أثر عبادة الحج والعمرة
في
وقاية النفس وتطهيرها من الذنوب
- عموم ومستثنيات -
في
وقاية النفس وتطهيرها من الذنوب
- عموم ومستثنيات -
لشيخنا الفقيه
أبي عبد المعز محمد علي فركوس
-حفظه الله -
الحمدُ لله ربِّ العالمينَ، والصلاةُ والسلامُ على من أرْسلَه الله رحمةً للعالمينَ، وعلى آلهِ وصحبهِ وإخوانهِ إلى يومِ الدِّينِ، أمَّا بعدُ:
فمن رحمةِ الله تعالى بعباده أن شرعَ لهم من العباداتِ ما يَقيهم ويَصونهم شرَّ الوقوعِ في المعاصي والذنوبِ وما يُعالجهم بها ويُطهّرهم إذا وقعوا فيها، فالصلاةُ تقي صاحبَها من الفحشاءِ والمنكرِ، ومن الجزعِ عند الضَّرَّاءِ والمصائبِ، ومن الشُّحِّ عند السَّرَّاءِ والإنعامِ ونحو ذلك، ممَّا بيَّنه الله تعالى في قوله:
﴿إِنَّ الصَّلاَةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ﴾ [العنكبوت: 45]
وقال تعالى:
﴿إِنَّ الإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا، إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا، وَإِذَا مَسَّهُ الخَيْرُ مَنُوعًا، إِلاَّ الْمُصَلِّينَ، الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ دَائِمُونَ، وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ، لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ﴾
[المعارج: 19-25]
فالموصوفون بها إذا مسَّهم الخير شكروا الله وأنفقوا ممَّا خَوَّلهم، وإذا مسَّهم الشرُّ صبروا واحتسبُوا.
كما أنَّ الصلاةَ يمحو الله بها الخطايا ويطهّر بها من الذنوب، وقد صحَّ عن النبي صلَّى الله عليه وآلهِ وسلَّم أنَّه قال:
«أَرَأَيْتُمْ لَوْ أَنَّ نَهَرًا بِبَابِ أَحَدِكُمْ يَغْتَسِلُ فِيهِ كُلَّ يَوْمٍ خَمْسًا مَا تَقُولُ ذَلِكَ يَبْقَى مِنْ دَرَنِهِ؟»
قَالُوا:
«لاَ يَبْقَى مِنْ دَرَنِهِ شَيْءٌ»،
قَالَ:
«فَذَلِكَ مَثَلُ الصَلَوَاتِ الخمْسِ يَمْحُو الله بهنَّ الخطَايَا»
(أخرجه البخاري كتاب «الصلاة»، باب الصلوات الخمس كفارة: (1/134)، ومسلم كتاب «المساجد ومواضع الصلاة»: (1/300)، رقم: (667)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه)
وَقَالَ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم -أيضًا-: «الصَلَوَاتُ الخمْسُ وَالجمُعَةُ إِلى الجمُعَةِ كَفَّارَاتٌ لِمَا بَيْنَهُنَّ مَا اجْتُنِبَتِ الكَبَائِرُ»
(أخرجه أحمد: (2/ 359)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. وأخرجه مسلم كتاب «الطهارة»: (1/125) بلفظ: «الصَلاَةُ الخَمْسُ وَالجمُعَةُ إِلى الجمُعَةِ كَفَّارَةٌ لِمَا بَيْنَهُنَّ مَا لم تُغْشَ الكَبَائِرُ». وانظر: «السلسلة الصحيحة» للألباني: (7/955))
وقال -أيضًا-:
«مَنْ قَامَ رَمَضَانَ إِيمانًا واحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ»
(أخرجه البخاري كتاب «الإيمان»، باب تطوع قيام رمضان من الإيمان: (1/15)، ومسلم كتاب «صلاة المسافرين وقصرها»: (1/343)، رقم: (759)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه)
وقال صلَّى الله عليه وآله وسلَّم -أيضًا-:
«مَنْ قَامَ لَيْلَةَ القَدْرِ إِيمانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ»
(أخرجه البخاري كتاب «الصوم»، باب من صام رمضان إيمانًا واحتسابًا ونية: (1/455)، (1/343)، رقم: (760)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه).
وعبادةُ الزكاةِ وقايةٌ من الشُّحِّ والبُخلِ تَنقُل صاحبَها إلى زمرةِ الكرماءِ، وتُزكِّي أخلاقَه كما في آيةِ المعارجِ السابقةِ، وتشرحُ صدرَه وتجعلُ صاحبَها من المستحقِّينَ لرحمةِ اللهِ، قَال تَعَالى:
﴿وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللهُ﴾
[التوبة: 71]
وتَقِيهِ -أيضًا- منْ أسبابِ ضيقِ الرِّزقِ ومنعِ القَطْرِ، ففي الحديثِ:
«لَمْ يَمْنَعْ قَوْمٌ زَكَاةَ أَمْوَالهمْ إِلاَّ مُنِعُوا القَطْرَ مِنَ السَّمَاءِ، وَلَوْلاَ البَهَائِمُ لَمْ يُمْطَرُوا»
(أخرجه ابن ماجه كتاب «الفتن»، باب العقوبات: (4019)، والطبراني في «المعجم الكبير»: (12/446)، من حديث ابن عمر رضي الله عنهما. والحديث حسّنه الألباني في «السلسلة الصحيحة»: (1/216))
وهيَ مِنْ جِهةٍ أُخرى تُطَهِّرُ الذنوبَ والخطايا لمن وقعَ فيها، وفي حديثِ معاذِ بنِ جبلٍ رضي الله عنهُ أنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّمَ قالَ:
«..وَالصَدَقَةُ تُطْفِئُ الخطِيئَةَ كَمَا يُطْفِئُ الماءُ النَّارَ»
(أخرجه الترمذي كتاب «الصلاة»، باب ما ذكر في فضل الصلاة: (614)، ، وأحمد: (3/399)، من حديث كعب بن عجرة رضي الله عنه. ومن حديث معاذ بن جبل رضي الله عنه أخرجه الترمذي كتاب «الإيمان»، باب ما جاء في حرمة الصلاة: (2616)، وأحمد: (5/213)، والحديث صحَّحه الألباني في «الإرواء»: (2/13)
وزَكَاةُ الفِطر تُطهِّر مَنْ وَجَبت عليه بعد شهرِ الصومِ منَ اللَّغْوِ والرَّفَثِ، فعن ابنِ عباسٍ رضي الله عنهما قالَ:
«فَرَضَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ زَكَاةَ الفِطْرِ طُهْرَةً للصَّائِمِ مِنَ اللَّغْوِ وَالرَّفَثِ وَطُعْمَةً للمَسَاكِينِ»
(أخرجه أبو داود كتاب «الزكاة»، باب زكاة الفطر: (1609)، وابن ماجه كتاب «الزكاة»، باب صدقة الفطر: (1827)، والبيهقي في «السنن الكبرى»: (4/162)، من حديث ابن عباس رضي الله عنهما. والحديث حَسَّنه الألباني في «الإرواء»: (3/332)).
وكذلكَ عبادةُ الصومِ فإنها تقِي المؤمنَ من المعاصِي وتصرفُه عن الشهواتِ، وتَسُدُّ عنْهُ منافِذَ السوءِ والشرِّ، وتمنعُه من الوقوعِ في المخالفةِ لقوله تعالى:
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾
[البقرة: 183]
فالصومُ موجبٌ لتقوى الله في القلوبِ وإضعافِ الجوارحِ عن الشهواتِ وإماتتِها، إذْ كُلَّمَا يَقِلُّ الأكلُ تضعفُ الشهوةُ، وتَقِلُّ ‑على إثْرِها‑ المعاصِي والذنوبُ، قال صلَّى الله عليهِ وآله وسلَّمَ:
«يَا مَعْشَرَ الشَّبَابِ، مَنِ اسْتَطَاعَ مِنْكُمُ البَاءَةَ فَلْيَتَزَوَّجْ، فَإِنَّهُ أَغَضُّ لِلْبَصَرِ وَأَحْصَنُ لِلْفَرْجِ، وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَعَلَيْهِ بِالصَّوْمِ، فَإِنَّهُ لَهُ وِجَاءٌ»
(أخرجه البخاري كتاب «الصوم»، باب الصوم لمن خاف على نفسه العزوبة: (1/456)، ومسلم كتاب «النكاح»: (1/630)، رقم: (1400)، من حديث ابن مسعود رضي الله عنه)
فهوَ علاجٌ واقٍ بالطبِّ النبوي لمنْ خشيَ الوقوعَ في مُهلكاتِ شهواتِ البطنِ والفرجِ وغيرهِما، ودِرْعٌ منيعٌ من النَّارِ، قَالَ النبيُّ صلَّى الله عليهِ وآلهِ وسلَّمَ: «الصِّيَامُ جُنَّةٌ، وَحِصْنٌ حَصِينٌ مِن النَّارِ»(٩- أخرجه أحمد: (2/402)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وحسّنه الهيثمي في «مجمع الزوائد»: (3/41، والألباني في «صحيح الترغيب والترهيب»: (1/237))، وقد جاءَ في التعبيرِ النبويِّ عن وقايةِ صومِ رمضانَ من الشرورِ والآثامِ بفتحِ سُبُلِ الخيرِ وإغلاقِ سُبلِ الشرِّ والغوايةِ، فقالَ صلَّى الله عليه وآلهِ وسلَّمَ: «إِذَا جَاءَ رَمَضَانُ فُتِّحَتْ أَبْوَابُ الجنَّةِ وَغُلِّقَتْ أَبْوَابُ النَّارِ وَصُفِّدَتِ الشَيَاطِينُ»(١٠- أخرجه البخاري كتاب «الصوم»، باب هل يقال رمضان أو شهر رمضان: (1/455)، ومسلم كتاب «الصيام»: (1/481)، رقم: (1079)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه)، كما تُخَلِّصُ عبادة الصوم صاحبها من الذنوب بتكفيرها عليه وحصول المغفرة له، ويدلُّ عليه قوله صلى الله عليه وآله وسلم: «...وَرَمَضَانُ إِلَى رَمَضَانَ مُكَفِّراتٌ لِمَا بَيْنَهُنَّ مَا اجْتُنِبَتِ الكَبَائِرُ»(١١- أخرجه مسلم كتاب «الطهارة»: (1/125)، رقم: (233)، وأحمد: (2/400)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه)، وقوله صلى الله عليه وآله وسلم: «مَنْ قَامَ رَمَضَانَ إِيمانًا واحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ»(١٢- تقدّم تخريجه، انظر الهامش رقم: (3)).
