ذكر المؤلف قوله صلى الله عليه و سلم في الحديث الصحيح ( اللهم إني أعوذ بك من المأثم و المغرم ) ثم فسر المغرم في الحاشية بأن المراد به الذنوب و المعاصي.
و أقول هذا قول ضعيف جداً ذكره ابن الأثير في النهاية و تبعه ابن منظور في لسان العرب ، و لم يعرج على ذلك غيرهما من أئمة اللغة فيما علمت ، و لم يعرج عليه أيضاً ابن الأثير في جامع الأصول ، و على هذا القول الضعيف يكون معنى المأثم و المغرم واحداً ، و لا يكون للعطف فائدة ، و من المعلوم أن العطف يقتضي المغايرة ، و الصحيح أن المراد بالمغرم ههنا الغرم و هو الدين قال الجوهري : الغرامة ما يلزم اداؤه و كذلك المغرم و الغرم.
و قال ابن الأثير في جامع الأصول : المغرم بأن يلتزم الإنسان ما ليس عليه كمن يتكفل إنساناً بدين فيزنه عنه. و قال الراغب الأصفهاني : الغرم ما ينوب الإنسان في ماله من ضرر لغير جناية يقال غرم كذا غرماً و مغرماً . و قال النووي في شرح مسلم : المغرم معناه الغرم و هو الدين.
و قال ابن حجر في فتح الباري : المغرم الدين يقال غرم بكسر الراء أي أدان قال و قد استعاذ صلى الله عليه و سلم من غلبة الدين. قلت : و في الحديث الذي ساق الشيخ الألباني بعضه ما يبين أن المراد بالمغرم الدين ، ففي الصحيحين ، و سنني أبي داود و النسائي عن عائشة رضي الله عنها ( أن رسول الله صلى الله عليه و سلم كان يدعو في الصلاة : اللهم إني أعوذ بك من عذاب القبر ، و أعوذ بك من فتنة المسيح الدجال ، و أعوذ بك من فتنة المحيا و الممات ، اللهم إني أعوذ بك من المأثم و المغرم ) فقال له قائل : ما أكثر ما تستعيذ من المغرم!. فقال : ( إن الرجل إذا غرم حدث فكذب ، و وعد فاخلف ). قال الحافظ ابن حجر في فتح الباري : و المراد أن ذلك شأن من يستدين غالباً انتهى.
و في صحيح مسلم عن أبي اليسر كعب بن عمرو – رضي الله عنه – قال : كان علي على فلان بن فلان الحزامي مال فأتيت أهله فسلمت ، فقلت : ثم هو ؟. قالوا : لا. فخرج علي ابن له جفر ، فقلت له : أين أبوك ؟. قال : سمع صوتك فدخل أريكة أمي. فقلت : أخرج إليّ فقد علمت أين أنت ، فخرج فقلت : ما حملك على أن اختبأت مني ؟. قال : أنا و الله أحدثك ثم لا أكذبك ، خشيت و الله أن أحدثك فاكذبك ، و أن أعدك فأخلفك ، و كنت صاحب رسول الله صلى الله عليه و سلم ، و كنت و الله معسراً.
و ذكر تمام الحديث ، و المقصود منه قوله : خشيت و الله أن أحدثك فاكذبك ، و أن أعدك فأخلفك. فهذا صاحب رسول الله صلى الله عليه و سلم اختبأ من غريمه من أجل إعساره خوفاً من الوقوع في الكذب و إخلاف الوعد ، و الذي خشي منه صاحب رسول الله صلى الله عليه و سلم ، و هو الذي كان رسول الله صلى الله عليه و سلم يتعوذ في صلاته من انعقاد سببه و هو الغرم ، و الله أعلم. و الحكمة في جمع النبي صلى الله عليه و سلم بين المأثم و المغرم ، أن المأثم يوجب خسارة الآخرة ، و المغرم يوجب خسارة الدنيا. أفاد ذلك العلامة ابن القيم – رحمه الله تعالى – و الله الموفق.
التنبيه الثالث عشر
قال المؤلف في آخر النبذة ما نصه : ( تنبيه هام : أن رسالة الصلاة المنسوبة إلى الأمام أحمد – رضي الله عنه – و التي أعيد طبعها مراراً قد ثبت لدينا أنه لا تصح نسبتها إلى الإمام أحمد بل قال الحافظ الذهبي فيها : أخشى أن تكون موضوعة. و سننشر تحقيقنا في ذلك قريباً إن شاء الله تعالى و عليه فلا يغتر أحد بما جاء فيها من المخالفة لكتابنا هذا ) ا.هـ.
و أقول : هذا تنبيه غريب جداً ، و جراءة غير محمودة. و لقد شان المؤلف نبذته بهذا التنبيه المتوهم ، و أظنه أراد بذلك دفع ما قرره الإمام أحمد – رحمه الله تعالى – في رسالته من تقديم الركبتين قبل اليدين في السجود لانه مخالف لما رآه و قرره في نبذته. و قد تقدم كلام الإمام أحمد – رحمه الله تعالى – بحروفه في التنبيه الثامن فليراجع.
و كلام الإمام أحمد – رحمه الله تعالى – هو حق بلا ريب و دليله حديث وائل بن حجر ، و حديث أنس ، و حديث أبي هريرة أيضاً بدون الزيادة التي رواها الدراوردي كما تقدم إيضاح ذلك.
و أما قول صاحب النبذة أنه ثبت لديه أنه لا تصح نسبة الرسالة إلى الإمام أحمد فهو مجرد دعوى لا دليل عليها و يا ليت شعري هل شهد عنده رجال مرضيون أن مهنا بن يحيى الشامي وضعها و نسبها إلى الإمام أحمد ، أو وضعها من دون مهنا من رواتها أو وضعها صاحب طبقات الحنابلة القاضي أبو الحسين بن القاضي أبي يعلى بن الفراء.
و إذا لم يثبت عنده الوضع بشهادة العدول فهل في الرسالة ما يخالف قول الإمام أحمد – رحمه الله تعالى – في الأصول أو في الفروع حتى يستدل بذلك على أنها موضوعة أو محرفة بالزيادة و النقصان ، و إذا كان كل هذا معدوماً فلا دليل له إلا الرجم بالغيب و القول بغير علم. فإن قال إن الدليل على ذلك قول الذهبي فيها " و أخشى أن تكون موضوعة ".
فالجواب عنه من وجوه : أحدها ان الذهبي – رحمه الله تعالى – قد حماه الله بالورع فلم يجزم بالوضع بغير دليل كما فعل صاحب النبذة. و إذا كان الذهبي لم يجزم بالوضع فأي متعلق لصاحب النبذة في قوله. الثاني : لو قدرنا أن الذهبي جزم بذلك فجزمه غير مقبول إلا ببينة. الثالث : أن الشيخ الموفق أبا محمد بن قدامة المقدسي – رحمه الله تعالى – قد نقل من الرسالة في كتابه المغني جازماً بنسبتها إلى الإمام أحمد – رحمه الله تعالى – و لم يعب ذلك عليه أحد لا من الحنابلة و لا من غيرهم. و قد نقل الحافظ ابن حجر في فتح الباري ما نقله صاحب المغني و أقره.
و كذلك الشيخ عبد الرحمن بن أبي عمر نقل في كتابه الشرح الكبير من الرسالة جازماً بنسبتها إلى الإمام أحمد ، و كذلك العلامة الحافظ ابن القيم – رحمه الله تعالى – نقل منها في كتاب الصلاة جازماً بنسبتها إلى الإمام أحمد و لما انتهى ما نقله قال بعده : هذا كله كلام أحمد. و نقل من مضمونها في موضع آخر ثم قال و قد احتج أحمد بهذا بعينه.
و كذلك الشيخ محمد بن مفلح قد نقل منها في كتاب الفروع جازماً بنسبتها إلى الإمام أحمد . و كذلك غيرهم من أئمة الحنابلة. و لا نعلم أحداً عاب على هؤلاء الأئمة الأعلام لا في نقلهم منها و لا في نسبتهم لها إلى الإمام أحمد – رحمه الله تعالى -.
و قد قرر الأصوليون أن المثبت مقدم على النافي. هذا إذا كان كل منهما جازماً في دعواه ، و أما من لم يجزم فلا عبرة بقوله. و هؤلاء الأئمة من أكابر الحنابلة قد جزموا بنسبة الرسالة إلى الإمام أحمد و هم أعلم بكلام إمامهم و كتبه و مذهبه ممن سواهم من أهل المذاهب ، و قد تلقاها من قبلهم و من بعدهم من الحنابلة و غيرهم من أهل العلم جيلاً بعد جيل جازمين بنسبتها إلى الإمام أحمد و لم يقدح فيها أحد لا من الحنابلة و لا من غيرهم حتى جاء الشيخ الألباني في آخر القرن الرابع عشر فقد فيها و في نسبتها إلى مصنفها بغير مستند يسوغ به القدح ، و لو استجاز الناس ما استجازه الشيخ الألباني لأوشك أن تنكر كتب السلف أو أكثرها لأن كثيراً منها لم تبق أسانيدها متصلة إلى اليوم ، و إنما تعرف بالنسبة و الاستفاضة و التلقي جيلاً بعد جيل ، و كذلك غالب كتب العلماء بعدهم ليس لها أسانيد متصلة و إنما تعرف بالتلقي و النسبة و الاستفاضة و تناسب كلام المصنف و التئام بعضه مع بعض ، و ما زال أهل العلم يكتفون في نسبة الكتب إلى مصنفيها بمجرد التلقي و الاستفاضة ، و ينكرون منها ما لم يلتئم مع كلام المنسوب إليه و ما كان مخالفاً لاقواله في الأصول أو في الفروع.
و من تأمل رسالة الإمام أحمد – رحمه الله تعالى – وجدها ملائمة لكلامه و موافقة لمذهبه ، و من أنكرها أو أنكر شيئاً منها لذلك لقلة علمه بكلام أحمد و مذهبه. و أن العجب لا ينقضي من سوء جراءة الشيخ الألباني و اقدامه على القدح في تلك الرسالة الجليلة بغير برهان ، فالله المستعان و عليه التكلان و لا حول و لا قوة إلا بالله العلي العظيم ، و هو حسبنا و نعم الوكيل ، و صلى الله على نبينا محمد و على آله و أصحابه و من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين ، و سلم تسليماً كثيراً.
و قد وقع الفراغ من تسويد هذه التنبيهات في أثناء سنة 1376 ثم كان الفراغ من كتابة هذه النسخة في يوم الجمعة سادس عشر ربيع الأول سنة 1382 على يد كاتبها و جامعها الفقير إلى الله تعالى حمود بن عبد الله التويجري غفر الله له و لوالديه و لجميع المسلمين و المسلمات الأحياء منهم و الأموات و الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات.
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله نحمده ، و نستعينه ، و نستغفره ، و نتوب إليه ، و نعوذ بالله من شرور أنفسنا ، و سيئات أعمالنا ، من يهده الله فلا مضل له ، و من يضلل فلا هادي له.
و أشهد أن لا إله إلا الله ، وحده لا شريك له ، و أشهد أن محمداً عبده و رسوله. أرسله بالهدى و دين الحق ليظهره على الدين كله و لو كره المشركون. اللهم صل على عبدك و رسولك محمد و على آله و أصحابه ، و من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين ، و سلم تسليماً كثيراً.
أما بعد ، فهذه تنبيهات على النبذة المسماة " صفة صلاة النبي صلى الله عليه و سلم " تأليف الشيخ محمد ناصر الدين الألباني الدمشقي. الطبعة الثانية سنة 1375 هـ بدمشق.
و قبل ذكر التنبيهات نبدأ بشكر الشيخ الألباني على اعتنائه بشأن الصلاة ، و على إنكاره على المبتدعين في النية ، و على رده على من أنكر الصلاة على آل النبي صلى الله عليه و سلم ، و على إنكاره على المحافظين على التوسلات المبتدعة ؛ كالتوسل بالجاه ، و الحرمة ، و الحق ، و غير ذلك مما لا يجوز التوسل به.
و الله المسئول أن يجعلنا و إياه من حزبه المفلحين الذين يدعون إلى الخير ، و يأمرون بالمعروف ، و ينهون عن المنكر.
التنبيه الأول
قال المؤلف في آخر الصفحة الأولى من مقدمة الطبع و أول الصفحة الثانية منها ما نصه : ( و قد أظهروا إعجابهم باسلوب الكتاب و طريقة عرضه لهدي النبي صلى الله عليه و سلم في أعظم ركن من أركان الإسلام ، ألا و هو الصلاة ) ا.هـ.
أقول : قد سهى المؤلف عفا الله عنا و عنه فيما أطلقه من القول بأن الصلاة هي أعظم أركان الإسلام إذ لا بد من تقييد ذلك بما بعد الشهادتين ، و هذا مما لا خلاف فيه بين المسلمين.
و في الصحيحين ، و مسند الإمام أحمد ، و جامع الترمذي ، و سنن النسائي ؛ عن ابن عمر رضي الله عنهما ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : ( بني الإسلام على خمس شهادة أن لا إله إلا الله و أن محمداً رسول الله ، و اقام الصلاة ، و إيتاء الزكاة ، و حج البيت ، و صوم رمضان ). و قد رواه محمد بن نصر المروذي في كتاب الصلاة بلفظ : ( بني الإسلام على خمس دعائم ) و الباقي مثله. و في رواية لمسلم ( بني الإسلام على خمسة ) و الباقي نحوه.
