الإيضـاح والتبسيـط فـي بيـان حكـم البيـع بالتقسيـط
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن سار على نهجه إلى يوم الدين؛ أما بعد:
فإنَّ التفريق بين البيع الحلال والبيع الحرام وبالأخص الربا مطلب شرعي لا بد من مراعاته وبيانه أتم البيان؛ وفي ذلك يقول الله عزَّ وجل في محكم التنزيل: ((قَالُواْ إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَن جَاءهُ مَوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّهِ فَانتَهَىَ فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُوْلَـئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ)).
وتحريم ما أحلَّ الله عزَّ وجلَّ لعباده وتحليل ما حرَّمه عليهم سواء في الإثم؛ لهذا كان الواجب الرجوع في معرفة الحلال والحرام إلى مَنْ له حق التشريع؛ وهو الله عزَّ وجل، لا إلى قول بعض البشر ولو كثروا ما دام أنه لم يتحقق الإجماع في ذلك؛ قال تعالى: ((وَلاَ تَقُولُواْ لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَـذَا حَلاَلٌ وَهَـذَا حَرَامٌ لِّتَفْتَرُواْ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ لاَ يُفْلِحُونَ))، وقال سبحانه: ((اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ إِلَـهاً وَاحِداً لاَّ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ))،وقدسمع عدي بن حاتم رضي الله عنه النبيَّ صلى الله عليه وسلم يقرأ هذه الآية فقال له: يا رسول الله إنهم لم يكونوا يعبدونهم؟! فأجابه صلى الله عليه وسلم بقوله: ((أجل؛ ولكن يحلون لهم ما حرم الله فيستحلونه، ويحرمون عليهم ما أحل الله فيحرمونه؛ فتلك عبادتهم لهم)).
ومما تنازع فيه الناس بين التحليل والتحريم بيع التقسيط الذي اشتهر في العصور المتأخرة؛ فمن أهل العلم مَنْ ذهب إلى إباحته، ومنهم مَنْ قال بتحريمه.
محل الخلاف:
ولا بد - قبل الخوض في عرض مسالك الفريقين ومناقشة استدلالاتهم - أن نوضِّح للقارئ صورة المسألة المتنازع فيها؛ لأنه قد وقع لبس عند بعض الناس في ذلك، فظنَّ البعض أنَّ أصحاب القول الأول يبيحون التعامل بالقسط في كل صور البيوع!!، وبالمقابل ظنَّ البعض الآخر أنَّ أصحاب القول الثاني يُحرِّمون التعامل بالقسط مطلقاً!!، بل وممن خاض في مناقشة هذا الموضوع مَنْ التبس عليه الأمر وصار يستدل على مخالفه في غير محل النزاع؛ فتعين إيضاح المسألة وبسط القول فيها.
ومن المعلوم أنَّ الأصل في البيوع أن يكون البيع بمبيع معجَّل وثمن معجَّل؛ لكـن قد يطرأ أمر على البائع يجعله يؤجِّل تسليم المبيع أو على المشتري يجعله يؤجِّل دفع الثمن أو عليهما معاً.
فأما الأول فهو بيع السلم أو السلف؛ وهو على خلاف الأصول في البيع ولكـنَّ الشارع رخَّص به فقد أخرج الشيخان واللفظ لمسلم عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم والناس يسلفون، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((مَنْ أسلف فلا يسلف إلا في كيل معلوم ووزن معلوم إلى أجل معلوم))، فالمؤجَّل في هذه الصورة هو المبيع وليس الثمن، وهذا جائز بالنص والإجماع بالشروط المذكورة في الحديث، بالإضافة إلى شرطين آخرين؛ وهما أن يكون الثمن معجَّلاً، وأن لا يكون البيع في الدور والأراضي كما ذكر ذلك أهل العلم.
وأما الثاني فسنتكلَّم عنه بعد بيان الصورة الثالثة؛ وهي إذا كان كل من المبيع والثمن مؤجلين وهو بيع الكالئ بالكالئ أي المبيع بالدَّين والثمن بالدَّين؛ وهذا بيع حرام بالإجماع، وقد ورد النص بتحريمه في حديث ابن عمر مرفوعاً: ((نهى عن بيع الكالئ بالكالئ)) أخرجه الدارقطني والحاكم والطحاوي وابن عدي والبيهقي، ولكنه ضعيف كما قال الشيخ الألباني في الإرواء [5/220-222] حديث (1382): ((ثم ذكر الحافظ عن الشافعي أنه قال: "أهل الحديث يوهنون هذا الحديث"، وعن الإمام أحمد قال: "ليس في هذا حديث يصح؛ لكن إجماع الناس على أنه لا يجوز بيع دين بدين"، وقال الحافظ في "بلوغ المرام": "رواه إسحاق والبزار بإسناد ضعيف". قلت: وعلته موسى بن عبيدة هذا؛ فإنه ضعيف كما جزم الحافظ في "التقريب"، وقال الذهبي في "الضعفاء والمتروكين" : "ضعفوه وقال أحمد: لا تحل الرواية عنه"))
وعلى هذا فلا يجوز البيع بثمن مؤجَّل إذا كان المبيع بالآجل كذلك؛ بالإجماع.
