بسم الله الرّحمن الرّحيم
تيسير الغفور الودود
في بيان حكم استنشاق ( البنزين ) المُتطاير في محطّات الوقود
الحمد لله ربّ العالمين ، و الصّلاة و السّلام على رسوله الأمين ، و على آله و صحبه الطّيّبين الطّاهرين ، و تابعيهم بإحسانٍ من أهل الحديث الأثريّين ؛ إلى يوم الدّين .
أمّا بعد :
فلقد ورد سؤالٌ من ساحل ( عُمان ) مفاده الاستفسار عن حكم استنشاق رائحة ( البنزين ) المُتطاير من محطّات الوقود ؛ و ذلك بالنّسبة للعاملين فيها و المارّين عليها ؛ لا سيّما و قد ثبت أنّ شمّ هذه المادّة يعمل عمل الإسكار في الجسم ؛ و (( ما أسكر كثيره فقليله حرام )) .
فما حكم استنشاق هذه المادّة المسكرة و أمثالها بغير قصدٍ ؛ حتّى لو لم يَسْكر المُستنشق لقلّة المادّة المُستنشقة ؟.
فقلتُ مجيبًا - مستعينًا بالله العظيم - :
لا بدّ - قبل الإجابة - من معرفة أمورٍ ثلاثةٍ ؛ ندلف منها إلى الجواب :
الأمر الأوّل : أنّ الخمر - شرعًا - هو ما أسكر ؛ لحديث ابن عبّاس - رضي الله عنهما - عند مسلمٍ و غيره : (( كلُّ مسكرٍ خمرٌ ، و كلّ خمرٍ حرامٌ )) ؛ وهو حديثٌ (( كاد أن يكون متواترًا )) - كما قال عليٌّ القاريّ الحنفيّ - عفا الله عنّا وعنه - .
و في حديثٍ آخر كاد أنْ يكون متواترًا - أيضًا - : (( ما أسكر كثيره ؛ فقليله حرام )) ؛ وهو مرويٌّ (( عن نحو ثمانيةٍ من الصّحابة بأسانيد ثابتة )) - كما قال إمامنا الألبانيّ - رحمه الله - في " الضّعيفة : 3 / 364 " - .
و على هذا أهل الحديث ، و جمهور السّلف و الخلف .
و شذّ من أهل الرّأي الأحنافُ فخالفوا الإجماع الأوّل - إلاّ محمّدًا - على الصّحيح - - ؛ وزعموا أنّ :
الخمرَ المحرّمَ ما كان من العنب - فقط - .
و أنّه لا يَحْرُمُ ممّا أَسْكَرَ من الأشربة من غير العنب إلاّ الحدُّ المُسكر ( ! ) .
و ذلك لأنّ الخمر - أي الّتي من العنب - إنّما حُرّمت لعينها ؛ لا لعلّةٍ هي الإسكار تجمعها مع غيرها ؟!!! .
و للجواب على هذه العجائب الغرائب تمتلئ كراريسُ دون نهايته ؛ و حسبي أنْ أقول :
أوّلاً : بل حديثنا الصّحيح ( القريب من التّواتر ) السّابق قاضٍ بأنّ كلّ ما أسكر فهو خمرٌ ؛ من عنبٍ ، أو تمرٍ ، أو شعيرٍ ، أو غيره .
و الخمرُ : ما خامر العقل ؛ فغطّاه ، و أسكره .
فكلُّ ما كان كذلك فهو ذلك ؛ كالمخدّرات ، و القات ، والتّدخين على الجوع ؛ كالإفطار من صيامٍ على مسكرات الدّخائن ، و الأشربة الكحوليّة العصريّة المصنوعة من موادّ كيماويّةٍ غير نباتيّةٍ - أصلاً - لا عنبيّة ، و لا شعيريّة ، و لا تمريّة . . . ؛ و الّتي أكثرها يُذهب العقل و يسكره أكثر من خمر العنب بدرجات .
بل ؛ في بلاد الكفر تخديرٌ بالأدهان .
و لو قُدّر أنْ يُخامَرَ العقل بإسكارِ أمواجٍ ، أو أشعةٍ فهي كذلك .
ثانيًا : لله درُّ هذا القول الشّاذ وأصحابه ( !!! ) .
إذ كيف يعرفون الحدّ المسكر من ( الأشربة من غير العنب ) ؟!! .
ما ضابط ذلك ؟!! .
ذلك لا يُعرف - أصلاً - إلاّ بالوصول إلى حدّ السّكر ( ! ) .
فلا يحرم السّكر عندهم إلاّ بعد السّكر ( ! ) .