و روى الإمام أحمد ، و أبو بكر الآجري : عن جرير بن عبد الله البجلي رضي الله عنه ، قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : ( إن الإسلام بني على خمس ... ) فذكر مثل حديث ابن عمر رضي الله عنهما.
و في المسند ، و صحيح مسلم ، و السنن : عن عمر رضي الله عنه ، أن جبريل قال للنبي صلى الله عليه و سلم : أخبرني عن الإسلام ؟. قال : ( الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله و أن محمداً رسول الله ، و تقيم الصلاة ، و تؤتي الزكاة ، و تصوم رمضان ، و تحج البيت إن استطعت إليه سبيلاً ). قال : صدقت.
و رواه البخاري ، و مسلم ، و أهل السنن إلا الترمذي من حديث أبي هريرة رضي الله عنه بنحوه.
ففي هذه الأحاديث كلها الأهم فالأهم ، و من المعلوم بالضرورة أن النبي صلى الله عليه و سلم لم يؤمر في أول البعثة بغير الدعاء إلى التوحيد و الإقرار برسالته و كان على هذا في مدة عشر سنين أو نحوها ، ثم فرضت عليه الصلوات الخمس بعد. و هذا يدل على الاهتمام بالشهادتين ، و يدل على أنهما أعظم أركان الإسلام.
و في الصحيحين ، و المسند ، و السنن عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه و سلم لما بعث معاذاً إلى اليمن قال : ( إنك تأتي قوماً من أهل الكتاب فادعهم إلى شهادة أن لا إله إلا الله و أني رسول الله فإن هم أطاعوك لذلك فاعلمهم أن الله افترض عليهم خمس صلوات في كل يوم و ليلة ... ) الحديث.
و هذا يدل على الاهتمام بالشهادتين ، و انهما اعظم أركان الإسلام ، و قد اختلف العلماء في كفر تارك الصلاة عمداً ، و حل دمه و ماله إذا دعي إلى فعلها فأصر على الترك ، و لم يختلفوا في كفر تارك الشهادتين أو إحداهما و حل دمه و ماله و الدليل على ذلك ما في الصحيحين ، و المسند ، و السنن ، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : ( أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله فمن قال لا إله إلا الله فقد عصم مني نفسه و ماله إلا بحقه و حسابه على الله ).
و في صحيح مسلم عنه رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : ( أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله و يؤمنوا بي و بما جئت به فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دمائهم و أموالهم إلا بحقها و حسابهم على الله ).
و الأحاديث في هذا كثيرة. و كلها تدل على الاهتمام بالشهادتين قبل جميع الواجبات و تفيد أنها أعظم أركان الإسلام.
و قد أفاد هذان الحديثان و غيرهما من الأحاديث أن الصلاة من حقوق لا إله إلا الله بل هي آكد حقوقها بعد الشهادة بالرسالة و هذا دليل على أن الصلاة ليست بأعظم أركان الإسلام و إنما أعظم أركانه الشهادتان ثم الصلاة بعدهما ، و هذا بيّن بحمد الله تعالى و لا خلاف فيه بين المسلمين.
و ما وقع من المؤلف وفقنا الله و إياه فهو لا شك سهو منه ، و قل من يسلم من ذلك ، و لا معصوم إلا الأنبياء صلوات الله و سلامه عليهم أجمعين
التنبيه الثاني
قال المؤلف في حاشية صفحة 43 ما نصه ( و أما الجمع بين الوضع و القبض فبدعة ) ا.هـ.
و أقول الجزم بالتبديع فيما ذكر ههنا فيه نظر ، إذ لا يخفى أن من قبض بيمينه على شماله فقد وضعها عليها، و لا يتأتى قبض بدون وضع. و الظاهر من الأحاديث أن النبي صلى الله عليه و سلم كان يقبض باليمنى على اليسرى تارة. و تارة يضعها عليها بدون قبض. و القبض يستلزم الوضع ، و لا ينعكس. و إذا كان من المعلوم أن القبض لا يكون إلا بعد الوضع فكيف يطلق على فاعله أنه مبتدع.
التنبيه الثالث
قال المؤلف في حاشية صفحة 48 تعليقاً على قول النبي صلى الله عليه و سلم في الدعاء المشهور : " و الشر ليس إليك " ما نصه : ( أي لا ينسب الشر إلى الله تعالى لانه ليس من فعله تعالى ، بل أفعاله عز و جل كلها خير لأنها دائرة بين العدل و الفضل و الحكمة ، و هذا كله خير لا شر فيه . و الشر إنما صار شراً لانقطاع نسبته و اضافته إليه تعالى. قال ابن القيم – رحمه الله تعالى - : و هو سبحانه خالق الخير و الشر ، فالشر في بعض مخلوقاته لا في خلقه و فعله ، و لهذا تنزه سبحانه عن الظلم الذي حقيقته وضع الشيء في غير محله فلا يضع الأشياء إلا في مواضعها اللائقة بها و ذلك خير كله . و الشر وضع الشيء في غير محله فإذا وضع في محله لم يكن شراً فعلم أن الشر ليس إليه . ا.هـ.
و أقول : في أول كلام الشيخ الألباني نظر ، لأن إخراج الشر من أفعال الله تعالى يقتضي أن يكون للشر خالق غير الله تعالى ، و هذا من أقوال المجوس و القدرية ، و قد قال الله تعالى ( الله خالق كل شيء ) و قال تعالى ( هل من خالق غير الله ) و قال تعالى ( و نبلوكم بالشر و الخير فتنة ) و هذه الآية الكريمة صريحة في رد قول من قال إن الشر ليس من فعل الله تعالى. و مثلها قوله تعالى ( و بلوناهم بالحسنات و السيئات ) أي بالنعم و المصائب ( لعلهم يرجعون ) و قوله تعالى ( و إن تصبهم حسنة يقولوا هذه من من عند الله و إن تصبهم سيئة يقولوا هذه من عندك قل كل من عند الله ... ) الآية. و قال تعالى ( و إذا أراد الله بقوم سوءاً فلا مرد له و ما لهم من دونه من وال ) و قال تعالى ( قل من ذا الذي يعصمكم من الله إن أراد بكم سوءاً أو أراد بكم رحمة ) و قال تعالى إخباراً عن الجن ( و أنا لا ندري أشر أريد بمن في الأرض أم أراد بهم ربهم رشداً ). قال ابن كثير – رحمه الله تعالى - : و هذا من أدبهم في العبارة حيث اسندوا الشر إلى غير فاعل ، و الخير أضافوه إلى الله عز و جل انتهى.
و قال تعالى ( قل هل أنبئكم بشر من ذلك مثوبة عند الله من لعنه الله و غضب عليه و جعل منهم القردة و الخنازير و عبد الطاغوت أولئك شر مكاناً و أضل عن سواء السبيل ). و قال تعالى ( قل أفانبئكم بشر من ذلكم النار و عدها الله الذين كفروا و بئس المصير ) و قال تعالى ( إنا كل شيء خلقناه بقدر ) و قال تعالى ( فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام ، و من يرد أن يضله يجعل صدره ضيقاً حرجاً كأنماً يصعد في السماء ، كذلك يجعل الله الرجس على الذين لا يؤمنون ) و قال تعالى ( فأما من أعطى و اتقى ، و صدق بالحسنى ، فسنيسره لليسرى ، و أما من بخل و استغنى ، و كذب بالحسنى ، فسنيسره للعسرى ) و قال تعالى ( فألهمها فجورها و تقواها ).
إلى غير ذلك من الآيات الدالة على أن الله تبارك و تعالى خالق الخير و الشر و أنه لا يكون في الوجود شيء إلا بقضائه و قدره ، و ما شاء كان و ما لم يشأ لم يكن ، و أنه تبارك و تعالى يفعل بمن شاء من عباده خيراً و ييسر لهم أسباب ذلك نعمة منه و فضلا ، و يفعل بآخرين شراً و ييسر لهم أسباب ذلك حكمة منه و عدلاً ، لا يسأل عما يفعل و هم يسألون.
و في الدعاء المأثور عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه كان يقول ( اللهم إني أسألك من كل خير خزائنه بيدك ، و أعوذ بك من كل شر خزائنه بيدك ) رواه الحاكم في مستدركه من حديث ابن مسعود – رضي الله عنه – و صححه.
و في حديث آخر ( أسألك أن تجعل كل قضاء قضيته لي خيراً ) رواه ابن ماجه من حديث عائشة – رضي الله عنها – و صححه الحاكم و وافقه الذهبي في تلخيصه.و في حديث المنام المشهور أن الله تعالى قال لنبيه صلى الله عليه و سلم ( يا محمد إذا صليت فقل : اللهم إني أسألك فعل الخيرات ، و ترك المنكرات ، و حب المساكين ، و إذا أردت بعبادك فتنة فاقبضني إليك غير مفتون ) رواه الترمذي و غيره من حديث ابن عباس – رضي الله عنهما – و قال الترمذي : حسن غريب. و رواه الإمام أحمد و الحاكم و غيرهما من حديث معاذ بن جبل – رضي الله عنه -.
و رواه الحاكم أيضاً من حديث عبد الرحمن بن عائش الحضرمي – رضي الله عنه – و قال : صحيح الإسناد و لم يخرجاه ، و وافقه الحافظ الذهبي في تلخيصه.
و في هذه الأحاديث مع ما تقدم من الآيات أبلغ رد على من قال : إن الله تعالى لم يخلق الشر أو إن الله تعالى لا يفعله بأحد من خلقه. كما يقول ذلك المجوس و القدرية الذين هم مجوس هذه الأمة.
قال الخطابي : إنما جعلهم مجوساً لمضاهاة مذهبهم مذهب المجوس في قولهم بالأصلين و هما النور و الظلمة ، يزعمون أن الخير من فعل النور ، و الشر من فعل الظلمة ، فصاروا ثانوية ، و كذلك القدرية يضيفون الخير إلى الله عز و جل ، و الشر إلى غيره.
و الله سبحانه و تعالى خالق الخير و الشر لا يكون شيء منهما إلا بمشيئته ، و خلقه الشر شراً في الحكمة كخلقه الخير خيراً. فالأمران معا مضافان إليه خلقاً و إيجاداً ، و إلى الفاعلين لهما من عباده فعلا و اكتساباً . انتهى.
و أحسن ما قيل في قوله صلى الله عليه و سلم ( و الشر ليس إليك ) ما نقله النووي عن الخطابي ، و نقله ابن الأثير عن الهروي : إنه إرشاد إلى الأدب في الثناء على الله تعالى بأن تضاف إليه محاسن الأمور دون مساويها على جهة الأدب.
قلت و هذا كما أخبر الله تعالى عن الجن أنهم أضافوا الخير إليه ، و أضافوا الشر إلى غير فاعل ، و مثل ذلك ما في فاتحة الكتاب ( إهدنا الصراط المستقيم ، صراط الذين أنعمت عليهم ، غير المغضوب عليهم و لا الضالين ). ففي هؤلاء الآيات الكريمات الإرشاد إلى الأدب في الدعاء و الثناء على الله تعالى بأن تضاف إليه محاسن الأمور كالانعام و الهداية و غير ذلك من أنواع الخير بأن يضاف الشر و الغضب و ما في معنى ذلك إلى غير فاعل مع العلم بأن الله تعالى هو خالق الخير و الشر و المتصف بالانعام و الغضب.
قال النووي – رحمه الله - : و أما قوله ( و الشر ليس إليك ) فمما يجب تأويله لأن مذهب أهل الحق أن كل المحدثات فعل الله تعالى و خلقه ، سواء خيرها و شرها ، و حينئذ يجب تأويله ، و فيه خمسة أقوال أحدها معناه لا يتقرب به إليك قاله الخليل بن أحمد ، و النضر بن شميل ، و إسحاق بن راهويه ، و يحيى بن معين ، و أبو بكر بن خزيمة ، و الأزهري ، و غيرهم.
و الثاني حكاه الشيخ أبو حامد عن المزني و قاله غيره أيضا معناه لا يضاف إليك على انفراده ، لا يقال يا خالق القرده و الخنازير ، و يا رب الشر ، و نحو هذا ، و إن كان خالق كل شيء ، و رب كل شيء ، و حينئذ يدخل الشر في العموم.
و الثالث : معناه و الشر لا يصعد إليك إنما يصعد الكلم الطيب و العمل الصالح.
و الرابع : معناه و الشر ليس شرا بالنسبة إليك فإنك خلقته بحكمة بالغة ، و إنما هو شر بالنسبة إلى المخلوقين.
و الخامس : حكاه الخطابي أنه كقولك فلان إلى بني فلان إذا كان عداده فيهم أوصفوه إليهم. انتهى.
و القول الرابع هو الذي قرره ابن القيم – رحمه الله تعالى – كما تقدم في كلامه فإنه قرر أولاً أن الله تعالى خالق الخير و الشر ، ثم قرر أن الشر إنما يكون شراً بالنسبة إلى المخلوقين ، و أما بالنسبة إلى الخالق فلا يكون شراً ، لانه لا يضع شيئاً إلا في محله اللائق به ، و هذا معنى قوله " لا في خلقه و فعله " يعني أن خلقه و فعله الشر لا يسمى في حقه شراً لانه تعالى حكيم يضع الأشياء في مواضعها و عدل لا يجور و لا يظلم أحداً فعلم من هذا أن الشر ليس إليه ، و أن خلقه و فعله كله خير ، و إن تضرر بذلك بعض المخلوقين ، و كان شراً بالنسبة إليهم.
