ومن أنوار {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} :
نور البرق الذي يبدو للعبد عند دخوله في طريق الصادقين وهو لامع يلمع لقلبه يشبه لامع البرق قال صاحب المنازل البرق باكورة تلمع للعبد فتدعوه إلى الدخول في هذه الطريق واستشهد عليه بقوله تعالى {وَهَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى إِذْ رَأى نَاراً فَقَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ} ووجه الاستشهاد أن النار التي رآها موسى كانت مبدأ في طريق نبوته والبرق مبدأ في طريق الولاية التي هي وراثة النبوة وقوله باكورة الباكورة هي أول الشيء ومنه باكورة الثمار وهو لما سبق نوعه في النضج وقوله يلمع للعبد أي يبدو له ويظهر فتدعوه إلى الدخول في هذه الطريق ولم يرد طريق أهل البدايات فإن تلك هي اليقظة التي ذكرها في أول كتابه وإنما أراد طريق أرباب التوسط والنهايات وعلى هذا فالبرق الذي أشار إليه هو برق الأحوال لا برق الأعمال أو برق لا سبب له من السالك إنما هو مجرد موهبة والدليل على أنه أراد ما يحصل لأرباب التوسط والنهايات أنه أخذ بعد تعريفه يفرق بينه وبين الوجد فقال والفرق بينه وبين الوجد أن الوجد يقع بعد الدخول فيه والبرق قبله فالوجد زاد والبرق إذن.
يريد أن البرق نور يقذفه الله في قلب العبد ويبديه له فيدعوه به إلى الدخول في الطريق والوجد هو شدة الطلب وقوته الموجبة لتأجيج اللهيب من الشهود كما تقدم والوجد زاد يعني أنه يصحب السالك كما يصحبه زاده بل هو من نفائس زاده والبرق إذن يعني إذنا في السلوك والإذن إنما يفسح للسالك في المسير لا غير قال وهو ثلاث درجات الأولى برق يلمع من جانب العدة في عين الرجاء فيستكثر فيه العبد القليل من العطاء ويستقل فيه الكثير من الإعياء ويستحلي فيه مرارة القضاء يعني بالعدة ما وعد الله أولياءه من أنواع الكرامة في هذه الدار وعند اللقاء وقوله يلمع في عين الرجاء أي يبدو في حقيقةالرجاء من أفقه وناحيته فيوجب له ذلك استكثار القليل ولا قليل من الله من عطائه والحامل له على هذا الاستكثار أربعة أمور أحدها نظره إلى جلالة معطيه وعظمته الثاني احتقاره لنفسه فإن ازدراءه لها يوجب استكثار ما يناله من سيده الثالث محبته له فإن المحبة إذا تمكنت من العبد استكثر قليل ما يناله من محبوبه الرابع أن هذا قبل العطاء لم يكن له إلف به ولا اتصال بالعطية فلما فاجأته استكثرها وأما استقلاله الكثير من الإعياء وهو التعب والنصب فلأنه لما بدا له برق الوعود من أفق الرجاء حمله ذلك على الجد والطلب وحمل عنه مشقة السير فلم يجد من مس الإعياء والنصب ما يجده من لم يشم ذلك وكذلك استحلاؤه في هذا البرق مرارة القضاء وهو البلاء الذي.
يختبر به الله عز وجل عباده ليبلوهم أيهم أصبر وأصدق وأعظم إيمانا ومحبة وتوكلا وإنابة فإذا لاح للسالك هذا البرق استحلى فيه مرارة القضاء.
فصل قال الدرجة الثانية برق يلمع من جانب الوعيد في عين الحذر.