هذَا، ولا تخرجُ عبادةُ الحجِّ والعُمرةِ عن سائرِ العباداتِ في الوقايةِ مِنْ شرِّ الوقوعِ في المعاصِي وتطهيرِ النفسِ منهَا وقايةً وعلاجًا -كما سيأتي في مضمون الكلمة- غيرَ أنَّ الأمرَ الذي يدعُو إلى تجليةِ القولِ فيه هو أنَّ مَحْوَ أثرِ المعصيةِ من النفسِ بعدَ الوقوعِ فيها بالعملِ الصالح أو بالعباداتِ السالفةِ البيانِ بخاصةٍ الحجّ والعمرة، هل يتحقَّقُ بهما التطهيرُ الجزئي، أي: لصغائرِ الذنوبِ فقط أمْ الأمرُ يعدُو إلى كبائرِ الذنوبِ فيحصُل بهما التطهيرُ الكلي؟
فتقريرُ القضيةِ وبيانُ متعلّقاتها تتجلَّى علَى الوجهِ التَالي:
لا خلافَ بينَ العلماءِ في أنَّ صغائرَ الذنوبِ تُكفَّر بعبادةِ الحجِّ ويحصلُ بها الغفرانُ(١٣- انظر «مرقاة المفاتيح» للملا القاري: (5/382))، غير أنَّ العلماءَ يختلفون في تكفيرِ كبائرِ الذنوبِ بالحجّ، وما عليهِ أهلُ التحقيقِ أنَّ الحجَّ مكفِّرٌ للذنوبِ جميعًا صغيرِها وكبيرِها، لقولهِ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم في فضلِ الحجِّ المبرورِ من حديث أبي هريرة رضي الله عنه: «مَنْ حَجَّ للهِ فَلَمْ يَرْفُثْ وَلَمْ يَفْسُقْ رَجَعَ مِنْ ذُنُوبِهِ كَيَوْمَ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ»(١٤- أخرجه البخاري كتاب «الحج»، باب فضل الحج المبرور: (36، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه)، فالحديث دلَّ -بظاهرهِ- على أنَّ من استوْفَى أحكامَ الحجِّ، ووقعتْ أعمالُه على وَفْقِ مطلبِ الشرعِ، ولم يُخالطه شيءٌ منَ الإثم والفُسوقِ رجعَ نقيًّا من ذنوبهِ كيومَ ولدتهُ أمُّه، ويؤكِّد هذا المعنى حديثُ عمرو بنِ العاص -رضيَ الله عَنهُ- قالَ: لَمَّا جَعَلَ الله الإسلامَ في قَلْبي أَتَيْتُ النبيَّ صَلَّى الله عليْهِ وآلِهِ وَسَلَّمَ، فقلْتُ: «ابْسُطْ يَمِينَكَ فَلأُبَايِعْكَ»، فَبَسَطَ يَمِينَهُ، قَالَ: فَقَبَضْتُ يَدِي، قَالَ: «مَالَكَ يَا عَمْرُو!؟»، قَالَ: قُلْتُ: «أَرَدتُ أَنْ أَشْتَرِطَ»، قَالَ: «تَشْتَرِطُ بِمَاذَا؟»، قُلْتُ: «أَنْ يُغْفَرَ لِي»، قَالَ: «أَمَا عَلِمْتَ أَنَّ الإِسْلاَمَ يَهْدِمُ مَا كَانَ قَبْلَهُ؟ وَأَنَّ الْهِجْرَةَ تَهْدِمُ مَا كَانَ قَبْلَهَا؟ وَأَنَّ الْحَجَّ يَهْدِمُ مَا كَانَ قَبْلَهُ؟»(١٥- أخرجه مسلم كتاب «الإيمان»، باب كون الإسلام يهدم ما قبله وكذا الهجرة: (1/66)، رقم: (121)، وابن خزيمة في «صحيحه» (1/66)، من حديث عمرو بن العاص رضي الله عنه) والحديث يفيدُ «عظم موقعِ الإسلامِ والهجرةِ والحجِّ، وأنَّ كلَّ واحدٍ منهَا يهدِمُ ما كانَ قبلهُ من المعاصِي»(١٦- «شرح مسلم» للنووي (2/13)، من غيرِ تفريقٍ بينَ صغائرهَا وكبائرِهَا، قَال ابنُ حَجَرٍ -رحمهُ الله- في تعليقِهِ علَى حديثِ أبي هريرةَ رضيَ الله عنهُ: «فإنَّ ظاهرَهُ غُفران الصغائرِ والكبائرِ والتَّبعَاتِ»(١٧- «فتح الباري» لابن حجر: (3/383)).
قُلْتُ: فإنَّ عُمومَ ظاهرِه غيرُ مقصودٍ مطلقًا، وإنَّما يتناولُ الصغائرَ والكبائرَ من حُقوقِ الله تعالى المتعلِّقةِ باجتنابِ رُكوبِ المحارمِ كالزِّنَا، والسرقةِ، وشربِ الخمرِ، والقَذْفِ، والكذبِ، ونحو ذلكَ، أمَّا حُقوقُ الله التي تشْغَلُ بها ذمَّةُ المكلَّفِ كالكفَّاراتِ، والنذورِ، وقضاءِ الصلاةِ، والصومِ، فإنها تبقَى قائمةً ولا تبرأُ ذمَّتُه منها، ولا تَسقطُ بحالٍ إلاَّ بعدَ القيامِ بها أداءً أو قضاءً على وَفْقِ المطلوبِ شَرْعًا، أوْ عندَ حَالةِ عدمِ القُدرةِ على امتثَالِ الأمرِ بها أو العجزِ عَنْ أدائِهَا.
ويُستثنى ‑أيضًا‑ منَ العمومِ السابقِ مَا يتعلَّقُ بحقوقِ العبادِ من التبعاتِ الجنائيةِ والماليةِ وغيرِهما، فإنَّ الحجَّ لا يُكفِّرها، وإنما يتوقَّفُ الإبراءُ منها على إرضاءِ أصحابها بالتسديدِ، أوِ التنازُلِ، أوِ العفوِ، سواءً حصلَ في الدنيا، أو في الآخرةِ على ما صحَّ في حديث «المفْلِسِ» الذي رواه أبو هريرةَ رضي الله عنهُ، أنَّ رسولَ الله صلَّى الله عليهِ وآلهِ وسلَّمَ قَالَ: «أَتَدْرُونَ مَا الْمُفْلِسُ؟» قَالُوا: «الْمُفْلِسُ فِينَا مَنْ لاَ دِرْهَمَ لَهُ وَلاَ مَتَاعَ» فَقَالَ: «إِنَّ الْمُفْلِسَ مِنْ أُمَّتِي مَنْ يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِصَلاَةٍ وَصِيَامٍ وَزَكَاةٍ، وَيَأْتِي قَدْ شَتَمَ هَذَا، وَقَذَفَ هَذَا، وَأَكَلَ مَالَ هَذَا، وَسَفَكَ دَمَ هَذَا، وَضَرَبَ هَذَا، فَيُعْطَى هَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ، وَهَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ، فَإِنْ فَنِيَتْ حَسَنَاتُهُ قَبْلَ أَنْ يُقْضَى مَا عَلَيْهِ، أُخِذَ مِنْ خَطَايَاهُمْ فَطُرِحَتْ عَلَيْهِ، ثُمَّ طُرِحَ فِي النَّارِ»(١٨- أخرجه مسلم كتاب «البر والصلة والآداب»: (2/1200)، رقم: (2581)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه)، قال ابنُ تيميةَ -رحمه الله- في معرضِ بيانِ حديثِ عمرو بنِ العاصِ رضيَ الله عنهُ: «فعُلم أنَّه عَنى بذلكَ أنَّه يهدمُ الآثامَ والذنوبَ التي سَأَلَ عَمْرٌو مغفرتها، ولم يَجْرِ للحُدودِ ذِكْرٌ، وهيَ لا تسقطُ بهذه الأشياءِ بالاتفاقِ»(١٩- «الصارم المسلول» لابن تيمية: (464))، وقال الملا القاري: «وأمَّا حقوقُ العبادِ فلا تسقُطُ بالحجِّ والهجرةِ إجماعًا»(٢٠- «مرقاة المفاتيح» للملا القاري: (1/190))، وقال المباركفوري في شرحه لحديث عمرو بن العاص رضي الله عنهُ: «أي: يهدمُ من الخطايَا المتعلِّقَةِ بحقِّ الله لا التبعاتِ، وتُكفَّر الكبائرُ التي بين العبدِ ومولاهُ، لا المظالِمُ بين العبادِ، وحُقوق الآدميينَ، قيلَ: وعَليْه الإجماعُ، وإنما حملُوا الحديثَ في الحجِّ والهجرةِ على ما عدَا حقوقَ العبادِ والمظالمِ لما عرفُوا ذلكَ من أُصولِ الدينِ، فردُّوا المجمَلَ إلى المفصَّلِ، وعليهِ اتفاقُ الشارحينَ»(٢١- «مرعاة المفاتيح» للمباركفوري: (1/9).
قُلْتُ: والحديثُ ‑أيضًا‑ إنما يتناوَّلُ كلَّ ما يدخلُ تحتَ المشيئةِ، ويُستثنى الشركُ لأنَّه لا تَنفعُ الأعمالُ الصالحةُ معَ وجودِهِ والتلبسِ بهِ، لقولِهِ تَعالى ﴿إِنَّ اللهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ﴾ [النساء: 48]، وسيأتي المزيدُ في بيانِهِ.
هذَا، وقد ذهبَ جمهورُ العلماءِ إلى اختصاصِ المكفِّراتِ بالصغائرِ من الذنوبِ دُون الكبائرِ وبه قالَ ابنُ عبدِ البر(٢٢- «التمهيد» لابن عبد البر: (4/4)، وابنُ العربي(٢٣- «المسالك» لابن العربي: (4/343))، والنووِي، وقالَ: «هو مذهبُ أهلِ السنةِ وأنَّ الكبائرَ إنما تكفِّرها التوبةُ ورحمةُ الله وفضلُه»(٢٤- «شرح مسلم» للنووي (3/112))، ونقلَ الملا القارِي في مَعرضِ شرحِهِ لحديثِ أبي هريرةَ رضيَ اللهُ عنهُ مرفوعًا «رَجَعَ كَيَوْمَ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ» الإجماعَ على ذلكَ، فقال: «اعلمْ أنَّ ظاهرَ الحديثِ يُفيدُ غُفرانَ الصغائرِ والكبائرِ السابقةِ، لكنِ الإجماعُ أنَّ المكفِّراتِ مختصَّةٌ بالصغائرِ منَ السيئاتِ التي لا تكونُ متعلِّقةً بحقوقِ العبادِ من التبعاتِ، فإنَّه يتوقفُ على إرضائِهم، معَ أنَّ مَا عَدَا الشركَ تحتَ المشيئةِ»(٢٥- «مرقاة المفاتيح» للملا القاري: (5/382)).
قلت: ودعوَى الإجماعِ تحتاجُ إلى إثباتٍ وهو متعذِّرٌ، والحاملُ على تخصيصِهِ بالصغائرِ دونَ الكبائرِ هو قولُه صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: «الصَّلَوَاتُ الخَمْسُ، وَالجُمُعَةُ إِلَى الجُمُعَةِ، وَرَمَضَانُ إِلَى رَمَضَانَ، مُكَفِّرَاتٌ مَا بَيْنَهُنَّ إِذَا اجْتُنِبَتِ الكَبَائِرُ(٢٦- سبق تخريجه، انظر الهامش رقم: (11))»(٢٧- انظر «المسالك» لابن العربي: (4/343))، ويمكنُ دفعُ التعارضِ بحملِ مقتضَى قولِه: «إِذَا اجْتُنِبَتِ الكَبَائِرُ» علَى معنى أنَّه لا اجتنابَ للكبائرِ إلاَّ بفعلِ الفرائضِ منَ الصَّلواتِ والجمعةِ ورمضانَ، فمَن لم يفْعلْها لم يكن مُجْتنبًا للكبائرِ، لأنَّ تَرْكَها مِنَ الكبائرِ، فوقفَ تكفيرُ الذنوبِ صغيرِها وكبيرِها عَلَى فعلها(٢٨- أثار بعضهم إشكالاً في الجمع بين الآية والحديث من ناحية أنَّ الصغائر تكفَّر باجتناب الكبائر بنصِّ قوله تعالى: ﴿إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَآئِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ﴾ [النساء: 31]، فإذا حصل ذلك بالاجتناب فما الذي تكفّره الصلوات الخمس ونحوها؟ وقد أجيب: بأنَّ مراد الله في الآية السابقة الاجتناب الكلي طول العمر من وقت الإيمان والتكليف إلى الموت، وأن الحديث عنى بالاجتناب الجزئيَّ، فالتكفير بينهما للذنوب إنما يقع إذا ما اجتنبت في ذلك اليوم. [انظر: «فتح الباري» لابن الحجر: (2/12)] )،كمَا تَوقفَ تكفيرُ الذنوبِ في الحجِّ على تركِ الرفثِ والفُسوقِ.