فإن قيل إن كلام الشيخ الألباني قريب من كلام ابن القيم – رحمه الله تعالى – فما وجه الاعتراض على الألباني ؟.
فالجواب أن يقال : إن بين كلام ابن القيم و بين أول كلام الألباني بوناً بعيداً. أما الألباني فانه نفى أن يكون الشر من أفعال الله تعالى و هذا هو قول القدرية بعينه ، و أما ابن القيم – رحمه الله تعالى – فانه أثبت أن الله تعالى خالق الخير و الشر ، ثم نزه أفعال الرب تبارك و تعالى عن الاتصاف بوصف الشر ، لانه تعالى لا يضع شيئاً إلا في موضعه اللائق به ، و ذلك عدل منه تعالى و ليس شراً بالنسبة إليه ، و هذا من أقوال أهل الحق.
و لو أن الشيخ الألباني قال : إن الشر لا ينسب إلى الله تعالى لانه ليس في فعله تبارك و تعالى شر أي بالنسبة إليه لسلم من الاعتراض و لكان قوله موافقاً لقول ابن القيم – رحمه الله تعالى – و الله سبحانه و تعالى أعلم.
ثم إن قول الألباني : و الشر ليس إليك إنما صار شراً لانقطاع نسبته و اضافته إلى الله تعالى بالكلية فلا يقال إنه خالق الشر و لا انه يفعل الشر بأحد من خلقه. و هذا هو قول القدرية بعينه. و الذي اتفق عليه أهل السنة و الجماعة أن الله تعالى خالق الشر كما أنه خالق الخير ، و أنه يفعل بمن شاء خيراً ، و بمن شاء شراً ، فالأمران معاً مضافان إليه خلقاً و إيجاداً كما قال تعالى ( و نبلوكم بالشر و الخير فتنة ) و غيرها من الآيات التي تقدم ذكرها.
و إنما كان أهل السنة و الجماعة يعدلون عن نسبة الشر و إضافته إلى الله تعالى على وجه الأدب في العبارة لا على أنه منقطع النسبة و الإضافة إلى الله بالكلية. و من تدبر ما قرره الشيخ الألباني في أثناء كلامه لم يشك في حسن عقيدته في باب القدر ، و ما وقع في أول كلامه و آخره فذلك خطأ في العبارة و قل أن يسلم من الخطأ أحد من البشر .
و الله المسئول أن يوفقنا و إياه و جميع المسلمين لما يحب و يرضى من الأقوال و الأعمال ، و أن يسلك بالجميع سبيل السلف الصالح من الصحابة و التابعين لهم بإحسان إن ربي لسميع الدعاء قريب مجيب.
التنبيه الرابع
الرابع قال المؤلف في صفحة 82 ما نصه ( صلاة الجنازة السنة أن يقرأ فيها بفاتحة الكتاب و سورة ) ا.هـ. ثم ذكره في الحاشية أنه رواه البخاري و أبو داود و النسائي. و هذا فيه إيهام فان رواية البخاري و أبي داود ليس فيها ذكر السورة و إنما ذلك في إحدى روايتي النسائي ، و هو ما رواه : عن الهيثم بن أيوب ، قال : حدثنا إبراهيم و هو ابن سعد ، قال : حدثنا أبي ، عن طلحة بن عبد الله بن عوف ، قال : صليت خلف ابن عباس رضي الله عنهما على جنازة فقرأ بفاتحة الكتاب و سورة و جهر حتى أسمعنا فلما فرغ أخذت بيده ، فسألته ، فقال : " سنة و حق ".
و قد رواه الإمام الشافعي في مسنده بدون ذكر السورة فقال : أخبرنا إبراهيم بن سعد ، عن أبيه ، عن طلحة بن عبد الله بن عوف ، قال : صليت خلف ابن عباس رضي الله عنهما على جنازة فقرأ فاتحة الكتاب فلما سلم سألته عن ذلك ، فقال : " سنة و حق ". إسناده صحيح على شرط البخاري.
فهذا هو المحفوظ عن ابن عباس رضي الله عنهما ، ليس فيه ذكر السورة ، و كذا رواه شعبة و سفيان ، عن سعد بن إبراهيم بدون ذكر السورة ، فأما رواية شعبة فأخرجها البخاري و النسائي ، و أما رواية سفيان فأخرجها البخاري و أبو داود و الترمذي ، و قال : هذا حديث حسن صحيح.
قال البيهقي : ذكر السورة غير محفوظ. قلت : و يدل على ذلك ما ذكرته ههنا ، و يدل عليه أيضاً ما رواه الشافعي في مسنده : أخبرنا ابن عيينة ، عن محمد بن عجلان ، عن سعيد بن أبي سعيد ، قال : سمعت ابن عباس رضي الله عنهما يجهر بفاتحة الكتاب على الجنازة و يقول : إنما فعلت لتعلموا أنها سنة.
و قد رواه الحاكم في مستدركه من طريق : ابن أبي عمر ، عن سفيان بن عيينة . و قال : هذا حديث صحيح على شرط مسلم . و وافقه الذهبي في تلخيصه. قال الحاكم : و قد أجمعوا على أن قول الصحابي سنة حديث مسند.
و قال الشافعي أيضاً : أخبرنا بعض أصحابنا ، عن ليث بن سعد ، عن الزهري ، عن أبي أمامة – و هو : ابن سهل بن حنيف – قال : السنة أن يقرأ على الجنازة بفاتحة الكتاب. و قد رواه النسائي في سننه ، فقال : أخبرنا قتيبة ، قال : حدثنا الليث ، عن ابن شهاب ، عن أبي أمامة ، أنه قال : السنة في الصلاة على الجنازة أن يقرأ في التكبيرة الأولى بأم القرآن مخافتة ، ثم يكبر ثلاثاً ، و التسليم عن الآخرة. إسناده صحيح على شرط الشيخين.
ثم قال النسائي : أخبرنا قتيبة ، قال : حدثنا الليث ، عن ابن شهاب ، عن محمد بن سويد الدمشقي الفهري ، عن الضحاك بن قيس الدمشقي ، بنحو ذلك. و هذا إسناد جيد.
و قد رواه الشافعي في مسنده من طريق معمر ، عن الزهري ، حدثني محمد الفهري ، عن الضحاك بن قيس ، أنه قال مثل قول أبي أمامة.
و قد جاء في هذا الباب أحاديث مرفوعة ، منها ما رواه الترمذي و ابن ماجه من حديث الحكم ، عن مقسم ، عن ابن عباس رضي الله عنهما ، أن النبي صلى الله عليه و سلم قرأ على الجنازة بفاتحة الكتاب. قال الترمذي : ليس إسناده بذاك القوي و الصحيح عن ابن عباس رضي الله عنهما قوله من السنة القراءة على الجنازة بفاتحة الكتاب.
قال : و في الباب عن أم شريك. قلت : و هو ما رواه ابن ماجه في سننه بإسناد حسن عنها رضي الله عنها قالت : أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نقرأ على الجنازة بفاتحة الكتاب.
و قال الشافعي في مسنده : أخبرنا إبراهيم بن محمد ، عن عبد الله بن محمد بن عقيل ، عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه و سلم كبر على الميت أربعاً ، و قرأ بأم القرآن يمد التكبيرة الأولى.
إبراهيم بن محمد ، هو : ابن أبي يحيى المدني وثقه الشافعي ، و ضعفه غير واحد من الأئمة ، و تركه بعضهم ، و قال ابن عقدة : ليس بمنكر الحديث. و قال ابن عدي : هو كما قال ابن عقدة.
و قد روى هذا الحديث الحاكم في مستدركه مستشهداً به ، و لم يتكلم فيه بشيء ، و أقره الذهبي. فإن قيل إن الهيثم بن أيوب ثقة عند النسائي ، و قد زاد ذكر السورة مع الفاتحة ، و الزيادة من الثقة مقبولة. فالجواب : أن يقال إنها زيادة شاذة لمخالفتها لرواية شعبة و سفيان و الشافعي و كل منهم أوثق و أثبت و أجل من الهيثم بن أيوب ، فالعمدة في حديث ابن عباس رضي الله عنهما على روايتهم لا على ما خالفها ، و الله أعلم
التنبيه الخامس
قال المؤلف في حاشية صفحة 99 ما نصه ( و لست أشك أن وضع اليدين على الصدر في هذا القيام بدعة ضلالة لانه لم يرد مطلقاً في شيء من أحاديث صفة الصلاة ) ا.هـ و القيام الذي أشار إليه هو القيام بعد الركوع.
و أقول : إن الجزم بالتبديع و التضليل فيما ذكر ههنا فيه نظر ، لما رواه النسائي في أول كتاب الافتتاح من سننه الصغرى عن وائل بن حجر رضي الله عنه ، قال : رأيت رسول الله صلى الله عليه و سلم إذا كان قائماً في الصلاة قبض يمينه على شماله. إسناده جيد.
و قد رواه الدارقطني في سننه من طريق النسائي ، و لا أعلم لهذا الحديث معارضاً و لا مخصصاً ، و ظاهره يفيد العموم لما قبل الركوع و ما بعده لان كلا منهما يسمى قياماً. و من خصص ذلك بما قبل الركوع فعليه الدليل. و ليس في باقي الروايات عن وائل رضي الله عنه و لا في الأحاديث عن غيره ما ينفي وضع اليدين على الصدر أو تحت السرة فيما بعد الركوع كما يفعل قبله ، و الله أعلم.
و قد ذكر ابن مفلح في الفروع و النكت عن الإمام أحمد – رحمه الله تعالى – أنه قال : إن شاء أرسل يديه – يعني بعد الرفع من الركوع – و إن شاء وضع يمينه على شماله. قال في النكت : و قطع به القاضي في الجامع لأنه حالة قيام في الصلاة فأشبه ما قبل الركوع . قال : و ذكر في المذهب و التلخيص أنه يرسلهما بعد رفعه و ذكر في الرعاية أن الخلاف هنا كحالة وضعهما بعد تكبيرة الإحرام. انتهى.
و من المعلوم عند العلماء كافة ما كان عليه الإمام أحمد – رحمه الله تعالى – من مزيد التمسك بالآثار و البعد عن البدع و الضلالات ، و قد قال في هذه الرواية بالتخيير بين إرسال اليدين في القيام بعد الركوع و بين وضع اليمين على الشمال. و القول بالوضع هو الصواب لعموم حديث وائل الذي ذكرنا ، و الله أعلم.
التنبيه السادس
قال المؤلف في صفحة 100 ما نصه ( و كان أحياناً يرفع يديه إذا سجد ) ا.هـ و قال أيضاً في صفحة 162 ما نصه ( و كان يرفع يديه مع هذا التكبير أحياناً ) ا.هـ يعني به التكبير عند الرفع من السجود. و قال مثل ذلك في صفحة 115 ، و قال أيضاً في صفحة 133 ما نصه ( و كان يرفع يديه مع هذا التكبير أحياناً ) ا.هـ يعني به التكبير عند القيام من السجود إلى الركعة الرابعة.
و جميع ما ذكره في هذه المواضع مردود بالحديث المتفق على صحته عن ابن عمر رضي الله عنهما ( أن النبي صلى الله عليه و سلم كان لا يرفع يديه في السجود ) . رواه مالك ، و الشيخان ، و أهل السنن. و في رواية للبخاري و النسائي ( و لا يفعل ذلك حين يسجد ، و لا حين يرفع رأسه من السجود). و في رواية للشافعي ، و أحمد ، و مسلم ( و لا يرفعهما بين السجدتين ) و رواه أهل السنن بهذا اللفظ ، و قال الترمذي : حديث حسن صحيح. و في رواية لمسلم ( و لا يفعله حين يرفع رأسه من السجود ).
و روى الإمام أحمد أيضاً في مسنده ، و البخاري في جزء رفع اليدين ، و أبو داود ، و الترمذي ، و الدارقطني ، و في سننهم عن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - ، عن رسول الله صلى الله عليه و سلم ( أنه كان لا يرفع يديه في شيء من صلاته و هو قاعد ). قال الترمذي : حديث حسن صحيح. و صححه أيضاً : أحمد ، و البخاري ، و ابن خزيمة ، و ابن حبان.
و روى الدارقطني أيضاً ، و البيهقي من طريق حماد بن سلمة ، عن الأزرق بن قيس ، عن حطان بن عبد الله ، عن أبي موسى الأشعري – رضي الله عنه – قال : هل أريكم صلاة رسول الله صلى الله عليه و سلم ، فكبر و رفع يديه ، ثم كبر و رفع يديه للركوع ، ثم قال سمع الله لمن حمده ، ثم رفع يديه ، ثم قال هكذا فاصنعوا. و لا يرفع بين السجدتين.
و قد وردت أحاديث كثيرة صحيحة أنه صلى الله عليه و سلم كان يرفع يديه إذا افتتح الصلاة ، و إذا أراد أن يركع ، و إذا أراد رفع رأسه من الركوع. و في بعضها أنه كان يفعل ذلك إذا قام من التشهد الأول. و كلها توافق حديث ابن عمر ، و علي ، و أبي موسى – رضي الله عنهم – و ترد الروايات الشاذة أنه كان يرفع يديه في السجود و الرفع منه.
