بِسْمِ الله الرَّحمنِ الرَّحيمِ
الحمدُ لله والصَّلاةُ والسَّلامُ علَى رَسُولِ الله وعلَى آلِه وصَحبِه ومنْ والاهُ ، وبَعْدُ
الحمدُ لله والصَّلاةُ والسَّلامُ علَى رَسُولِ الله وعلَى آلِه وصَحبِه ومنْ والاهُ ، وبَعْدُ
هذه فكرةٌ أرى أنَّها جيِّدةٌ ، جمعُ أكثرِ مِنْ شَرْحٍ في مَوْضِعٍ واحدٍ ، فلِكلِّ عالِمٍ طَريقةٌ وعندَ كلٍّ ما ليسَ عندَ الآخر ، ويمكنُ تطبيقُ هذَا في إثْباتِ شُرُوحٍ كاملةٍ أوْ فَوائِدَ منْ غَيرِ شَرحٍ ، ولِلشَّيْخِ الخضَيرِ طَريقةٌ في دِراسةِ كُتُبِ الحديثِ ذَكرها في بَعْضِ المحاضَراتِ التَّأصِيلِيَّـةِ تَفْنَى دُونَها الأَعمارُ ! لا لا ، هكذَا يقُولُ بَعْضُ ضِعافِ الهمَّةِ يُثَـبِّطُونَ أَصْحابَ الهممِ ! مَنْ جدَّ وجدَ ، ومثْلُ هذِه الطَّريقةِ أخْرجتْ لَنا كالشَّيخِ وهو مَنْ هو ، والله المستعانُ .
ندخُلُ في الموضُوعِ :
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــ
مُقَـدِّمةُ العَلَّامةِ عبدِ العَزيزِ بْنِ عَبْدِ الله الرَّاجِحِيِّ حفِظهُ اللهُ تعالَى :
بِسْمِ الله الرَّحمنِ الرَّحيمِ
إِنَّ الحمدَ لله نَحْمدُهُ ونَسْتَعِـينُـهُ ونَسْتَـغْفِرُهُ ، ونَعُوذُ بِالله مِنْ شُـرُورِ أَنْفُسِنا ومِنْ سَيِّـئَاتِ أَعْمالِنا ، مَنْ يَهْدِه اللهُ فَلا مُضِلَّ لَه ، ومنْ يُضْلِلْ فلا هَادِيَ لَهُ ، وأَشْهَدُ أَنْ لا إِلَه إِلَّا اللهُ وَحدَهُ لا شَرِيكَ لهُ ، وأَشْهدُ أَنَّ سَيِّدَنا ونَبِيَّنا وإِمامَنا وقُدْوَتَنا محمَّدًا بْنَ عبدِ الله بْنِ عَبدِ المطَّلِبِ الهاشِمِيَّ القُرَشِيَّ العَرَبِيَّ المكِّيَّ ثُمَّ المدَنِيَّ أَشْهدُ أَنَّـهُ رَسُولُ الله إِلَى الثَّقَلَيْنِ الجِنِّ والإِنْسِ ، إِلى العَرَبِ والعَجَمِ ، أَشْهدُ أَنَّـهُ بَلَّغَ الرِّسَالةَ ، وأَدَّى الأَمانةَ ونَصَحَ الأُمَّةَ وجاهَدَ في الله حَقَّ جِهادِه حَتَّى أَتاهُ مِن رَبِّه اليَـقينُ ، فَصَلَواتُ الله وسَلامُهُ علَيه وعلَى إِخْوانِه مِنَ النَّبِـيِّـينَ والمرْسَلِينَ وعلَى آلِه وعلَى أَصْحابِه وعلَى أَتْباعِه بِـإِحْسَانٍ إِلَى يَومِ الدِّينَ ، اللهُمَّ اجْعَلْنا مِنْ أَتْباعِهِمْ ، واحْشُرْنا معَهُمْ وفي زُمْرَتِهمْ ، أَمَّـا بَعْدُ :
فإنَّ اللهَ سُبْحانَه وتعالَى بَعثَ نَبِيَّـهُ محمَّدًا صَلَّى اللهُ علَيْه وعلَى آلِه وسَلَّمَ بِالهدَى ودِينِ الحقِّ ، بَعَثَهُ اللهُ تَعالَى رَحْمةً لِلْعالَمِـينَ ، وهُدًى لِـمَنْ شَرحَ اللهُ صَدْرَه بِالحقِّ الـمُبِـينِ ، فبلَّغَ الرِّسالةَ وأَدَّى الأَمانةَ ، وجاهدَ في الله حَقَّ جِهادِه ؛ حَتَّى دَخلَ النَّاسُ في دِينِ الله أَفْواجًا ، وانتَشَرَ دينُ الله وطَـبَّقَ الأَرْضَ شَرْقًا وغَرْبًا .
