المتاجرة باسم الإسلام للشيخ سعد بن عبد الرحمن الحصين رحمه الله تعالى
بسم الله الرحمن الرحيم
أجْرَت مجلة الشريعة الأردنية في عددها 406 لشهر رجب عام 1420هـ حواراً مع أحد القائمين في البحرين على ما سُمِّي بالبنك الإسلامي، ومن هذا الحوار ظهرت لي الملحوظات التالية:
1- لم يوصف قول ولا عمل ولا علم بالإسلامي في الكتاب ولا السنة ولا فقه علماء الأمة في القرون المفضلة، وإنما ورد (في القرون الوسطى) استعمال هذا الوصف (قليلاً جداً) لما هو من الإسلام. ثم انتشر الوصف بين المستشرقين في القرون المتأخرة، ثم قلّده المفكرون (لا العلماء) في هذا العصر دون تمحيص كما هي عادتهم.
2- حكم (البنكي الإسلامي) على بنك إسلامي بأنه أُسِّس على التقوى وعلى بنك إسلامي آخر بأنه لم يُؤسس على التقوى؛ والتقوى مما يُخفِى الصدور وعلمه لله وحده، ولا يؤخذ بالقرائن في هذا الأمر؛ بدليل قول النبي صلى الله عليه وسلم: ” فهلا شققت عن قلبه“ متفق عليه.
3- أرسل البنكي الإسلامي للسانه العنان في القول على شرع الله فِقْهاً وتفسيراً، فتجاوز حدود خبرته الاقتصادية إلى حمى العلم الشرعي.
4- قرّر نجاح تجربة البنوك الإسلامية بمجرد (زيادة عددها وزيادة رأس مالها وأرباحها، وبتقليد البنوك التقليدية لها مُنْجرة وراء الأرباح الكبيرة التي حققتها)، وما يتعلق بشرع الله (إذا كان للبنوك الإسلامية علاقة حقيقيّة به) لا يوزن بكثرة العدد أو المال أو الربح أو الغلبة، بل إن الكثرة قد تُؤْخذ دليلاً على الشر أكثر مما تُؤخذ دليلاً على الخير، وقد أنزل الله وَحْيَه في آيات وأحاديث كثيرة في ذَمِّ الأكثرين ومَدْح الأقلين لا العكس.
5- أحسن البنكي الإسلامي في إرشارته إلى جادة البنوك الإسلامية إلى (الاهتمام بأكثر من زيادة الأرباح)، ولكنه ـ للأسف ـ قَصَر الاهتمام المطلوب على (الإدارة والتدريب والمظهر والمساهمة في التنمية) وهذا يبين عدم إدراكه ـ مثل غيره من القائمين على البنوك الإسلامية ـ أهم نقص في البنوك والمصارف الإسلامية المشهورة اليوم: الحاجة إلى تصحيح منهاجها لتوافق شرع الله لا أن تمتطيه بالتحايل عليه استغلالاً للعاطفة الإسلامية من جهة وتحقيقاً للربح الدنيوي من جهة. والحقُّ أن العاطفة الدينية التي قَدَّر الله أن تبرز في هذا العصر منذ بضعة عقود في كل مكان وفي كل دين قد استغلها كل ذي مصلحة خاصة: التاجر والحزبي والسياسي، وظهر هذا الاستغلال أسوأ ما ظهر في بلاد المسلمين وتولى كِبْرَهُ الحزبيون والحركيون الإسلاميون.
6- ولا بدّ لما سُمِّي بالبنك الإسلامي أن تزيد أرباحه عن أرباح البنك التقليدي (إذا توفر قدر معقول من حسن الإدارة) لأن الأول يتميز عن الثاني (إضافة إلى استغلال اسم الدين) بأنه يأخذ أكثر مما يأخذ المرابي الصريح، ولا يعطي إلا صكّ الغفران في قروضه.
7- عَجِبْتُ لاستنكار البنكي الإسلامي افتتاح فروع إسلامية في البنوك التقليدية، وكان الأولى به أن يحمد الله على ذلك إذا كان حقاً يسعى إلى إيجاد بديل للبنك الربوي لا إلى احتكار التجارة باسم الدين.
8- ولكن التعرف إلى نشأة البنوك الإسلامية في أحسن أحوالها يشير إلى أسوأ الاحتمالات، وإلى القارئ المثال:
أرادت واحدة من أكبر شركات الصّرافة في بلاد المسلمين تطوير تجارتها المصرفية فأوحى إليها بعض العاملين فيها (من قادة أحد الأحزاب الإسلامية المبتدعة والمستفيدين مما تجنيه من فوائد البنوك العالمية):
1- أن يضاف إلى اسم الشركة وصف (الإسلامية).
2- وأن يكون على رأس المساهمين فيها بعض العلماء أو أولادهم حتى تجتذب أكثر الناس إليها.
أما الخدعة الأولى: فلم تكن مستساغة لأن دولة المنشأ ترفض السّماح بالمتاجرة الدنيوية باسم الدين، وتَعُدُّ ذلك مخالفة شرعية وغِشاً تجارياً، ومن جهة أخرى فهذه الدولة ـ خاصة ـ لا تُقِر تقسيم المواطنين وهم جميعاً مسلمون ـ بين وصف الإسلامي ووصف العلماني، لأنها الدولة الوحيدة ـ منذ القرون المفضلة ـ التي تُنْشأ من أول يوم على الدعوة إلى التوحيد والسنة وتحكيم شرع الله (اعتقاداً وعبادة ومعاملة) ولا تزال على ذلك بعد ما يقرب من ثلاثة قرون، وإن دخل من النقص في المعاملات ما نرجوا الله أن يجبره وأن يردّنا جميعاً إلى دينه ردّاً جميلاً.