قال العلامة ابن القيم – رحمه الله تعالى – في الهدي : روي عنه – يعني عن النبي صلى الله عليه و سلم – أنه كان يرفعهما – أي يرفع يديه إذا خر للسجود – و صححه بعض الحفاظ كأبي محمد بن حزم و هو وهم فلا يصح ذلك عنه البتة . و الذي غره أن الراوي غلط من قوله و كان يكبر في كل خفض و رفع إلى قوله : كان يرفع يديه عند كل خفض و رفع. و هو ثقة و لم يفطن لسبب غلط الراوي و وهمه فصححه.
و قال صاحب القاموس في كتابه سفر السعادة : الذي ورد في بعض الأحاديث أنه كان يرفع يديه في كل خفض و رفع سهو ، و الرواية الصحيحة أنه كان يكبر في كل خفض و رفع. انتهى.
و قد جاء في رفع اليدين في السجود و في كل خفض و رفع أحاديث ضعيفة جداً ، منها ما رواه الإمام أحمد ، و ابن ماجه من حديث إسماعيل بن عياش ، عن صالح بن كيسان ، عن عبد الرحمن الأعرج ، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - ( أن النبي صلى الله عليه و سلم كان يرفع يديه حذو منكبيه حين يكبر و يفتتح الصلاة ، و حين يركع ، و حين يسجد ). و إسماعيل بن عياش فيه مقال.
قال النسائي : ضعيف. و قال مسلم في مقدمة صحيحه : حدثنا عبد الله بن عبد الرحمن الدارمي ، أخبرنا زكريا بن عدي ، قال : قال لي أبو إسحاق الفزاري : لا تكتب عن إسماعيل بن عياش ما روى عن المعروفين و لا عن غيرهم. و قد وثقه أحمد ، و ابن معين ، و دحيم ، و الفلاس ، و البخاري ، و الفسوي ، و ابن عدي : في أهل الشام ، و ضعفوه في الحجازيين. و ذكر البيهقي عن البخاري أنه قال : إسماعيل منكر الحديث عن أهل الحجاز و أهل العراق. و قال الطبراني في معجمه الصغير : حدثنا محمد بن عثمان بن أبي شيبة ، قال : سمعت يحيى بن معين يقول : إسماعيل بن عياش ثقة فيما روى عن الشاميين ، و أما روايته عن أهل الحجاز فان كتابه ضاع فخلط في حفظه عنهم.
و قال دحيم : هو في الشاميين غاية ، و خلط عن المدنيين. و قال عمرو بن علي : إذا حدث عن أهل بلاده فصحيح ، و إذا حدث عن أهل المدينة فليس بشيء.
قلت : و هذا الحديث من روايته عن أهل المدينة ، فالحديث لذلك ضعيف ، و المحفوظ عن أبي هريرة – رضي الله عنه – ما رواه أبو داود من حديث أبي بكر بن عبد الرحمن – كما سيأتي قريباً إن شاء الله -.
و منها ما رواه الإمام أحمد أيضاً من حديث إسماعيل بن عياش ، عن صالح بن كيسان ، عن نافع ، عن ابن عمر – رضي الله عنهما - ، عن النبي صلى الله عليه و سلم. مثل حديث أبي هريرة – رضي الله عنه - . و الكلام في هذا الحديث مثل الكلام في الذي قبله. و المحفوظ عن ابن عمر - رضي الله عنهما – نفي الرفع في السجود – كما تقدم قريباً -.
و منها ما رواه ابن ماجه من حديث رفده بن قضاعة الغساني : حدثنا الأوزاعي ، عن عبد الله بن عبيد بن عمير ، عن أبيه ، عن جده عمير بن حبيب – رضي الله عنه – قال : ( كان رسول الله صلى الله عليه و سلم يرفع يديه مع كل تكبيرة في الصلاة المكتوبة ). قال النسائي : رفده بن قضاعة ليس بالقوي. و قال البخاري : في أحاديثه مناكير . و قال أيضاً : لا يتابع في حديثه. و قال أبو حاتم : منكر الحديث. و قال الدارقطني : متروك . و قال الإمام أحمد : لا أعرف رفده.
و عبد الله بن عبيد قيل لم يسمع من أبيه. قال الإمام أحمد ، و يحيى بن معين في هذا الحديث : ليس بصحيح و لا يعرف عبد الله بن عبيد بن عمير يحدث عن أبيه شيئاً ، و لا عن جده.
و منها ما رواه ابن ماجه أيضاً من حديث عمر بن رباح ، عن عبد الله بن طاوس ، عن أبيه ، عن ابن عباس – رضي الله عنهما – ( أن رسول الله صلى الله عليه و سلم كان يرفع يديه عند كل تكبيرة ). قال البخاري : - رحمه الله تعالى - : حدثني عمرو بن علي – يعني الفلاس – قال عمر بن رباح أبو حفص الضرير البصري عن ابن طاوس دجال. و قال النسائي : متروك الحديث.
و منها ما رواه الإمام أحمد في مسنده ، و أبو داود في سننه من حديث ابن لهيعة ، عن ابن هبيرة ، عن ميمون المكي أنه رأى ابن الزبير عبد الله و صلى بهم يشير بكفه حين يقوم ، و حين يركع ، و حين يسجد ، و حين ينهض للقيام ، فيقوم فيشير بيديه. قال : فانطلقت إلى ابن عباس – رضي الله عنهما – فقلت له : إني قد رأيت ابن الزبير صلى صلاة لم أر أحداً يصليها . فوصف له هذه الإشارة ، فقال : إن أحببت أن تنظر إلى صلاة رسول الله صلى الله عليه و سلم ، فاقتد بصلاة ابن الزبير.
ابن لهيعة قال فيه يحيى بن معين : ليس بالقوي. و قال أيضاً : هو ضعيف قبل أن تحترق كتبه و بعد احتراقها. و قال يحيى أيضاً و أبو زرعة : لا يحتج به. و قال النسائي : ضعيف. و قال البخاري : حدثنا محمد ، حدثنا الحميدي ، عن يحيى بن سعيد أنه كان لا يراه شيئاً. و قال مسلم : تركه وكيع ، و يحيى القطان ، و ابن مهدي. و ميمون المكي مجهول.
و منها ما رواه أبو داود ، و النسائي في سننيهما من حديث النضر بن كثير – يعني السعدي – قال : صلى إلى جنبي عبد الله بن طاوس في مسجد الخيف ، فكان إذا سجد السجدة الأولى فرفع رأسه منها ، رفع يديه تلقاء وجهه فأنكرت ذلك ، فقلت لوهيب بن خالد ، فقال له وهيب : تصنع شيئاً لم أر أحداً يصنعه. قال ابن طاوس : رأيت أبي يصنعه ، و قال أبي : رأيت ابن عباس يصنعه ، و لا أعلم إلا أنه قال كان النبي صلى الله عليه و سلم يصنعه.
قال المنذري في تهذيب السنن : النضر بن كثير أبو سهل السعدي البصري ضعيف الحديث. و قال الحافظ أبو أحمد النيسابوري : هذا حديث منكر من حديث ابن طاوس. قلت : و قال أبو حاتم في النضر بن كثير : فيه نظر . و قال البخاري : عنده مناكير . و قال ابن حبان : يروي الموضوعات عن الثقات لا يجوز الاحتجاج به بحال.
إذا علم ما ذكرنا فأصح ما رأيته في هذا الباب ما رواه النسائي في سننه : أخبرنا محمد بن المثنى ، قال : حدثنا ابن أبي عدي ، عن شعبة ، عن قتادة ، عن نصر بن عاصم ، عن مالك بن الحويرث – رضي الله عنه – أنه رأى النبي صلى الله عليه و سلم رفع يديه في صلاته ، و إذا ركع ، و إذا رفع رأسه من الركوع ، و إذا سجد ، و إذا رفع رأسه من السجود ، حتى يحاذي بهما فروع أذنيه.
حدثنا محمد بن المثنى ، قال حدثنا عبد الأعلى ، قال حدثنا سعيد ، عن قتادة ، عن نصر بن عاصم ، عن مالك بن الحويرث – رضي الله عنه – أنه رأى النبي صلى الله عليه و سلم رفع يديه ... فذكر مثله.
حدثنا محمد بن المثنى ، قال : حدثنا معاذ بن هشام ، قال : حدثني أبي ، عن قتادة ، عن نصر بن عاصم ، عن مالك بن الحويرث – رضي الله عنه – أن نبي الله صلى الله عليه و سلم كان إذا دخل في الصلاة ... فذكر نحوه ، و زاد فيه : و إذا ركع فعل مثل ذلك ، و إذا رفع رأسه من الركوع فعل مثل ذلك ، و إذا رفع رأسه من السجود فعل مثل ذلك.
و هذه روايات شاذة انفرد بإخراجها النسائي ، و قد رواها الأئمة بدون ذكر الزيادة الشاذة ، فأما حديث شعبة فقال البخاري – رحمه الله تعالى – في جزء رفع اليدين : حدثنا أبو الوليد هشام بن عبد الملك و سليمان بن حرب ، قالا : حدثنا شعبة ، عن قتادة ، عن نصر بن عاصم ، عن مالك بن الحويرث – رضي الله عنه – قال : كان النبي صلى الله عليه و سلم إذا كبر رفع يديه ، و إذا ركع ، و إذا رفع رأسه من الركوع.
و قال البخاري أيضاً : حدثنا آدم بن أبي إياس ، حدثنا شعبة ، حدثنا قتادة ، عن نصر بن عاصم ، عن مالك بن الحويرث – رضي الله عنه - قال : كان النبي صلى الله عليه و سلم يرفع يديه إذا كبر ، و إذا ركع ، و إذا رفع رأسه من الركوع حذاء أذنيه.
و قال أبو داود في سننه : حدثنا حفص بن عمر ، أخبرنا شعبة ، عن قتادة ، عن نصر بن عاصم ، عن مالك بن الحويرث – رضي الله عنه – قال : رأيت النبي صلى الله عليه و سلم يرفع يديه إذا كبر ، و إذا ركع ، و إذا رفع رأسه من الركوع حتى يبلغ بهما فروع أذنيه.
و قال النسائي في سننه : أخبرنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا خالد ، قال : حدثنا شعبة ، عن قتادة ، قال : سمعت نصر بن عاصم ، عن مالك بن الحويرث و كان من أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم أن رسول الله صلى الله عليه و سلم كان إذا صلى رفع يديه حين يكبر حيال أذنيه ، و إذا أراد أن يركع ، و إذا رفع رأسه من الركوع.
و روى الدارقطني في سننه من طريقين : عن عبد الرحمن بن مهدي ، حدثنا شعبة ، عن قتادة ... فذكر نحو ما تقدم. فهؤلاء ستة من الأئمة الأثبات رووا حديث شعبة لم يذكروا ما ذكره ابن أبي عدي عنه من رفع اليدين إذا سجد ، و إذا رفع رأسه من السجود.
و أما حديث سعيد بن أبي عروبة ، فرواه مسلم في صحيحه : عن محمد بن المثنى ، حدثنا ابن أبي عدي ، عن سعيد ، عن قتادة. و ليس فيه ذكر رفع اليدين إذا سجد و إذا رفع رأسه من السجود. و قال البخاري – رحمه الله تعالى – في جزء رفع اليدين : حدثنا خليفة بن خياط ، حدثنا يزيد بن زريع ، حدثنا سعيد ، عن قتادة ، أن نصر بن عاصم حدثهم ، عن مالك بن الحويرث – رضي الله عنه – قال : رأيت النبي صلى الله عليه و سلم يرفع يديه إذا ركع ، و إذا رفع رأسه من الركوع حتى يحاذي بهما فروع أذنيه.
و قال النسائي في سننه : أخبرنا إسماعيل بن مسعود ، قال : حدثنا يزيد و هو : ابن زريع ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، عن نصر بن عاصم ، أنه حدثهم ، عن مالك بن الحويرث – رضي الله عنه – أنه رأى رسول الله صلى الله عليه و سلم يرفع يديه إذا ركع ، و إذا رفع رأسه من الركوع حتى يحاذي بهما فروع أذنيه.
قال النسائي : يزيد بن زريع من أثبت أصحاب سعيد بن أبي عروبة. و قال النسائي أيضاً : أخبرنا يعقوب بن إبراهيم ، قال : حدثناابن أبي علية ، عن ابن أبي عروبة ، عن قتادة ، عن نصر بن عاصم ، عن مالك بن الحويرث – رضي الله عنه – قال : رأيت رسول الله صلى الله عليه و سلم حين دخل في الصلاة رفع يديه ، و حين ركع ، و حين رفع رأسه من الركوع حتى حاذى فروع أذنيه.
و قال النسائي أيضاً : أخبرنا علي بن حجر ، قال : أنبأنا إسماعيل ، عن سعيد ، عن قتادة ، عن نصر بن عاصم الليثي ، عن مالك بن الحويرث – رضي الله عنه – قال : رأيت رسول الله صلى الله عليه و سلم يرفع يديه إذا كبر ، و إذا ركع ، و إذا رفع رأسه من الركوع حتى بلغتا فروع أذنيه.
فهؤلاء ثلاثة من الأئمة الأثبات رووا حديث سعيد بن أبي عروبة ، و لم يذكروا ما ذكره عبد الأعلى من رفع اليدين إذا سجد و إذا رفع رأسه من السجود.