فدخلَتْ في الإِسْلامِ شُعُوبٌ مُخْـتَلِفةٌ ، مُخْـتَلِفةُ الأَلْسِنةِ ومُخْـتَلِفةُ الأَفْـكَارِ ، لـهُمْ حَضَاراتٌ ولـهُمْ أَدْيانٌ ، أُممٌ دخلَتْ في الإِسْلامِ ، منَ الفُرْسِ والرُّومِ والهنْـدِ ، فانْـتَشَرَتْ مَذَاهِبُـهُمْ وعَقَائِدُهُمْ وأَدْيانُهُمْ ، فانتَشَرتِ الفَلْسَفةُ الإِشْراقِيَّـةُ مِنْ أَفْلاطُونِـيَّـةٍ يُونانِـيَّـةٍ ومِنْ فارِسِيَّـةٍ مَجُوسِيَّـةٍ تَحتَ سِتارِ التَّصَوُّفِ والرُّوحانِيَّـةِ ، وكذلِكَ راجَتِ الفَلْسَفةُ المشَّائِيَّـةُ الأرُوسْطِيَّـةِ الَّتي يتزَعَّمُها ( أَرُوسْطُو ) أَوْ ( أَرُوسْطَاطَالِـيسُ ) بِاسْمِ الكلامِ والمنطِقِ والحِكمةِ والجدَلِ .
فَنشَأَ في النَّاسِ عَقَائِدُ تُخالِفُ وتُبايِنُ ما جاءَ في الكِتابِ والسُّنَّـةِ ، تُناقِضُ ما جاءَ صَرِيحًا عنِ النَّبيِّ صَلَّى اللهُ علَيه وعلَى آلِه وسَلَّمَ وعنْ أَصْحابِه .
ودخلَ في الإسْلامِ مَنْ كانَ في قَـلْبِه نِفاقٌ ، دخلَ في الإِسْلامِ مَنْ لا يُـرِيدُ الإِسْلامَ مِنَ المنافِـقِينَ الَّذينَ مُلِئَتْ قُلُوبُهُمْ حِقْدًا وحَنَقًا علَى الإِسْلامِ ؛ يُرِيدُونَ المكرَ بِالإِسْلامِ ، " واللهُ مُتِمُّ نُورِهِ ولَوْ كَرِهَ الكافِرُونَ " (1) .
فَنَـشَأَتْ في الإِسْلامِ عَـقَائِدُ ومَذَاهِبُ مُخْـتَلِفةٌ ؛ فَظَهَرَتْ فِرْقَةُ الخوارِجِ في أَواخِرِ خِلافةِ الـخُلفاءِ الرَّاشِدِينَ ، ظَهَرُوا علَى الخلِيفةِ الرَّاشِدِ عَـلِيٍّ بْنِ أَبي طالبٍ رَضِيَ اللهُ عنهُ بِالكُوفةِ والعِراقِ ، وقَـتَلُوا قَـبْلَهُ الخلِيفةَ الرَّاشِدَ عُثْمانَ بْنَ عفَّانٍ رَضِيَ اللهُ عنهُ .
وظَهَرَتْ في مُقَابَلَتِـهِمْ فِرَقُ التَّشَيُّعِ حَتَّى وُجِدَتِ الرَّافِضَةُ ، وانتَـشَرَ الرِّفْضُ (2) ، ثُمَّ ظَهَرَتْ بِدْعةُ الإِرْجاءِ ، ثُمَّ ظَهَرَتِ الجَهْمِيَّـةُ والمعْتَزِلَةُ ، وهكذَا نَشَأَتْ هذِه الفِرَقُ " تَـتَجارَى بِهِمُ الأَهْواءُ كما يَـتَجارَى الكلَبُ بِصَاحِـبِه " .
وقَـيَّضَ اللهُ تَعالَى لِـهؤُلاءِ حَمَـلَةَ السُّنَّـةِ وحُماةَ الدِّينِ أَهْلَ الحديثِ والأَثرِ فناصَرُوا السُّنَّـةَ وبيَّـنُوا ما جاءَ به الإِسْلامُ وجاهَدُوا في الله حَقَّ جِهادِه ، وجاهَدُوا أَهْلَ البِدعِ ، واسْتَمرَّ الجِهادُ مِنْ أَهْلِ السُّنَّـةِ لأَهْلِ البِدَعِ مِن مَطْـلَعِ الـمِئَـةِ الثَّانِـيَـةِ إِلَى يَوْمِنا هذَا .
وكانَ الإِسْلامُ وأَهْلُه في عِزٍّ وقُوَّةٍ ونَشَاطٍ وأَعْلامُ الجِهادِ مَنْشُورةً ، والسُّنَنُ ظاهِرَةً ، والبِدَعُ مَكْبُوتَـةً ، والحقُّ ظاهِرًا ، ثُمَّ بَعْدَ ذلِكَ جاءَتِ الدَّوْلةُ العَبَّاسِيَّـةُ وجاءَ عَهْدُ الخليفةِ المأْمُونِ علَى رَأْسِ المِـئَـتَيْنِ فَظَهرَ التَّـشَيُّعُ وأَبْدَى صَفْحتَـهُ ، وعُرِّبَتْ كُتُبُ اليُونانِ وانْتَشَرَ في النَّاسِ عُلُومٌ تُخالِفُ عِلْمَ النُّـبُوَّةِ ولا تُوافِقُ تَوْحيدَ الأَنْبِـيَاءِ والـمُرسَلِـينَ ـ وقَدْ كانتِ الأُمَّـةُ قَـبْلَ ذلِكَ في عافِيَـةٍ ـ ؛ فقَوِيَتْ شَوْكةُ المعْتَزِلةِ ، وقَوِيَتْ شَوْكةُ الرَّافِضَةِ ، وحَمَلَ المأْمُونُ المسْلِمينَ والأَئِمَّةَ والعُلَماءَ علَى القَوْلِ بِخَلْقِ القُرْآنِ ودَعاهُمْ إِلَيْه ؛ فامْتَحنَ العُلَماءَ ، أَيَّدَ اللهُ تعالَى أَهْلَ السُّنَّـةِ وثَـبَّتَ اللهُ تعالَى أَهْلَ الحقِّ والأَئِمَّـةَ .