وأما البيع بثمن مؤجَّل وهو البيع بالآجل فله صور؛ منها ما هو مجمع عليه، ومنها ما هو متنازع فيه:
فمن بيع الآجل المحرَّم: أن يبيع شيئاً من الأصناف الربوية بالآجل، وهذا لا يحل بالنص والإجماع، والأصناف الربوية هي الأصناف الستة التي وردت في حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه الذي أخرجه مسلم وغيره وما في معناها من الأصناف الأخرى، حيث قال عبادة: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، والبر بالبر، والشعير بالشعير، والتمر بالتمر، والملح بالملح؛ مثلاً بمثل، سواء بسواء، يداً بيد. فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم إذا كان يداً بيد)).
وعلى هذا؛ فمن اشترى ذهباً بفضة بالآجل لا يجوز، وكذلك مَنْ اشترى ذهباً بالتقسيط لا يجوز، وكذا من اشترى عملة نقدية من غير جنس عملته إلى أجل لا يجوز.
فعن أبي المنهال أنَّ زيد بن أرقم والبراء بن عازب رضي الله عنهم كانا شريكين، فاشتريا فضة بنقد ونسيئة، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم، فأمرهما: ((أنَّ ما كان بنقد فأجيزوه، وما كان بنسيئة فردوه)) أخرجه أحمد وأصله في البخاري.
ومن المجمع عليها: أن يبيع شيئاً من غير الأصناف الربوية بسعر واحد بالآجل؛ وهذا جائز بالنص والإجماع. فقد أخرج البخاري عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها: ((أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم اشترى طعاماً من يهودي إلى أجل، ورهنه درعاً من حديد))، ولا زال المسلمون من عهد النبي صلى الله عليه وسلم يشترون ما يحتاجونه من متاع أو طعام بمال في الدين من غير نكير.
وعلى هذا؛ لو اشترى متاعاً بثمن واحد على أقساط مؤجَّلة فهو جائز بالإجماع؛ بل ويدل عليه ما أخرجه الشيخان عن عائشة رضي الله عنها قالت: جاءت بريرة فقالت: إني كاتبتُ أهلي على تسع أواق في كل عام أوقية فأعينيني؟
فقالت عائشة: إنْ أحبَّ أهلك أن أعدها لهم عدة واحدة وأعتقك فعلتُ؛ ويكون ولاؤك لي. فذهبت إلى أهلها فأبوا ذلك عليها، فقالت: إني قد عرضتُ ذلك عليهم فأبوا إلا أن يكون الولاء لهم. فسمع بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألني فأخبرته؛ فقال: ((خذيهافأعتقيها، واشترطي لهم الولاء فإنما الولاء لمن أعتق))
والأوقية أربعون درهماً؛ فبريرة أرادت أن تعتق نفسها فكاتبت أهلها على ثلاثمائة وستين درهماً وهي ما تقابل تسع أواق، ويكون ذلك على مدار تسع سنين؛ في كل سنة أوقية، ولم تنكر عائشة عليها، ولا أنكر ذلك النبي صلى الله عليه وسلم لما أُخبر بالأمر، فدل على جواز البيع بالتقسيط إذا كان بثمن واحد.
ومن المتنازع فيه وظهرت حرمته: أن يكون قصد المشتري المال لا الانتفاع بالسلعة ولا الاتجاربها، فيأتي إلى تاجر فيُقوِّم معه سلعة بثمن السوق وهو النقد، ثم يقول له: اشتريها منك بأكثر من ذلك إلى أجل، ثم يذهب فيبيعها في السوق بسعرها المعروف؛ فيحصل علىالمال، ويبقى عليه مثله مع الزيادة في الذمة، فصار حاله أنه اشترى دراهم معجَّلةبدراهم مؤجَّلة أكثر منها في الآجل؛ وهذه مسألة التورق.
وكذا، لو اشترى الحاجة من الأول بالآجل ثم يبيعها إليه بأقل من ثمن الآجل في الحال أو قبل حلول الأجل؛ وهذه مسألة بيع العينة.
وكذا، شراء الفلوس بنقد ثم تباع بزيادة إلى أجل، وهي من مسائل الصرف. فقد سُئل شيخ الإسلام رحمه الله تعالى [29/469-470]: ((عن الفلوس تشترى نقداً بشيء معلوم وتباع إلى أجل بزيادة؛ فهل يجوز ذلك أم لا؟
فأجاب: الحمد لله؛ هذه المسألة فيها نزاع مشهور بين العلماء وهو صرف الفلوس النافقة بالدراهم، هل يشترط فيها الحلول أم يجوز فيها النسأ؟
على قولين مشهورين هما قولان في مذهب أبي حنيفة وأحمد بن حنبل:
أحدهما: و هو منصوص أحمد وقول مالك وإحدى الروايتين عن أبي حنيفة أنه لا يجوز، و قال مالك: وليس بالحرام البين.