فهل في الشّرائع مثل هذا ؟!! .
تحريمه - إذًا - عبثٌ ، وسفاهة ؛ لأنّه تكليف ما لا يطاق .
و هل من شرب المجّة و الاثنتين قادرٌ - حقًّا - على التّوقّف عند ذلك الحدّ الوهميّ المظنون ؟!! .
و هل لا يكون الإسكار إلاّ بتلك الشّربة الأخيرة الّتي ظهر السّكر عندها ؟!! .
بل قال النّسائيّ - عليه رحمة الله – في " سننه " : (( و لا خلاف بين أهل العلم أنّ السّكر بكليّته لا يحدث على الشّربة الآخرة دون الأولى و الثّانية بعدها )) .
ثالثًا : و أمّا أنّ الخمر حُرّمت لعينها فهذا قول الحنفيّة ، وحزب التّحرير المعاصر ؛ الّذي حقّه أن يُسمّى بـ ( فرقة التّحليل الإعتزاليّة ) ؛ أخذًا من قول ابن عبّاسٍ - رضي الله عنهما - : (( حُرّمت الخمر لعينها قليلها وكثيرها ، والسّّكر من كلّ شراب )) .
و زعموه مرفوعًا .
و لكنّ رفعه ضعيفٌ شاذٌّ ؛ بشهادة محدّثي الأحناف - أنفسهم - ؛ كالزّيلعي في " نصب الرّاية " .
هذا هو الأمر الأوّل .
و أمّا الأمر الثّاني : فهو معرفة قاعدة المكاثرة .
فإنّ من قواعد الأصول أنْ نعلم أنّه : (( قد يحرم أصلاً ما يحلُّ فرعًا ، ويحلُّ أصلاً ما يحرم فرعًا )) .
و هذا شيءٌ شرحته بأمثلته في كتابي " الحصن المنيع " - يسّر الله نشره - ؛ ومن ذلك :
- النّهي عن تهجين البغال - أصلاً - ، و ركوب النّبيّ - صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم - لها - فرعًا .
- و إباحة الأكل و الشّرب - أصلاً - ، و تحريم الإسراف فيه - فرعًا - .
و الشّيء قد يحلُّ منفردًا ؛ فإذا انضمّ إليه شيءٌ من الحلال حَرُم .
و قد يحرُم منفردًا ؛ فإذا انضمّ إليه شيءٌ من الحلال حلَّ .
و قد يحرُم منفردًا ؛ و إذا انضم ّ إليه شيءٌ من الحرام حلَّ - أيضاً - ( ! ) .
و مثال ما يحلُّ منفردًا ؛ فيحرم بانضمام الحلال إليه :
الأنبذة و الأشربة المباحة ؛ إذا أضيف إليها من المباحات ما يخمّرها صارت خمرًا حرامًا .
و التّفاحة و سائر المأكولات ؛ إذا أُكلت وحدها ؛ فهي على الإباحة ، فإذا انضاف إليها من مثلها ما يُتخمُ آكلها ؛ فهي الحُرمة .
و الحرام منفردًا الحلالُ بانضمام شيءٍ من الحلال إليه ؛ مثاله :
الماء المتنجّس الّذي هو دون القلّتين ؛ فإنّه حرامٌ شربه أو الانتفاع به - إجماعًا - ؛ فإذا زيد عليه من الماء الطّاهر ما يُكاثَر به ليصير قُلّتين فأكثر طهُر و جاز الانتفاع به - على الصّحيح - ؛ لحديث : (( إذا بلغ الماء قلّتين لم يحمل الخبث )) الثّابت بشواهده .
و حتّى لو كان الماء المضاف نجسًا حرامًا - أيضًا- ؛ فإنّهما إذا صارا - معًا - قُلّتين فأكثر طَهُرا - جميعًا - ؛ ما لم يكن تغيّرٌ في ريحٍ أو طعمٍ أو لون .
و هذا مثال الحرام منفردًا ، الّذي يحلّ بانضمام مثله إليه .
فإذا عرفنا هذا ؛ دلفنا منه إلى الأمر الثّالث ؛ لنقول :
الأمرُ الثّالث : أنّ الشّريعة الرّبانيّة سمحةٌ ، مبناها على اليُسر ؛ فلا يحرُم فيها ما عمّت به البلوى ممّا لا يُتحرّز منه .
فإنّ لَهْمَ التّراب في نهار الصّيام مفطرٌ محرّمٌ - على الصّحيح - ؛ أمّا تَنَشُّقُ الغبار و الأبخرة و الرّذاذات المتطايرة عن غير قصدٍ ، و بغير عمدٍ فليس بمفطرٍ ؛ إلاّ من تقصّدٍ و تكلّف ( !!! ) .