فيستقصر فيه العبد الطويل من الأمل ويزهد في الخلق على القرب ويرغب في تطهير السر هذا البرق أفقه وعينه غير أفق البرق الأول فإن هذا يلمع من أفق الحذر وذاك من أفق الرجاء فإذا شام هذا البرق استقصر فيه الطويل من الأمل وتخيل في كل وقت أن المنية تعافصه وتفاجئه فاشتد حذره من هجومها مخافة أن تحل به عقوبةالله ويحال بينه وبين الاستعتاب والتأهب للقاء فيلقى ربه قبل الطهر التام فلا يؤذن له بالدخول عليه بغير طهارة كما أنه لم يؤذن له في دار التكليف بالدخول عليه للصلاة بغير طهارة وهذا يذكر العباد بالتطهر للموافاة والقدوم عليه والدخول وقت اللقاء لمن عقل عن الله وفهم أسرار العبادات فإذا كان العبد لا يدخل عليه حتى يستقبل بيته المحرم بوجهه ويستر عورته ويطهر بدنه وثيابه وموضع مقامه بين يديه ثم يخلص له النية فهكذا الدخول عليه وقت اللقاء لا يحصل إلا بأن يستقبل ربه بقلبه كله ويستر عوراته الباطنة بلباس التقوى ويطهر قلبه وروحه وجوارحه من أدناسها الظاهرة والباطنة ويتطهر لله طهرا كاملا ويتأهب للدخول أكمل تأهب وأوقات الصلاة نظير وقت الموافاة فإذا تأهب العبد قبل الوقت جاءه الوقت وهو متأهب فيدخل على الله وإذا فرط في التأهب خيف عليه من خروج الوقت قبل التأهب إذ هجوم وقت الموافاة مضيق لا يقبل التوسعة فلا يمكن العبد من التطهر والتأهب عند هجوم الوقت بل يقال له هيهات فات ما فات وقد بعدت بينك وبين التطهر المسافات فمن شام برق الوعيد بقصر الأمل لم يزل على طهارة وأما تزهيده في الخلق على القرب وإن كانوا أقاربه أو مناسبيه أو مجاوريه وملاصقيه أو معاشريه ومخالطيه فلكمال حذره واستعداده واشتغاله بما أمامه وملاحظة الوعيد من أفق ذلك البارق الذي ليس بخلب بل هو أصدق بارق ويحتمل أن يريد بقوله عن قرب أي عن أقرب وقت فلا ينتظر بزهده فيهم أملا يؤمله ولا وقتا يستقبله قوله ويرغب في تطهير السر يعني تطهير سره عما سوى الله وقد تقدم بيانه.
فصل قال الدرجة الثالثة برق يلمع من جانب اللطف في عين الافتقار.
فينشىء سحاب السرور ويمطر مطر الطرب ويجري من نهر الافتخار هذا البرق يلمع من أفق ملاطفة الرب تعالى لعبده بأنواع الملاطفات ومطلع هذا البرق في عين الافتخار الذي هو باب السلوك إلى الله تعالى والطريق الأعظم الذي لا يدخل عليه إلا منه وكل طريق سواه فمسدود ومع هذا فلا يصل العبد منه إلا بالمتابعة فلا طريق إلى الله البتة أبدا ولو تعنى المتعنون وتمنى المتمنون إلا الافتقار ومتابعة الرسول فقط فلا يتعب السالك نفسه في غير هذه الطريق فإنه على غير شيء وهو صيد الوحوش والسباع قوله فينشىء سحاب السرور أي ينشىء للعبد سرورا خاصا وفرحا بربه لا عهد له بمثله ولا نظير له في الدنيا ونفحة من نعيم الجنة ونسمة من ريح شمالهم فإذا نشأ له ذلك السحاب أمطر عليه صيب الطرب فطرب باطنه وسره. لما ورد عليه من عند سيده ووليه وإذا اشتد ذلك الطرب جرى به نهر الافتخار يتميز به عن أبناء جنسه بما خصه الله به وإما أن يريد به افتخاره على الشيطان وهذه مخيلة محمودة طربا وافتخارا عليه فإن الله لا يكره ذلك ولهذا يحب المختال بين الصفين عند الحرب لما في ذلك من مراغمة أعدائه ويحب الخيلاء عند الصدقة كما جاء ذلك مصرحا به في الحديث لسر عجيب يعرفه أولو الصدقات والبذل من نفوسهم عند ارتياحهم للعطاء وابتهاجهم به واختيالهم على النفس الشحيحة الأمارة بالبخل وعلى الشيطان المزين لها ذلك