والثاني: وهو قول الشافعي وأبي حنيفة في الرواية الأخرىوابن عقيل من أصحاب أحمد أنه يجوز، ومنهم من يجعل نهي أحمد للكراهة؛ فانه قال: هو يشبه الصرف، والأظهر المنع من ذلك، فإنَّ الفلوس النافقة يغلب عليها حكم الأثمان، و تجعل معيار أموال الناس.
و لهذا ينبغي للسلطان أن يضرب لهم فلوساً تكون بقيمة العدل في معاملاتهم من غير ظلم لهم ولا يتجر ذو السلطان في الفلوس أصلاً بأن يشتري نحاساً فيضربه فيتجر فيه، ولا بأن يحرم عليهم الفلوس التي بأيديهم و يضرب لهم غيرها؛ بل يضرب ما يضرب بقيمته من غير ربح فيه للمصلحة العامة، ويعطي أجرة الصناع من بيت المال، فإنَّ التجارة فيها باب عظيم من أبواب ظلم الناس وأكل أموالهم بالباطل، فانه إذا حرم المعاملة بها حتى صارت عرضاً و ضرب لهم فلوساً أخرى أفسد ما عندهم من الأموال بنقص أسعارها فيظلمهم فيها، وظلمهم فيها بصرفها بأعلى سعرها.
و أيضا فإذا اختلفت مقادير الفلوس صارت ذريعة إلى أنَّ الظلمة يأخذون صغاراً فيصرفونها و ينقلونها إلى بلد آخر ويخرجون صغارها فتفسد أموال الناس)).
ومن المتنازع فيه كذلك: أن يبيع شيئاً يقصد به الانتفاع أو الاتجار من غير الأصناف الربوية بسعرين مختلفين بين النقد والآجل، ويُخير فيه المشتري بين أن يدفع الثمن نقداً، أو أن يدفعه بالآجل لكن بثمن أكثر من ثمن النقد؛ فيأخذ المشتري المبيع بثمن الآجل، وهذا هو بيع التقسيط المعروف؛ وهو موضوع البحث؟
أصل الخلاف:
ومدار اختلاف أهل العلم هو حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((مَنْ باع بيعتين في بيعة فله أوكسهما أو الربا)) والذي أخرجه ابن أبي شيبة وعبد الرزاق وأبو داود والحاكم وابن حبان والبيهقي. وعند أحمد والترمذي والنسائي وابن حبان وابن الجارود بلفظ: ((نهى صلى الله عليه وسلم عن بيعتين في بيعة)). وعند ابن عبد البر وغيره من حديث ابن عمر رضي الله عنهما بنفس اللفظ المختصر. وعند أحمد من طريق سماك بن حرب عن عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود رضي الله عنهما عن أبيه قال: ((نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صفقتين في صفقة واحدة)) قال سماك: الرجل يبيع البيع فيقول هو بنساء بكذا وكذا، وهو بنقد بكذا وكذا.
سبب الخلاف:
أنَّ أهل العلم لهم عدة مسالك في هذا الحديث:
- منهم مَنْ ضعَّف زيادة ((فله أوكسهما أو الربا)) واعتبرها شاذة، وأخذ بتفسير سماك راوي الحديث على أنَّ المراد منه انعقاد البيع على سعرين مختلفين ولم يتفقا على أحدهما؛ فعلة النهي عندهم جهالة الثمن.
- ومنهم مَنْ ضعفها ولم يأخذ بتفسير سماك؛ وإنما معنى الحديث عنده بمعنى بيع وشرط أو بيع وسلف؛ فعلة النهي عندهم الغرر.
- ومنهم من صحح الزيادة ولم يأخذ بتفسير سماك راوي الحديث وإنما فسَّر البيعتين في بيعة ببيع العينة.
- ومنهم مَنْ زعم أنها منسوخة، وأنَّ النهي مطلق يدخل فيه كل صور البيعتين في بيعة المتقدِّمة، ولا يُباح هذا البيع ولو كان بأقل الثمنين، وأنَّ علة النهي مبنية على التعدي والغصب.
- ومنهم مَنْ صحح الزيادة و أخذ بتفسير سماك على أنَّ المراد منه أن يعرض المتاع بسعرين مختلفين من حيث النقد والنسيئة، وأنَّ الزيادة في الثمن بسبب الأجل ربا؛ وهو علة النهي، وأنَّ البيع صحيح إذا كان بأقل الثمنين.
تعليق