هذا، ولا تختلف العمرةُ عن الحجِّ في تطهيرِ النفس من الخطايا والمعاصي، فإنَّ من أدَّى العمرةَ مخلصًا لله تعالى يُريدُ وجهَه الكريمَ على الوجهِ المَرْضِيِّ شرعًا، خاليًا من الرفثِ والفُسوقِ، فإنَّه ينالُ بها جَزاءَ الحجِّ من غُفرانِ الذنوبِ، وحطِّ الخطايَا، ونفيِ الفقرِ، وجزاءِ الجنَّةِ، وقد صحَّ في النصوصِ الحديثيةِ ما يُفيدُ عمومَ حُصولِ الجزاءِ للحجِّ والعمرةِ في قولِه صلَّى الله عليهِ وآله وَسَلَّم: «مَنْ أَتَى هَذَا البَيْتَ فَلَمْ يَرْفُثْ وَلَمْ يَفْسُقْ، رَجَعَ كَيَوْمَ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ»(٢٩- أخرجه مسلم كتاب «الحج»: (1/613)، رقم: (1350)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه)، وهو يشملُ الحجَّ والعُمرة، وقد أخرجه الدارقطني بلفظِ: «مَنْ حَجَّ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَمْ يَرْفُثْ وَلَمْ يَفْسُقْ يَرْجِعُ كَهَيْئَةِ يَوْمَ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ»(٣٠- أخرجه الدارقطني في «سننه» (2/284)، رقم: (213)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه)، والحديث وإن ضعَّف الحافظُ ابنُ حجرٍ ‑رحمه الله‑ إسنادَه(٣١- «فتح الباري» لابن حجر: (3/382)) فقد صحَّ عنه صلَّى الله عليه وآله وسلَّم أنَّه قال: «العُمْرَةُ إِلَى العُمْرَةِ كَفَّارَةٌ لِمَا بَيْنَهُمَا، وَالحَجُّ الْمَبْرُورُ لَيْسَ لَهُ جَزَاءٌ إِلاَّ الجَنَّةَ»(٣٢- أخرجه البخاري كتاب «الحج» ، باب وجوب العمرة وفضلها: (1/425)، ومسلم كتاب «الحج»: (1/613)، رقم: (1349)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه)، وقال -أيضًا-: «تَابِعُوا بَيْنَ الحَجِّ وَالعُمْرَةِ، فَإِنَّهُمَا يَنْفِيَانِ الفَقْرَ وَالذُّنُوبَ كَمَا يَنْفِي الكِيرُ خَبَثَ الحَدِيدِ وَالذَّهَبِ وَالفِضَّةِ، وَلَيْسَ لِلْحَجَّةِ الْمَبْرُورَةِ ثَوَابٌ دُونَ الجَنَّةِ»(٣٣- أخرجه التِّرمذي كتاب «الحجِّ»، باب ما جاء في ثواب الحجِّ والعمرة: (810)، والنَّسائي كتاب «الحجِّ»، باب فضل المتابعة بين الحجِّ والعمرة: (2631)، وأحمد: (1/387)، من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه. والحديث صححه أحمد شاكر في تحقيقه ﻟ «مسند أحمد»: (5/244)، وحسّنه الألباني في «السلسلة الصحيحة»: (3/197)).
وفي معرضِ الإشادةِ بخصائصِ البلدِ الحرامِ، قال ابنُ القيمِ -رحمه الله-: «وجعلَ قصدَه مكفِّرًا لما سلَفَ من الذنوبِ، ماحيًا للأوزارِ حاطًّا للخطايَا»، واستدلَّ له بالأحاديثِ السالفةِ البيانِ ثمَّ قال: «فلو لم يكنِ البلدُ الأمينُ خيرَ بلادهِ وأحبَّها إليهِ، ومختارَه من بلادِهِ، لما جعلَ عَرصاتها مناسكَ لعبادِهِ، فَرَضَ عليهم قصْدَهَا، وجعلَ ذلكَ مِنْ آكدِ فروضِ الإسلامِ، وأَقْسمَ بهِ في كتابِهِ العزيزِ في موضعينِ منْهُ، فقالَ تعالى: ﴿وَهَذَا الْبَلَدِ الأَمِينِ﴾ [التين: 3]، وقال تعالى: ﴿لاَ أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ﴾ [البلد: 1]، وليسَ عَلَى وجْهِ الأرضِ موضعٌ يُشْرع تقبيلُهُ واستلامُه، وتُحطُّ الأوْزارُ والخطايَا فيهِ غير الحجَرِ الأسودِ والركنِ اليماني، وثبتَ عَن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم أنَّ الصلاةَ في المسجدِ الحرامِ بمائةِ ألفِ صلاةٍ..»(٣٤- «زاد المعاد» لابن القيم: (1/47)).
كما أنَّ نصوصَ الشرعِ العامةِ تقضِي بانتفاءِ التفريقِ ‑مِنْ حيثُ هَدْمُ الذنوبِ والآثامِ، وحصولُ الأجرِ والثوابِ‑ بينَ حجَّةِ الإسلامِ وحجَّةِ التطوُّعِ، كما لم تميِّزْ بينَ حجَّةِ المرْءِ عن نفسهِ أصالةً أو بالنيابةِ عنْ غيرهِ، فإنّها أعمالٌ معدودةٌ من الصالحاتِ، وفعلُها مِن الخيراتِ، والسيئاتُ تُغفرُ بها مُطلقًا إلاَّ مَا أُورِدَ من اسْتثناءٍ، غيرَ أنَّ الذنبَ العظيمَ قد يحتاجُ إلى حسنةٍ عظيمةٍ لتكفيرهَا، وذلكَ لعمومِ قولِه تعالى: ﴿إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ﴾ [هود: 114]، وقولِه تعالى: ﴿وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِنًا قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُوْلَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ العُلَى، جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ مَن تَزَكَّى﴾ [طه: 75-78].
وألفاظُ الحديثِ كقولِه صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: «العُمْرَةُ إِلَى العُمْرَةِ» أوْ «تَابِعُوا بَيْنَ الحَجِّ وَالعُمْرَةِ»، وألفاظُ الأحاديثِ الأخرَى «الصَّلَوَاتُ الخَمْسُ، وَالجُمُعَةُ إِلَى الجُمُعَةِ، وَرَمَضَانُ إِلَى رَمَضَانَ» تؤكِّد أنَّ هدْمَ الذنوبِ ليس قاصرًا علَى حجَّةِ الإسلامِ ولا على تأديتِها بالأصالةِ، بل فضْلُ الله ورحمتُه أوسعُ من هذَا، بل تشملُ صِحَّةَ حجِّ المرتدِّ عن دينه إذا تاب واستقام على أصحِّ قولي العلماءِ، ولا يلزمُه القضاءُ بعدَ توبتِه، وهُو مذْهَبُ الشافعيةِ(٣٥- انظر «الحاوي» للماوردي: (4/247)، و«المجموع» للنووي: (3/5)) والحنابلةِ(٣٦- انظر «شرح العمدة» لابن تيمية: (1/37)) خلافًا لمن يرَى أنَّ حَجَّه باطلٌ وتلزمُه الإعادةُ بعدَ توبتِه، وهُو مذهبُ الحنفيةِ(٣٧- انظر «المبسوط» للسرخسي: (2/175)) والمالكيةِ(٣٨- انظر «أضواء البيان» للشنقيطي: (1/329، 3/362))، وسببُ اختلافهِم يرْجِعُ إلى أثرِ الردَّةِ في فسادِ العملِ، فإنَّ الحنفيةَ والمالكيةَ يروْنَ أنَّ مجرَّدَ الردَّةِ يُوجبُ إحباطَ العملِ وفسادَهُ، ويحتجُّونَ بقولِهِ تعالى: ﴿وَمَن يَكْفُرْ بِالإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ﴾ [المائدة: 5]، وقولِهِ تعالى: ﴿وَلَوْ أَشْرَكُواْ لَحَبِطَ عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ﴾ [الأنعام: 88]، والحبوطُ: هُو الفسادُ، ومعنى هذا أنَّ عملَه يبطُلُ بالرِّدَّةِ وتلزمُه الإعادةُ إن تابَ.
أمَّا عَلى وَفْقِ المذهبِ الراجحِ، فإنَّ الوفاةَ على الرِّدَّةِ شرطٌ في حُبوطِ العملِ لقولِهِ تعالى: ﴿وَمَن يَرْتَدِدْ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾ [البقرة: 217]، فإن تَابَ ورجعَ إلى الإسلامِ فلا إعادةَ عليهِ، ويصحُّ عملُه السابقُ مجرَّدًا عن الثوابِ حملاً للمطلقِ على المقيَّدِ.
وينبغِي أنْ يُعلم أنَّ دُخولَ الكافرِ في الإسلامِ الذي امتنَّ الله به على عبادهِ المسلمين يَهدِم كلَّ سَيِّئةٍ قبلَه لقولِه تعالى: ﴿قُل لِلَّذِينَ كَفَرُواْ إِن يَنتَهُواْ يُغَفَرْ لَهُم مَّا قَدْ سَلَفَ﴾ [الأنفال: 38]، ولحديثِ عمرِو بنِ العاصِ رضي الله عنه المتقدِّمِ وفيهِ: «أَمَا عَلِمْتَ أَنَّ الإِسْلاَمَ يَهْدِمُ مَا كَانَ قَبْلَهُ»، وإنْ بقيَ على كفرهِ فإنَّه يُؤاخَذُ بأَسْوَإِ أعمالِه لقولِه تعالى: ﴿فَلَنُذِيقَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا عَذَابًا شَدِيدًا وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ [فصّلت: 27]، ويُفْسِدُ كُفْرُهُ كلَّ حسنةٍ ويُبطلُها، ولا تُغني عنه أعمالُه الخيِّرةُ شيئًا يومَ القيامةِ لقولِهِ تعالى: ﴿وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَّنثُورًا﴾[الفرقان:23]، ولقولِهِ تعالى: ﴿وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللهَ عِندَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللهُ سَرِيعُ الحِسَابِ﴾ [النور: 39]، ويُجزَى الكافرُ بعمله الصالحِ في الدنيا لقولِه صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: «إِنَّ الله لاَ يَظْلِمُ مُؤْمِنًا حَسَنَةً، يُعْطَى بها فِي الدُنْيَا وَيُجْزَى بها فِي الآخِرَةِ، وَأَمَّا الكَافِرُ فَيُطْعَمُ بِحَسَنَاتِ مَا عَمِلَ بها للهِ فِي الدُنْيَا حَتَّى إِذَا أَفْضَى إِلَى الآخِرَةِ لَمْ تَكُنْ لَهُ حَسَنَةٌ يُجْزَى بها»(٣٩- أخرجه مسلم كتاب «صفة القيامة والجنة والنار»: (1/1292)، رقم: (180، من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه).