وقد وُفِّقَت الدولة في الأمرين؛ فلا يجوز أن يُنْسب إلى الإسلام إلا ما أنزل الله به وَحْيَه (على فهم فقهاء الأُمة الأُول)، ولا يجوز لدولة الدعوة أن تُقِرَّ وصف شركةٍ أو مستشفى أو مدرسةٍ أو بنكٍ أو نادٍ بالإسلامي أو الإسلامية لما في ذلك من استغلال الدين للأغراض الدنيوية.
وإذا أُجيز للجماعة المسلمة أن يَخْتار أفرادها بين ما يوافق الدين وما يخالفه هُدِّدت ميزة أخرى للدولة المسلمة: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ومحاولة إصلاح الفساد وتصحيح الخطأ.
وفيما يتعلق بالمصارف والبنوك فليس طريق الإصلاح مجرّد تغيير العنوان أو الاسم، بل في وزن معاملاتها بميزان الشريعة؛ فما وافقها ـ وهو الأكثر ـ أُبقي عليه، وما خالفها ـ وهو الأقل ـ وجب السّعي لتغييره حثيثا.
وأما الخدعة الثانية: فقد احتاجت إلى خدعةٍ أخرى يكثر استعمالها مِنْ قِبَل الحزبيين والحركيين: ادّعاء المنتفعين من الفوائد الربوية التي يأخذها المصرف من البنوك الدولية أن هذه الفوائد ستذهب إلى مجلس الكنائس العالمي إن تركها المسلمون، (وهي أكبر عقبة قد تحول بين العلماء والمصرف والحزبيين من استمتاع بعضهم ببعض)، وهذه الخدعة بيّنة البطلان لمن يريد أن يتثبت، ولكن العلماء المعنيين استساغوها لجهلهم بواقع المعاملات المالية في الخارج، وإلا لرَفَضَ أكثرهم أن يكونوا أو يكون أبناؤهم مؤسسين أو مساهمين أو قائمين على الباطل فضلاً عن تزيينه لبقية المسلمين الذين يتخذونهم قدوة، هذا ظني بهم والله حسيبهم.
وفي مجلة (بِزْنِسْ وِيْك) الصادرة في2004/11/29م تقرير يحصي نفقات خمسين من أكبر المتبرعين في أمريكا بعشرات ألوف الملايين من الدولارات ليس منها دولار واحد لمجلس الكنائس العالمي، فالقائمون على المؤسسات التجارية والمساهمون فيها أكبر همّهم الدنيا لا الدين؛ فيتبين من هذا التقرير أن أكثر التبرعات صُرِفَتْ للتعليم والصحة، وبحوث مكافحة: التلوث وأمراض السرطان والسكر وأسلحة الدمار الشامل، والمتاحف والفنون ونحوها مما يُوَافق اهتمامهم أو يَنْشُر ذِكرهم.
وما يُترك من الفوائد يدخل في رأس مال البنك بمجرد تركه، وفكرة صرفه لمجلس الكنائس العالمي خيالٌ لا يُقرُّه إلا عقل جاهل أو مخادع.
ولقد شهدتُ من المصرف على قنص الأسماء اللامعة من العلماء المعروفين بالتسامح في المعاملات أو أبنائهم ولو لم يُعْرفوا بالثروة أو الخبرة المصرفية أو التجارية، وفي حالة نادرة فشل القناصون في إقناع أحد العلماء، لأنه ـ وإن أحْسَنَ الظن بمستقبل البنوك الإسلامية ـ لا يرغب في الاستثمار ولا في جمع مال يستثمره، فسافر رئيس المصرف تسعمائة كيلومتر ومعه من إنتاج مزارعه ومن كلمات الاستجداء ما يكفي لإحراجه بقبول وضع اسمه بين المساهمين بالحد الأدني للمساهمة (350.000) ريال من وديعة عنده بعد استئذان المودع.
وفي غياب الحافز المالي الذي يُغشي الأبصار عن تمييز الحق من الباطل، أدْرَك منذ البداية أن إحسانه الظن كان في غير محله فأخذ ينسحب تدريجياً من الشركة حتى تركها غير آسف إلا على استغلال اسمه، وأعلن رأيه في فساد البنوك الإسلامية. ومع أن الشركة أسفت لفقد بريق اسمه فإنها لم تفقد كثيراً من هدفها بعد أن بلغ سِعر سهمها أعلى درجة بين مثيلاتها.
وحققت الشركة أهدافها المالية وحقق الحزب الإسلامي المنتفع الأول من فائض الفوائد الربوية (الإسلامية) هدفه وإن اضطر ممثل قيادته الدولية في الشركة المصرفية إلى نقل مكتبته إلى نيويورك لتتوفر له الحرية الديمقراطية في العمل الحزبي وفي استقبال الأموال وصرفها دون رقابة من دولة الدعوة إلى الله على بصيرة.
وفق الله الجميع لأقرب من هذا رشدا، وصلى الله وسلم وبارك على محمد وعلى آله وصحبه ومتبعي سنته إلى يوم الدين.
عمان ـ 1420هـ.
المصدر
المصدر