و ذلك مثل المرضى المتداوين بـ ( بخّاخ ) الرّبو ، ونحوه .
فنقول : إذا كان في هذا الغاز المضغوط موادٌّ دوائيّةٌ ذات جَرْمٍ تدخل الجوف أفطرت ، و أمّا إنْ كانت غازًا - فقط - ؛ فلا .
و عليه :
فإنّ ما يفعله كثيرٌ من سفهاء المسلمين و فسّاقهم - اليوم - من تعمّد استنشاق هذه الموادّ النّفطيّة المسكرة محرّم - اتّفاقًا - عند علماء العصر ؛ كثيرها وقليلها .
إلاّ أنّ من شمّ هذه الرّوائح من العاملين في ميدانها ، أو السّائرين بقرب مكانها ؛ فإنّه لا يحرم عليهم شيءٌ من ذلك لأمور :
- الأوّل : أنّه لا يُتحرّز منها .
- و الثّاني : أنّه (( إذا ضاق الأمر اتّسع )) .
- و الثّالث : أنّها مُكاثرةٌ بالهواء الّذي يُخرِج كثيرَها عن الإسكار ؛ فكيف قليلها ؟!!! .
و ذلك كمن كان يسكر من كأس خمر ؛ فصبّ هذا الكأس في بئر ماء ؛ فهل يحرم ماؤه ؟! .
و من ظنّ أنّ حديثنا : (( ما أسكر كثيره فقليله حرامٌ )) )) دليلٌ على تحريم مائه فهو غالط !!! .
إذ من ذا الّذي يشرب ماء البئر كُلّه ليسكر ؛ حتّى يَحرُم عليه الشّربة منه و الاثنتان ؟!! .
فإنّ المكاثرة أخرجت الكثير عن كونه مُسكرًا ؛ فكيف القليل ؟!.
و الله - تعالى - أعلم .
و الحمد لله ربّ العالمين .
و كتب :
ــــــــــــــــ
أبو عبد الرّحمن الأثريّ
معاذ بن يوسف الشّمّريّ
في : الأردن - إربد - حرسها الله - .
في : 27 - ربيع الأوّل - 1424 هـ .
تيسير الغفور الودود
في بيان حكم استنشاق ( البنزين ) المُتطاير في محطّات الوقود
الحمد لله ربّ العالمين ، و الصّلاة و السّلام على رسوله الأمين ، و على آله و صحبه الطّيّبين الطّاهرين ، و تابعيهم بإحسانٍ من أهل الحديث الأثريّين ؛ إلى يوم الدّين .
أمّا بعد :
فلقد ورد سؤالٌ من ساحل ( عُمان ) مفاده الاستفسار عن حكم استنشاق رائحة ( البنزين ) المُتطاير من محطّات الوقود ؛ و ذلك بالنّسبة للعاملين فيها و المارّين عليها ؛ لا سيّما و قد ثبت أنّ شمّ هذه المادّة يعمل عمل الإسكار في الجسم ؛ و (( ما أسكر كثيره فقليله حرام )) .
فما حكم استنشاق هذه المادّة المسكرة و أمثالها بغير قصدٍ ؛ حتّى لو لم يَسْكر المُستنشق لقلّة المادّة المُستنشقة ؟.
فقلتُ مجيبًا - مستعينًا بالله العظيم - :
لا بدّ - قبل الإجابة - من معرفة أمورٍ ثلاثةٍ ؛ ندلف منها إلى الجواب :
الأمر الأوّل : أنّ الخمر - شرعًا - هو ما أسكر ؛ لحديث ابن عبّاس - رضي الله عنهما - عند مسلمٍ و غيره : (( كلُّ مسكرٍ خمرٌ ، و كلّ خمرٍ حرامٌ )) ؛ وهو حديثٌ (( كاد أن يكون متواترًا )) - كما قال عليٌّ القاريّ الحنفيّ - عفا الله عنّا وعنه - .
و في حديثٍ آخر كاد أنْ يكون متواترًا - أيضًا - : (( ما أسكر كثيره ؛ فقليله حرام )) ؛ وهو مرويٌّ (( عن نحو ثمانيةٍ من الصّحابة بأسانيد ثابتة )) - كما قال إمامنا الألبانيّ - رحمه الله - في " الضّعيفة : 3 / 364 " - .
و على هذا أهل الحديث ، و جمهور السّلف و الخلف .