والكافرُ يتفاوتُ عذابُه بحسَبِ كِبَرِ السيئةِ وعددِهَا، وليس بالنظرِ إلى الحسنةِ؛ لأنَّها لا تُحْسَبُ عليه من جملةِ السيئاتِ.
وفي وزنِ أعمالِ الكفَّارِ خلافٌ مَبْنيٌّ على مسألةِ مخاطبةِ الكفَّارِ بفروعِ الشريعةِ، والراجِحُ أنهم يُحاسبونَ حسابَ تقريرٍ؛ لأنّهم ليسَ لهم حسنات، فيُوقَفُون على أعمالهم وسيئاتهم، يُقَرَّرُونَ بها، قال تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَن سَبِيلِ اللهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الحِسَابِ﴾ [ص: 26]، إذِ الكافِرُ لا تنفعُهُ حسناتُه، وإنْ وُزِنَتْ فإنما تُوزَن قطعًا للحُجَّةِ، إلاَّ إذَا تابَ الكافرُ قبلَ موتِهِ وأَسْلَم لله تعالى فإنَّهُ تنفعُهُ حسناتُه قبل الإسلامِ وبعدَهُ ‑فضلاً من الله ورحمةً- قال تعالى: ﴿إِلاَّ مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللهُ غَفُورًا رَّحِيمًا﴾ [الفرقان: 70]، وفي حديثِ حكيمِ بنِ حِزامٍ رضي الله عنهُ أنه سألَ النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّمَ فَقَالَ: «أَيْ رَسُولَ الله، أَرَأَيْتَ أُمُورًا كُنْتُ أَتَحَنَّثُ بها في الجاهِلِيَةِ مِنْ صَدَقَةٍ أَوْ عَتَاقَةٍ أَوْ صِلَةِ رَحِمٍ أَفِيهَا أَجْرٌ؟» فَقَالَ رَسُولُ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ: «أَسْلَمْتَ عَلَى مَا أَسْلَفْتَ مِنْ خَيْرٍ»(٤٠- أخرجه البخاري كتاب «الزكاة»، باب من تصدق في الشرك ثم أسلم: (1/345)، ومسلم كتاب «الإيمان»: (1/67)، رقم: (123)، من حديث حكيم بن حزام رضي الله عنه).
هذَا، وحقيقٌ بالتنبيهِ أنَّ المسلمَ لا ينبغي عليهِ أن يتهاونَ في فعلِ الصغائرِ والاستمرارِ عليهَا، بلْهَ الكبائرَ اتِّكالاً على ثوابِ الحجِّ أو العمرةِ أو أيِّ عملٍ صالحٍ لخطورةِ ارتكابِ الصغائرِ والإصرارِ عليها، ويدلُّ عليه حديثُ سهلِ بنِ سعدٍ رضي الله عنه أنَّ رسولَ الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم قالَ: «إِيَّاكُمْ وَمُحَقَّرَاتِ الذُنُوبِ فَإِنَّمَا مَثَلُ مُحَقَّرَاتِ الذُنُوبِ كَمَثَلِ قَوْمٍ نَزَلُوا بَطْنَ وَادٍ فَجَاءَ ذَا بِعُودٍ وَجَاءَ ذَا بِعُودٍ حَتَّى حَمَلُوا مَا أَنْضَجُوا بِهِ خُبْزَهُمْ، وَإِنَّ مُحَقَّرَاتِ الذُنُوبِ مَتَّى يُؤْخَذْ بها صَاحِبُهَا تُهلِكْهُ»(٤١- أخرجه أحمد: (5/331)، والطبراني في «المعجم الكبير»: (6/165)، من حديث سهل بن سعد رضي الله عنه. والحديث صححه الألباني في «السلسلة الصحيحة»: (1/744))، وحديثُ عبدِ الله بنِ عمرَ رضي الله عنهما أنَّ النبيَّ صلَّى الله عليهِ وآلهِ وسلَّمَ قالَ: «ارْحَمُوا تُرْحَمُوا، وَاغْفِرُوا يُغْفَرْ لَكُمْ، وَيْلٌ لأَقْمَاعِ القَوْلِ، وَيْلٌ لِلْمُصِّرِّينَ الذِينَ يُصِّرُّونَ عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ»(٤٢- أخرجه البخاري في «الأدب المفرد»: (1/ 13، وأحمد: (2/165)، من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما. والحديث صححه أحمد شاكر في تحقيقه ﻟ «مسند أحمد»: (10/52)، الألباني في «السلسلة الصحيحة»: (1/870))، وحديثُ أبي هريرةَ رضيَ الله عنه قال: قَالَ رَسُولُ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وآلِهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ المُؤْمِنَ إِذَا أَذْنَبَ ذَنْبًا كَانَتْ نُكْتَةً سَوْدَاءَ في قَلْبِهِ، فَإِنْ تَابَ وَنَزَعَ وَاسْتَغْفَرَ صُقِلَ مِنْهَا، وَإِنْ زَادَ زَادَتْ حَتَّى يُغَلَّفَ بها قَلْبُهُ، فَذَلِكَ الرَّانُ الذِي ذَكَرَ الله في كِتَابِهِ: ﴿كَلاَّ بَل رَّانَ عَلَى قُلُوبِهِم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ﴾ [المطففين:14]»(٤٣- أخرجه الترمذي كتاب «تفسير القرآن»، باب ومن سورة ويل للمطففين: (3334)، وابن ماجه كتاب «الزهد»، باب ذكر الذنوب: (4244)، وأحمد: (2/ 297)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. والحديث حسّنه الألباني في «صحيح الجامع»: (1670)).
والمعلومُ أنَّ ظاهرَ الحسناتِ لا تُغْني عن حقيقةِ التوبةِ والاستغفارِ، وتوهُّمُ ذلك يُؤدِّي بطريقٍ أو بآخرَ إلى فسادٍ من جهةِ العملِ والمعتقَدِ، حيثُ يجعلُ التوهمُ المصِرَّ مستخفًّا بذنوبهِ ومستصغرًا لها، فيُزكِّي نفسَه بالاتِّكالِ على حسناتِهِ، ويأْمنُ مكرَ الله بالإصرارِ على ذنبهِ، الأمرُ الذي يجرُّه إلى إسقاطِ فرضِ التوبةِ والاستغفارِ عن نفسهِ، وذلكَ معدودٌ من أعظمِ الكبائرِ، وهو من الخطورةِ بمكانٍ بتركهِ لتقوَى الله تعالى، ولا يخفَى أنَّ من الصفاتِ اللازمةِ للمتقين أن لا يُصرُّوا على ذنبهم، وأنْ يتوبوا ويستغفِرُوا، وهو ظاهرٌ من نصوصِ الشريعةِ، قال تعالى: ﴿وَسَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ، الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالكَاظِمِينَ الغَيْظَ وَالعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ، وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُواْ أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُواْ اللهَ فَاسْتَغْفَرُواْ لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللهُ وَلَمْ يُصِرُّواْ عَلَى مَا فَعَلُواْ وَهُمْ يَعْلَمُونَ، أُوْلَئِكَ جَزَآؤُهُم مَّغْفِرَةٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ﴾ [آل عمران: 133-136].
وأخيرًا، فإنَّ التَّجَرُّدَ لمحضِ الخيرِ والطاعةِ، والسلامةَ من الآثامِ وركوبِ المحارمِ، والعصمةَ من الخطايا ليسَ شأنَ الآدميِّ الذي هو بطبعهِ خطّاءٌ غيرُ معصومٍ، مجبولٌ على الاستعدادِ للتفكيرِ في الذنوبِ والوقوعِ في المعاصي، وغالبًا ما ينتابُه الضعفُ عن مقاومةِ عواملِ الشهوةِ والغضبِ التي تخرجُه عن حدودِ محارمِ ما رسمه الشرعُ بالتسلُّطِ عليهِ واحتوائِه، الأمرُ الذي يُوقعُه في شباكِ الشيطانِ وشراكهِ من المخالفةِ والعصيانِ.
وقدْ جعلَ الله له مخرجًا بالتوبةِ والعملِ الصالح، فالتوبةُ علاجٌ لأمراضِ النفوسِ وسيئاتِ الأعمالِ، وحاجةُ العبدِ إليها ضروريةٌ في أوَّلِ أمره وآخره، إذ هي بدايةُ العبدِ ونهايتُه، فلا يُفارقُها العبدُ السالكُ ولا يزالُ فيها إلى المماتِ، وقد علَّق الله تعالى الفلاحَ بالتوبةِ فقال عزَّ وجَلَّ: ﴿وَتُوبُوا إِلَى اللهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ [النور: 31]، والعملُ الصالح لا يُنافي وجوبَ التوبةِ في محوِ أثرِ الخطايا والذنوبِ عن النفسِ بعد وقوعها؛ لأنَّ التوبةَ تكونُ بالقلبِ واللسانِ والجوارحِ. والاستكثارُ من الحسناتِ والعملِ الصالح لا يعارضُها؛ لأنَّه ضربٌ من ضروبِ التوبةِ، لذلك ينبغي للمؤمن أن يحمل نفسَه على نيةِ التوبةِ عند القيام بالعملِ الصالح وإتيانِ الحسناتِ، وهو ظاهرٌ من قوله تعالى: ﴿فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ [المائدة: 39]، وقولِه تعالى: ﴿إِلاَّ مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللهُ غَفُورًا رَحِيمًا﴾ [الفرقان: 70]، وقوله تعالى: ﴿إِلاَّ الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ [آل عمران: 89] [النور: 5]، وقوله تعالى: ﴿إِلاَّ الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ﴾ [البقرة: 160]، وقد جاءَ تأكيدُ الله في محبتهِ لعباده المسارعينَ إليهِ بالتوبةِ والعملِ الصالح في قولهِ عزَّ وجلَّ: ﴿إِنَّ اللهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ﴾ [البقرة: 222]، وفي قوله صلى الله عليه وآله وسلم: «كُلُّ ابْنِ آدَمَ خَطَّاءٌ وَخَيْرُ الخطَّائِينَ التَوَّابُّونَ»(٤٤- أخرجه الترمذي كتاب «صفة القيامة والرقائق والورع»: (2499)، وابن ماجه كتاب «الزهد»، باب ذكر التوبة: (4251)، وأحمد: (12983)، من حديث أنس رضي الله عنه. والحديث حسّنه الألباني في «صحيح الجامع»: (4391)).
واللهَ نسأل أن يرزقنا توبةً صادقةً، وإنابةً خالصةً، وعملاً صالحًا، ومغفرةً منه ورضوانًا، إنه سميع قريبٌ مجيبٌ.
وآخرُ دعوانَا أنِ الحمدُ لله ربِّ العالمين، وصلَّى الله وسلَّم على نبيِّنا محمَّد، وعلى آله وصحبه وإخوانهِ إلى يومِ الدِّينِ، وسلَّم تسليمًا.
