آداب المستـفــــــــــتي وجوانب تعامله بالفتوى
لفضيلة الشيخ أبي عبد المعز محمد علي فركوس حفظه الله تعالى
الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على من أرسله اللهُ رحمةً للعالمين، وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، أمَّا بعد:
فالمعلوم أنه لا يصلح لمرتبة التبليغ بالرواية والفتيا إلاّ من اتصف ظاهرًا بالعلم الشرعي الذي يبلِّغه على وجه القوة فيه، كما يتحلى بالعدالة التي يتبلور فيها الصدق والأمانة فيما ينقله ويبيّنه مقرونًا بسيرة مرضية وأخلاق حسنة من حِلم ووقار وسكينة وعدلٍ في أقواله وأفعاله وأن يكون متشابهًا بالسر والعلانية في مدخله ومخرجه وأحواله مع معرفته بالناس وكفايته عنهم، وقد يعتري الخلل ويظهر النقص في الفتوى بحسب انتقاص خصال المفتي وشروطه ودعائم فتواه كمن يُولَّى من الجهال والفساق وأهل الهوى منصب الإفتاء الذين يفتون للكبير بالتسهيل وللصغير بضدها، وللصديق فتوى تناسبه وللعدو أخرى تضر به، وضمن هذا المعنى السائد والحكم الجائر بقول المفتي على غير مقتضى الشرع، يحكي ابن حزم ‑رحمه الله‑ حوادث غريبة صادرة من تولية الجهال والفساق وأهل الهوى لمنصب الإفتاء حيث يقول: «ولقد أذكرنا هذا مفتيًا كان عندنا بالأندلس وكان جاهلاً، فكانت عادته أن يتقدمه رجلان، كان مدار الفتيا عليهما في ذلك الوقت، فكان يكتب تحت فتياهما: "أقول بما قاله الشيخان"، فقضى أن ذينك الشيخين اختلفا، فلما كتب تحت فتياهما ما ذكرنا، قال له بعض من حضر: إن الشيخين اختلفا؟ فقال: وأنا أختلف باختلافهما!!؟»
(«الإحكام» لابن حزم: (6/240)).
وقال ‑رحمه الله‑ في موضع آخر:
«وقد شهدنا نحن قومًا فُسَّاقًا حملوا اسم التقدُّم في بلدنا، وهم مِمَّن لا يَحِلُّ لهم أن يفتوا في مسألة من الديانة، ولا يجوز قَبول شهادتهم. وقد رأيت أنا بعضهم، وكان لا يقدم عليه في وقتنا هذا أحد في الفتيا، وهو يتغطى الديباج الذي هو الحرير المحض لحافًا، ويتخذ في مَنْزِله الصور ذوات الأرواح من النحاس والحديد تقذف الماء أمامه، ويفتي بالهوى للصديق فتيا، وعلى العدو فتيا ضِدَّها، ولا يستحي من اختلاف فتاويه على قدر ميله إلى من أفتى وانحرافه عليه، شاهدنا نحن هذا عيانًا، وعليه جمهور أهل البلد إلى قبائح مستفيضة، لا نستجيز ذكرها لأننا لم نشاهدها»
( المصدر السابق: (6/309)).
ولذلك لا يجوز للعامِّي أو لِطالب علمٍ أن يسأل من يظُنُّه غير عالمٍ ولا متديِّنٍ أو مجهول الحال وغيره، لاحتمال انتفاء صفة العلم والاجتهاد فيه، إذ الأصل في الإنسان عدم العلم، لقوله تعالى:
﴿وَاللهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئًا﴾
[النحل: 78]
بل الواجب سؤال أهل العلم والاجتهاد من أهل الدِّين والصلاح عمَّا يعرض له من مسائل لمعرفة حكم الله تعالى، لقوله عزّ وجلّ:
﴿فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ﴾
[النحل: 43، الأنبياء: 7]
ولقوله صلى الله عليه و آله وسلم:
«أَلاَ سَأَلُوا إِذَا لَمْ يَعْلَمُوا، فَإِنَّمَا شِفَاءُ العَيِّ السُّؤَالُ»
( أخرجه أبو داود برقم: (336)، وابن ماجه برقم: (571)، وصحَّحه الألباني في «صحيح الجامع»: (2/804))
فإن تعدَّد في بلد واحدٍ جماعة من المؤهَّلين للفتوى ينبغي التفريق بين من كان من طُلاَّب هذا العلم القادرين على وزن الآراء والمتمكِّنين من تقويمها، وهم دون رتبة الاجتهاد، أو على الأقل من يتسنَّى لهم معرفة الدليل وكيفية أخذ الحكم من ذلك الدليل، أو من ذوي القدرة على معرفة الحقِّ وفهم الدليل، وبين من كان عاميًّا صرفًا جاهلاً عاجزًا عن معرفة حكم الله تعالى، فالواجب على الأوَّلين تحرِّي الأفضل واستفتاء الأعلم من أهل العدالة والصلاح، ومتابعته فيما أفتى به إذا لم يمكنهم عند اختلاف المفتين معرفة الأقوال في القوة والضعف، إذ مع الإمكان فـ «العَمَلُ بِالأَقْوَى دَلِيلاً وَالأَصَحِّ نَظَرًا وَاجِبٌ»، بغضِّ النظر عن الأعلم من دونه؛ لأنَّ الأعلم صفة للمجتهد في جملة المسائل ومعظمها، وقد لا يكون على هذه الصفة في بعضها، فإن ظهر الحقُّ وتبيَّن وجب المصير إلى متابعته بغضِّ النظر عن صفة المفتي، أمَّا إذا انتفى ظهور الحق عند المستفتي وجب المصير إلى الأخذ بالأعلم ومتابعة الأفضل؛ لأنَّه أغلب على الظنِّ وأهدى إلى أسرار الشرع، وطالب العلم ومن يقوم مقامه له سبيلٌ إلى معرفة الأعلم: إمَّا بالشهرة والتسامع ورجوع الناس إليه، وإمَّا عن طريق مجالسته ومناقشته ووزن فتاويه، كما يظهر الأعلم بأكثرية إصابته للصواب أو إذعان المفضول له وتقديمه.
أمَّا العامِّي المحض فله اتباع من يثق بدينه شريطة إلمامه بالعلم، ويهتدي إلى معرفة ذلك بالشهرة والتوجيه، وداعي التفريق بين المستفتين هو ما يجب افتراضه في مجتمع الصحابة رضي الله عنهم بين الحاضر والبادي، فإنَّ الحاضر في المدن والقرى إنَّما كان يسأل كبار الصحابة المشهورين بالفتوى، وقد أشار إلى ذلك النبي صلى الله عليه وآله وسلم:
«عَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ الْمَهْدِيِّينَ، تَمَسَّكُوا بِهَا، وَعَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ»
(أخرجه أبو داود في «سننه»: (4/200، 201)، برقم: (4607)، والترمذي في «سننه»: (5/44) برقم: (2676)، وقال: «حديث حسن صحيح»)
وقوله صلى الله عليه وآله وسلم:
«... أَقْرَؤُهُمْ لِكِتَابِ اللهِ أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ، وَأَفْرَضُهُمْ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ، وَأَعْلَمُهُمْ بِالحَلاَلِ وَالحَرَامِ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ...»