ثَبَّتَ اللهُ تعالَى الإِمامَ أَحْمدَ رحمهُ الله وصَبَرَ يَوْمَ المِحْنةِ كما أَنَّ الصِّدِّيقَ رَضِيَ اللهُ عنْهُ صَبَرَ يَوْمَ الرِّدَّةِ ، قَـيَّضَ اللهُ لِلْإسْلامِ الصِّدِّيقَ رَضِيَ اللهُ عنهُ لَـمَّا ارْتَدَّ العَرَبُ وقَـيَّضَ اللهُ الإِمامَ أَحْمدَ رحمهُ اللهُ يَوْمَ المِحْنةِ فصَبَرَ وصَمدَ كالجِبالِ الرَّاسِياتِ ولَمْ يُوافِقْهُمْ علَى القَوْلِ بِخَلْقِ القُرْآنِ ، حتَّى يَسَّرَ اللهُ سُبْحانهُ وتَعالَى أَنْ تَـزُولَ هذِه المِحْنةُ وهذِه البَـلِـيَّـةُ .
ثُمَّ بَعْدَ ذلِكَ تَـتابَعَ العُلَماءُ والأَئِمَّةُ يُناصِرُونَ السُّنَّـةَ ويكبِتُونَ ويَقْمَعُونَ البِدْعةَ وأَهْلَها ويُجاهِدُونَ ويُناضِلُونَ عنْ دِينِ الله ، ويُنافِحُونَ بِما أُوتُوا مِنْ قُـوَّةٍ .
ومِنْ هؤُلاءِ الأَئِمَّـةِ الَّذينَ نَصَرَ اللهُ بِهمُ الحقَّ والَّذينَ جاهَدُوا بِأَبْدانِهمْ وأَلْسِنَتِهمْ وأَقْلامِهِمْ الإِمامُ شَيْخُ الإِسْلامِ أَحمدُ بْنُ عبدِ الحليمِ بْنِ عبدِ السَّلامِ بْنِ تَيْـمِـيَّـةَ الحرَّانِيُّ ، المولُودُ سَنَـةَ سِتِّمِئَـةٍ وإِحْدَى وسِتِّينَ والمتَوَفَّى سَنةَ سَبعِمِئَـةٍ وثمانٍ وعِشْرِينَ رحمهُ اللهُ تعالَى .
فَأَلَّفَ المؤَلَّفاتِ العَظيمةَ وكَتبَ الرُّدُودَ ، وآتاهُ اللهُ تعالَى منَ القُـوَّةِ والتَّحمُّلِ ، وآتاهُ اللهُ منَ العِلْمِ والصَّبْرِ والمصَابَـرَةِ ؛ فقَارَعَ أَهْلَ البِدَعِ والمشْرِكينَ والنَّصَارَى ، رَدَّ علَى النَّصَارَى وقَارَعَهُمْ بِحُجَجِهمْ ، ورَدَّ علَى الرَّافِضَةِ وهَدَمَ مَذْهَبَهُمْ ، وردَّ علَى المعتَزِلةِ ، وردَّ علَى الـمُرجِئَـةِ ، وردَّ علَى الصُّوفِـيَّـةِ ، وردَّ على الاتِّحـادِيَّـةِ ، وعلَى الفَـلاسِفةِ وأَهْلِ الـمَـنطِـقِ
والجدلِ ، كلَّ هؤُلاءِ قارَعَهُمْ بِالأَدِلَّةِ .
وأَلَّفَ في ذلِكَ المؤَلَّفاتِ العَظِيمةِ ، مِنها : ( مِنهاجُ السُّنَّـةِ ) ، ومنهَا : ( دَرْءُ تَعارُضِ العَقْلِ والنَّقْلِ ) و ( بيانُ تَلْبِـيسِ الـجَهْمِيَّـةِ ) ، وغَيْرَها مِنَ الكُتُبِ العَظيمةِ .