-حفظه الله -
الحمدُ لله ربِّ العالمينَ، والصلاةُ والسلامُ على من أرْسلَه الله رحمةً للعالمينَ، وعلى آلهِ وصحبهِ وإخوانهِ إلى يومِ الدِّينِ، أمَّا بعدُ:
فمن رحمةِ الله تعالى بعباده أن شرعَ لهم من العباداتِ ما يَقيهم ويَصونهم شرَّ الوقوعِ في المعاصي والذنوبِ وما يُعالجهم بها ويُطهّرهم إذا وقعوا فيها، فالصلاةُ تقي صاحبَها من الفحشاءِ والمنكرِ، ومن الجزعِ عند الضَّرَّاءِ والمصائبِ، ومن الشُّحِّ عند السَّرَّاءِ والإنعامِ ونحو ذلك، ممَّا بيَّنه الله تعالى في قوله:
﴿إِنَّ الصَّلاَةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ﴾ [العنكبوت: 45]
وقال تعالى:
﴿إِنَّ الإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا، إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا، وَإِذَا مَسَّهُ الخَيْرُ مَنُوعًا، إِلاَّ الْمُصَلِّينَ، الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ دَائِمُونَ، وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ، لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ﴾
[المعارج: 19-25]
فالموصوفون بها إذا مسَّهم الخير شكروا الله وأنفقوا ممَّا خَوَّلهم، وإذا مسَّهم الشرُّ صبروا واحتسبُوا.
كما أنَّ الصلاةَ يمحو الله بها الخطايا ويطهّر بها من الذنوب، وقد صحَّ عن النبي صلَّى الله عليه وآلهِ وسلَّم أنَّه قال:
«أَرَأَيْتُمْ لَوْ أَنَّ نَهَرًا بِبَابِ أَحَدِكُمْ يَغْتَسِلُ فِيهِ كُلَّ يَوْمٍ خَمْسًا مَا تَقُولُ ذَلِكَ يَبْقَى مِنْ دَرَنِهِ؟»
قَالُوا:
«لاَ يَبْقَى مِنْ دَرَنِهِ شَيْءٌ»،
قَالَ:
«فَذَلِكَ مَثَلُ الصَلَوَاتِ الخمْسِ يَمْحُو الله بهنَّ الخطَايَا»
(أخرجه البخاري كتاب «الصلاة»، باب الصلوات الخمس كفارة: (1/134)، ومسلم كتاب «المساجد ومواضع الصلاة»: (1/300)، رقم: (667)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه)
وَقَالَ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم -أيضًا-: «الصَلَوَاتُ الخمْسُ وَالجمُعَةُ إِلى الجمُعَةِ كَفَّارَاتٌ لِمَا بَيْنَهُنَّ مَا اجْتُنِبَتِ الكَبَائِرُ»
(أخرجه أحمد: (2/ 359)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. وأخرجه مسلم كتاب «الطهارة»: (1/125) بلفظ: «الصَلاَةُ الخَمْسُ وَالجمُعَةُ إِلى الجمُعَةِ كَفَّارَةٌ لِمَا بَيْنَهُنَّ مَا لم تُغْشَ الكَبَائِرُ». وانظر: «السلسلة الصحيحة» للألباني: (7/955))
وقال -أيضًا-:
«مَنْ قَامَ رَمَضَانَ إِيمانًا واحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ»
(أخرجه البخاري كتاب «الإيمان»، باب تطوع قيام رمضان من الإيمان: (1/15)، ومسلم كتاب «صلاة المسافرين وقصرها»: (1/343)، رقم: (759)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه)
وقال صلَّى الله عليه وآله وسلَّم -أيضًا-:
«مَنْ قَامَ لَيْلَةَ القَدْرِ إِيمانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ»
(أخرجه البخاري كتاب «الصوم»، باب من صام رمضان إيمانًا واحتسابًا ونية: (1/455)، (1/343)، رقم: (760)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه).
وعبادةُ الزكاةِ وقايةٌ من الشُّحِّ والبُخلِ تَنقُل صاحبَها إلى زمرةِ الكرماءِ، وتُزكِّي أخلاقَه كما في آيةِ المعارجِ السابقةِ، وتشرحُ صدرَه وتجعلُ صاحبَها من المستحقِّينَ لرحمةِ اللهِ، قَال تَعَالى:
﴿وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللهُ﴾
[التوبة: 71]
وتَقِيهِ -أيضًا- منْ أسبابِ ضيقِ الرِّزقِ ومنعِ القَطْرِ، ففي الحديثِ:
«لَمْ يَمْنَعْ قَوْمٌ زَكَاةَ أَمْوَالهمْ إِلاَّ مُنِعُوا القَطْرَ مِنَ السَّمَاءِ، وَلَوْلاَ البَهَائِمُ لَمْ يُمْطَرُوا»
(أخرجه ابن ماجه كتاب «الفتن»، باب العقوبات: (4019)، والطبراني في «المعجم الكبير»: (12/446)، من حديث ابن عمر رضي الله عنهما. والحديث حسّنه الألباني في «السلسلة الصحيحة»: (1/216))
وهيَ مِنْ جِهةٍ أُخرى تُطَهِّرُ الذنوبَ والخطايا لمن وقعَ فيها، وفي حديثِ معاذِ بنِ جبلٍ رضي الله عنهُ أنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّمَ قالَ:
«..وَالصَدَقَةُ تُطْفِئُ الخطِيئَةَ كَمَا يُطْفِئُ الماءُ النَّارَ»
(أخرجه الترمذي كتاب «الصلاة»، باب ما ذكر في فضل الصلاة: (614)، ، وأحمد: (3/399)، من حديث كعب بن عجرة رضي الله عنه. ومن حديث معاذ بن جبل رضي الله عنه أخرجه الترمذي كتاب «الإيمان»، باب ما جاء في حرمة الصلاة: (2616)، وأحمد: (5/213)، والحديث صحَّحه الألباني في «الإرواء»: (2/13)
وزَكَاةُ الفِطر تُطهِّر مَنْ وَجَبت عليه بعد شهرِ الصومِ منَ اللَّغْوِ والرَّفَثِ، فعن ابنِ عباسٍ رضي الله عنهما قالَ:
«فَرَضَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ زَكَاةَ الفِطْرِ طُهْرَةً للصَّائِمِ مِنَ اللَّغْوِ وَالرَّفَثِ وَطُعْمَةً للمَسَاكِينِ»
(أخرجه أبو داود كتاب «الزكاة»، باب زكاة الفطر: (1609)، وابن ماجه كتاب «الزكاة»، باب صدقة الفطر: (1827)، والبيهقي في «السنن الكبرى»: (4/162)، من حديث ابن عباس رضي الله عنهما. والحديث حَسَّنه الألباني في «الإرواء»: (3/332)).
وكذلكَ عبادةُ الصومِ فإنها تقِي المؤمنَ من المعاصِي وتصرفُه عن الشهواتِ، وتَسُدُّ عنْهُ منافِذَ السوءِ والشرِّ، وتمنعُه من الوقوعِ في المخالفةِ لقوله تعالى:
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾
[البقرة: 183]
فالصومُ موجبٌ لتقوى الله في القلوبِ وإضعافِ الجوارحِ عن الشهواتِ وإماتتِها، إذْ كُلَّمَا يَقِلُّ الأكلُ تضعفُ الشهوةُ، وتَقِلُّ ‑على إثْرِها‑ المعاصِي والذنوبُ، قال صلَّى الله عليهِ وآله وسلَّمَ:
«يَا مَعْشَرَ الشَّبَابِ، مَنِ اسْتَطَاعَ مِنْكُمُ البَاءَةَ فَلْيَتَزَوَّجْ، فَإِنَّهُ أَغَضُّ لِلْبَصَرِ وَأَحْصَنُ لِلْفَرْجِ، وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَعَلَيْهِ بِالصَّوْمِ، فَإِنَّهُ لَهُ وِجَاءٌ»
(أخرجه البخاري كتاب «الصوم»، باب الصوم لمن خاف على نفسه العزوبة: (1/456)، ومسلم كتاب «النكاح»: (1/630)، رقم: (1400)، من حديث ابن مسعود رضي الله عنه)
فهوَ علاجٌ واقٍ بالطبِّ النبوي لمنْ خشيَ الوقوعَ في مُهلكاتِ شهواتِ البطنِ والفرجِ وغيرهِما، ودِرْعٌ منيعٌ من النَّارِ، قَالَ النبيُّ صلَّى الله عليهِ وآلهِ وسلَّمَ: «الصِّيَامُ جُنَّةٌ، وَحِصْنٌ حَصِينٌ مِن النَّارِ»(٩- أخرجه أحمد: (2/402)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وحسّنه الهيثمي في «مجمع الزوائد»: (3/41، والألباني في «صحيح الترغيب والترهيب»: (1/237))، وقد جاءَ في التعبيرِ النبويِّ عن وقايةِ صومِ رمضانَ من الشرورِ والآثامِ بفتحِ سُبُلِ الخيرِ وإغلاقِ سُبلِ الشرِّ والغوايةِ، فقالَ صلَّى الله عليه وآلهِ وسلَّمَ: «إِذَا جَاءَ رَمَضَانُ فُتِّحَتْ أَبْوَابُ الجنَّةِ وَغُلِّقَتْ أَبْوَابُ النَّارِ وَصُفِّدَتِ الشَيَاطِينُ»(١٠- أخرجه البخاري كتاب «الصوم»، باب هل يقال رمضان أو شهر رمضان: (1/455)، ومسلم كتاب «الصيام»: (1/481)، رقم: (1079)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه)، كما تُخَلِّصُ عبادة الصوم صاحبها من الذنوب بتكفيرها عليه وحصول المغفرة له، ويدلُّ عليه قوله صلى الله عليه وآله وسلم: «...وَرَمَضَانُ إِلَى رَمَضَانَ مُكَفِّراتٌ لِمَا بَيْنَهُنَّ مَا اجْتُنِبَتِ الكَبَائِرُ»(١١- أخرجه مسلم كتاب «الطهارة»: (1/125)، رقم: (233)، وأحمد: (2/400)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه)، وقوله صلى الله عليه وآله وسلم: «مَنْ قَامَ رَمَضَانَ إِيمانًا واحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ»(١٢- تقدّم تخريجه، انظر الهامش رقم: (3)).