( أخرجه الترمذي برقم: ( 3793-3794 )، وابن ماجه: (1/55) برقم: (154)، والحاكم: (3/422) من حديث أنس رضي الله عنه، قال الترمذي: «حديث حسن صحيح»، وصحَّحه الألباني في «السلسلة الصحيحة»: (3/223) رقم: (1224))
ومن فَرْضُه اتباع المجتهدين أخذ بقولهم لكونهم أعلم وأفضل، ذلك لأنه المستطاع من تقوى الله المأمور به كل أحد، وقد ذكرنا أنَّ الأفضلية والأعلمية في عموم المسائل لا يلزم منها في بعض المسائل، لذلك لم يرد نكير عن أحد منهم في اتّباع المفضول واستفتائه مع وجود الفاضل، خلافًا لما كان عليه الأمر بالنسبة للبادي والأعرابي، فلم يكلفهم أحد الاجتهاد في أعيان المجتهدين واتباع الفاضل دون المفضول، فقد كان السلف رضي الله عنهم يتدافعون الفتوى ويتورعون عن الإفتاء، ويود أحدهم أن يكفيه الجواب غيره، ومن ثَمَّ علمنا أنَّ المفضول لا يفتي في مسألة يكفيه غيره إيَّاها، وخاصة إن كان فاضلاً، أمَّا إذا تعيَّنت عليه بذل جهده وطاقته ووسعه في معرفة حكمها، مستعينًا بالله تعالى
( انظر: «جامع بيان العلم وفضله» لابن عبد البرّ: (2/163)، «الفقيه والمتفقه» للخطيب البغدادي: (2/160)، «إعلام الموقعين» لابن القيّم: (1/33))
مع ما فيه من استشارة من يثق بدينه وعلمه، من غير أن يستقل بالجواب ذهابًا بنفسه وارتفاعًا بها، وقد أثنى الله سبحانه وتعالى على المؤمنين بأَن أَمْرَهم شورى بينهم.
وفي كلا الحالتين سواء سأل المفتي الأعلم والأدين أو ما دونه فعليه أن يسعى إلى معرفة دليل المفتي أو تصريحه بأن ما أفتاه هو حكم الله وأمره، قال ابن حزم –رحمه الله‑:
«فعلى كُلِّ أحد حظه من الاجتهاد، ومقدار طاقته منه، فاجتهاد العامي إذا سأل العالم على أمور دينه فأفتاه أن يقول له: هكذا أمر الله ورسوله؟ فإن قال له: نعم، أخذ بقوله، ولم يلزمه أكثر من هذا البحث»
( «الإحكام» لابن حزم: (6/296))
وقال الشوكاني رحمه الله:
«والجاهل يمكنه الوقوف على الدليل بسؤال علماء الشريعة على طريقة طلب الدليل، واسترواء النص، وكيف حكم به في محكم كتاب الله أو على لسان رسوله صلى اللهُ عليه وآله وسَلَّم في تلك المسألة فيفيدونه النص إن كان ممن يعقل الحجّة إذا دل عليها، أو يفيدونه مضمون النص بالتعبير عنه بعبارة يفهمها فهم الرواة وهو مستروٍ، وهذا عامل بالرواية لا بالرأي، والمقلد عامل بالرأي لا بالرواية؛ لأنه يقبل قول الغير من دون أن يطالبه بحجة»
( «القول المفيد» للشوكاني: (8).
وتأسيسًا على ما تقدَّم فعلى المستفتي -في هذه الأحوال- العمل بالفتوى فيما اطمأنت نفسه إليها مع وفرة الثقة وسكون النفس إلى المفتي، أمَّا إن وجدت أسباب مانعة من الثقة بفتواه كأن يُرمى بالجهل والبدع، أو المحاباة في فتواه، أو يعرف عنه الفتوى بالحِيَل والرُّخَص المخالفة للأحكام الشرعية والمجانبة لتعاليم الدين، أو عدم التزامه في فتواه بالكتاب والسُّنَّة والتقيد بمدلولَيْهما، فلا يجوز -والحال هذه- العمل بفتواه، ولا تُخلِّصه هذه الفتوى من الله، لعلمه أنَّ الأمر في سريرته على خلاف ما أُفتي به، ومثيله في النظائر: قضاء القاضي له مع علمه أنَّ الحكم في الباطن على خلاف ما قضى به في الظاهر، فإن ذلك لا ينجيه من الله، ولا ينفعه حكم القاضي، وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال:
«فَمَنْ قَضَيْتُ لَهُ بِحَقِّ مُسْلِمٍ فَإِنَّمَا هِيَ قِطْعَةٌ مِنَ النَّارِ فَلْيَأْخُذْهَا أَوْ فَلْيَتْرُكْهَا»
(متفق عليه: أخرجه البخاري: (5/107)، برقم: (245، ومسلم: (12/4) من حديث أم سلمة رضي الله عنها)
بل على المستفتي تَكرار الاستفتاء إذا انتفت الثقة عن المفتي للأسباب المانعة على نحو ما تقدم، ويعيد سؤاله حتَّى تحصل له الطمأنينة الكافية للعمل بالفتوى.