وعدَّ الإِمامُ ابْنُ القَـيِّمِ رحمهُ اللهُ مُؤَلَّفاتِ هذَا الإِمامِ ، وقالَ : إِنَّ لَه مِنَ المؤلَّفاتِ العَظِيمةِ ، وقالَ : [ الكامل ]
وَاقْـرَأ تَصَانِـيفَ الإِمامِ حَقِـيقَـةً ......... شَيْـخِ الوُجُـودِ العالِـمِ الرَّبَّـانِي
أَعْنِـي أَبَا العَـبَّاسِ أَحْمدَ ذلِكَ الْـ.........ـبَحْرَ المحيـطَ بِسَائِـرِ الخـلْجَـانِ
واقْـرَأْ كِتابَ العَقْلِ والنَّقْلِ الَّذي .........مَـا في الوُجُـودِ لَـهُ نَـظِـيرٌ ثَـانِ
أَيْ : لَيْسَ لَه نَظِـيرٌ في بابِـه ..أَعْنِـي أَبَا العَـبَّاسِ أَحْمدَ ذلِكَ الْـ.........ـبَحْرَ المحيـطَ بِسَائِـرِ الخـلْجَـانِ
واقْـرَأْ كِتابَ العَقْلِ والنَّقْلِ الَّذي .........مَـا في الوُجُـودِ لَـهُ نَـظِـيرٌ ثَـانِ
وكَـذَا قَواعِـدَهُ الْكِـبَـارَ وإِنَّهـا .........أَوْفَى مِنَ الـمِئَـتَـيْنِ في الـحُسْبانِ
ثُمَّ قالَ : لَـمْ يَـتَّسِعْ نَظْمِي لَـهَا فَـأَسُوقَها .........فَـأَشَـرْتُ بَعْضَ إِشَارَةٍ بِـبَـيَـانِ
وكَـذَا رَسَائِلَـهُ إِلَى البُـلْدانِ والْـ .........أَطْرافِ والأَصْحابِ والإِخْوانِ
هِيَ في الوَرَى مَبْـثُـوثَـةٌ مَعْـلُومةٌ .........تُـبْـتَـاعُ بِـالـغَـالِي مِـنَ الأَثْـمانِ
ولَه الـمَقاماتُ الشَّهِيرَةُ في الوَرَى .........قَـدْ قَـامَـهَا لله غَـيْـرَ جَـــبَـانِ
نَـصَـرَ الإِلَـهَ ودِيـنَـهُ وَكِــتَـابَـهُ .........ورَسُولَـهُ بِالسَّـيْـفِ والـبُرْهَـانِ
[ إِلَى أَنْ قالَ : ] وكَـذَا رَسَائِلَـهُ إِلَى البُـلْدانِ والْـ .........أَطْرافِ والأَصْحابِ والإِخْوانِ
هِيَ في الوَرَى مَبْـثُـوثَـةٌ مَعْـلُومةٌ .........تُـبْـتَـاعُ بِـالـغَـالِي مِـنَ الأَثْـمانِ
ولَه الـمَقاماتُ الشَّهِيرَةُ في الوَرَى .........قَـدْ قَـامَـهَا لله غَـيْـرَ جَـــبَـانِ
نَـصَـرَ الإِلَـهَ ودِيـنَـهُ وَكِــتَـابَـهُ .........ورَسُولَـهُ بِالسَّـيْـفِ والـبُرْهَـانِ
أَبْدَى فَضَائِحَهُمْ وبَـيَّنَ جَهْلَـهُمْ .........وأَرَى تَـنَـاقُـضَهمْ بِكُـلِّ زَمَـانِ
وَمنَ العَجَـائِـبِ أَنَّـهُ بِـسِلاحِهمْ .........أَرْدَاهُـمُ تَـحْتَ الحضِيضِ الدَّانِي
وَمنَ العَجَـائِـبِ أَنَّـهُ بِـسِلاحِهمْ .........أَرْدَاهُـمُ تَـحْتَ الحضِيضِ الدَّانِي
يَعْني : هذِه مِنَ العَجائِبِ ، مِنَ العَجائِبِ أَنَّ الـمُؤَلِّفَ رحمهُ اللهُ رَدَّ علَيْـهِمْ بِأَدِلَّـتِهمْ ؛ يَقُولُ شَيْخُ الإسْلامِ رحمهُ اللهُ : ( أَنا ضَامنٌ ومُتَـكَفِّـلٌ أَنَّ كُـلَّ مُبْطِـلٍ يَأْتي بِدَلِـيلٍ أَقْلبُ دَلِـيلَه حجَّةً علَـيْه ) اهـ ، كُلُّ مُبْطِـلٍ يسْتَـدِلُّ بِدَليلٍ أَنا عِندِي اسْتِعْدادٌ لأَنْ أَقْلِبَ دَليلَه حُجَّةً علَيْه ، نفْسُ الدَّليلِ الَّذي يَسْتَدِلُّ بِه يَجْعلُه دَليلًا وحجَّةً علَيْه .
هذَا الإِمامُ نَصَرَ اللهُ بِـهِ السُّنَّـةَ وأَظْهرَ اللهُ بِه الحقَّ فَصَارتْ كُتُـبُه مَرْجِعًا لأَهْلِ العِلْمِ ولا سِيَّما كُـتُبُه ورَسَائِلُه في العَقِـيدةِ ، مِنْ مُـؤَلَّفاتِه العَظيمةِ : ( الحمَوِيَّـةُ ) و ( التَّدْمُرِيَّـةُ ) .
ومِنْ مُؤَلَّفاتِه : ( الواسِطِـيَّـةُ ) رسَالةٌ عَظيمةٌ مُخْـتَصَرةٌ في مُعْتَقَدِ أَهْلِ السُّنَّـةِ والجماعةِ يَنْبَغي حِفْظُها لِكُلِّ طالبِ عِلْمٍ ، عِبارةٌ عنْ خُلاصَةٍ لِـمُعْتَـقَدِ أَهْلِ السُّنَّـةِ والجماعةِ في : الأَسْماءِ والصِّفاتِ ، والقَدَرِ ، والصَّحابةِ ، والأَفْعالِ .