و أما حديث هشام الدستوائي ، فقال ابن ماجه في سننه : حدثنا حميد بن مسعدة ، حدثنا يزيد بن زريع ، حدثنا هشام ، عن قتادة ، عن نصر بن عاصم ، عن مالك بن الحويرث – رضي الله عنه – أن رسول الله صلى الله عليه و سلم كان إذا كبر رفع يديه حتى يجعلهما قريباً من أذنيه ، و إذا ركع صنع مثل ذلك ، و إذا رفع رأسه من الركوع صنع مثل ذلك . فهذا يزيد بن زريع ، و هو من الحفاظ الأعلام روى حديث هشام الدستوائي و لم يذكر ما ذكره معاذ عن أبيه من رفع اليدين إذا رفع رأسه من السجود.
و يزيد و معاذ ليسا سواء عند أهل العلم بالرجال. أما يزيد ، فقال فيه ابن معين : ثقة مأمون. و قال أبو حاتم : ثقة إمام. و قال الإمام أحمد : ما أتقنه ، ما أحفظه. و أما معاذ ، فقال فيه : ابن معين صدوق ، ليس بحجة. و قال ابن عدي : له حديث كثير ، ربما يغلط ، و أرجو أنه صدوق.
و بما ذكرنا يعلم شذوذ رواية ابن أبي عدي عن شعبة ، و رواية عبد الأعلى عن سعيد بن أبي عروبة ، و رواية معاذ بن هشام ، عن أبيه. و مما يدل على شذوذ رواياتهم أيضاً ما رواه حماد بن سلمه و أبو عوانة عن قتادة.
فأما حديث حماد بن سلمة ، فقال البخاري – رحمه الله تعالى – في جزء رفع اليدين : حدثنا موسى بن إسماعيل ، حدثنا حماد بن سلمة ، أنبأنا قتادة ، عن نصر بن عاصم ، عن مالك بن الحويرث – رضي الله عنه - أن النبي صلى الله عليه و سلم كان إذا دخل في الصلاة رفع يديه إلى فروع أذنيه ، و إذا رفع رأسه من الركوع فعل مثله.
و أما حديث أبي عوانة ، فقال مسلم في صحيحه : حدثنا أبو كامل الجحدري ، حدثنا أبو عوانة ، عن قتادة ، عن نصر بن عاصم ، عن مالك بن الحويرث – رضي الله عنه – أن رسول الله صلى الله عليه و سلم كان إذا كبر رفع يديه حتى يحاذي بهما أذنيه ، و إذا ركع رفع يديه حتى يحاذي بهما أذنيه ، و إذا رفع رأسه من الركوع فقال : سمع الله لمن حمده فعل مثل ذلك. و قد رواه الدارقطني في سننه : عن عبد الله بن عبد العزيز ، عن أبي كامل فذكره بنحوه.
فهذا هو المحفوظ عن قتادة ، ليس فيه ذكر رفع اليدين إذا سجد ، و إذا رفع رأسه من السجود ، و مما يدل على شذوذ الرواية بذلك أيضاً ما رواه الشيخان في صحيحيهما من حديث خالد الحذاء ، عن أبي قلابة أنه رأى مالك بن الحويرث – رضي الله عنه – إذا صلى كبر ، و رفع يديه ، و إذا أراد أن يركع رفع يديه ، و إذا رفع رأسه من الركوع رفع يديه ، و حدث أن رسول الله صلى الله عليه و سلم صنع هكذا.
فهذه الرواية المتفق على صحتها توافق ما رواه الأئمة الأثبات من حديث قتادة ، عن نصر بن عاصم ، عن مالك بن الحويرث – رضي الله عنه – و ترد ما شذ به من شذ عنهم. و العمدة في حديث مالك بن الحويرث – رضي الله عنه - على هذه الرواية ، و على ما وافقها ، و أيضاً فان الروايات التي فيها ذكر الرفع في السجود ، و الرفع منه قد عنعنها قتادة ، و هو مدلس ، و هذه علة أخرى غير الشذوذ. و الله أعلم.
و من أصح ما رأيت أيضاً في رفع اليدين عند الرفع من السجود ما رواه أبو داود في سننه : حدثنا عبيد الله بن عمر بن ميسرة ، حدثنا عبد الوارث بن سعيد ، حدثنا محمد بن جحادة ، حدثني عبد الجبار بن وائل بن حجر ، قال : كنت غلاماً لا أعقل صلاة أبي ، فحدثني علقمة بن وائل ، عن أبي حجر – رضي الله عنه – قال : صليت مع رسول الله صلى الله عليه و سلم ، فكان إذا كبر رفع يديه ، قال : ثم التحف ، ثم أخذ شماله بيمينه ، و أدخل يده في ثوبه . قال : فإذا أراد أن يركع أخرج يديه ثم رفعهما ، و إذا أراد أن يرفع رأسه من الركوع رفع يديه ثم سجد ، و وضع وجهه بين كفيه ، و إذا رفع رأسه من السجود أيضاً رفع يديه ، حتى فرغ من صلاته. قال محمد : فذكرت ذلك للحسن بن أبي الحسن ، فقال : هي صلاة رسول الله صلى الله عليه و سلم فعله من فعله و تركه من تركه.
قال أبو داود : روى هذا الحديث همام ، عن ابن جحادة لم يذكر الرفع مع الرفع من السجود. قلت : و حديث همام رواه مسلم في صحيحه عن زهير بن حرب ، حدثنا عفان ، عن حدثنا همام ، حدثنا محمد بن جحادة ، حدثني عبد الجبار بن وائل ، عن علقمة بن وائل و مولى لهم أنهما حدثاه ، عن أبيه وائل بن حجر – رضي الله عنه – أنه رأى النبي صلى الله عليه و سلم رفع يديه حين دخل في الصلاة كبر – وصف همام حيال اذنيه – ثم التحف بثوبه ، ثم وضع يده اليمنى على اليسرى ، فلما أراد أن يركع أخرج يديه من الثوب ، ثم رفعهما ، ثم كبر فركع ، فلما قال : سمع الله لمن حمده رفع يديه ، فلما سجد سجد بين كفيه.
و قد روي حديث علقمة من وجه آخر ، و ليس فيه ذكر الرفع إذا رفع من السجود. قال البخاري – رحمه الله تعالى – في جزء رفع اليدين : حدثنا أبو نعيم الفضل بن دكين ، أنبأنا قيس بن سليم العنبري ، قال : سمعت علقمة بن وائل بن حجر ، حدثني أبي ، قال : صليت مع النبي صلى الله عليه و سلم فكبر حين افتتح الصلاة و رفع يديه ، ثم رفع يديه حين أراد أن يركع و بعد الركوع. إسناده صحيح على شرط مسلم.
و قد رواه النسائي في سننه عن سويد بن نصر ، عن عبد الله بن المبارك ، عن قيس بن سليم ، فذكره بنحوه ، و إسناده جيد.
و روى هذا الحديث أيضاً من وجه آخر عن وائل – رضي الله عنه – و ليس فيه ذكر الرفع إذا رفع من السجود. قال البخاري – رحمه الله تعالى – في جزء رفع اليدين : حدثنا محمد بن مقاتل ، أنبأنا عبد الله – يعني ابن المبارك – أنبأنا زائدة بن قدامة ، حدثنا عاصم بن كليب الجرمي ، حدثنا أبي ، أن وائل بن حجر – رضي الله عنه – أخبره ، قال : قلت لأنظرن إلى صلاة رسول الله صلى الله عليه و سلم كيف يصلي. قال فنظرت إليه ، قال : فكبر و رفع يديه ، ثم لما أراد أن يركع رفع يديه مثلها ، ثم رفع رأسه فرفع يديه مثلها. إسناده جيد. و قد رواه النسائي في سننه عن سويد بن نصر ، عن عبد الله بن المبارك. و رواه البخاري أيضاً من حديث ابن إدريس ، عن عاصم بن كليب. و رواه النسائي أيضاً و الدارقطني من حديث سفيان ، عن عاصم بن كليب. و رواه أبو داود و ابن ماجه من حديث بشر بن المفضل ، عن عاصم بن كليب.
و رواه الدارقطني أيضاً من حديث جرير و صالح بن عمر الواسطي و أبي الأحوص كلهم عن عاصم بن كليب.
فهذه الروايات المتعاقدة تدل على شذوذ ما في رواية أبي داود من ذكر الرفع إذا رفع من السجود و الله أعلم.
و قد روى الدارقطني في سننه من طريق هشيم و جرير ، عن حصين بن عبد الرحمن ، قال : دخلنا على إبراهيم فحدثه عمرو بن مرة ، قال : صلينا في مسجد الحضرميين فحدثني علقمة بن وائل ، عن أبيه – رضي الله عنه – أنه رأى رسول الله صلى الله عليه و سلم يرفع يديه حين يفتتح الصلاة ، و إذا ركع ، و إذا سجد. و قد رواه البخاري في جزء رفع اليدين ، و ليس فيه ذكر الرفع عند السجود ، فقال : حدثنا مسدد ، حدثنا خالد ، حدثنا حصين ، عن عمرو بن مرة ، قال : دخلت مسجد حضرموت ، فإذا علقمة بن وائل يحدث عن أبيه – رضي الله عنه – قال : كان النبي صلى الله عليه و سلم يرفع يديه قبل الركوع. فقد اختلفت الرواية عن علقمة بن وائل عن أبيه ، كما ترى ففي رواية أبي داود أن النبي صلى الله عليه و سلم كان يرفع يديه إذا رفع رأسه من السجود. و في رواية الدارقطني أنه كان يرفع يديه إذا سجد ، و ليس ذلك في رواية مسلم ، و لا في رواية البخاري و النسائي. و هذا مما يدل على أن هذه الزيادة الشاذة غير محفوظة. و أما رواية عاصم بن كليب ، عن أبيه ، عن وائل – رضي الله عنه - . فلم يختلف فيها ، و الأخذ بها أولى من الأخذ بما اختلف فيه لا سيما و قد اعتضدت رواية عاصم برواية همام التي أخرجها مسلم في صحيحه ، و برواية قيس بن سليم التي رواها البخاري و النسائي و بالأحاديث الكثيرة الصحيحة مما تقدم ذكره ، و ما سيأتي قريباً ، و ما لم يذكر ههنا ، و الله أعلم.
و قد اعتمد الشيخ الألباني في إثبات رفع اليدين في السجود و الرفع منه على ما ذكرنا من الروايات الشاذة عن مالك بن الحويرث ، و وائل بن حجر – رضي الله عنهما - ، و لا ينبغي الاعتماد على مثلها لشذوذها و مخالفتها لما هو أصح منها ، و هو ما تقدم في حديث ابن عمر ، و علي – رضي الله عنهم - ، و الله أعلم.
التنبيه السابع
قال المؤلف في حاشية صفحة 100 ما نصه ( و عمل به إمام السنة أحمد بن حنبل ) ا.هـ.
يعني بذلك رفع اليدين عند السجود ، و أقول إن أراد الشيخ الألباني إن أحمد – رحمه الله تعالى – كان مداوماً على هذا ، و أنه كان مذهبه كما هو ظاهر عبارته في حاشية صفحة 112 فهذا غير صحيح عن أحمد – رحمه الله تعالى -.
و إن أراد أنه قال به أو فعله في بعض الأحيان و لم يداوم عليه فهذا قد نقل عن أحمد – رحمه الله تعالى – و الصحيح عنه خلافه ، و في المسألة ثلاثة روايات إحداها أن الرفع خاص بثلاثة مواضع الأول عند افتتاح الصلاة ، و الثاني عند الركوع ، و الثالث عند الرفع منه. و قد نقل هذا من فعل أحمد – رحمه الله تعالى – و قوله.
قال أبو داود – رحمه الله تعالى – رأيت أحمد يرفع يديه عند الركوع و عند الرفع من الركوع كرفعه عند افتتاح الصلاه يحاذيان اذنيه و ربما قصر عن رفع الافتتاح . و قال حنبل : سمعت أبا عبد الله و سأله رجل عن رفع اليدين في الصلاة ؟ فقال : يروي عن رسول الله صلى الله عليه و سلم من غير وجه ، و عن أصحابه أنهم فعلوه إذا افتتح الصلاة ، و إذا أراد أن يركع ، و إذا رفع رأسه من الركوع. قلت له : فبين السجدتين ؟ قال : لا. قلت : فإذا أراد أن ينحط ساجداً ؟ قال : لا. فقال له عباس العنبري : يا أبا عبد الله ، أليس يروى عن رسول الله صلى الله عليه و سلم أنه فعله ؟ قال : هذه الأحاديث أقوى و أكثر.
و هذه الرواية هي أشهر الروايات عن الإمام أحمد – رحمه الله تعالى – و عليها جماهير الحنابلة قديماً و حديثاً ، و هي المذهب عند المتأخرين منهم و حكاها الترمذي في جامعه عن أحمد ، و لم يحك عنه غيرها. و الأدلة عليها من الأحاديث الصحاح و الحسان كثيرة جداً ، و ليس هذا موضع ذكرها.
و قد تقدم إيراد جملة منها في التنبيه السادس .
الرواية الثانية أن الرفع في أربعة مواضع في الثلاثة التي تقدم ذكرها ، و الرابع إذا قام من التشهد الأول. و هذا اختيار الإمام شيخ الإسلام أبي العباس ابن تيمية ، و جده أبي البركات ، و صاحب الفائق ، و ابن عبدوس في تذكرته. قال ابن مفلح في الفروع : و هو أظهر. و كذا قال حفيده في المبدع. و قال المرداوي في الإنصاف : و هو الصواب. و ذكر شيخ الإسلام أبو العباس ابن تيمية – رحمه الله تعالى – أنه قول طائقة من الحنابلة و الشافعية و غيرهم انتهى. و يدل لهذه الرواية عدة أحاديث من الصحاح يأتي ذكرها قريباً إن شاء الله تعالى.