وحقيق بالتنبيه أنه لا يجوز للمستفتي ‑إجماعًا‑ تتبع الرخص والتخير بين أقوال المفتين بالرأي المجرَّد والتشهِّي، في هذا المعنى يقول ابن القيم ‑رحمه الله‑:
«وبالجملة فلا يجوز العمل والإفتاء في دين الله بالتشهي والتخير وموافقة الغرض، فيطلب القول الذي يوافق غرضه وغرض من يحابيه فيعمل به، ويفتي به، ويحكم به، ويحكم على عدوه ويفتيه بضده، وهذا من أفسق الفسوق وأكبر الكبائر، والله المستعان»
( «إعلام الموقعين» لابن القيم: (4/211))
بل على المستفتي أن يعمل بما يثلج صدره وتسكن النفس إليه ممَّا يراه قدر استطاعته الأقربَ للصواب، لقوله صلى الله عليه وآله وسلم من حديث النواس بن سمعان رضي الله عنه:
«الْبِرُّ حُسْنُ الْخُلُقِ وَالإِثْمُ مَا حَاكَ فِي نَفْسِكَ وَكَرِهْتَ أَنْ يَطَّلِعَ عَلَيْهِ النَّاسُ»
( رواه مسلم برقم: (2553) من حديث االنوّاس بن سمعان رضي الله عنه)
وكذلك قوله صلى الله عليه وآله وسلم من حديث وابصة بن معبد رضي الله عنه:
«اسْتَفْتِ قَلْبَكَ، الْبِرُّ مَا اطْمَأَنَّتْ إِلَيْهِ النَّفْسُ واطْمَأَنَّ إِلَيْهِ الْقَلْبُ، وَالإِثْمُ مَا حَاكَ فِي النَّفْسِ وَتَرَدَّدَ فِي الصَّدْرِ، وَإِنْ أَفْتَاكَ النَّاسُ وَأَفْتُوكَ»
( رواه أحمد في «مسنده»: (4/227)، والدارمي في «سننه»: (2/246)، وحسَّنه النووي في «الأربعين»: (192))
ذلك لأنَّ الله سبحانه وتعالى فطر عباده على معرفة الحق والسكون إليه وقَبوله، وقلب المؤمن يطمئنُّ بذكره، وينشرح بنور الإيمان، فيرجع إليه عند الاشتباه، فما سكن إليه وارتاح فهو البرّ، وما لم يحدث له ذلك فهو الإثم، قال تعالى:
﴿أَلاَ بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ﴾
[الرعد: 28]
لأنَّ الفتوى غيرُ التقوى والورع، ولأن المفتي ينظر للظاهر، كما ثبت عنه صلى الله عليه وآله وسلم:
«فَأَقْضِي لَهُ عَلَى نَحْوِ مَا أَسْمَعُ مِنْهُ»
( متفق عليه، تقدم من حديث أم سلمة رضي الله عنها)
والمستفتي يعلم من نفسه ما لا يعلمه المفتي، فيجب على المستفتي ‑والحال هذه‑ ترك الفتوى إذا كانت على خلاف ما حاك في نفسه وتردَّد في صدره، وإنما يعمل بفتواه التي تطمئنُّ نفسه إليها وتسكن.
هذا كله إذا كانت الفتوى تقترن معها الأسباب المانعة من الثقة بفتواه، مؤسّسة غالبًا على مجرَّد الظنِّ أو ميلٍ إلى الهوى من غير دليلٍ شرعيٍّ، أمَّا إذا كانت الفتوى مؤسَّسةً على دليلٍ شرعيٍّ وتقيَّد المفتي بالكتاب والسُّنَّة وكان عالِمًا عدلاً مُتصفًا بالصدق والأمانة، فالواجب على المستفتي أن يأخذ بالفتوى وأن يلتزمها، وإن لم ينشرح صدره لها وحاكت في نفسه، إذ كان النبي صلى اللهُ عليه وآله وسَلَّم يأمر أصحابه بما لا تنشرح صدور بعضهم فيمتنعون أو يتوقَّفون في تنفيذ أمره، وكان هذا من زيادة إيمانهم وإخلاصهم كما حدث في عمرة الحديبية لما أمرهم بنحر هديهم والتحلل من العمرة، وكذلك التفاوض مع قريش وأن يرجعوا من عامهم ونحو ذلك، وعليه فما كان من فتوى مدعمة بدليل شرعي صحيح فليس للمؤمن إلا طاعة الله ورسوله لقوله تعالى:
﴿وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ تَكُونَ لَهُمُ الخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ﴾
[الأحزاب: 36]
بل الواجب التسليم والرِّضا واطمئنان النفس وانشراح الصدر عند تلقيه، لقوله تعالى:
﴿فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾
[النساء: 65].
هذا، والمفتي إن عدل عن فتواه إلى غيرها كأن يتزوَّج المستفتي بفتوى مجتهد ثمَّ غَيَّر المفتي اجتهاده، فلا يلزم على المستفتي أن يسرِّح زوجته، بعد تغيُّر الفتوى، كما لا يلزم المفتي إعلامه بالتغير؛ لأنَّ اجتهاده الثاني لا ينسخ اجتهاده الأول، فلا يعامله معاملة الشرع للنصوص؛ ذلك لأن «الشَّارِعَ رَافِعٌ وَوَاضِعٌ لاَ تَابِعٌ»، فإذا نسخ القول الأول رفع اعتباره رفعًا كليًّا، بخلاف المجتهد ففي كلا اجتهاديه طالب حكم الشرع ومتبع لدليله في اعتقاده أولاً وفي اعتقاده ثانيًا، فإن حصل له غلط في اجتهاده الأول يجوز على نفسه في اجتهاده الثاني ما اعتقده في اجتهاده الأول ما لم يرجع إلى نصٍّ قاطع أو إجماع قائم. ومنه يتبيَّن أن المجتهد ليس برافع ولا واضع، كما هو عليه أمر الشرع؛ لأنَّ قول الشارع إنشاء وأقوال المجتهدين إخبار، فليس لها حكم الناسخ من قول الشارع
( انظر فتوى الشريف التلمساني في «قول الإمام المجتهد المرجوع عنه» من تحقيقنا لمفتاح الوصول: (206))ولذلك تقرَّر أنَّ «الاجْتِهَادَ لاَ يُنْقَضُ بِمِثْلِهِ»
( انظر هذه القاعدة المهمة في الفقه الإسلامي لا سيما في باب الحكم والقضاء في «الأشباه والنظائر» للسيوطي: (101)، و«الأشباه والنظائر» لابن نجيم: (115))
لأنَّ في نقضه عدم استقرار الحكم، ويفضي إلى وقوع الشغب بين الناس، إذ لو نقض الاجتهاد بالاجتهاد لنقض النقض، وتسلسل واضطربت الأحكام، ولم يوثق بها، وقد صحَّ عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه في مسألة المشتركة أنه قال:
«تِلْكَ عَلَى مَا قَضَيْنَا، وَهَذِهِ عَلَى مَا قَضَيْنَا»
(«مصنف عبد الرزاق»: (10/249)، و«السنن الكبرى» للبيهقي: (10/120))
فلم يبطل الأول، ثمَّ جرت هذه الكلمة العمرية مجرى المثل
( «غمر عيون البصائر» للحموي: (1/141)).
وجدير بالذكر أنَّ هذه المسائل المفتى بها جارية مجرى حكم الحاكم، إذ لا يسوغ للحاكم أن ينقض حكم من قبله إذا ما خالفه تحقيقًا لاستقرار الحكم ومنعًا من وقوع الشغب ‑كما تقدَّم‑، أمَّا المسائل الأخرى التي لا تجري هذا المجرى، فإنَّ الأحوط للمستفتي أن يعيد استفتاءه في حكم حادثة تقدَّمت فتواه وعمل بها لاحتمال أن يكون المفتي قد غيَّر اجتهاده أو لاحتمال طروء بعض ما يغيّر حكم الحادثة.
ولا يجب على المفتي إخبار المستفتي بتغيُّر فتواه ‑كما تقدم‑ إلا إذا ظهر للمفتي قطعية خطئه لمقابلة اجتهاده لنصّ لا معارض له أو إجماع أمة، إذ ما تقرَّر في الأصول أن «لاَ اجْتِهَادَ فِي مَوْرِدِ النَّصِّ أَوِ الإِجْمَاعِ»، في هذه الحالة وجب عليه إخطاره بالحكم وإعلامه به.