ومِنْ مُؤَلَّفاتِ هذَا الإِمامِ : هذِه الرِّسالةُ الَّتي بيْنَ أَيْـدِينا المختَصَرَةُ ، الَّتي سَمَّاهَا : ( القَاعِدةَ الـمَرَّاكُشِيَّـةَ ) الـمَرَّاكُشِيَّـةَ : بِميمٍ مَفْتُوحةٍ وراءٍ مُشَدَّدَةٍ مَفْتُوحةٍ وكافٍ مَضْمُومَةٍ .
كَتبَها جَوابًا علَى سُؤَالٍ ، جاءَهُ هذَا السُّؤَالُ مِنْ ( مَـرَّاكُش ) وهِيَ : مَدِينةٌ بِالمغْرِبِ ، قالَ في ( مُعْجَمِ البُـلْدانِ ) : ( هِيَ أَعْظمُ مَدينةٍ في المغْرِبِ وأَجَلُّها وأَجْملُها وبِها سَريرُ ملُوكِهِمْ ، في وَسَطِ بِلادِ البَرْبَرِ ، بَيْـنَها وبَـيْنَ البَحْرِ عَشَرَةُ أَيَّـامٍ ) (3) ، يَعْني : في زَمانِه .
ومَعْنَى ( مَرَّاكُشْ ) بِالبَرْبَرِيَّـةِ : أَسَرَعَ المشْيَ ؛ لأَنَّها كانتْ مَوْضِعَ مَخافَةٍ يَقْطَعُ فيها اللُّصُوصُ علَى القَوافِلِ ، ولا تَزالُ بِهذَا الاسْمِ .
فَسُمِّـيَتْ هذِه القَـاعِدةُ بِـ ( الـمَـرَّاكُشِـيَّـةِ ) لأَنَّها جَوابٌ عنْ سُؤَالٍ ، والسَّائِـلُ مِنْ بَـلْـدَةِ ( مَـرَّاكُش ) ، كما أَنَّ ( الـحَمَـوِيَّـةَ ) جَوابٌ علَى سُـؤَالٍ والسَّائِـلُ مِـنْ بَـلْـدَةِ ( حَـمَـاهْ ) ، و ( التَّـدْمُرِيَّـةُ ) جَوابٌ علَى سُـؤَالٍ والسَّائِـلُ مِـنْ بَـلْـدَةِ ( تَـدْمُـرْ ) ، و ( الواسِطِـيَّـةُ ) جَوابٌ لِسُـؤَالٍ والسَّائِـلُ مِـنْ بَـلْـدَةِ ( واسِط ) في العِراقِ ، كَتبَها بَعْدَ الظُّهْرِ في جَلْسَةٍ واحِدةٍ جَوابًا علَى سُؤَالِ أَحدِ القُضَاةِ قُضَاةِ ( واسِط ) بِالعِراقِ سَألَ الشَّيْخَ رحمهُ اللهُ أَنْ يكْتُبَ لهُ عَقِيدةً مُخْـتَصَرةً لأَهْلِ السُّنَّـةِ والجماعةِ فَـكتبَ لَه ( الواسِطِـيَّـةَ ) (4) .
[ وهذِه الرِّسَالةُ ] كَتبَها المؤَلِّفُ جَوابًا علَى سُؤَالٍ جاءَ مِنْ ( مَرَّاكُش )حَوْلَ : ما يَجِبُ الإِيمانُ بِه مِنْ صِفاتِ اللهكَعُلُـوِّه علَى خَلْقِه ونَحْوِها ، هَلْ تُـثْـبَتُ كما هِيَ أَمْ يُـقَالُ فيها بِقَوْلِ النُّـفَاةِ مِنَ الجهْمِيَّـةِ والمعْتَزِلةِ ؟ ؛ فكتَبَ الشَّيْخُ رحمهُ اللهُ هذِه الرِّسالةَ ، كعادَتِه مُدَعِّـمًا بِالدَّليلِ والتَّعْلِيلِ ، و رَدَّ علَى مَنِ اتَّبَعَ آراءَ الجهمِيَّـةِ مِنْ أَصْحابِ البِدَعِ ، فأَجادَ وأَفادَ ، وقَـرَّرَ مَذْهبَ السَّلَفِ ونَصَرَهُ بِالأَدِلَّةِ النَّـقْلِيَّـةِ والعَقلِيَّـةِ ، ثُمَّ أَيْضًا عَضَّدَها بِأَقْوالِ العُلَماءِ المتقَدِّمِينَ ، بِما تَقَرُّ بِه عَينُ كُلِّ صَاحِبِ سُنَّـةٍ .
وهِيَ ـ أَيْضًا ـ بَيانٌ لِكُلِّ مُنْصِفٍ مُرِيدٍ لِلْحقِّ لِـمذْهبِ السَّلَفِ في بابِ الأَسْماءِ والصِّفاتِ .