و هذه الرواية أرجح الروايات عندي لصحة دليلها و سلامته من المعارض. قال الخطابي – رحمه الله تعالى – و أما ما روي في حديث أبي حميد الساعدي – رضي الله عنه – من رفع اليدين عند النهوض من التشهد فهو حديث صحيح ، و قد شهد بذلك عشرة من الصحابة منهم أبو قتادة الأنصاري ، و قد قال به جماعة من أهل الحديث ، و لم يذكره الشافعي ، و القول به لازم على أصله في قبول الزيادات.
قلت : بل قد ذكر ذلك عن الشافعي – رحمه الله تعالى - قال النووي في شرح مسلم : و الشافعي قول أنه يستحب رفعهما في موضع رابع و هو إذا قام من التشهد الأول و هذا القول هو الصواب فقد صح فيه حديث ابن عمر - رضي الله عنهما- عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه كان يفعله و صح أيضاً من حديث أبي حميد الساعدي . رواه أبو داود ، و الترمذي بأسانيد صحيحه.
قلت : أما حديث ابن عمر – رضي الله عنهما – فهو مروي من ثلاثة أوجه كلها صحيحة . الوجه الأول ما رواه البخاري في صحيحه ، و أبو داود في سننه من حديث عبيد الله بن عمر العمري ، عن نافع ، أن ابن عمر – رضي الله عنهما – كان إذا دخل في الصلاة كبر و رفع يديه ، و إذا ركع رفع يديه ، و إذا قال سمع الله لمن حمده رفع يديه ، و إذا قام من الركعتين رفع يديه. و رفع ذلك ابن عمر – رضي الله عنهما – إلى النبي صلى الله عليه و سلم.
الوجه الثاني قال البخاري – رحمه الله تعالى – في جزء رفع اليدين : حدثنا محمد بن أبي بكر المقدمي ، حدثنا معتمر ، عن عبيد الله بن عمر ، عن ابن شهاب ، عن سالم بن عبد الله ، عن أبيه – رضي الله عنه – عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه كان يرفع يديه إذا دخل في الصلاة ، و إذا أراد أن يركع ، و إذا رفع رأسه ، و إذا قام من الركعتين يرفع يديه في ذلك كله ، و كان عبد الله يفعله. إسناده صحيح رجاله كلهم من رجال الصحيحين ، و قد رواه النسائي في سننه عن محمد بن عبد الأعلى الصنعاني عن معتمر به و في روايته : و إذا قام من الركعتين يرفع يديه كذلك حذو المنكبين. و إسناده صحيح على شرط مسلم.
الوجه الثالث قال الإمام أحمد – رحمه الله تعالى – في مسنده : حدثنا محمد بن فضيل ، عن عاصم بن كليب ، عن محارب بن دثار ، قال : رأيت ابن عمر – رضي الله عنهما – يرفع يديه كلما ركع و كلما رفع رأسه من الركوع. قال : فقلت له ما هذا ؟. قال : كان النبي صلى الله عليه و سلم إذا قام في الركعتين كبر و رفع يديه. إسناده صحيح على شرط مسلم.
و قد رواه البخاري في جزء رفع اليدين ، فقال : حدثنا إسحاق بن إبراهيم الحنظلي ، حدثنا محمد بن فضيل ، عن عاصم بن كليب ، عن محارب بن دثار : رأيت ابن عمر – رضي الله عنهما – رفع يديه في الركوع فقلت له : مه ذلك ؟ فقال : كان رسول الله صلى الله عليه و سلم إذا قام من الركعتين كبر و رفع يديه . إسناده صحيح على شرط مسلم. و رواه أبو داود في سننه عن عثمان بن أبي شيبة و محمد بن عبيد المحاربي ، قالا : حدثنا محمد بن فضيل ، عن عاصم بن كليب ، عن محارب بن دثار ، عن ابن عمر – رضي الله عنهما – قال : كان رسول الله صلى الله عليه و سلم إذا قام من الركعتين كبر و رفع يديه . إسناده جيد. و هو من جهة عثمان بن أبي شيبة صحيح على شرط مسلم.
و أما حديث أبي حميد الساعدي – رضي الله عنه – فرواه الإمام أحمد في مسنده ، و البخاري في جزء رفع اليدين ، و أهل السنن الأربعة من حديث عبد الحميد بن جعفر ، حدثنا محمد بن عمرو بن عطاء ، عن أبي حميد الساعدي – رضي الله عنه - ، قال : سمعته و هو في عشرة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم كان إذا قام في الصلاة اعتدل قائماً و رفع يديه حتى يحاذي بهما منكبيه ، ثم قال : الله أكبر ، و إذا أراد أن يركع رفع يديه حتى يحاذي بهما منكبيه ، فإذا قال : سمع الله لمن حمده رفع يديه فاعتدل ، فإذا قام من الثنتين كبر و رفع يديه حتى يحاذي بهما منكبيه كما صنع حين افتتح الصلاة.
هذا لفظ إحدى روايتي ابن ماجه ، و في رواية للبخاري " فقالوا كلهم : صدقت ". و في رواية أحمد ، و أبي داود ، و الترمذي ، و الرواية الأخرى لابن ماجه : " قالوا : صدقت هكذا كان يصلي رسول الله صلى الله عليه و سلم ". قال الترمذي : هذا حديث حسن صحيح. و صححه البخاري كما سيأتي ، و ابن خزيمة ، و ابن حبان ، و قال ابن القيم – رحمه الله تعالى - : حديث أبي حميد حديث صحيح متلقى بالقبول لا علة له.
قلت : و أسانيد المذكورين كلها على شرط مسلم ، و في الباب أيضاً عن علي بن أبي طالب ، و أبي هريرة – رضي الله عنهما – فأما حديث علي – رضي الله عنه – فرواه الإمام أحمد في مسنده ، و البخاري في جزء رفع اليدين ، و أبو داود ، و الترمذي ، و ابن ماجه ، و الدارقطني في سننهم من حديث عبيد الله بن أبي رافع ، عن علي بن أبي طالب – رضي الله عنه – عن رسول الله صلى الله عليه و سلم أنه كان إذا قام إلى الصلاة المكتوبة كبر و رفع يده حذو منكبيه ، و يصنع مثل ذلك إذا قضى قراءته و أراد أن يركع ، و يصنعه إذا رفع رأسه من الركوع ، و لا يرفع يديه في شيء من صلاته و هو قاعد ، و إذا قام من السجدتين رفع يديه كذلك و كبر.
قال الترمذي : هذا حديث حسن صحيح. و صححه أيضاً ابن خزيمة ، و ابن حبان. و ذكر الخلال عن إسماعيل بن إسحاق الثقفي قال : سئل أحمد – رحمه الله تعالى – عن حديث علي – رضي الله عنه – ؟ فقال : صحيح. و قال البخاري في جزء رفع اليدين : ما زاد ابن عمر و علي و أبو حميد – رضي الله عنهم – في عشرة من أصحاب النبي صلى الله عليه و سلم أنه كان يرفع يديه إذا قام من السجدتين كله صحيح انتهى.
و قوله هنا و في الحديث " إذا قام من السجدتين " معناه : إذا قام من الركعتين نبه على ذلك الترمذي في جامعه. و قد جاء مصرحاً به في إحدى روايتي البخاري و لفظه : عن علي بن أبي طالب – رضي الله عنه – أن رسول الله صلى الله عليه و سلم كان يرفع يديه إذا كبر للصلاة حذو منكبيه ، و إذا أراد أن يركع ، و إذا رفع رأسه من الركوع ، و إذا قام من الركعتين فعل مثل ذلك. و أما حديث أبي هريرة – رضي الله عنه – فرواه أبو داود في سننه من حديث الزهري ، عن أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام ، عن أبي هريرة – رضي الله عنه - أنه قال : كان رسول الله صلى الله عليه و سلم إذا كبر للصلاة جعل يديه حذو منكبيه ، و إذا ركع فعل مثل ذلك ، و إذا رفع للسجود فعل مثل ذلك ، و إذا قام من الركعتين فعل مثل ذلك. إسناده صحيح على شرط مسلم.
الرواية الثالثة عن الإمام أحمد – رحمه الله تعالى – أن الرفع في كل خفض و رفع. ذكرها القاضي و غيره ، و هذه الرواية خلاف المشهور عنه و هي أضعف الروايات ، و العمل عن أحمد و جماهير الحنابلة ، أو جميعهم على خلافها ، و من جعلها مذهباً لأحمد فهو جاهل بمذهبه.
و قد تقدم نصه على خلافها في رواية حنبل ، و قال أبو داود : قيل له – يعني لأحمد – بين السجدتين أرفع يدي ؟ قال : لا. و يحتمل أن أحمد – رحمه الله تعالى – أراد بقوله في كل خفض و رفع الركوع و الرفع منه ، و يؤخذ ذلك بما ذكره صاحب المغني عن الإمام أحمد – رحمه الله تعالى – أنه سئل عن رفع اليدين في الصلاة ؟ فقال : في كل خفض و رفع. و قال فيه عن ابن عمر ، و أبي حميد أحاديث صحاح انتهى.
فظاهر احتجاجه بأحاديث ابن عمر ، و أبي حميد – رضي الله عنهم – يدل على أنه أراد بالخفض و الرفع الركوع و الرفع منه لأن الأحاديث الصحيحة عن ابن عمر و أبي حميد – رضي الله عنهم - إنما جاءت بذلك ، و لم تجئ بالرفع في السجود و الرفع منه ، و الله أعلم.
التنبيه الثامن
قال المؤلف في حاشية صفحة 101 ما نصه ( و وجه مخالفة البعير بوضع اليدين قبل الركبتين هو أن البعير يضع أول ما يضع ركبتيه ، و هما في يديه كما في لسان العرب و غيره من كتب اللغة ، و ذكر مثله الطحاوي في مشكل الآثار و شرح معاني الآثار ، و قد أغرب ابن القيم فقال أنه كلام لا يعقل و لا يعرفه أهل اللغة ، و يرد عليه المصادر التي أشرنا إليها فلتراجع ) ا.هـ و أقول هذا المنقول عن ابن القيم – رحمه الله تعالى – مقتطع من كلام له في زاد المعاد و لو استوفاه الناقل لكان أولى.
و نص كلام ابن القيم – رحمه الله تعالى - : ( و أما ما في حديث أبي هريرة – رضي الله عنه – يرفعه " إذا سجد أحدكم فلا يبرك كما يبرك البعير ، و ليضع يديه قبل ركبتيه " فالحديث – و الله أعلم – قد وقع فيه وهم من بعض الرواة فإن أوله يخالف آخره فإنه إذا وضع يديه قبل ركبتيه فقد برك كما يبرك البعير فإن البعير إنما يضع يديه أولاً ، و لما علم أصحاب هذا القول ذلك قالوا ركبتا البعير في يديه لا في رجليه فهو إذا برك وضع ركبتيه أولاً فهذا هو المنهي عنه. و هو فاسد لوجوه أحدها أن البعير إذا برك فإنه يضع يديه أولاً و تبقى رجلاه قائمتين فإذا نهض فإنه ينهض برجليه أولاً و تبقى يداه على الأرض و هذا هو الذي نهى عنه صلى الله عليه و سلم و فعل خلافه و كان أول ما يقع منه على الأرض منه الأقرب منها فالأقرب ، و أول ما يرتفع عن الأرض منه الأعلى فالأعلى ، و كان يضع ركبتيه أولاً ثم يديه ثم جبهته ، و إذا رفع رفع رأسه أولاً ثم يديه ثم ركبتيه ، و هذا عكس فعل البعير ، و هو صلى الله عليه و سلم نهى في الصلاة عن التشبه بالحيوانات فنهى عن بروك كبروك البعير ، و التفات كالتفات الثعلب ، و افتراش كافتراش السبع ، و إقعاء كإقعاء الكلب ، و نقر كنقر الغراب ، و رفع الأيدي وقت السلام كأذناب الخيل الشمس ، فهدي المصلي مخالف لهدي الحيوانات.
الثاني أن قولهم ركبتا البعير في يديه كلام لا يعقل و لا يعرفه أهل اللغة و إنما الركبة في الرجلين ، و إن أطلق اللتين في يده اسم الركبة فعلى سبيل التغليب . انتهى كلام ابن القيم – رحمه الله تعالى - و قوله هذا غير مدفوع ، و استغراب المؤلف له هو المستغرب في الحقيقة.
و أما قول بعضهم أن ركبتي البعير في يديه و هو الذي نقله المؤلف عن لسان العرب و غيره فقد رده صاحب القاموس في كتابه سعر السعادة ، و قال : الذي قال ركبة البعير في يديه وهم و غلط و خالف قول أئمة اللغة. و قال ياقوت الحموي في معجم البلدان : ركبة بضم أوله و سكون ثانيه و باء موحدة بلفظ الركبة التي في الرجل من البعير و غيره.
و هذا القول من صاحب القاموس و ياقوت موافق لقول ابن القيم – رحمه الله تعالى – و به يرد ما ادعي عليه من الإغراب و الله أعلم.