هذا، والعلماء متَّفقون على أنَّ المجتهد إذا غلب على ظنِّه الحكم بعد اجتهاده لم يجز له تقليد غيره، أمَّا المسائل الشرعية التي لم يحقِّق القول منها ولم يجتهد فالظاهر من مذاهب أهل العلم عدم جواز تقليد غيره مع ضيق الوقت ولا مع سعته، لا فيما يخصه ولا فيما يفتي به؛ لأن التقليد حكم شرعي يفتقر إلى دليل، والأصل عدمه، ولا يلزم من جوازه في حقِّ العامي العاجز عن التوصُّل إلى تحصيل مطلوب في الحكم جواز ذلك في حقِّ من له أهلية التوصُّل إلى الحكم وهو قادر عليه، ووثوقه به أتم ممَّا هو مقلد فيه، ولأنه إذا فرضنا جدلاً جواز تقليد غيره فإنما ذلك بشرط أن لا يوجد منه اجتهاد في ذلك الحكم بنفسه، فإن وجد منه اجتهاد تعيَّن ما صار إليه اجتهاده وسقط التقليد، كالماء مع التيمم، إذ أنَّ ظنَّه أصلٌ وظنُّ غيره بدلٌ فلا يجوز المصير إليه إلاَّ بدليل، علمًا أنه يجوز له أن ينقل للمستفتي مذهب الأئمة إرشادًا إلى ذلك المذهب، ولا يفتي هو بتقليد أحد، كما يجوز له إذا تعذَّر عليه وجود دليل في المسألة المبحوث عنها بعد بذل الوسع واستفراغ الطاقة أن يفتي بمذهب غيره اضطرارًا لا دينًا.
أمَّا العمل بقاعدة «الخُرُوجُ مِنَ الخِلاَفِ مُسْتَحَبٌّ» فإنما ذلك إذا كان مأخذ المخالف قويًّا، أمَّا إذا كان مأخذه ضعيفًا فلا يُقام لخلافه وزنٌ، إذ ليس الورع والحيطة الخروج من الخلاف؛ لأن شرطه أن لا يؤدِّي مراعاته إلى ترك واجب أو إهمال سنة ثابتة أو خرق إجماع، بل الورع في مخالفته لموافقة الشرع، فإنَّ ذلك أحفظ وأبرأ للدِّين والذِّمَّة، ولا يخفى أن تمييز الضعف من القوة يكفي فيه أدنى تأمُّل.
وأخيرًا فاعلم أنَّ العلم درجات والعلماء متفاوتون في المراتب وهم بشر يخطئون، إذ ليس أحد إلاَّ يؤخذ من قوله ويردُّ إلاَّ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، وهم مأجورون في اجتهادهم وإن أخطأوا، ومن حقِّهم إذا أخطأوا أن يُقدم لهم النصح بأسلوب لائقٍ بمقامهم على وجهٍ يؤدِّي الغرض، ولا يصحُّ أن يُشنَّع عليهم ولا على طلبة العلم بسبب خطئهم ولا اتهامهم بالتعالم أو نبزهم بالتقليد لتدفع أقوالهم من أجلها، والعبرة بالتبيُّن والتثبُّت الذي أمر به تعالى فيمن تكلم فيه، والمشهود له بالعلم والفضل في الأمة فإن خطأه بالنسبة لصوابه يسير، والاعتبار في الحكم عائد إلى كثرة فضائله، إذ «لِلأَكْثَرِ حُكْمُ الكُلِّ»، وما كان من كلام مبني على الهوى أو الحسد أو العصبية فإن كان من قرينه فإنَّ «كَلاَمَ الأَقْرَانِ مِنْ أَهْلِ العِلْمِ بَعْضِهِمْ فِي بَعْضٍ يُطْوَى وَلاَ يُرْوَى»، وإن كان من غير عالمٍ فلا يجوز أن يحكم على العالم بالخطإ والتعالم والتقليد؛ لأنَّ الجاهل لا يعرف خطأ نفسه فأنَّى له أن يعرف خطأ غيرِه، والطعن في ذوي الفضل والقدح فيهم سبيل أهل الزيغ والضلال؛ لأن الطعن في حملة الدين هو الطعن في الدِّين.
وإن كان من حق جميع المؤمنين التعاون على البرِّ والتقوى والتماس العذر لبعضهم وإحسان الظن بينهم، فالعلماء وطلاب العلم أحقُّ بذلك وأولى، والتعاون بينهم أمرٌ محمود وممدوح، ودفع الخلاف المفضي إلى التنازع والتدابر واجب إذا ما كان مفروضًا على العامة الاستقامة عليه، فالعلماء من بابٍ أولى، لكونهم خير الأمة ومحلّ ثقة الناس بهم، ثمّ من يليهم من طلاب العلم، إذ لا سبيل لتكوين العلماء إلاّ الأخذ من العلماء، فلذلك وجب السعي إليهم وموالاتهم ومحبتهم؛ لأنَّ طاعتهم تبع لطاعة الله تعالى، إذ هم الموجهون والمرشدون والأدلاء على حكم الله، فينبغي حال الاختلاف بين الأقران أو بين الشيخ وتلميذه عدم المبادرة إلى الاعتراض قبل التوثُّق أو التقليل من أهمية أحدهما لآخر أو اتهامهم قبل اتهام رأيه أو التشنيع قبل التثبت والنصح، فإنَّ سلوك مثل هذا المنهاج في التعامل يؤدِّي بطريقٍ أو بآخرَ إلى التدابر والمصادمة والهجران ويوقع العداوة والبغض، ولا شكَّ أنَّ هذه النتيجة مذمومة شرعًا، والوسيلة إليها تأخذ حكمها؛ لأن «الوَسَائِلَ لَهَا حُكْمُ المَقَاصِدِ»، «وَكُلُّ مَا أَدَّى إِلَى حَرَامٍ فَهُوَ حَرَامٌ»، بل ينبغي أن تكون المعاملة مبنيةً على التآخي والتعاون في الخير مع صفاء القلوب ونبذ الفُرقة وتحقيق الأُلفة فإنها لأجل مكانتها ولعظيم شرفها امتنَّ الله تعالى بها على عباده حيث قال عز وجل: ﴿وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا﴾
[آل عمران: 103]
وقال عزَّ وجلَّ ‑أيضًا‑:
﴿لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ﴾
[الأنفال: 63].
والعلمُ عند الله تعالى، وآخر دعوانا أنِ الحمد لله ربِّ العالمين، وصلى الله على نبيِّنا محمَّد وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدِّين، وسَلَّم تسليمًا.