و شذّ من أهل الرّأي الأحنافُ فخالفوا الإجماع الأوّل - إلاّ محمّدًا - على الصّحيح - - ؛ وزعموا أنّ :
الخمرَ المحرّمَ ما كان من العنب - فقط - .
و أنّه لا يَحْرُمُ ممّا أَسْكَرَ من الأشربة من غير العنب إلاّ الحدُّ المُسكر ( ! ) .
و ذلك لأنّ الخمر - أي الّتي من العنب - إنّما حُرّمت لعينها ؛ لا لعلّةٍ هي الإسكار تجمعها مع غيرها ؟!!! .
و للجواب على هذه العجائب الغرائب تمتلئ كراريسُ دون نهايته ؛ و حسبي أنْ أقول :
أوّلاً : بل حديثنا الصّحيح ( القريب من التّواتر ) السّابق قاضٍ بأنّ كلّ ما أسكر فهو خمرٌ ؛ من عنبٍ ، أو تمرٍ ، أو شعيرٍ ، أو غيره .
و الخمرُ : ما خامر العقل ؛ فغطّاه ، و أسكره .
فكلُّ ما كان كذلك فهو ذلك ؛ كالمخدّرات ، و القات ، والتّدخين على الجوع ؛ كالإفطار من صيامٍ على مسكرات الدّخائن ، و الأشربة الكحوليّة العصريّة المصنوعة من موادّ كيماويّةٍ غير نباتيّةٍ - أصلاً - لا عنبيّة ، و لا شعيريّة ، و لا تمريّة . . . ؛ و الّتي أكثرها يُذهب العقل و يسكره أكثر من خمر العنب بدرجات .
بل ؛ في بلاد الكفر تخديرٌ بالأدهان .
و لو قُدّر أنْ يُخامَرَ العقل بإسكارِ أمواجٍ ، أو أشعةٍ فهي كذلك .
ثانيًا : لله درُّ هذا القول الشّاذ وأصحابه ( !!! ) .
إذ كيف يعرفون الحدّ المسكر من ( الأشربة من غير العنب ) ؟!! .
ما ضابط ذلك ؟!! .
ذلك لا يُعرف - أصلاً - إلاّ بالوصول إلى حدّ السّكر ( ! ) .
فلا يحرم السّكر عندهم إلاّ بعد السّكر ( ! ) .
فهل في الشّرائع مثل هذا ؟!! .
تحريمه - إذًا - عبثٌ ، وسفاهة ؛ لأنّه تكليف ما لا يطاق .
و هل من شرب المجّة و الاثنتين قادرٌ - حقًّا - على التّوقّف عند ذلك الحدّ الوهميّ المظنون ؟!! .
و هل لا يكون الإسكار إلاّ بتلك الشّربة الأخيرة الّتي ظهر السّكر عندها ؟!! .
بل قال النّسائيّ - عليه رحمة الله – في " سننه " : (( و لا خلاف بين أهل العلم أنّ السّكر بكليّته لا يحدث على الشّربة الآخرة دون الأولى و الثّانية بعدها )) .
ثالثًا : و أمّا أنّ الخمر حُرّمت لعينها فهذا قول الحنفيّة ، وحزب التّحرير المعاصر ؛ الّذي حقّه أن يُسمّى بـ ( فرقة التّحليل الإعتزاليّة ) ؛ أخذًا من قول ابن عبّاسٍ - رضي الله عنهما - : (( حُرّمت الخمر لعينها قليلها وكثيرها ، والسّّكر من كلّ شراب )) .
و زعموه مرفوعًا .
و لكنّ رفعه ضعيفٌ شاذٌّ ؛ بشهادة محدّثي الأحناف - أنفسهم - ؛ كالزّيلعي في " نصب الرّاية " .
هذا هو الأمر الأوّل .
و أمّا الأمر الثّاني : فهو معرفة قاعدة المكاثرة .
فإنّ من قواعد الأصول أنْ نعلم أنّه : (( قد يحرم أصلاً ما يحلُّ فرعًا ، ويحلُّ أصلاً ما يحرم فرعًا )) .
و هذا شيءٌ شرحته بأمثلته في كتابي " الحصن المنيع " - يسّر الله نشره - ؛ ومن ذلك :
- النّهي عن تهجين البغال - أصلاً - ، و ركوب النّبيّ - صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم - لها - فرعًا .
- و إباحة الأكل و الشّرب - أصلاً - ، و تحريم الإسراف فيه - فرعًا - .
و الشّيء قد يحلُّ منفردًا ؛ فإذا انضمّ إليه شيءٌ من الحلال حَرُم .