وهِيَ ـ أَيْضًا ـ بَيانٌ لِـمَنْهَجِ الشَّيْخِ في الأَسْماءِ والصِّفاتِ ، وفيهَا دَفْعٌ لِـفِرْيَـةِ أَهْلِ البِدَعِ بِأَنَّ الشَّيْخَ كانَ مُشَبِّـهًا ، رحمهُ اللهُ ، أَهْلُ البِدَعِ يَقُولُونَ : إِنَّ شَيْخَ الإِسْلامِ مُشَبِّـهٌ ! هذِه الرِّسَالةُ فيها رَدٌّ علَيْـهِمْ .
وشَيْخُ الإِسْلامِ ابْنُ تَيْمِيَّـةَ رحمهُ اللهُ تعالَى معْرُوفٌ بإِمامَـتِه وعِلْمِه و وَرَعِه وزُهْدِه ، وُلِدَ بِحَـرَّانَ في يَوْمِ الاثْنَـيْنِ العَاشِرِ ـ وقِـيلَ الثَّانيَ عَشَرَ ـ مِنْ رَبيعِ الأَوَّلِ سَنةَ إِحْدَى وسِتِّينَ وسِتِّمِئَـة ، ونَشَأَ في بَـيْتِ دِيانةٍ وعِفَّـةٍ وخُلُقٍ حَسَنٍ ، كانَ بَـرًّا بِوالِدَيْـهِ ، كانَ تَقِيًّـا وَرِعًا عابِدًا ناسِكًا صَوَّامًا قَوَّامًا ذَاكِرًا لله ، مُجاهِدًا ، رَجَّاعًا إِلَى الله وقَّافًا عِندَ حُدُودِ الله وأَوامِرِه ، آمِرًا بِالمعْرُوفِ نَاهِيًـا عنِ المنكَرِ ، لا تَكادُ نَفْسُه تَشْبَعُ مِنَ العِلْمِ ، ولا تَرْوَى مِنَ المطالَعةِ ،ولا تَـمَلُّ مِنَ الاشْتِغالِ ، ولا تَـكلُّ مِنَ البَحْثِ .
قَلَّ أَنْ يدْخُلَ في عِلْمٍ مِنَ العُلُومِ وفي بَابٍ مِنَ الأَبْوابِ إِلَّا ويُفْتَحُ لهُ مِنْ ذلكَ البابِ أَبْوابٌ ويَسْتَدْرِكُ أَشْياءَ علَى حُذَّاقِ أَهْلِه ! ، وكانَ يَحضُرُ المجالِسَ والمحافِلَ في صِغَرِه ، يَتكلَّمُ ويُناظِرُ ويُفْحِمُ الكِبار ! ، ويَأْتي بِما يَـتَحيَّرُ مِنهُ أَعْيانُ البَـلَدِ في العِلْمِ ، وأَفْتَى ولَه نَحْوُ سَبْعَ عشرَةَ سَنةً ! ، وشَرعَ في الجمعِ والتَّـأْلِـيفِ مِنْ ذلِكَ الوَقْتِ .
وماتَ والِدُهُ ـ وكانَ مِنْ كِبارِ الحنابِلَةِ وأئِمَّـتِهمْ ـ فَدَرَّسَ بَعدَهُ في وَظَائِـفِه ولَهُ إِحْدَى وعِشْرُونَ سَنةً .
وحجَّ سَنةَ إِحْدَى وتِسْعِينَ ولَهُ ثَلاثُونَ سَنةً ، و رَجَعَ وقَدِ انْتَهتْ إِليه الإِمامةُ في العِلْمِ والعَملِ والزُّهْدِ والوَرعِ والشَّجاعةِ والكَـرَمِ والتَّواضُعِ والحِلْمِ والأَناةِ ، والأَمرِ بِالمعْرُوفِ والنَّهْيِ عنِ المنكَرِ معَ الصِّدْقِ والأَمانةِ والعِفَّـةِ والصِّيانةِ وحُسْنِ القَصْدِ والإِخْلاصِ ، والابْتِهالِ إِلَى الله وشِدَّةِ الخوْفِ منهُ ودَوامِ المراقَـبَةِ لَهُ ، والتَّمسُّكِ بِالأَثرِ ، والدَّعْوةِ إِلَى الله ، وحُسْنِ الأَخْلاقِ ، ونَفْعِ الخلْقِ والإِحْسانِ إِلَيْهمْ .
كانَ رحمَهُ اللهُ سَيْفًا مَسْلُولًا علَى المخالِـفِينَ وشَجًى في حُلُوقِ أَهْلِ البِدَعِ والأَهْواءِ ، وكانَ إِمامًا قَائِـمًا بِـبَيانِ الحقِّ ونُصْرَةِ الدِّينِ .
وتُوُفِّيَ رحمَهُ اللهُ لَيْـلَةَ الاثْنَـيْنِ العِشْرِينَ مِنْ ذِي القِـعْدةِ سَنةَ ثَمانٍ وسِتِّينَ وسَبْعِمِئَـة ، وكانَ عُمرُهُ حِينَ تُـوُفِّيَ سَبعًا وسِتِّـينَ سَنةً ، رحمَهُ اللهُ وغَفَـرَ لَه وجَـزَاهُ عَـنَّا وعنِ المسْلِمينَ خَيْرَ الجزاءِ .