هذَا، ولا تخرجُ عبادةُ الحجِّ والعُمرةِ عن سائرِ العباداتِ في الوقايةِ مِنْ شرِّ الوقوعِ في المعاصِي وتطهيرِ النفسِ منهَا وقايةً وعلاجًا -كما سيأتي في مضمون الكلمة- غيرَ أنَّ الأمرَ الذي يدعُو إلى تجليةِ القولِ فيه هو أنَّ مَحْوَ أثرِ المعصيةِ من النفسِ بعدَ الوقوعِ فيها بالعملِ الصالح أو بالعباداتِ السالفةِ البيانِ بخاصةٍ الحجّ والعمرة، هل يتحقَّقُ بهما التطهيرُ الجزئي، أي: لصغائرِ الذنوبِ فقط أمْ الأمرُ يعدُو إلى كبائرِ الذنوبِ فيحصُل بهما التطهيرُ الكلي؟
فتقريرُ القضيةِ وبيانُ متعلّقاتها تتجلَّى علَى الوجهِ التَالي:
لا خلافَ بينَ العلماءِ في أنَّ صغائرَ الذنوبِ تُكفَّر بعبادةِ الحجِّ ويحصلُ بها الغفرانُ(١٣- انظر «مرقاة المفاتيح» للملا القاري: (5/382))، غير أنَّ العلماءَ يختلفون في تكفيرِ كبائرِ الذنوبِ بالحجّ، وما عليهِ أهلُ التحقيقِ أنَّ الحجَّ مكفِّرٌ للذنوبِ جميعًا صغيرِها وكبيرِها، لقولهِ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم في فضلِ الحجِّ المبرورِ من حديث أبي هريرة رضي الله عنه: «مَنْ حَجَّ للهِ فَلَمْ يَرْفُثْ وَلَمْ يَفْسُقْ رَجَعَ مِنْ ذُنُوبِهِ كَيَوْمَ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ»(١٤- أخرجه البخاري كتاب «الحج»، باب فضل الحج المبرور: (36، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه)، فالحديث دلَّ -بظاهرهِ- على أنَّ من استوْفَى أحكامَ الحجِّ، ووقعتْ أعمالُه على وَفْقِ مطلبِ الشرعِ، ولم يُخالطه شيءٌ منَ الإثم والفُسوقِ رجعَ نقيًّا من ذنوبهِ كيومَ ولدتهُ أمُّه، ويؤكِّد هذا المعنى حديثُ عمرو بنِ العاص -رضيَ الله عَنهُ- قالَ: لَمَّا جَعَلَ الله الإسلامَ في قَلْبي أَتَيْتُ النبيَّ صَلَّى الله عليْهِ وآلِهِ وَسَلَّمَ، فقلْتُ: «ابْسُطْ يَمِينَكَ فَلأُبَايِعْكَ»، فَبَسَطَ يَمِينَهُ، قَالَ: فَقَبَضْتُ يَدِي، قَالَ: «مَالَكَ يَا عَمْرُو!؟»، قَالَ: قُلْتُ: «أَرَدتُ أَنْ أَشْتَرِطَ»، قَالَ: «تَشْتَرِطُ بِمَاذَا؟»، قُلْتُ: «أَنْ يُغْفَرَ لِي»، قَالَ: «أَمَا عَلِمْتَ أَنَّ الإِسْلاَمَ يَهْدِمُ مَا كَانَ قَبْلَهُ؟ وَأَنَّ الْهِجْرَةَ تَهْدِمُ مَا كَانَ قَبْلَهَا؟ وَأَنَّ الْحَجَّ يَهْدِمُ مَا كَانَ قَبْلَهُ؟»(١٥- أخرجه مسلم كتاب «الإيمان»، باب كون الإسلام يهدم ما قبله وكذا الهجرة: (1/66)، رقم: (121)، وابن خزيمة في «صحيحه» (1/66)، من حديث عمرو بن العاص رضي الله عنه) والحديث يفيدُ «عظم موقعِ الإسلامِ والهجرةِ والحجِّ، وأنَّ كلَّ واحدٍ منهَا يهدِمُ ما كانَ قبلهُ من المعاصِي»(١٦- «شرح مسلم» للنووي (2/13)، من غيرِ تفريقٍ بينَ صغائرهَا وكبائرِهَا، قَال ابنُ حَجَرٍ -رحمهُ الله- في تعليقِهِ علَى حديثِ أبي هريرةَ رضيَ الله عنهُ: «فإنَّ ظاهرَهُ غُفران الصغائرِ والكبائرِ والتَّبعَاتِ»(١٧- «فتح الباري» لابن حجر: (3/383)).
قُلْتُ: فإنَّ عُمومَ ظاهرِه غيرُ مقصودٍ مطلقًا، وإنَّما يتناولُ الصغائرَ والكبائرَ من حُقوقِ الله تعالى المتعلِّقةِ باجتنابِ رُكوبِ المحارمِ كالزِّنَا، والسرقةِ، وشربِ الخمرِ، والقَذْفِ، والكذبِ، ونحو ذلكَ، أمَّا حُقوقُ الله التي تشْغَلُ بها ذمَّةُ المكلَّفِ كالكفَّاراتِ، والنذورِ، وقضاءِ الصلاةِ، والصومِ، فإنها تبقَى قائمةً ولا تبرأُ ذمَّتُه منها، ولا تَسقطُ بحالٍ إلاَّ بعدَ القيامِ بها أداءً أو قضاءً على وَفْقِ المطلوبِ شَرْعًا، أوْ عندَ حَالةِ عدمِ القُدرةِ على امتثَالِ الأمرِ بها أو العجزِ عَنْ أدائِهَا.
ويُستثنى ‑أيضًا‑ منَ العمومِ السابقِ مَا يتعلَّقُ بحقوقِ العبادِ من التبعاتِ الجنائيةِ والماليةِ وغيرِهما، فإنَّ الحجَّ لا يُكفِّرها، وإنما يتوقَّفُ الإبراءُ منها على إرضاءِ أصحابها بالتسديدِ، أوِ التنازُلِ، أوِ العفوِ، سواءً حصلَ في الدنيا، أو في الآخرةِ على ما صحَّ في حديث «المفْلِسِ» الذي رواه أبو هريرةَ رضي الله عنهُ، أنَّ رسولَ الله صلَّى الله عليهِ وآلهِ وسلَّمَ قَالَ: «أَتَدْرُونَ مَا الْمُفْلِسُ؟» قَالُوا: «الْمُفْلِسُ فِينَا مَنْ لاَ دِرْهَمَ لَهُ وَلاَ مَتَاعَ» فَقَالَ: «إِنَّ الْمُفْلِسَ مِنْ أُمَّتِي مَنْ يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِصَلاَةٍ وَصِيَامٍ وَزَكَاةٍ، وَيَأْتِي قَدْ شَتَمَ هَذَا، وَقَذَفَ هَذَا، وَأَكَلَ مَالَ هَذَا، وَسَفَكَ دَمَ هَذَا، وَضَرَبَ هَذَا، فَيُعْطَى هَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ، وَهَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ، فَإِنْ فَنِيَتْ حَسَنَاتُهُ قَبْلَ أَنْ يُقْضَى مَا عَلَيْهِ، أُخِذَ مِنْ خَطَايَاهُمْ فَطُرِحَتْ عَلَيْهِ، ثُمَّ طُرِحَ فِي النَّارِ»(١٨- أخرجه مسلم كتاب «البر والصلة والآداب»: (2/1200)، رقم: (2581)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه)، قال ابنُ تيميةَ -رحمه الله- في معرضِ بيانِ حديثِ عمرو بنِ العاصِ رضيَ الله عنهُ: «فعُلم أنَّه عَنى بذلكَ أنَّه يهدمُ الآثامَ والذنوبَ التي سَأَلَ عَمْرٌو مغفرتها، ولم يَجْرِ للحُدودِ ذِكْرٌ، وهيَ لا تسقطُ بهذه الأشياءِ بالاتفاقِ»(١٩- «الصارم المسلول» لابن تيمية: (464))، وقال الملا القاري: «وأمَّا حقوقُ العبادِ فلا تسقُطُ بالحجِّ والهجرةِ إجماعًا»(٢٠- «مرقاة المفاتيح» للملا القاري: (1/190))، وقال المباركفوري في شرحه لحديث عمرو بن العاص رضي الله عنهُ: «أي: يهدمُ من الخطايَا المتعلِّقَةِ بحقِّ الله لا التبعاتِ، وتُكفَّر الكبائرُ التي بين العبدِ ومولاهُ، لا المظالِمُ بين العبادِ، وحُقوق الآدميينَ، قيلَ: وعَليْه الإجماعُ، وإنما حملُوا الحديثَ في الحجِّ والهجرةِ على ما عدَا حقوقَ العبادِ والمظالمِ لما عرفُوا ذلكَ من أُصولِ الدينِ، فردُّوا المجمَلَ إلى المفصَّلِ، وعليهِ اتفاقُ الشارحينَ»(٢١- «مرعاة المفاتيح» للمباركفوري: (1/9).
قُلْتُ: والحديثُ ‑أيضًا‑ إنما يتناوَّلُ كلَّ ما يدخلُ تحتَ المشيئةِ، ويُستثنى الشركُ لأنَّه لا تَنفعُ الأعمالُ الصالحةُ معَ وجودِهِ والتلبسِ بهِ، لقولِهِ تَعالى ﴿إِنَّ اللهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ﴾ [النساء: 48]، وسيأتي المزيدُ في بيانِهِ.
هذَا، وقد ذهبَ جمهورُ العلماءِ إلى اختصاصِ المكفِّراتِ بالصغائرِ من الذنوبِ دُون الكبائرِ وبه قالَ ابنُ عبدِ البر(٢٢- «التمهيد» لابن عبد البر: (4/4)، وابنُ العربي(٢٣- «المسالك» لابن العربي: (4/343))، والنووِي، وقالَ: «هو مذهبُ أهلِ السنةِ وأنَّ الكبائرَ إنما تكفِّرها التوبةُ ورحمةُ الله وفضلُه»(٢٤- «شرح مسلم» للنووي (3/112))، ونقلَ الملا القارِي في مَعرضِ شرحِهِ لحديثِ أبي هريرةَ رضيَ اللهُ عنهُ مرفوعًا «رَجَعَ كَيَوْمَ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ» الإجماعَ على ذلكَ، فقال: «اعلمْ أنَّ ظاهرَ الحديثِ يُفيدُ غُفرانَ الصغائرِ والكبائرِ السابقةِ، لكنِ الإجماعُ أنَّ المكفِّراتِ مختصَّةٌ بالصغائرِ منَ السيئاتِ التي لا تكونُ متعلِّقةً بحقوقِ العبادِ من التبعاتِ، فإنَّه يتوقفُ على إرضائِهم، معَ أنَّ مَا عَدَا الشركَ تحتَ المشيئةِ»(٢٥- «مرقاة المفاتيح» للملا القاري: (5/382)).
قلت: ودعوَى الإجماعِ تحتاجُ إلى إثباتٍ وهو متعذِّرٌ، والحاملُ على تخصيصِهِ بالصغائرِ دونَ الكبائرِ هو قولُه صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: «الصَّلَوَاتُ الخَمْسُ، وَالجُمُعَةُ إِلَى الجُمُعَةِ، وَرَمَضَانُ إِلَى رَمَضَانَ، مُكَفِّرَاتٌ مَا بَيْنَهُنَّ إِذَا اجْتُنِبَتِ الكَبَائِرُ(٢٦- سبق تخريجه، انظر الهامش رقم: (11))»(٢٧- انظر «المسالك» لابن العربي: (4/343))، ويمكنُ دفعُ التعارضِ بحملِ مقتضَى قولِه: «إِذَا اجْتُنِبَتِ الكَبَائِرُ» علَى معنى أنَّه لا اجتنابَ للكبائرِ إلاَّ بفعلِ الفرائضِ منَ الصَّلواتِ والجمعةِ ورمضانَ، فمَن لم يفْعلْها لم يكن مُجْتنبًا للكبائرِ، لأنَّ تَرْكَها مِنَ الكبائرِ، فوقفَ تكفيرُ الذنوبِ صغيرِها وكبيرِها عَلَى فعلها(٢٨- أثار بعضهم إشكالاً في الجمع بين الآية والحديث من ناحية أنَّ الصغائر تكفَّر باجتناب الكبائر بنصِّ قوله تعالى: ﴿إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَآئِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ﴾ [النساء: 31]، فإذا حصل ذلك بالاجتناب فما الذي تكفّره الصلوات الخمس ونحوها؟ وقد أجيب: بأنَّ مراد الله في الآية السابقة الاجتناب الكلي طول العمر من وقت الإيمان والتكليف إلى الموت، وأن الحديث عنى بالاجتناب الجزئيَّ، فالتكفير بينهما للذنوب إنما يقع إذا ما اجتنبت في ذلك اليوم. [انظر: «فتح الباري» لابن الحجر: (2/12)] )،كمَا تَوقفَ تكفيرُ الذنوبِ في الحجِّ على تركِ الرفثِ والفُسوقِ.