و قد يحرُم منفردًا ؛ فإذا انضمّ إليه شيءٌ من الحلال حلَّ .
و قد يحرُم منفردًا ؛ و إذا انضم ّ إليه شيءٌ من الحرام حلَّ - أيضاً - ( ! ) .
و مثال ما يحلُّ منفردًا ؛ فيحرم بانضمام الحلال إليه :
الأنبذة و الأشربة المباحة ؛ إذا أضيف إليها من المباحات ما يخمّرها صارت خمرًا حرامًا .
و التّفاحة و سائر المأكولات ؛ إذا أُكلت وحدها ؛ فهي على الإباحة ، فإذا انضاف إليها من مثلها ما يُتخمُ آكلها ؛ فهي الحُرمة .
و الحرام منفردًا الحلالُ بانضمام شيءٍ من الحلال إليه ؛ مثاله :
الماء المتنجّس الّذي هو دون القلّتين ؛ فإنّه حرامٌ شربه أو الانتفاع به - إجماعًا - ؛ فإذا زيد عليه من الماء الطّاهر ما يُكاثَر به ليصير قُلّتين فأكثر طهُر و جاز الانتفاع به - على الصّحيح - ؛ لحديث : (( إذا بلغ الماء قلّتين لم يحمل الخبث )) الثّابت بشواهده .
و حتّى لو كان الماء المضاف نجسًا حرامًا - أيضًا- ؛ فإنّهما إذا صارا - معًا - قُلّتين فأكثر طَهُرا - جميعًا - ؛ ما لم يكن تغيّرٌ في ريحٍ أو طعمٍ أو لون .
و هذا مثال الحرام منفردًا ، الّذي يحلّ بانضمام مثله إليه .
فإذا عرفنا هذا ؛ دلفنا منه إلى الأمر الثّالث ؛ لنقول :
الأمرُ الثّالث : أنّ الشّريعة الرّبانيّة سمحةٌ ، مبناها على اليُسر ؛ فلا يحرُم فيها ما عمّت به البلوى ممّا لا يُتحرّز منه .
فإنّ لَهْمَ التّراب في نهار الصّيام مفطرٌ محرّمٌ - على الصّحيح - ؛ أمّا تَنَشُّقُ الغبار و الأبخرة و الرّذاذات المتطايرة عن غير قصدٍ ، و بغير عمدٍ فليس بمفطرٍ ؛ إلاّ من تقصّدٍ و تكلّف ( !!! ) .
و ذلك مثل المرضى المتداوين بـ ( بخّاخ ) الرّبو ، ونحوه .
فنقول : إذا كان في هذا الغاز المضغوط موادٌّ دوائيّةٌ ذات جَرْمٍ تدخل الجوف أفطرت ، و أمّا إنْ كانت غازًا - فقط - ؛ فلا .
و عليه :
فإنّ ما يفعله كثيرٌ من سفهاء المسلمين و فسّاقهم - اليوم - من تعمّد استنشاق هذه الموادّ النّفطيّة المسكرة محرّم - اتّفاقًا - عند علماء العصر ؛ كثيرها وقليلها .
إلاّ أنّ من شمّ هذه الرّوائح من العاملين في ميدانها ، أو السّائرين بقرب مكانها ؛ فإنّه لا يحرم عليهم شيءٌ من ذلك لأمور :
- الأوّل : أنّه لا يُتحرّز منها .
- و الثّاني : أنّه (( إذا ضاق الأمر اتّسع )) .
- و الثّالث : أنّها مُكاثرةٌ بالهواء الّذي يُخرِج كثيرَها عن الإسكار ؛ فكيف قليلها ؟!!! .
و ذلك كمن كان يسكر من كأس خمر ؛ فصبّ هذا الكأس في بئر ماء ؛ فهل يحرم ماؤه ؟! .
و من ظنّ أنّ حديثنا : (( ما أسكر كثيره فقليله حرامٌ )) )) دليلٌ على تحريم مائه فهو غالط !!! .
إذ من ذا الّذي يشرب ماء البئر كُلّه ليسكر ؛ حتّى يَحرُم عليه الشّربة منه و الاثنتان ؟!! .
فإنّ المكاثرة أخرجت الكثير عن كونه مُسكرًا ؛ فكيف القليل ؟!.
و الله - تعالى - أعلم .
و الحمد لله ربّ العالمين .
و كتب :
ــــــــــــــــ
أبو عبد الرّحمن الأثريّ
معاذ بن يوسف الشّمّريّ
في : الأردن - إربد - حرسها الله - .
في : 27 - ربيع الأوّل - 1424 هـ .