يَقُولُ العُلَماءُ في شَيْخِ الإِسْلامِ رحمَهُ اللهُ : اللهُ تَعالَى جَعلَ مقامَ هذَا الإِمامَ ومِحْنتَـهُ وانْتِصَارَه بِالدِّيارِ المصْرِيَّـةِ سَبَـبًا عَظِـيمًا لِانْتِشَارِ عِلْمِه في بِلادِ المغرِبِ لأَنَّ مِصْرَ لأَجْلِ الحجِّ وَجهُ تِلْكَ البِلادِ الفَسِيحةِ ، كما أَنَّ الشَّامَ لأَجْلِ الحجِّ أَيْضًا وَجهُ البِلادِ المشْرِقِـيَّـةِ ، واللهُ تعالَى أَرادَ عُلُوَّ كَلِمةِ هذَا الإِمامِ المحقِّقِ النَّاقِـدِ البارِعِ وانْتِشَارَ صِيـتِه وعِلْمِه في مَشارِقِ الأَرْضِ ومَغارِبِها ، فأقامَ سُبْحانهُ وتَعالَى لِذلِكَ أَسْبابًا وفَتحَ لهُ أَبْوابًا ، والمؤَلَّفاتُ الَّتي انْـتَـقَلَتْ مِنْ بِلادِ مِصْرَ إِلَى بِلادِ المغْرِبِ علَى أَيْـدِي طَلَـبَـةِ العِلْمِ والدِّينِ كَثِـيرةٌ ، وما نُقِلَ مُتَـفَرِّقًا فَهُوَ كَثِـيرٌ أَيْضًا .
وهذِه الرِّسالَةُ جَوابٌ عَنْ سُؤَالٍ ـ كما سَبقَ ـ ، جاءَ في بَعْضِ المخْطُوطَاتِ في مُقَدِّمةِ مخطُوطةِ هذَا الكِتابِ هذَا النَّصُّ :
( مَسْألَـةٌ سُئِلَ عَنهَا سَيِّدُنا وشَيْخُنا شَيْخُ الإِسْلامِ وناصِرُ السُّنَّـةِ فَرِيدُ الوَقْتِ وبَحْرُ العُلُومِ بَقِيَّـةُ المجتَهِدِينَ وقُدْوةُ المتأَخِّرِينَ ، تاجُ العارِفينَ ولِسانُ المتكلِّمِينَ ، رُحْلَـةُ (5.) الطَّالِـبِينَ ، إِمامُ الزَّاهِدِينَ ، ومَنارُ المجتَهِدِينَ ، الإِمامُ الحجَّـةُ النُّورانِيُّ ، والعالِمُ المصْلِحُ الرَّبَّانِيُّ تَقِيُّ الدِّينِ أَبُو العَبَّاسِ أَحْمدُ بْنُ الشَّيْخِ الإِمامِ العالِمِ العلَّامةِ شِهابِ الدِّينِ بَهاءِ الإِسْلامِ شَرَفِ الأَنامِ مُفْتِي الشَّامِ أَبِي المحاسِنِ عَبْدِ الحلِيمِ بْنِ الشَّيْخِ الإِمامِ العالِمِ العلَّامةِ مَجْدِ الدِّينِ ضِياءِ الإِسْلامِ شَرَفِ الأَنامِ ، رَئِيسِ الأَصْحابِ ، سَيِّـدِ العُـلَماءِ والفُضَلاءِ أَبِي البَركاتِ عَبدِ السَّلامِ ابْنِ أَبي القاسِمِ بْنِ محمَّدٍ ابْنِ تَـيْمِـيَّـةَ الحرَّانِيِّ ، مَـتَّـعَـنَا اللهُ بِعُلُومِه الفاخِرةِ ، وأثَـابَـهُ اللهُ في الدُّنْيا والآخِرةِ ، وأَسْبَغَ علَيْه نِعمَـهُ باطِنَـةً وظاهِرَةً .
وهِيَ مَسْأَلةٌ شَرِيفةٌ اشْتَـمَلَتْ علَى غُررٍ مِنَ المقاصِدِ الـمُهِمَّـةِ معَ صِغَـرِ حَجْمِها ـ يَعْني هذِه الرِّسالةَ ـ سَأَلَ عنهَا الشَّيْخُ محمَّـدٌ بْنُ محمَّدٍ المغْرِبِيُّ المرَّاكُشِـيُّ في شُهُورِ سَنـةِ اثْنتَيْ عَشْرٍ وسَبْعِمِئَـة في القاهِرَةِ ، وأَوَّلُها : ما تَقُولُ السَّادةُ العُلَماءُ في رَجُلَيْنِ تَباحَـثَا في مَسْأَلةِ الإِثْباتِ لِلصِّفاتِ والجزْمِ بِإثْباتِ العُلُوِّ .. ) اهـ ، ثُمَّ ذَكرَ صُورةَ السُّؤَالِ والجوابِ .فإِذَنْ ؛ هذِه الرِّسالةُ العَظِـيمةُ هِيَ في إِثْباتِ أَسْماءِ الله وصِفاتِه ، وإِثْباتِ العُلُوِّ بِالخُصُوصِ ، والرَّدِّ علَى أَهْلِ البِدَعِ ، وبَـيَانِ عَقِـيدةِ أَهْلِ السُّنَّـةِ والجماعةِ ، نَبْدأُ في قِراءَةِ هذِه الرِّسالةَ الَّتي سَنَشْرَحُها إِنْ شاءَ اللهُ كما هِيَ بَيْنَ أَيْـدِيكُمْ ، ( القاعِدةُ الـمَرَّاكُشِيَّـةُ ) .