الجزائر في: 25 جمادى الثانية 1430ﻫ
الموافق ﻟ: 18 يونيو 2009م
لفضيلة الشيخ أبي عبد المعز محمد علي فركوس حفظه الله تعالى
الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على من أرسله اللهُ رحمةً للعالمين، وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، أمَّا بعد:
فالمعلوم أنه لا يصلح لمرتبة التبليغ بالرواية والفتيا إلاّ من اتصف ظاهرًا بالعلم الشرعي الذي يبلِّغه على وجه القوة فيه، كما يتحلى بالعدالة التي يتبلور فيها الصدق والأمانة فيما ينقله ويبيّنه مقرونًا بسيرة مرضية وأخلاق حسنة من حِلم ووقار وسكينة وعدلٍ في أقواله وأفعاله وأن يكون متشابهًا بالسر والعلانية في مدخله ومخرجه وأحواله مع معرفته بالناس وكفايته عنهم، وقد يعتري الخلل ويظهر النقص في الفتوى بحسب انتقاص خصال المفتي وشروطه ودعائم فتواه كمن يُولَّى من الجهال والفساق وأهل الهوى منصب الإفتاء الذين يفتون للكبير بالتسهيل وللصغير بضدها، وللصديق فتوى تناسبه وللعدو أخرى تضر به، وضمن هذا المعنى السائد والحكم الجائر بقول المفتي على غير مقتضى الشرع، يحكي ابن حزم ‑رحمه الله‑ حوادث غريبة صادرة من تولية الجهال والفساق وأهل الهوى لمنصب الإفتاء حيث يقول: «ولقد أذكرنا هذا مفتيًا كان عندنا بالأندلس وكان جاهلاً، فكانت عادته أن يتقدمه رجلان، كان مدار الفتيا عليهما في ذلك الوقت، فكان يكتب تحت فتياهما: "أقول بما قاله الشيخان"، فقضى أن ذينك الشيخين اختلفا، فلما كتب تحت فتياهما ما ذكرنا، قال له بعض من حضر: إن الشيخين اختلفا؟ فقال: وأنا أختلف باختلافهما!!؟»
(«الإحكام» لابن حزم: (6/240)).
وقال ‑رحمه الله‑ في موضع آخر:
«وقد شهدنا نحن قومًا فُسَّاقًا حملوا اسم التقدُّم في بلدنا، وهم مِمَّن لا يَحِلُّ لهم أن يفتوا في مسألة من الديانة، ولا يجوز قَبول شهادتهم. وقد رأيت أنا بعضهم، وكان لا يقدم عليه في وقتنا هذا أحد في الفتيا، وهو يتغطى الديباج الذي هو الحرير المحض لحافًا، ويتخذ في مَنْزِله الصور ذوات الأرواح من النحاس والحديد تقذف الماء أمامه، ويفتي بالهوى للصديق فتيا، وعلى العدو فتيا ضِدَّها، ولا يستحي من اختلاف فتاويه على قدر ميله إلى من أفتى وانحرافه عليه، شاهدنا نحن هذا عيانًا، وعليه جمهور أهل البلد إلى قبائح مستفيضة، لا نستجيز ذكرها لأننا لم نشاهدها»
( المصدر السابق: (6/309)).
ولذلك لا يجوز للعامِّي أو لِطالب علمٍ أن يسأل من يظُنُّه غير عالمٍ ولا متديِّنٍ أو مجهول الحال وغيره، لاحتمال انتفاء صفة العلم والاجتهاد فيه، إذ الأصل في الإنسان عدم العلم، لقوله تعالى:
﴿وَاللهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئًا﴾
[النحل: 78]
بل الواجب سؤال أهل العلم والاجتهاد من أهل الدِّين والصلاح عمَّا يعرض له من مسائل لمعرفة حكم الله تعالى، لقوله عزّ وجلّ:
﴿فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ﴾
[النحل: 43، الأنبياء: 7]
ولقوله صلى الله عليه و آله وسلم:
«أَلاَ سَأَلُوا إِذَا لَمْ يَعْلَمُوا، فَإِنَّمَا شِفَاءُ العَيِّ السُّؤَالُ»
( أخرجه أبو داود برقم: (336)، وابن ماجه برقم: (571)، وصحَّحه الألباني في «صحيح الجامع»: (2/804))
فإن تعدَّد في بلد واحدٍ جماعة من المؤهَّلين للفتوى ينبغي التفريق بين من كان من طُلاَّب هذا العلم القادرين على وزن الآراء والمتمكِّنين من تقويمها، وهم دون رتبة الاجتهاد، أو على الأقل من يتسنَّى لهم معرفة الدليل وكيفية أخذ الحكم من ذلك الدليل، أو من ذوي القدرة على معرفة الحقِّ وفهم الدليل، وبين من كان عاميًّا صرفًا جاهلاً عاجزًا عن معرفة حكم الله تعالى، فالواجب على الأوَّلين تحرِّي الأفضل واستفتاء الأعلم من أهل العدالة والصلاح، ومتابعته فيما أفتى به إذا لم يمكنهم عند اختلاف المفتين معرفة الأقوال في القوة والضعف، إذ مع الإمكان فـ «العَمَلُ بِالأَقْوَى دَلِيلاً وَالأَصَحِّ نَظَرًا وَاجِبٌ»، بغضِّ النظر عن الأعلم من دونه؛ لأنَّ الأعلم صفة للمجتهد في جملة المسائل ومعظمها، وقد لا يكون على هذه الصفة في بعضها، فإن ظهر الحقُّ وتبيَّن وجب المصير إلى متابعته بغضِّ النظر عن صفة المفتي، أمَّا إذا انتفى ظهور الحق عند المستفتي وجب المصير إلى الأخذ بالأعلم ومتابعة الأفضل؛ لأنَّه أغلب على الظنِّ وأهدى إلى أسرار الشرع، وطالب العلم ومن يقوم مقامه له سبيلٌ إلى معرفة الأعلم: إمَّا بالشهرة والتسامع ورجوع الناس إليه، وإمَّا عن طريق مجالسته ومناقشته ووزن فتاويه، كما يظهر الأعلم بأكثرية إصابته للصواب أو إذعان المفضول له وتقديمه.
أمَّا العامِّي المحض فله اتباع من يثق بدينه شريطة إلمامه بالعلم، ويهتدي إلى معرفة ذلك بالشهرة والتوجيه، وداعي التفريق بين المستفتين هو ما يجب افتراضه في مجتمع الصحابة رضي الله عنهم بين الحاضر والبادي، فإنَّ الحاضر في المدن والقرى إنَّما كان يسأل كبار الصحابة المشهورين بالفتوى، وقد أشار إلى ذلك النبي صلى الله عليه وآله وسلم:
«عَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ الْمَهْدِيِّينَ، تَمَسَّكُوا بِهَا، وَعَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ»
(أخرجه أبو داود في «سننه»: (4/200، 201)، برقم: (4607)، والترمذي في «سننه»: (5/44) برقم: (2676)، وقال: «حديث حسن صحيح»)
وقوله صلى الله عليه وآله وسلم:
«... أَقْرَؤُهُمْ لِكِتَابِ اللهِ أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ، وَأَفْرَضُهُمْ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ، وَأَعْلَمُهُمْ بِالحَلاَلِ وَالحَرَامِ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ...»