هذا، ولا تختلف العمرةُ عن الحجِّ في تطهيرِ النفس من الخطايا والمعاصي، فإنَّ من أدَّى العمرةَ مخلصًا لله تعالى يُريدُ وجهَه الكريمَ على الوجهِ المَرْضِيِّ شرعًا، خاليًا من الرفثِ والفُسوقِ، فإنَّه ينالُ بها جَزاءَ الحجِّ من غُفرانِ الذنوبِ، وحطِّ الخطايَا، ونفيِ الفقرِ، وجزاءِ الجنَّةِ، وقد صحَّ في النصوصِ الحديثيةِ ما يُفيدُ عمومَ حُصولِ الجزاءِ للحجِّ والعمرةِ في قولِه صلَّى الله عليهِ وآله وَسَلَّم: «مَنْ أَتَى هَذَا البَيْتَ فَلَمْ يَرْفُثْ وَلَمْ يَفْسُقْ، رَجَعَ كَيَوْمَ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ»(٢٩- أخرجه مسلم كتاب «الحج»: (1/613)، رقم: (1350)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه)، وهو يشملُ الحجَّ والعُمرة، وقد أخرجه الدارقطني بلفظِ: «مَنْ حَجَّ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَمْ يَرْفُثْ وَلَمْ يَفْسُقْ يَرْجِعُ كَهَيْئَةِ يَوْمَ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ»(٣٠- أخرجه الدارقطني في «سننه» (2/284)، رقم: (213)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه)، والحديث وإن ضعَّف الحافظُ ابنُ حجرٍ ‑رحمه الله‑ إسنادَه(٣١- «فتح الباري» لابن حجر: (3/382)) فقد صحَّ عنه صلَّى الله عليه وآله وسلَّم أنَّه قال: «العُمْرَةُ إِلَى العُمْرَةِ كَفَّارَةٌ لِمَا بَيْنَهُمَا، وَالحَجُّ الْمَبْرُورُ لَيْسَ لَهُ جَزَاءٌ إِلاَّ الجَنَّةَ»(٣٢- أخرجه البخاري كتاب «الحج» ، باب وجوب العمرة وفضلها: (1/425)، ومسلم كتاب «الحج»: (1/613)، رقم: (1349)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه)، وقال -أيضًا-: «تَابِعُوا بَيْنَ الحَجِّ وَالعُمْرَةِ، فَإِنَّهُمَا يَنْفِيَانِ الفَقْرَ وَالذُّنُوبَ كَمَا يَنْفِي الكِيرُ خَبَثَ الحَدِيدِ وَالذَّهَبِ وَالفِضَّةِ، وَلَيْسَ لِلْحَجَّةِ الْمَبْرُورَةِ ثَوَابٌ دُونَ الجَنَّةِ»(٣٣- أخرجه التِّرمذي كتاب «الحجِّ»، باب ما جاء في ثواب الحجِّ والعمرة: (810)، والنَّسائي كتاب «الحجِّ»، باب فضل المتابعة بين الحجِّ والعمرة: (2631)، وأحمد: (1/387)، من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه. والحديث صححه أحمد شاكر في تحقيقه ﻟ «مسند أحمد»: (5/244)، وحسّنه الألباني في «السلسلة الصحيحة»: (3/197)).
وفي معرضِ الإشادةِ بخصائصِ البلدِ الحرامِ، قال ابنُ القيمِ -رحمه الله-: «وجعلَ قصدَه مكفِّرًا لما سلَفَ من الذنوبِ، ماحيًا للأوزارِ حاطًّا للخطايَا»، واستدلَّ له بالأحاديثِ السالفةِ البيانِ ثمَّ قال: «فلو لم يكنِ البلدُ الأمينُ خيرَ بلادهِ وأحبَّها إليهِ، ومختارَه من بلادِهِ، لما جعلَ عَرصاتها مناسكَ لعبادِهِ، فَرَضَ عليهم قصْدَهَا، وجعلَ ذلكَ مِنْ آكدِ فروضِ الإسلامِ، وأَقْسمَ بهِ في كتابِهِ العزيزِ في موضعينِ منْهُ، فقالَ تعالى: ﴿وَهَذَا الْبَلَدِ الأَمِينِ﴾ [التين: 3]، وقال تعالى: ﴿لاَ أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ﴾ [البلد: 1]، وليسَ عَلَى وجْهِ الأرضِ موضعٌ يُشْرع تقبيلُهُ واستلامُه، وتُحطُّ الأوْزارُ والخطايَا فيهِ غير الحجَرِ الأسودِ والركنِ اليماني، وثبتَ عَن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم أنَّ الصلاةَ في المسجدِ الحرامِ بمائةِ ألفِ صلاةٍ..»(٣٤- «زاد المعاد» لابن القيم: (1/47)).
كما أنَّ نصوصَ الشرعِ العامةِ تقضِي بانتفاءِ التفريقِ ‑مِنْ حيثُ هَدْمُ الذنوبِ والآثامِ، وحصولُ الأجرِ والثوابِ‑ بينَ حجَّةِ الإسلامِ وحجَّةِ التطوُّعِ، كما لم تميِّزْ بينَ حجَّةِ المرْءِ عن نفسهِ أصالةً أو بالنيابةِ عنْ غيرهِ، فإنّها أعمالٌ معدودةٌ من الصالحاتِ، وفعلُها مِن الخيراتِ، والسيئاتُ تُغفرُ بها مُطلقًا إلاَّ مَا أُورِدَ من اسْتثناءٍ، غيرَ أنَّ الذنبَ العظيمَ قد يحتاجُ إلى حسنةٍ عظيمةٍ لتكفيرهَا، وذلكَ لعمومِ قولِه تعالى: ﴿إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ﴾ [هود: 114]، وقولِه تعالى: ﴿وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِنًا قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُوْلَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ العُلَى، جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ مَن تَزَكَّى﴾ [طه: 75-78].
وألفاظُ الحديثِ كقولِه صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: «العُمْرَةُ إِلَى العُمْرَةِ» أوْ «تَابِعُوا بَيْنَ الحَجِّ وَالعُمْرَةِ»، وألفاظُ الأحاديثِ الأخرَى «الصَّلَوَاتُ الخَمْسُ، وَالجُمُعَةُ إِلَى الجُمُعَةِ، وَرَمَضَانُ إِلَى رَمَضَانَ» تؤكِّد أنَّ هدْمَ الذنوبِ ليس قاصرًا علَى حجَّةِ الإسلامِ ولا على تأديتِها بالأصالةِ، بل فضْلُ الله ورحمتُه أوسعُ من هذَا، بل تشملُ صِحَّةَ حجِّ المرتدِّ عن دينه إذا تاب واستقام على أصحِّ قولي العلماءِ، ولا يلزمُه القضاءُ بعدَ توبتِه، وهُو مذْهَبُ الشافعيةِ(٣٥- انظر «الحاوي» للماوردي: (4/247)، و«المجموع» للنووي: (3/5)) والحنابلةِ(٣٦- انظر «شرح العمدة» لابن تيمية: (1/37)) خلافًا لمن يرَى أنَّ حَجَّه باطلٌ وتلزمُه الإعادةُ بعدَ توبتِه، وهُو مذهبُ الحنفيةِ(٣٧- انظر «المبسوط» للسرخسي: (2/175)) والمالكيةِ(٣٨- انظر «أضواء البيان» للشنقيطي: (1/329، 3/362))، وسببُ اختلافهِم يرْجِعُ إلى أثرِ الردَّةِ في فسادِ العملِ، فإنَّ الحنفيةَ والمالكيةَ يروْنَ أنَّ مجرَّدَ الردَّةِ يُوجبُ إحباطَ العملِ وفسادَهُ، ويحتجُّونَ بقولِهِ تعالى: ﴿وَمَن يَكْفُرْ بِالإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ﴾ [المائدة: 5]، وقولِهِ تعالى: ﴿وَلَوْ أَشْرَكُواْ لَحَبِطَ عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ﴾ [الأنعام: 88]، والحبوطُ: هُو الفسادُ، ومعنى هذا أنَّ عملَه يبطُلُ بالرِّدَّةِ وتلزمُه الإعادةُ إن تابَ.
أمَّا عَلى وَفْقِ المذهبِ الراجحِ، فإنَّ الوفاةَ على الرِّدَّةِ شرطٌ في حُبوطِ العملِ لقولِهِ تعالى: ﴿وَمَن يَرْتَدِدْ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾ [البقرة: 217]، فإن تَابَ ورجعَ إلى الإسلامِ فلا إعادةَ عليهِ، ويصحُّ عملُه السابقُ مجرَّدًا عن الثوابِ حملاً للمطلقِ على المقيَّدِ.
وينبغِي أنْ يُعلم أنَّ دُخولَ الكافرِ في الإسلامِ الذي امتنَّ الله به على عبادهِ المسلمين يَهدِم كلَّ سَيِّئةٍ قبلَه لقولِه تعالى: ﴿قُل لِلَّذِينَ كَفَرُواْ إِن يَنتَهُواْ يُغَفَرْ لَهُم مَّا قَدْ سَلَفَ﴾ [الأنفال: 38]، ولحديثِ عمرِو بنِ العاصِ رضي الله عنه المتقدِّمِ وفيهِ: «أَمَا عَلِمْتَ أَنَّ الإِسْلاَمَ يَهْدِمُ مَا كَانَ قَبْلَهُ»، وإنْ بقيَ على كفرهِ فإنَّه يُؤاخَذُ بأَسْوَإِ أعمالِه لقولِه تعالى: ﴿فَلَنُذِيقَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا عَذَابًا شَدِيدًا وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ [فصّلت: 27]، ويُفْسِدُ كُفْرُهُ كلَّ حسنةٍ ويُبطلُها، ولا تُغني عنه أعمالُه الخيِّرةُ شيئًا يومَ القيامةِ لقولِهِ تعالى: ﴿وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَّنثُورًا﴾[الفرقان:23]، ولقولِهِ تعالى: ﴿وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللهَ عِندَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللهُ سَرِيعُ الحِسَابِ﴾ [النور: 39]، ويُجزَى الكافرُ بعمله الصالحِ في الدنيا لقولِه صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: «إِنَّ الله لاَ يَظْلِمُ مُؤْمِنًا حَسَنَةً، يُعْطَى بها فِي الدُنْيَا وَيُجْزَى بها فِي الآخِرَةِ، وَأَمَّا الكَافِرُ فَيُطْعَمُ بِحَسَنَاتِ مَا عَمِلَ بها للهِ فِي الدُنْيَا حَتَّى إِذَا أَفْضَى إِلَى الآخِرَةِ لَمْ تَكُنْ لَهُ حَسَنَةٌ يُجْزَى بها»(٣٩- أخرجه مسلم كتاب «صفة القيامة والجنة والنار»: (1/1292)، رقم: (180، من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه).