و لا يخفى على الصبيان الصغار فضلاً عن الرجال الكبار أن البعير إذا أراد البروك وضع يديه أولا ثم رجليه . و المصلي إذا قدم يديه على ركبتيه في السجود فقد برك كما يبرك البعير بلا شك. و إذا قدم ركبتيه على يديه عند القيام من السجود فقد قام كما يقوم البعير و كذلك من اعتمد بيديه على الأرض و رفع ركبتيه قبلهما ، و إذا قام من التشهد الأول.
فهذا متشبه بالبعير عند قيامه ، و الأول متشبه به عند بروكه ، و كل ذلك منهي عنه و علة النهي التشبه بالبعير في هيئة بروكه ، و هيئة قيامه ، و سواء قيل إن ركبتي البعير في يديه أو في رجليه فلا عبرة بذلك ، و إنما الاعتبار بالهيئة الفعلية. و من توقف فيما ذكرنا من التشبه فليشاهد البعير عند بروكه و عند قيامه و ليشاهد المقدم ليديه عند السجود ، و المقدم لركبتيه عند القيام حتى يرى تمام المشابهة منهما للبعير.
و هذا مما يستدل به على وقوع الغلط فيما رواه الدراوردي من حديث ابن عمر و أبي هريرة – رضي الله عنهم – فأما حديث ابن عمر رضي الله عنهما فرواه الدارقطني في سننه من طريق الدراوردي عن عبيد الله بن عمر ، عن نافع ، عن ابن عمر – رضي الله عنهما – أن رسول الله صلى الله عليه و سلم كان إذا سجد يضع يديه قبل ركبتيه. و رواه الحاكم في مستدركه بنحوه . و قال : صحيح على شرط مسلم و لم يخرجاه.
و أما حديث أبي هريرة – رضي الله عنه – فرواه أبو داود ، و النسائي ، و الدارقطني في سننهم من حديث الدراوردي عن محمد بن عبد الله بن الحسن ، عن أبي الزناد ، عن الأعرج ، عن أبي هريرة –رضي الله عنه – قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : إذا سجد أحدكم فلا يبرك كما يبرك البعير ، و ليضع يديه قبل ركبتيه. و قد اختلف الأئمة في الدراوردي فوثقه يحيى بن معين ، و علي بن المديني ، و قال أحمد كان معروفاً بالطلب ، و إذا حدث من كتابه فهو صحيح ، و إذا حدث من كتب الناس وهم. و كان يقرأ من كتبهم فيخطئ و ربما قلب حديث عبد الله بن عمر يرويها عن عبيد الله بن عمر. و قال أبو زرعة : كان سيئ الحفظ ، و ربما حدث من حفظه السيئ فيخطئ . و قال النسائي : ليس به بأس ، و حديثه عن عبيد الله بن عمر منكر. و قال أبو حاتم : لا يحتج به. و قال الساجي : كان من أهل الصدق و الأمانة إلا أنه كثير الوهم. و قال ابن سعد : كان ثقة كثير الحديث يغلط. قلت : فلعل ما في هذين الحديثين من أغلاطه. و الله أعلم.
قال ابن القيم – رحمه الله تعالى - : و كان يقع لي أن حديث أبي هريرة – رضي الله عنه – مما انقلب على بعض الرواة متنه و أصله ، و لعله : " و ليضع ركبتيه قبل يديه ". و قال علي القاري : الذي يظهر لي و الله أعلم أن هذا الحديث آخره انقلب على بعض الرواة و أنه كان " و لا يضع يديه قبل ركبتيه ". و قال صاحب القاموس في سفر السعادة : في حديث أبي هريرة – رضي الله عنه – وهم من بعض الرواة لأن أول الحديث ينقض آخره فإن البعير يضع يديه قبل ركبتيه حال البروك ، و الذي قال ركبة البعير في يديه وهم و غلط و خالف قول آئمة اللغة.
قلت : و قد رواه عبد الله بن نافع ، عن محمد بن عبد الله بن الحسن ، عن أبي الزناد ، عن الأعرج ، عن أبي هريرة – رضي الله عنه – أن النبي صلى الله عليه و سلم ، قال : ( يعمد أحدكم فيبرك في صلاته برك الجمل ) رواه أهل السنن إلا ابن ماجه ، و قال الترمذي : حديث غريب ، لا نعرفه من حديث أبي الزناد إلا من هذا الوجه انتهى.
و هذه الرواية سالمة من الانقلاب الذي في رواية الدراوردي ، و إذا فسرت بالتفسير الصحيح المعروف بالمشاهدة من بروك البعير صارت موافقة لحديث وائل بن حجر – رضي الله عنه – قال : ( رأيت رسول الله صلى الله عليه و سلم إذا سجد وضع ركبتيه قبل يديه ، و إذا نهض رفع يديه قبل ركبتيه ) رواه أهل السنن. و قال الترمذي : حسن غريب . و صححه ابن خزيمة ، و ابن حبان ، و الحاكم. و قال الذهبي : على شرط مسلم.
قال الحافظ ابن حجر العسقلاني : و لا يقدح فيه أن في سنده شريكاً القاضي و ليس بالقوي لأن مسلماً روى له فهو على شرطه. قلت و روى له البخاري في صحيحه تعليقاً . و لحديث وائل هذا شاهد من حديث أنس – رضي الله عنه – قال : " رأيت رسول الله صلى الله عليه و سلم انحط بالتكبير حتى سبقت ركبتاه يديه ". رواه الدارقطني ، و الحاكم ، و البيهقي. و قال الحاكم : صحيح على شرط الشيخين و لا أعرف له علة و لم يخرجاه. و أقره الذهبي في تلخيصه.
قال البخاري – رحمه الله تعالى – حديث أبي الزناد ، عن الأعرج ، عن أبي هريرة لا يتابع عليه فيه محمد بن عبد الله بن الحسن. قال : و لا أدري سمع من أبي الزناد أم لا. و قال الخطابي : حديث وائل بن حجر أثبت من هذا. يشير إلى ما رواه الدراوردي ، عن محمد بن عبد الله بن الحسن ، عن أبي الزناد ، عن الأعرج ، عن أبي هريرة – رضي الله عنه -. و قال الترمذي : و العمل عليه – يعني حديث وائل – عند أكثر أهل العلم يرون أن يضع الرجل ركبتيه قبل يديه و إذا نهض رفع يديه قبل ركبتيه.
و قال الإمام أحمد – رحمه الله – في كتاب الصلاة : و خصلة قد غلبت على الناس في صلاتهم و قد يفعله شبانهم و أهل القوة و الجلد منهم ينحط أحدهم من قيامه للسجود و يضع يديه على الأرض قبل ركبته و إذا نهض من السجود أو بعد ما يفرغ من التشهد يرفع ركبتيه من الأرض قبل يديه و هذا خطأ و خلاف ما عليه الفقهاء ، و إنما ينبغي له إذا انحط من قيامه للسجود أن يضع ركبتيه على الأرض ثم يديه ثم جبهته بذلك جاء الأمر عن النبي صلى الله عليه و سلم فأمروا بذلك و انهوا من رأيتم يفعل ذلك انتهى.
و قد روى حديث أبي هريرة – رضي الله عنه – مستقيم المتن على وفق ما جاء في حديث وائل و أنس - رضي الله عنهما – و لكن إسناده ضعيف. فروى البيهقي من طريق إبراهيم بن موسى ، عن محمد بن فضيل ، عن عبد الله بن سعيد ، عن جده ، عن أبي هريرة – رضي الله عنه – عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : ( إذا سجد أحدكم فليبدأ بركبتيه قبل يديه و لا يبرك بروك الجمل ). قال البيهقي : و كذلك رواه أبو بكر بن أبي شيبة عن محمد بن فضيل إلا أن عبد الله بن سعيد المقبري ضعيف.
قلت : و رواه الترمذي في جامعه تعليقاً ، و قال فيه عن عبد الله بن سعيد المقبري ، عن أبيه ، عن أبي هريرة – رضي الله عنه – عن النبي صلى الله عليه و سلم . قال : و عبد الله بن سعيد المقبري ضعفه يحيى بن سعيد القطان و غيره انتهى.
و يتأيد حديث عبد الله بن سعيد بما تقدم عن وائل ، و أنس رضي الله عنهما ، و يؤيده أيضاً ما رواه أبو داود في سننه بإسناد جيد عن ابن عمر – رضي الله عنهما – أن رسول الله صلى الله عليه و سلم نهى أن يعتمد الرجل على يده في الصلاة . و في لفظ نهى أن يعتمد الرجل على يديه إذا نهض في الصلاة.
قال ابن القيم – رحمه الله تعالى : و لا ريب أنه إذا وضع يديه قبل ركبتيه اعتمد عليهما فيكون قد أوقع جزءاً من الصلاة معتمداً على يديه بالأرض ، و أيضاً فهذا الاعتماد بالسجود نظير الاعتماد في الرفع منه سواء فإذا نهى عن ذلك كان نظيره كذلك انتهى.
فإن قيل إن النبي صلى الله عليه و سلم كان إذا رفع رأسه من السجود من السجدة الثانية جلس و اعتمد على الأرض رواه البخاري من حديث مالك بن الحويرث – رضي الله عنه – و ظاهر هذا الحديث أنه معارض لما في حديث ابن عمر رضي الله عنهما.
فالجواب أن يقال ليس هذا مما نحن فيه فإن هذه الجلسة تسمى جلسة الاستراحة و من اعتمد على الأرض إذا أراد أن يقوم من هذه الجلسة فإنما يعتمد بيديه و هما بحذاء جنبه لا من أمامه فلا يكون متشبهاً بالبعير حال قيامه.
قال العيني في شرح البخاري : فيه بيان الكيفية بأن يجلس أولاً ثم يعتمد ثم يقوم. قال الفقهاء يعتمد كما يعتمد العاجن للخمير.
قلت : و هذا يفعله من تشق عليه المبادرة بالقيام كالشيوخ و من به علة و نحوهم. و قد روي أن النبي صلى الله عليه و سلم كان يفعل ذلك لما بدن – أي أخذه اللحم -.
قال الحافظ ابن حجر في فتح الباري لما ذكر قوله صلى الله عليه و سلم ( لا تبادروني بالقيام فإني قد بدنت ) قال فدل على أنه يفعلها لهذا السبب فلا تشرع إلا في حق من اتفق له نحو ذلك انتهى.
و مما ذكرنا يعلم أن الاعتماد المنهي عنه في حديث ابن عمر – رضي الله عنهما – هو ما كان فيه تشبه بالبعير عند بروكه و عند قيامه. و ما جاء في حديث مالك بن الحويرث – رضي الله عنه – فهو أن يعتمد بيديه على الأرض و هما بحذاء جنبيه لا من أمامه. و هذا الاعتماد نوع و ما في حديث ابن عمر – رضي الله عنهما – نوع آخر فلا تعارض حينئذ بين الحديثين ، و الله أعلم.
التنبيه التاسع
قال المؤلف في صفحة 112 : ( و كان يرفع يديه مع هذا التكبير أحياناً – يعني عند الرفع من السجود - ) ثم قال المؤلف في الحاشية ما نصه : ( و بالرفع ههنا و عند كل تكبيرة قال أحمد ) ا.هـ و نحوه في صفحة 115 و حاشيتها ، و ظاهر كلام المؤلف في هذين الموضعين أن هذا هو قول أحمد و ليس له قول غيره.
و قد تقدم في التنبيه السابع أن هذا هو أضعف الروايات عن الإمام أحمد ، و أن الصحيح عنه الرفع في ثلاثة مواضع لا غير : عند افتتاح الصلاة ، و عند الركوع ، و عند الرفع منه. و هذا هو الذي حكاه الترمذي عن أحمد و لم يحك عنه غيره. و نقله عنه أيضاً أبو داود ، و حنبل. و نقلا أيضاً نصه بخلاف ما قرره الشيخ الألباني في هذين الموضعين . و قد تقدم كل هذا في التنبيه السابع فليراجع
التنبيه العاشر
قال المؤلف في حاشية صفحة 112 نقلاً عن بدائع الفوائد لابن القيم – رحمه الله تعالى – ما نصه : ( و نقل عنه ابن الأثرم ) ثم قال أيضاً : ( قال ابن الأثرم ) ا.هـ و لفظ هذا الأخير في البدائع قال ابن أثرم بدون أل.
و الذي يظهر لي و الله أعلم أنه قد وقع في هذا الاسم غلط إما مطبعي و إما من بعض النساخ قبل ذلك إذ لم أر في أصحاب الإمام أحمد من يقال له ابن الأثرم و لا ابن أثرم. و إنما فيهم الأثرم بدون لفظ ابن . و هو لقب : لأبي بكر أحمد بن محمد بن هانئ الطائي. و فيهم أيضاً : أحمد بن أصرم بالصاد المهملة.
فالمنقول عنه ههنا يحتمل أنه الأثرم بدون لفظة ابن و يحتمل أنه ابن أصرم ، و أن الصاد أبدلت بالثاء تحريفاً ، و الله أعلم.
التنبيه الحادي عشر
في هامش صحفة 126 تعقب الألباني على ابن القيم - رحمه الله تعالى – في قوله تبعاً لشيخه شيخ الإسلام أبي العباس ابن تيمية – رحمه الله تعالى – أنه لم يجئ حديث صحيح فيه لفظ إبراهيم و آل إبراهيم معاً – يعني في قوله " كما صليت على إبراهيم و آل إبراهيم ، و كما باركت على إبراهيم و آل إبراهيم ". ثم تبجح الألباني بإيراد الرواية بذلك ، قال : ( و هذا في الحقيقة من فوائد هذا الكتاب ) – يعني بذلك كتابه إلى آخر كلامه.