وهم ينفدون المال في أول الغنى ويستأنفون الصبر في آخر الصبر
مغاوير للعليا مغابير للحمى مفاريج للغمى مداريك للوتر
وتأخذهم في ساعة الجود هزة كما تأخذ المطراب عن نزوة الخمر
فهذا الافتخار من تمام العبودية أو يريد به أنه حري بالافتخار بما تميز به ولم يفتخر به إبقاء على عبوديته وافتقاره وكلا المعنيين صحيح والله أعلم وسر ذلك أن العبد إذا لاحظ ما هو فيه من الالطاف وشهده من عين المنة ومحض الجود شهد مع ذلك فقره إليه في كل لحظة وعدم استغنائه عنه طرفة عين فكان ذلك من أعظم أبواب الشكر وأسباب المزيد وتوالي النعم عليه وكلما توالت عليه النعم أنشأت في قلبه سحائب السرور وإذا انبسطت هذه السحائب في سماء قلبه وامتلأ بها أفقه أمطرت عليه وابل الطرب بما هو فيه من لذيذ السرور فإن لم يصبه وابل فطل وحينئذ يجري على لسانه وظاهره نهر الافتخار من غير عجب ولا فخر بل فرحا بفضل الله ورحمته كما قال تعالى{قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا} فالافتخار على ظاهره والافتقار والانكسار في باطنه ولا ينافي أحدهما الآخر. وتأمل قول النبي صلى اله عليه وسلم" أنا سيد ولد آدم ولا فخر" فكيف أخبر بفضل الله ومنته عليه وأخبر أن ذلك لم يصدر منه افتخارا به على من دونه ولكن إظهارا لنعمة الله عليه وإعلاما للأمة بقدر إمامهم ومتبوعهم عند الله وعلو منزلته لديه لتعرف الامة نعمة الله عليه وعليهم ويشبه هذا قول يوسف الصديق للعزيز اجعلني على خزائن الأرض إني حفيظ عليم فإخباره عن نفسه بذلك لما كان متضمنا لمصلحة تعود على العزيز وعلى الأمة وعلى نفسه كان حسنا إذ لم يقصد به الفخر عليهم فمصدر الكلمة والحامل عليها يحسنها ويهجنها وصورته واحدة.
نور البرق الذي يبدو للعبد عند دخوله في طريق الصادقين وهو لامع يلمع لقلبه يشبه لامع البرق قال صاحب المنازل البرق باكورة تلمع للعبد فتدعوه إلى الدخول في هذه الطريق واستشهد عليه بقوله تعالى {وَهَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى إِذْ رَأى نَاراً فَقَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ} ووجه الاستشهاد أن النار التي رآها موسى كانت مبدأ في طريق نبوته والبرق مبدأ في طريق الولاية التي هي وراثة النبوة وقوله باكورة الباكورة هي أول الشيء ومنه باكورة الثمار وهو لما سبق نوعه في النضج وقوله يلمع للعبد أي يبدو له ويظهر فتدعوه إلى الدخول في هذه الطريق ولم يرد طريق أهل البدايات فإن تلك هي اليقظة التي ذكرها في أول كتابه وإنما أراد طريق أرباب التوسط والنهايات وعلى هذا فالبرق الذي أشار إليه هو برق الأحوال لا برق الأعمال أو برق لا سبب له من السالك إنما هو مجرد موهبة والدليل على أنه أراد ما يحصل لأرباب التوسط والنهايات أنه أخذ بعد تعريفه يفرق بينه وبين الوجد فقال والفرق بينه وبين الوجد أن الوجد يقع بعد الدخول فيه والبرق قبله فالوجد زاد والبرق إذن.