والكافرُ يتفاوتُ عذابُه بحسَبِ كِبَرِ السيئةِ وعددِهَا، وليس بالنظرِ إلى الحسنةِ؛ لأنَّها لا تُحْسَبُ عليه من جملةِ السيئاتِ.
وفي وزنِ أعمالِ الكفَّارِ خلافٌ مَبْنيٌّ على مسألةِ مخاطبةِ الكفَّارِ بفروعِ الشريعةِ، والراجِحُ أنهم يُحاسبونَ حسابَ تقريرٍ؛ لأنّهم ليسَ لهم حسنات، فيُوقَفُون على أعمالهم وسيئاتهم، يُقَرَّرُونَ بها، قال تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَن سَبِيلِ اللهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الحِسَابِ﴾ [ص: 26]، إذِ الكافِرُ لا تنفعُهُ حسناتُه، وإنْ وُزِنَتْ فإنما تُوزَن قطعًا للحُجَّةِ، إلاَّ إذَا تابَ الكافرُ قبلَ موتِهِ وأَسْلَم لله تعالى فإنَّهُ تنفعُهُ حسناتُه قبل الإسلامِ وبعدَهُ ‑فضلاً من الله ورحمةً- قال تعالى: ﴿إِلاَّ مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللهُ غَفُورًا رَّحِيمًا﴾ [الفرقان: 70]، وفي حديثِ حكيمِ بنِ حِزامٍ رضي الله عنهُ أنه سألَ النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّمَ فَقَالَ: «أَيْ رَسُولَ الله، أَرَأَيْتَ أُمُورًا كُنْتُ أَتَحَنَّثُ بها في الجاهِلِيَةِ مِنْ صَدَقَةٍ أَوْ عَتَاقَةٍ أَوْ صِلَةِ رَحِمٍ أَفِيهَا أَجْرٌ؟» فَقَالَ رَسُولُ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ: «أَسْلَمْتَ عَلَى مَا أَسْلَفْتَ مِنْ خَيْرٍ»(٤٠- أخرجه البخاري كتاب «الزكاة»، باب من تصدق في الشرك ثم أسلم: (1/345)، ومسلم كتاب «الإيمان»: (1/67)، رقم: (123)، من حديث حكيم بن حزام رضي الله عنه).
هذَا، وحقيقٌ بالتنبيهِ أنَّ المسلمَ لا ينبغي عليهِ أن يتهاونَ في فعلِ الصغائرِ والاستمرارِ عليهَا، بلْهَ الكبائرَ اتِّكالاً على ثوابِ الحجِّ أو العمرةِ أو أيِّ عملٍ صالحٍ لخطورةِ ارتكابِ الصغائرِ والإصرارِ عليها، ويدلُّ عليه حديثُ سهلِ بنِ سعدٍ رضي الله عنه أنَّ رسولَ الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم قالَ: «إِيَّاكُمْ وَمُحَقَّرَاتِ الذُنُوبِ فَإِنَّمَا مَثَلُ مُحَقَّرَاتِ الذُنُوبِ كَمَثَلِ قَوْمٍ نَزَلُوا بَطْنَ وَادٍ فَجَاءَ ذَا بِعُودٍ وَجَاءَ ذَا بِعُودٍ حَتَّى حَمَلُوا مَا أَنْضَجُوا بِهِ خُبْزَهُمْ، وَإِنَّ مُحَقَّرَاتِ الذُنُوبِ مَتَّى يُؤْخَذْ بها صَاحِبُهَا تُهلِكْهُ»(٤١- أخرجه أحمد: (5/331)، والطبراني في «المعجم الكبير»: (6/165)، من حديث سهل بن سعد رضي الله عنه. والحديث صححه الألباني في «السلسلة الصحيحة»: (1/744))، وحديثُ عبدِ الله بنِ عمرَ رضي الله عنهما أنَّ النبيَّ صلَّى الله عليهِ وآلهِ وسلَّمَ قالَ: «ارْحَمُوا تُرْحَمُوا، وَاغْفِرُوا يُغْفَرْ لَكُمْ، وَيْلٌ لأَقْمَاعِ القَوْلِ، وَيْلٌ لِلْمُصِّرِّينَ الذِينَ يُصِّرُّونَ عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ»(٤٢- أخرجه البخاري في «الأدب المفرد»: (1/ 13، وأحمد: (2/165)، من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما. والحديث صححه أحمد شاكر في تحقيقه ﻟ «مسند أحمد»: (10/52)، الألباني في «السلسلة الصحيحة»: (1/870))، وحديثُ أبي هريرةَ رضيَ الله عنه قال: قَالَ رَسُولُ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وآلِهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ المُؤْمِنَ إِذَا أَذْنَبَ ذَنْبًا كَانَتْ نُكْتَةً سَوْدَاءَ في قَلْبِهِ، فَإِنْ تَابَ وَنَزَعَ وَاسْتَغْفَرَ صُقِلَ مِنْهَا، وَإِنْ زَادَ زَادَتْ حَتَّى يُغَلَّفَ بها قَلْبُهُ، فَذَلِكَ الرَّانُ الذِي ذَكَرَ الله في كِتَابِهِ: ﴿كَلاَّ بَل رَّانَ عَلَى قُلُوبِهِم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ﴾ [المطففين:14]»(٤٣- أخرجه الترمذي كتاب «تفسير القرآن»، باب ومن سورة ويل للمطففين: (3334)، وابن ماجه كتاب «الزهد»، باب ذكر الذنوب: (4244)، وأحمد: (2/ 297)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. والحديث حسّنه الألباني في «صحيح الجامع»: (1670)).
والمعلومُ أنَّ ظاهرَ الحسناتِ لا تُغْني عن حقيقةِ التوبةِ والاستغفارِ، وتوهُّمُ ذلك يُؤدِّي بطريقٍ أو بآخرَ إلى فسادٍ من جهةِ العملِ والمعتقَدِ، حيثُ يجعلُ التوهمُ المصِرَّ مستخفًّا بذنوبهِ ومستصغرًا لها، فيُزكِّي نفسَه بالاتِّكالِ على حسناتِهِ، ويأْمنُ مكرَ الله بالإصرارِ على ذنبهِ، الأمرُ الذي يجرُّه إلى إسقاطِ فرضِ التوبةِ والاستغفارِ عن نفسهِ، وذلكَ معدودٌ من أعظمِ الكبائرِ، وهو من الخطورةِ بمكانٍ بتركهِ لتقوَى الله تعالى، ولا يخفَى أنَّ من الصفاتِ اللازمةِ للمتقين أن لا يُصرُّوا على ذنبهم، وأنْ يتوبوا ويستغفِرُوا، وهو ظاهرٌ من نصوصِ الشريعةِ، قال تعالى: ﴿وَسَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ، الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالكَاظِمِينَ الغَيْظَ وَالعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ، وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُواْ أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُواْ اللهَ فَاسْتَغْفَرُواْ لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللهُ وَلَمْ يُصِرُّواْ عَلَى مَا فَعَلُواْ وَهُمْ يَعْلَمُونَ، أُوْلَئِكَ جَزَآؤُهُم مَّغْفِرَةٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ﴾ [آل عمران: 133-136].
وأخيرًا، فإنَّ التَّجَرُّدَ لمحضِ الخيرِ والطاعةِ، والسلامةَ من الآثامِ وركوبِ المحارمِ، والعصمةَ من الخطايا ليسَ شأنَ الآدميِّ الذي هو بطبعهِ خطّاءٌ غيرُ معصومٍ، مجبولٌ على الاستعدادِ للتفكيرِ في الذنوبِ والوقوعِ في المعاصي، وغالبًا ما ينتابُه الضعفُ عن مقاومةِ عواملِ الشهوةِ والغضبِ التي تخرجُه عن حدودِ محارمِ ما رسمه الشرعُ بالتسلُّطِ عليهِ واحتوائِه، الأمرُ الذي يُوقعُه في شباكِ الشيطانِ وشراكهِ من المخالفةِ والعصيانِ.
وقدْ جعلَ الله له مخرجًا بالتوبةِ والعملِ الصالح، فالتوبةُ علاجٌ لأمراضِ النفوسِ وسيئاتِ الأعمالِ، وحاجةُ العبدِ إليها ضروريةٌ في أوَّلِ أمره وآخره، إذ هي بدايةُ العبدِ ونهايتُه، فلا يُفارقُها العبدُ السالكُ ولا يزالُ فيها إلى المماتِ، وقد علَّق الله تعالى الفلاحَ بالتوبةِ فقال عزَّ وجَلَّ: ﴿وَتُوبُوا إِلَى اللهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ [النور: 31]، والعملُ الصالح لا يُنافي وجوبَ التوبةِ في محوِ أثرِ الخطايا والذنوبِ عن النفسِ بعد وقوعها؛ لأنَّ التوبةَ تكونُ بالقلبِ واللسانِ والجوارحِ. والاستكثارُ من الحسناتِ والعملِ الصالح لا يعارضُها؛ لأنَّه ضربٌ من ضروبِ التوبةِ، لذلك ينبغي للمؤمن أن يحمل نفسَه على نيةِ التوبةِ عند القيام بالعملِ الصالح وإتيانِ الحسناتِ، وهو ظاهرٌ من قوله تعالى: ﴿فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ [المائدة: 39]، وقولِه تعالى: ﴿إِلاَّ مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللهُ غَفُورًا رَحِيمًا﴾ [الفرقان: 70]، وقوله تعالى: ﴿إِلاَّ الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ [آل عمران: 89] [النور: 5]، وقوله تعالى: ﴿إِلاَّ الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ﴾ [البقرة: 160]، وقد جاءَ تأكيدُ الله في محبتهِ لعباده المسارعينَ إليهِ بالتوبةِ والعملِ الصالح في قولهِ عزَّ وجلَّ: ﴿إِنَّ اللهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ﴾ [البقرة: 222]، وفي قوله صلى الله عليه وآله وسلم: «كُلُّ ابْنِ آدَمَ خَطَّاءٌ وَخَيْرُ الخطَّائِينَ التَوَّابُّونَ»(٤٤- أخرجه الترمذي كتاب «صفة القيامة والرقائق والورع»: (2499)، وابن ماجه كتاب «الزهد»، باب ذكر التوبة: (4251)، وأحمد: (12983)، من حديث أنس رضي الله عنه. والحديث حسّنه الألباني في «صحيح الجامع»: (4391)).
واللهَ نسأل أن يرزقنا توبةً صادقةً، وإنابةً خالصةً، وعملاً صالحًا، ومغفرةً منه ورضوانًا، إنه سميع قريبٌ مجيبٌ.
وآخرُ دعوانَا أنِ الحمدُ لله ربِّ العالمين، وصلَّى الله وسلَّم على نبيِّنا محمَّد، وعلى آله وصحبه وإخوانهِ إلى يومِ الدِّينِ، وسلَّم تسليمًا.
الجزائر في 12 من ذي القعدة 1430ﻫ
الموافـق ﻟ: 30 أكـتوبر 2009م
موقع الشيخ فركوس حفظه الله
الموافـق ﻟ: 30 أكـتوبر 2009م
موقع الشيخ فركوس حفظه الله