و أقول : بل هذا من فوائد كتاب الاختيارات للشيخ علاء الدين المعروف بابن اللحام ، و من فوائد فتح الباري للحافظ ابن حجر العسقلاني. أما ابن اللحام فإنه ذكر في باب صفة الصلاة أن شيخ الإسلام أبا العباس – رحمه الله تعالى – قال الأحاديث التي في الصحاح لم أجد في شيء منها : " كما صليت على إبراهيم ، و على آل إبراهيم " بل المشهور في أكثر الأحاديث و الطرق لفظ آل إبراهيم ، و في بعضها لفظ إبراهيم و روى البيهقي الجمع بين لفظ إبراهيم و آل إبراهيم بإسناد ضعيف عن ابن مسعود . قال ابن اللحام : قلت بل روى البخاري في صحيحه الجمع بينهما.
و أما ابن حجر فقال في شرح كتاب الدعوات من صحيح البخاري ما ملخصه : و ادعى ابن القيم أن أكثر الأحاديث بل كلها مصرحة بذكر محمد و آل محمد و بذكر آل إبراهيم فقط أو بذكر إبراهيم و آل إبراهيم معاً. قال ابن حجر : و غفل عما وقع في صحيح البخاري كما تقدم في أحاديث الأنبياء في ترجمة إبراهيم عليه السلام من طريق عبد الله بن عيسى بن عبد الرحمن بن أبي ليلى ، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى بلفظ " كما صليت على إبراهيم و على آل إبراهيم إنك حميد مجيد " كذا في قوله كما باركت.
ثم ذكر الحافظ روايات أخر لغير البخاري فيها الجمع بين إبراهيم و آل إبراهيم. و الظاهر أن الشيخ الألباني أخذ تعقبه على ابن القيم من كلام ابن حجر و يدل على ذلك إحالته في هامش صفحة 128 على فتح الباري في معرفة الأجوبة عن وجه التشبيه في قوله " كما صليت على إبراهيم و آل إبراهيم " ، و الأجوبة و التعقب على ابن القيم كلها في باب واحد فلو أن الألباني نسب التعقب إلى قائله الأول لكان أليق به و أولى من نسبته إلى نفسه.
التنبيه الثاني عشر
في صفحة 138 ذكر المؤلف قوله صلى الله عليه و سلم في الحديث الصحيح ( اللهم إني أعوذ بك من المأثم و المغرم ) ثم فسر المغرم في الحاشية بأن المراد به الذنوب و المعاصي.
و أقول هذا قول ضعيف جداً ذكره ابن الأثير في النهاية و تبعه ابن منظور في لسان العرب ، و لم يعرج على ذلك غيرهما من أئمة اللغة فيما علمت ، و لم يعرج عليه أيضاً ابن الأثير في جامع الأصول ، و على هذا القول الضعيف يكون معنى المأثم و المغرم واحداً ، و لا يكون للعطف فائدة ، و من المعلوم أن العطف يقتضي المغايرة ، و الصحيح أن المراد بالمغرم ههنا الغرم و هو الدين قال الجوهري : الغرامة ما يلزم اداؤه و كذلك المغرم و الغرم.
و قال ابن الأثير في جامع الأصول : المغرم بأن يلتزم الإنسان ما ليس عليه كمن يتكفل إنساناً بدين فيزنه عنه. و قال الراغب الأصفهاني : الغرم ما ينوب الإنسان في ماله من ضرر لغير جناية يقال غرم كذا غرماً و مغرماً . و قال النووي في شرح مسلم : المغرم معناه الغرم و هو الدين.
و قال ابن حجر في فتح الباري : المغرم الدين يقال غرم بكسر الراء أي أدان قال و قد استعاذ صلى الله عليه و سلم من غلبة الدين. قلت : و في الحديث الذي ساق الشيخ الألباني بعضه ما يبين أن المراد بالمغرم الدين ، ففي الصحيحين ، و سنني أبي داود و النسائي عن عائشة رضي الله عنها ( أن رسول الله صلى الله عليه و سلم كان يدعو في الصلاة : اللهم إني أعوذ بك من عذاب القبر ، و أعوذ بك من فتنة المسيح الدجال ، و أعوذ بك من فتنة المحيا و الممات ، اللهم إني أعوذ بك من المأثم و المغرم ) فقال له قائل : ما أكثر ما تستعيذ من المغرم!. فقال : ( إن الرجل إذا غرم حدث فكذب ، و وعد فاخلف ). قال الحافظ ابن حجر في فتح الباري : و المراد أن ذلك شأن من يستدين غالباً انتهى.
و في صحيح مسلم عن أبي اليسر كعب بن عمرو – رضي الله عنه – قال : كان علي على فلان بن فلان الحزامي مال فأتيت أهله فسلمت ، فقلت : ثم هو ؟. قالوا : لا. فخرج علي ابن له جفر ، فقلت له : أين أبوك ؟. قال : سمع صوتك فدخل أريكة أمي. فقلت : أخرج إليّ فقد علمت أين أنت ، فخرج فقلت : ما حملك على أن اختبأت مني ؟. قال : أنا و الله أحدثك ثم لا أكذبك ، خشيت و الله أن أحدثك فاكذبك ، و أن أعدك فأخلفك ، و كنت صاحب رسول الله صلى الله عليه و سلم ، و كنت و الله معسراً.
و ذكر تمام الحديث ، و المقصود منه قوله : خشيت و الله أن أحدثك فاكذبك ، و أن أعدك فأخلفك. فهذا صاحب رسول الله صلى الله عليه و سلم اختبأ من غريمه من أجل إعساره خوفاً من الوقوع في الكذب و إخلاف الوعد ، و الذي خشي منه صاحب رسول الله صلى الله عليه و سلم ، و هو الذي كان رسول الله صلى الله عليه و سلم يتعوذ في صلاته من انعقاد سببه و هو الغرم ، و الله أعلم. و الحكمة في جمع النبي صلى الله عليه و سلم بين المأثم و المغرم ، أن المأثم يوجب خسارة الآخرة ، و المغرم يوجب خسارة الدنيا. أفاد ذلك العلامة ابن القيم – رحمه الله تعالى – و الله الموفق.
التنبيه الثالث عشر
قال المؤلف في آخر النبذة ما نصه : ( تنبيه هام : أن رسالة الصلاة المنسوبة إلى الأمام أحمد – رضي الله عنه – و التي أعيد طبعها مراراً قد ثبت لدينا أنه لا تصح نسبتها إلى الإمام أحمد بل قال الحافظ الذهبي فيها : أخشى أن تكون موضوعة. و سننشر تحقيقنا في ذلك قريباً إن شاء الله تعالى و عليه فلا يغتر أحد بما جاء فيها من المخالفة لكتابنا هذا ) ا.هـ.
و أقول : هذا تنبيه غريب جداً ، و جراءة غير محمودة. و لقد شان المؤلف نبذته بهذا التنبيه المتوهم ، و أظنه أراد بذلك دفع ما قرره الإمام أحمد – رحمه الله تعالى – في رسالته من تقديم الركبتين قبل اليدين في السجود لانه مخالف لما رآه و قرره في نبذته. و قد تقدم كلام الإمام أحمد – رحمه الله تعالى – بحروفه في التنبيه الثامن فليراجع.
و كلام الإمام أحمد – رحمه الله تعالى – هو حق بلا ريب و دليله حديث وائل بن حجر ، و حديث أنس ، و حديث أبي هريرة أيضاً بدون الزيادة التي رواها الدراوردي كما تقدم إيضاح ذلك.
و أما قول صاحب النبذة أنه ثبت لديه أنه لا تصح نسبة الرسالة إلى الإمام أحمد فهو مجرد دعوى لا دليل عليها و يا ليت شعري هل شهد عنده رجال مرضيون أن مهنا بن يحيى الشامي وضعها و نسبها إلى الإمام أحمد ، أو وضعها من دون مهنا من رواتها أو وضعها صاحب طبقات الحنابلة القاضي أبو الحسين بن القاضي أبي يعلى بن الفراء.
و إذا لم يثبت عنده الوضع بشهادة العدول فهل في الرسالة ما يخالف قول الإمام أحمد – رحمه الله تعالى – في الأصول أو في الفروع حتى يستدل بذلك على أنها موضوعة أو محرفة بالزيادة و النقصان ، و إذا كان كل هذا معدوماً فلا دليل له إلا الرجم بالغيب و القول بغير علم. فإن قال إن الدليل على ذلك قول الذهبي فيها " و أخشى أن تكون موضوعة ".
فالجواب عنه من وجوه : أحدها ان الذهبي – رحمه الله تعالى – قد حماه الله بالورع فلم يجزم بالوضع بغير دليل كما فعل صاحب النبذة. و إذا كان الذهبي لم يجزم بالوضع فأي متعلق لصاحب النبذة في قوله. الثاني : لو قدرنا أن الذهبي جزم بذلك فجزمه غير مقبول إلا ببينة. الثالث : أن الشيخ الموفق أبا محمد بن قدامة المقدسي – رحمه الله تعالى – قد نقل من الرسالة في كتابه المغني جازماً بنسبتها إلى الإمام أحمد – رحمه الله تعالى – و لم يعب ذلك عليه أحد لا من الحنابلة و لا من غيرهم. و قد نقل الحافظ ابن حجر في فتح الباري ما نقله صاحب المغني و أقره.
و كذلك الشيخ عبد الرحمن بن أبي عمر نقل في كتابه الشرح الكبير من الرسالة جازماً بنسبتها إلى الإمام أحمد ، و كذلك العلامة الحافظ ابن القيم – رحمه الله تعالى – نقل منها في كتاب الصلاة جازماً بنسبتها إلى الإمام أحمد و لما انتهى ما نقله قال بعده : هذا كله كلام أحمد. و نقل من مضمونها في موضع آخر ثم قال و قد احتج أحمد بهذا بعينه.
و كذلك الشيخ محمد بن مفلح قد نقل منها في كتاب الفروع جازماً بنسبتها إلى الإمام أحمد . و كذلك غيرهم من أئمة الحنابلة. و لا نعلم أحداً عاب على هؤلاء الأئمة الأعلام لا في نقلهم منها و لا في نسبتهم لها إلى الإمام أحمد – رحمه الله تعالى -.
و قد قرر الأصوليون أن المثبت مقدم على النافي. هذا إذا كان كل منهما جازماً في دعواه ، و أما من لم يجزم فلا عبرة بقوله. و هؤلاء الأئمة من أكابر الحنابلة قد جزموا بنسبة الرسالة إلى الإمام أحمد و هم أعلم بكلام إمامهم و كتبه و مذهبه ممن سواهم من أهل المذاهب ، و قد تلقاها من قبلهم و من بعدهم من الحنابلة و غيرهم من أهل العلم جيلاً بعد جيل جازمين بنسبتها إلى الإمام أحمد و لم يقدح فيها أحد لا من الحنابلة و لا من غيرهم حتى جاء الشيخ الألباني في آخر القرن الرابع عشر فقد فيها و في نسبتها إلى مصنفها بغير مستند يسوغ به القدح ، و لو استجاز الناس ما استجازه الشيخ الألباني لأوشك أن تنكر كتب السلف أو أكثرها لأن كثيراً منها لم تبق أسانيدها متصلة إلى اليوم ، و إنما تعرف بالنسبة و الاستفاضة و التلقي جيلاً بعد جيل ، و كذلك غالب كتب العلماء بعدهم ليس لها أسانيد متصلة و إنما تعرف بالتلقي و النسبة و الاستفاضة و تناسب كلام المصنف و التئام بعضه مع بعض ، و ما زال أهل العلم يكتفون في نسبة الكتب إلى مصنفيها بمجرد التلقي و الاستفاضة ، و ينكرون منها ما لم يلتئم مع كلام المنسوب إليه و ما كان مخالفاً لاقواله في الأصول أو في الفروع.
و من تأمل رسالة الإمام أحمد – رحمه الله تعالى – وجدها ملائمة لكلامه و موافقة لمذهبه ، و من أنكرها أو أنكر شيئاً منها لذلك لقلة علمه بكلام أحمد و مذهبه. و أن العجب لا ينقضي من سوء جراءة الشيخ الألباني و اقدامه على القدح في تلك الرسالة الجليلة بغير برهان ، فالله المستعان و عليه التكلان و لا حول و لا قوة إلا بالله العلي العظيم ، و هو حسبنا و نعم الوكيل ، و صلى الله على نبينا محمد و على آله و أصحابه و من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين ، و سلم تسليماً كثيراً.
و قد وقع الفراغ من تسويد هذه التنبيهات في أثناء سنة 1376 ثم كان الفراغ من كتابة هذه النسخة في يوم الجمعة سادس عشر ربيع الأول سنة 1382 على يد كاتبها و جامعها الفقير إلى الله تعالى حمود بن عبد الله التويجري غفر الله له و لوالديه و لجميع المسلمين و المسلمات الأحياء منهم و الأموات و الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات.
تم بحمد الله
الطبعة الأولى
عام 1387 هـ
حقوق الطبع محفوظة للمؤلف
طبع في مطابع القصيم بالرياض
عام 1387 هـ
حقوق الطبع محفوظة للمؤلف
طبع في مطابع القصيم بالرياض
تعليق