( أخرجه الترمذي برقم: ( 3793-3794 )، وابن ماجه: (1/55) برقم: (154)، والحاكم: (3/422) من حديث أنس رضي الله عنه، قال الترمذي: «حديث حسن صحيح»، وصحَّحه الألباني في «السلسلة الصحيحة»: (3/223) رقم: (1224))
ومن فَرْضُه اتباع المجتهدين أخذ بقولهم لكونهم أعلم وأفضل، ذلك لأنه المستطاع من تقوى الله المأمور به كل أحد، وقد ذكرنا أنَّ الأفضلية والأعلمية في عموم المسائل لا يلزم منها في بعض المسائل، لذلك لم يرد نكير عن أحد منهم في اتّباع المفضول واستفتائه مع وجود الفاضل، خلافًا لما كان عليه الأمر بالنسبة للبادي والأعرابي، فلم يكلفهم أحد الاجتهاد في أعيان المجتهدين واتباع الفاضل دون المفضول، فقد كان السلف رضي الله عنهم يتدافعون الفتوى ويتورعون عن الإفتاء، ويود أحدهم أن يكفيه الجواب غيره، ومن ثَمَّ علمنا أنَّ المفضول لا يفتي في مسألة يكفيه غيره إيَّاها، وخاصة إن كان فاضلاً، أمَّا إذا تعيَّنت عليه بذل جهده وطاقته ووسعه في معرفة حكمها، مستعينًا بالله تعالى
( انظر: «جامع بيان العلم وفضله» لابن عبد البرّ: (2/163)، «الفقيه والمتفقه» للخطيب البغدادي: (2/160)، «إعلام الموقعين» لابن القيّم: (1/33))
مع ما فيه من استشارة من يثق بدينه وعلمه، من غير أن يستقل بالجواب ذهابًا بنفسه وارتفاعًا بها، وقد أثنى الله سبحانه وتعالى على المؤمنين بأَن أَمْرَهم شورى بينهم.
وفي كلا الحالتين سواء سأل المفتي الأعلم والأدين أو ما دونه فعليه أن يسعى إلى معرفة دليل المفتي أو تصريحه بأن ما أفتاه هو حكم الله وأمره، قال ابن حزم –رحمه الله‑:
«فعلى كُلِّ أحد حظه من الاجتهاد، ومقدار طاقته منه، فاجتهاد العامي إذا سأل العالم على أمور دينه فأفتاه أن يقول له: هكذا أمر الله ورسوله؟ فإن قال له: نعم، أخذ بقوله، ولم يلزمه أكثر من هذا البحث»
( «الإحكام» لابن حزم: (6/296))
وقال الشوكاني رحمه الله:
«والجاهل يمكنه الوقوف على الدليل بسؤال علماء الشريعة على طريقة طلب الدليل، واسترواء النص، وكيف حكم به في محكم كتاب الله أو على لسان رسوله صلى اللهُ عليه وآله وسَلَّم في تلك المسألة فيفيدونه النص إن كان ممن يعقل الحجّة إذا دل عليها، أو يفيدونه مضمون النص بالتعبير عنه بعبارة يفهمها فهم الرواة وهو مستروٍ، وهذا عامل بالرواية لا بالرأي، والمقلد عامل بالرأي لا بالرواية؛ لأنه يقبل قول الغير من دون أن يطالبه بحجة»
( «القول المفيد» للشوكاني: (8).
وتأسيسًا على ما تقدَّم فعلى المستفتي -في هذه الأحوال- العمل بالفتوى فيما اطمأنت نفسه إليها مع وفرة الثقة وسكون النفس إلى المفتي، أمَّا إن وجدت أسباب مانعة من الثقة بفتواه كأن يُرمى بالجهل والبدع، أو المحاباة في فتواه، أو يعرف عنه الفتوى بالحِيَل والرُّخَص المخالفة للأحكام الشرعية والمجانبة لتعاليم الدين، أو عدم التزامه في فتواه بالكتاب والسُّنَّة والتقيد بمدلولَيْهما، فلا يجوز -والحال هذه- العمل بفتواه، ولا تُخلِّصه هذه الفتوى من الله، لعلمه أنَّ الأمر في سريرته على خلاف ما أُفتي به، ومثيله في النظائر: قضاء القاضي له مع علمه أنَّ الحكم في الباطن على خلاف ما قضى به في الظاهر، فإن ذلك لا ينجيه من الله، ولا ينفعه حكم القاضي، وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال:
«فَمَنْ قَضَيْتُ لَهُ بِحَقِّ مُسْلِمٍ فَإِنَّمَا هِيَ قِطْعَةٌ مِنَ النَّارِ فَلْيَأْخُذْهَا أَوْ فَلْيَتْرُكْهَا»
(متفق عليه: أخرجه البخاري: (5/107)، برقم: (245، ومسلم: (12/4) من حديث أم سلمة رضي الله عنها)
بل على المستفتي تَكرار الاستفتاء إذا انتفت الثقة عن المفتي للأسباب المانعة على نحو ما تقدم، ويعيد سؤاله حتَّى تحصل له الطمأنينة الكافية للعمل بالفتوى.