يريد أن البرق نور يقذفه الله في قلب العبد ويبديه له فيدعوه به إلى الدخول في الطريق والوجد هو شدة الطلب وقوته الموجبة لتأجيج اللهيب من الشهود كما تقدم والوجد زاد يعني أنه يصحب السالك كما يصحبه زاده بل هو من نفائس زاده والبرق إذن يعني إذنا في السلوك والإذن إنما يفسح للسالك في المسير لا غير قال وهو ثلاث درجات الأولى برق يلمع من جانب العدة في عين الرجاء فيستكثر فيه العبد القليل من العطاء ويستقل فيه الكثير من الإعياء ويستحلي فيه مرارة القضاء يعني بالعدة ما وعد الله أولياءه من أنواع الكرامة في هذه الدار وعند اللقاء وقوله يلمع في عين الرجاء أي يبدو في حقيقةالرجاء من أفقه وناحيته فيوجب له ذلك استكثار القليل ولا قليل من الله من عطائه والحامل له على هذا الاستكثار أربعة أمور أحدها نظره إلى جلالة معطيه وعظمته الثاني احتقاره لنفسه فإن ازدراءه لها يوجب استكثار ما يناله من سيده الثالث محبته له فإن المحبة إذا تمكنت من العبد استكثر قليل ما يناله من محبوبه الرابع أن هذا قبل العطاء لم يكن له إلف به ولا اتصال بالعطية فلما فاجأته استكثرها وأما استقلاله الكثير من الإعياء وهو التعب والنصب فلأنه لما بدا له برق الوعود من أفق الرجاء حمله ذلك على الجد والطلب وحمل عنه مشقة السير فلم يجد من مس الإعياء والنصب ما يجده من لم يشم ذلك وكذلك استحلاؤه في هذا البرق مرارة القضاء وهو البلاء الذي.
يختبر به الله عز وجل عباده ليبلوهم أيهم أصبر وأصدق وأعظم إيمانا ومحبة وتوكلا وإنابة فإذا لاح للسالك هذا البرق استحلى فيه مرارة القضاء.
فصل قال الدرجة الثانية برق يلمع من جانب الوعيد في عين الحذر.
فيستقصر فيه العبد الطويل من الأمل ويزهد في الخلق على القرب ويرغب في تطهير السر هذا البرق أفقه وعينه غير أفق البرق الأول فإن هذا يلمع من أفق الحذر وذاك من أفق الرجاء فإذا شام هذا البرق استقصر فيه الطويل من الأمل وتخيل في كل وقت أن المنية تعافصه وتفاجئه فاشتد حذره من هجومها مخافة أن تحل به عقوبةالله ويحال بينه وبين الاستعتاب والتأهب للقاء فيلقى ربه قبل الطهر التام فلا يؤذن له بالدخول عليه بغير طهارة كما أنه لم يؤذن له في دار التكليف بالدخول عليه للصلاة بغير طهارة وهذا يذكر العباد بالتطهر للموافاة والقدوم عليه والدخول وقت اللقاء لمن عقل عن الله وفهم أسرار العبادات فإذا كان العبد لا يدخل عليه حتى يستقبل بيته المحرم بوجهه ويستر عورته ويطهر بدنه وثيابه وموضع مقامه بين يديه ثم يخلص له النية فهكذا الدخول عليه وقت اللقاء لا يحصل إلا بأن يستقبل ربه بقلبه كله ويستر عوراته الباطنة بلباس التقوى ويطهر قلبه وروحه وجوارحه من أدناسها الظاهرة والباطنة ويتطهر لله طهرا كاملا ويتأهب للدخول أكمل تأهب وأوقات الصلاة نظير وقت الموافاة فإذا تأهب العبد قبل الوقت جاءه الوقت وهو متأهب فيدخل على الله وإذا فرط في التأهب خيف عليه من خروج الوقت قبل التأهب إذ هجوم وقت الموافاة مضيق لا يقبل التوسعة فلا يمكن العبد من التطهر والتأهب عند هجوم الوقت بل يقال له هيهات فات ما فات وقد بعدت بينك وبين التطهر المسافات فمن شام برق الوعيد بقصر الأمل لم يزل على طهارة وأما تزهيده في الخلق على القرب وإن كانوا أقاربه أو مناسبيه أو مجاوريه وملاصقيه أو معاشريه ومخالطيه فلكمال حذره واستعداده واشتغاله بما أمامه وملاحظة الوعيد من أفق ذلك البارق الذي ليس بخلب بل هو أصدق بارق ويحتمل أن يريد بقوله عن قرب أي عن أقرب وقت فلا ينتظر بزهده فيهم أملا يؤمله ولا وقتا يستقبله قوله ويرغب في تطهير السر يعني تطهير سره عما سوى الله وقد تقدم بيانه.