وحقيق بالتنبيه أنه لا يجوز للمستفتي ‑إجماعًا‑ تتبع الرخص والتخير بين أقوال المفتين بالرأي المجرَّد والتشهِّي، في هذا المعنى يقول ابن القيم ‑رحمه الله‑:
«وبالجملة فلا يجوز العمل والإفتاء في دين الله بالتشهي والتخير وموافقة الغرض، فيطلب القول الذي يوافق غرضه وغرض من يحابيه فيعمل به، ويفتي به، ويحكم به، ويحكم على عدوه ويفتيه بضده، وهذا من أفسق الفسوق وأكبر الكبائر، والله المستعان»
( «إعلام الموقعين» لابن القيم: (4/211))
بل على المستفتي أن يعمل بما يثلج صدره وتسكن النفس إليه ممَّا يراه قدر استطاعته الأقربَ للصواب، لقوله صلى الله عليه وآله وسلم من حديث النواس بن سمعان رضي الله عنه:
«الْبِرُّ حُسْنُ الْخُلُقِ وَالإِثْمُ مَا حَاكَ فِي نَفْسِكَ وَكَرِهْتَ أَنْ يَطَّلِعَ عَلَيْهِ النَّاسُ»
( رواه مسلم برقم: (2553) من حديث االنوّاس بن سمعان رضي الله عنه)
وكذلك قوله صلى الله عليه وآله وسلم من حديث وابصة بن معبد رضي الله عنه:
«اسْتَفْتِ قَلْبَكَ، الْبِرُّ مَا اطْمَأَنَّتْ إِلَيْهِ النَّفْسُ واطْمَأَنَّ إِلَيْهِ الْقَلْبُ، وَالإِثْمُ مَا حَاكَ فِي النَّفْسِ وَتَرَدَّدَ فِي الصَّدْرِ، وَإِنْ أَفْتَاكَ النَّاسُ وَأَفْتُوكَ»
( رواه أحمد في «مسنده»: (4/227)، والدارمي في «سننه»: (2/246)، وحسَّنه النووي في «الأربعين»: (192))
ذلك لأنَّ الله سبحانه وتعالى فطر عباده على معرفة الحق والسكون إليه وقَبوله، وقلب المؤمن يطمئنُّ بذكره، وينشرح بنور الإيمان، فيرجع إليه عند الاشتباه، فما سكن إليه وارتاح فهو البرّ، وما لم يحدث له ذلك فهو الإثم، قال تعالى:
﴿أَلاَ بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ﴾
[الرعد: 28]
لأنَّ الفتوى غيرُ التقوى والورع، ولأن المفتي ينظر للظاهر، كما ثبت عنه صلى الله عليه وآله وسلم:
«فَأَقْضِي لَهُ عَلَى نَحْوِ مَا أَسْمَعُ مِنْهُ»
( متفق عليه، تقدم من حديث أم سلمة رضي الله عنها)
والمستفتي يعلم من نفسه ما لا يعلمه المفتي، فيجب على المستفتي ‑والحال هذه‑ ترك الفتوى إذا كانت على خلاف ما حاك في نفسه وتردَّد في صدره، وإنما يعمل بفتواه التي تطمئنُّ نفسه إليها وتسكن.
هذا كله إذا كانت الفتوى تقترن معها الأسباب المانعة من الثقة بفتواه، مؤسّسة غالبًا على مجرَّد الظنِّ أو ميلٍ إلى الهوى من غير دليلٍ شرعيٍّ، أمَّا إذا كانت الفتوى مؤسَّسةً على دليلٍ شرعيٍّ وتقيَّد المفتي بالكتاب والسُّنَّة وكان عالِمًا عدلاً مُتصفًا بالصدق والأمانة، فالواجب على المستفتي أن يأخذ بالفتوى وأن يلتزمها، وإن لم ينشرح صدره لها وحاكت في نفسه، إذ كان النبي صلى اللهُ عليه وآله وسَلَّم يأمر أصحابه بما لا تنشرح صدور بعضهم فيمتنعون أو يتوقَّفون في تنفيذ أمره، وكان هذا من زيادة إيمانهم وإخلاصهم كما حدث في عمرة الحديبية لما أمرهم بنحر هديهم والتحلل من العمرة، وكذلك التفاوض مع قريش وأن يرجعوا من عامهم ونحو ذلك، وعليه فما كان من فتوى مدعمة بدليل شرعي صحيح فليس للمؤمن إلا طاعة الله ورسوله لقوله تعالى:
﴿وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ تَكُونَ لَهُمُ الخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ﴾
[الأحزاب: 36]
بل الواجب التسليم والرِّضا واطمئنان النفس وانشراح الصدر عند تلقيه، لقوله تعالى:
﴿فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾
[النساء: 65].
هذا، والمفتي إن عدل عن فتواه إلى غيرها كأن يتزوَّج المستفتي بفتوى مجتهد ثمَّ غَيَّر المفتي اجتهاده، فلا يلزم على المستفتي أن يسرِّح زوجته، بعد تغيُّر الفتوى، كما لا يلزم المفتي إعلامه بالتغير؛ لأنَّ اجتهاده الثاني لا ينسخ اجتهاده الأول، فلا يعامله معاملة الشرع للنصوص؛ ذلك لأن «الشَّارِعَ رَافِعٌ وَوَاضِعٌ لاَ تَابِعٌ»، فإذا نسخ القول الأول رفع اعتباره رفعًا كليًّا، بخلاف المجتهد ففي كلا اجتهاديه طالب حكم الشرع ومتبع لدليله في اعتقاده أولاً وفي اعتقاده ثانيًا، فإن حصل له غلط في اجتهاده الأول يجوز على نفسه في اجتهاده الثاني ما اعتقده في اجتهاده الأول ما لم يرجع إلى نصٍّ قاطع أو إجماع قائم. ومنه يتبيَّن أن المجتهد ليس برافع ولا واضع، كما هو عليه أمر الشرع؛ لأنَّ قول الشارع إنشاء وأقوال المجتهدين إخبار، فليس لها حكم الناسخ من قول الشارع
( انظر فتوى الشريف التلمساني في «قول الإمام المجتهد المرجوع عنه» من تحقيقنا لمفتاح الوصول: (206))ولذلك تقرَّر أنَّ «الاجْتِهَادَ لاَ يُنْقَضُ بِمِثْلِهِ»
( انظر هذه القاعدة المهمة في الفقه الإسلامي لا سيما في باب الحكم والقضاء في «الأشباه والنظائر» للسيوطي: (101)، و«الأشباه والنظائر» لابن نجيم: (115))
لأنَّ في نقضه عدم استقرار الحكم، ويفضي إلى وقوع الشغب بين الناس، إذ لو نقض الاجتهاد بالاجتهاد لنقض النقض، وتسلسل واضطربت الأحكام، ولم يوثق بها، وقد صحَّ عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه في مسألة المشتركة أنه قال:
«تِلْكَ عَلَى مَا قَضَيْنَا، وَهَذِهِ عَلَى مَا قَضَيْنَا»
(«مصنف عبد الرزاق»: (10/249)، و«السنن الكبرى» للبيهقي: (10/120))
فلم يبطل الأول، ثمَّ جرت هذه الكلمة العمرية مجرى المثل
( «غمر عيون البصائر» للحموي: (1/141)).
وجدير بالذكر أنَّ هذه المسائل المفتى بها جارية مجرى حكم الحاكم، إذ لا يسوغ للحاكم أن ينقض حكم من قبله إذا ما خالفه تحقيقًا لاستقرار الحكم ومنعًا من وقوع الشغب ‑كما تقدَّم‑، أمَّا المسائل الأخرى التي لا تجري هذا المجرى، فإنَّ الأحوط للمستفتي أن يعيد استفتاءه في حكم حادثة تقدَّمت فتواه وعمل بها لاحتمال أن يكون المفتي قد غيَّر اجتهاده أو لاحتمال طروء بعض ما يغيّر حكم الحادثة.
ولا يجب على المفتي إخبار المستفتي بتغيُّر فتواه ‑كما تقدم‑ إلا إذا ظهر للمفتي قطعية خطئه لمقابلة اجتهاده لنصّ لا معارض له أو إجماع أمة، إذ ما تقرَّر في الأصول أن «لاَ اجْتِهَادَ فِي مَوْرِدِ النَّصِّ أَوِ الإِجْمَاعِ»، في هذه الحالة وجب عليه إخطاره بالحكم وإعلامه به.