فصل قال الدرجة الثالثة برق يلمع من جانب اللطف في عين الافتقار.
فينشىء سحاب السرور ويمطر مطر الطرب ويجري من نهر الافتخار هذا البرق يلمع من أفق ملاطفة الرب تعالى لعبده بأنواع الملاطفات ومطلع هذا البرق في عين الافتخار الذي هو باب السلوك إلى الله تعالى والطريق الأعظم الذي لا يدخل عليه إلا منه وكل طريق سواه فمسدود ومع هذا فلا يصل العبد منه إلا بالمتابعة فلا طريق إلى الله البتة أبدا ولو تعنى المتعنون وتمنى المتمنون إلا الافتقار ومتابعة الرسول فقط فلا يتعب السالك نفسه في غير هذه الطريق فإنه على غير شيء وهو صيد الوحوش والسباع قوله فينشىء سحاب السرور أي ينشىء للعبد سرورا خاصا وفرحا بربه لا عهد له بمثله ولا نظير له في الدنيا ونفحة من نعيم الجنة ونسمة من ريح شمالهم فإذا نشأ له ذلك السحاب أمطر عليه صيب الطرب فطرب باطنه وسره. لما ورد عليه من عند سيده ووليه وإذا اشتد ذلك الطرب جرى به نهر الافتخار يتميز به عن أبناء جنسه بما خصه الله به وإما أن يريد به افتخاره على الشيطان وهذه مخيلة محمودة طربا وافتخارا عليه فإن الله لا يكره ذلك ولهذا يحب المختال بين الصفين عند الحرب لما في ذلك من مراغمة أعدائه ويحب الخيلاء عند الصدقة كما جاء ذلك مصرحا به في الحديث لسر عجيب يعرفه أولو الصدقات والبذل من نفوسهم عند ارتياحهم للعطاء وابتهاجهم به واختيالهم على النفس الشحيحة الأمارة بالبخل وعلى الشيطان المزين لها ذلك
وهم ينفدون المال في أول الغنى ويستأنفون الصبر في آخر الصبر
مغاوير للعليا مغابير للحمى مفاريج للغمى مداريك للوتر
وتأخذهم في ساعة الجود هزة كما تأخذ المطراب عن نزوة الخمر
فهذا الافتخار من تمام العبودية أو يريد به أنه حري بالافتخار بما تميز به ولم يفتخر به إبقاء على عبوديته وافتقاره وكلا المعنيين صحيح والله أعلم وسر ذلك أن العبد إذا لاحظ ما هو فيه من الالطاف وشهده من عين المنة ومحض الجود شهد مع ذلك فقره إليه في كل لحظة وعدم استغنائه عنه طرفة عين فكان ذلك من أعظم أبواب الشكر وأسباب المزيد وتوالي النعم عليه وكلما توالت عليه النعم أنشأت في قلبه سحائب السرور وإذا انبسطت هذه السحائب في سماء قلبه وامتلأ بها أفقه أمطرت عليه وابل الطرب بما هو فيه من لذيذ السرور فإن لم يصبه وابل فطل وحينئذ يجري على لسانه وظاهره نهر الافتخار من غير عجب ولا فخر بل فرحا بفضل الله ورحمته كما قال تعالى{قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا} فالافتخار على ظاهره والافتقار والانكسار في باطنه ولا ينافي أحدهما الآخر. وتأمل قول النبي صلى اله عليه وسلم" أنا سيد ولد آدم ولا فخر" فكيف أخبر بفضل الله ومنته عليه وأخبر أن ذلك لم يصدر منه افتخارا به على من دونه ولكن إظهارا لنعمة الله عليه وإعلاما للأمة بقدر إمامهم ومتبوعهم عند الله وعلو منزلته لديه لتعرف الامة نعمة الله عليه وعليهم ويشبه هذا قول يوسف الصديق للعزيز اجعلني على خزائن الأرض إني حفيظ عليم فإخباره عن نفسه بذلك لما كان متضمنا لمصلحة تعود على العزيز وعلى الأمة وعلى نفسه كان حسنا إذ لم يقصد به الفخر عليهم فمصدر الكلمة والحامل عليها يحسنها ويهجنها وصورته واحدة.