هذا، والعلماء متَّفقون على أنَّ المجتهد إذا غلب على ظنِّه الحكم بعد اجتهاده لم يجز له تقليد غيره، أمَّا المسائل الشرعية التي لم يحقِّق القول منها ولم يجتهد فالظاهر من مذاهب أهل العلم عدم جواز تقليد غيره مع ضيق الوقت ولا مع سعته، لا فيما يخصه ولا فيما يفتي به؛ لأن التقليد حكم شرعي يفتقر إلى دليل، والأصل عدمه، ولا يلزم من جوازه في حقِّ العامي العاجز عن التوصُّل إلى تحصيل مطلوب في الحكم جواز ذلك في حقِّ من له أهلية التوصُّل إلى الحكم وهو قادر عليه، ووثوقه به أتم ممَّا هو مقلد فيه، ولأنه إذا فرضنا جدلاً جواز تقليد غيره فإنما ذلك بشرط أن لا يوجد منه اجتهاد في ذلك الحكم بنفسه، فإن وجد منه اجتهاد تعيَّن ما صار إليه اجتهاده وسقط التقليد، كالماء مع التيمم، إذ أنَّ ظنَّه أصلٌ وظنُّ غيره بدلٌ فلا يجوز المصير إليه إلاَّ بدليل، علمًا أنه يجوز له أن ينقل للمستفتي مذهب الأئمة إرشادًا إلى ذلك المذهب، ولا يفتي هو بتقليد أحد، كما يجوز له إذا تعذَّر عليه وجود دليل في المسألة المبحوث عنها بعد بذل الوسع واستفراغ الطاقة أن يفتي بمذهب غيره اضطرارًا لا دينًا.
أمَّا العمل بقاعدة «الخُرُوجُ مِنَ الخِلاَفِ مُسْتَحَبٌّ» فإنما ذلك إذا كان مأخذ المخالف قويًّا، أمَّا إذا كان مأخذه ضعيفًا فلا يُقام لخلافه وزنٌ، إذ ليس الورع والحيطة الخروج من الخلاف؛ لأن شرطه أن لا يؤدِّي مراعاته إلى ترك واجب أو إهمال سنة ثابتة أو خرق إجماع، بل الورع في مخالفته لموافقة الشرع، فإنَّ ذلك أحفظ وأبرأ للدِّين والذِّمَّة، ولا يخفى أن تمييز الضعف من القوة يكفي فيه أدنى تأمُّل.
وأخيرًا فاعلم أنَّ العلم درجات والعلماء متفاوتون في المراتب وهم بشر يخطئون، إذ ليس أحد إلاَّ يؤخذ من قوله ويردُّ إلاَّ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، وهم مأجورون في اجتهادهم وإن أخطأوا، ومن حقِّهم إذا أخطأوا أن يُقدم لهم النصح بأسلوب لائقٍ بمقامهم على وجهٍ يؤدِّي الغرض، ولا يصحُّ أن يُشنَّع عليهم ولا على طلبة العلم بسبب خطئهم ولا اتهامهم بالتعالم أو نبزهم بالتقليد لتدفع أقوالهم من أجلها، والعبرة بالتبيُّن والتثبُّت الذي أمر به تعالى فيمن تكلم فيه، والمشهود له بالعلم والفضل في الأمة فإن خطأه بالنسبة لصوابه يسير، والاعتبار في الحكم عائد إلى كثرة فضائله، إذ «لِلأَكْثَرِ حُكْمُ الكُلِّ»، وما كان من كلام مبني على الهوى أو الحسد أو العصبية فإن كان من قرينه فإنَّ «كَلاَمَ الأَقْرَانِ مِنْ أَهْلِ العِلْمِ بَعْضِهِمْ فِي بَعْضٍ يُطْوَى وَلاَ يُرْوَى»، وإن كان من غير عالمٍ فلا يجوز أن يحكم على العالم بالخطإ والتعالم والتقليد؛ لأنَّ الجاهل لا يعرف خطأ نفسه فأنَّى له أن يعرف خطأ غيرِه، والطعن في ذوي الفضل والقدح فيهم سبيل أهل الزيغ والضلال؛ لأن الطعن في حملة الدين هو الطعن في الدِّين.
وإن كان من حق جميع المؤمنين التعاون على البرِّ والتقوى والتماس العذر لبعضهم وإحسان الظن بينهم، فالعلماء وطلاب العلم أحقُّ بذلك وأولى، والتعاون بينهم أمرٌ محمود وممدوح، ودفع الخلاف المفضي إلى التنازع والتدابر واجب إذا ما كان مفروضًا على العامة الاستقامة عليه، فالعلماء من بابٍ أولى، لكونهم خير الأمة ومحلّ ثقة الناس بهم، ثمّ من يليهم من طلاب العلم، إذ لا سبيل لتكوين العلماء إلاّ الأخذ من العلماء، فلذلك وجب السعي إليهم وموالاتهم ومحبتهم؛ لأنَّ طاعتهم تبع لطاعة الله تعالى، إذ هم الموجهون والمرشدون والأدلاء على حكم الله، فينبغي حال الاختلاف بين الأقران أو بين الشيخ وتلميذه عدم المبادرة إلى الاعتراض قبل التوثُّق أو التقليل من أهمية أحدهما لآخر أو اتهامهم قبل اتهام رأيه أو التشنيع قبل التثبت والنصح، فإنَّ سلوك مثل هذا المنهاج في التعامل يؤدِّي بطريقٍ أو بآخرَ إلى التدابر والمصادمة والهجران ويوقع العداوة والبغض، ولا شكَّ أنَّ هذه النتيجة مذمومة شرعًا، والوسيلة إليها تأخذ حكمها؛ لأن «الوَسَائِلَ لَهَا حُكْمُ المَقَاصِدِ»، «وَكُلُّ مَا أَدَّى إِلَى حَرَامٍ فَهُوَ حَرَامٌ»، بل ينبغي أن تكون المعاملة مبنيةً على التآخي والتعاون في الخير مع صفاء القلوب ونبذ الفُرقة وتحقيق الأُلفة فإنها لأجل مكانتها ولعظيم شرفها امتنَّ الله تعالى بها على عباده حيث قال عز وجل: ﴿وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا﴾
[آل عمران: 103]
وقال عزَّ وجلَّ ‑أيضًا‑:
﴿لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ﴾
[الأنفال: 63].
والعلمُ عند الله تعالى، وآخر دعوانا أنِ الحمد لله ربِّ العالمين، وصلى الله على نبيِّنا محمَّد وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدِّين، وسَلَّم تسليمًا.
الجزائر في: 25 جمادى الثانية 1430ﻫ
الموافق ﻟ: 18 يونيو 2009م