*********
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــ
مُقَـدِّمةُ الشَّيْخِ إِبْراهيمَ بْنِ عامرٍ الرُّحيـلِيِّ حفِظهُ اللهُ تعالَى :
بِسْمِ الله الرَّحمنِ الرَّحيمِ
إِنَّ الحمدَ لله نحمدُهُ ونَسْتَعينُهُ ونَسْتَغْفِرُه ونَـتُوبُ إِلَـيْه ، ونَعُوذُ بِالله مِنْ شُرُورِ أَنْـفُسِنا ومِنْ سَيِّـئَاتِ أَعْمالِنا ، مَنْ يَهْدِه اللهُ فلا مُضِلَّ لَه ، ومَنْ يُضْلِلْ فلا هادِيَ لهُ ، وأَشْهدُ أَنْ لا إِلَه إِلَّا اللهُ وَحدَهُ لا شَرِيكَ لهُ ، وأَشْهدُ أَنَّ نَبِـيَّنا محمَّدًا عبدُهُ ورَسُولُه ، اللهُمَّ صَلِّ وسَلِّمْ وبارِكْ علَى عبدِكَ و رَسُولِكَ محمَّدٍ وعلَى آلِه وصَحْبِه أَجْمَعينَ ، أَمَّـا بَعْدُ :
فلا زالتْ هذِه الدَّوْرَاتُ العِلْمِـيَّـةُ المبارَكةُ تَـتَوالَى ، ويبذُلُ فيها المشْرِفُونَ علَيْها والقائِمونَ علَـيْـها مِنَ الجهْـدِ والأَمْوالِ والأَوْقاتِ الكَـثيرَ ، وهذَا مِنْ تَوْفيـقِ الله عَزَّ وجلَّ لِطُـلَّابِ العِلْمِ ولأَهْلِه الَّذِينَ يَحْرِصُونَ علَى تلَقِّيه .
وإِنِّي أُؤَكِّـدُ الحِرْصَ علَى العِنايَـةِ بِهذِه الدَّوْراتِ والاسْتِمْرارَ في تَنْظِـيـمِها والعِـنَايَـةَ بِذلِكَ واحْتِسابَ الأَجْرِ عِندَ الله عَزَّ وجَلَّ .
وإِنَّ هذِه الدَّوْراتِ وإِقْبالَ الطَّلَـبَـةِ علَيْها لتُـبَشِّرُ بِالخيرِ ، وإِنَّا لَـنُـؤَمِّلُ خَيْرًا كَثيرًا قَريبًا إِنْ شاءَ اللهُ بِـإِقْبالِ طُلَّابِ العِلْمِ علَى العِلْمِ وعلَى تلَقِّيه .
وكُنَّا نَقُولُ قَبْلَ سَنواتٍ : إِقْبالَ الشَّبابِ ، وأَصْبَحَ الآنَ بِحمدِ الله إِقْبالَ الجميعِ منَ الكِبارِ والصِّغارِ ومِنَ الرِّجالِ والنِّساءِ ، الكُلُّ مُقْبِلٌ علَى تَلَقِّي العِلْمِ الشَّرْعِيِّ ؛ وهذَا ممَّا يدُلُّ علَى عِنايَـةِ الأُمَّـةِ بِأمْرِ دِيـنِها ، وممَّا يُـبَشِّرُ بِقُرْبِ النَّصْرِ والتَّمكِينِ لِـهذِه الأُمَّةِ كما كانتْ في عُصُورِها الماضِيَـةِ وفي صَدْرِها الأَوَّلِ في صَدْرِ سَلَفِ الأُمَّـةِ .
فإِنَّ هذِه الأُمَّـةَ ما تَسَلَّطَ علَيْها أَعْدَاؤُها إِلَّا بِسَبَبِ بُعْدِها عنْ دِيـنِها ، ومِنْ أَعْظَمِ أَسْبابِ البُعْدِ عنِ الدِّينِ جَهلُ المسْلِمِ بِديـنِه وعَقِيدتِه .
وهذِه الدَّوْراتُ ممَّـا يُـرَسِّخُ العِلْمَ الشَّرْعِيَّ النَّافِعَ ، خُصُوصًا أَنَّـهُ بِحمدِ الله يُنْـتَقَى في تَدْرِيسِ الكُتُبِ الكُـتُبُ النَّافِعَـةُ الَّتي ألَّفها أَئِمَّـةٌ كِبارٌ اعْتَـنَوْا بِها ، ويَقُومُ على شَرْحِها أَهْلُ العِلْمِ الَّذينَ هُمْ مُتجَرِّدُونَ بِحَمدِ الله في نُصْرَةِ السُّنَّـةِ وفي بَـيَانِ الحقِّ .
ودَرْسُنا في هذَا الوَقْتِ مِنْ أَوْقاتِ هذِه الدَّوْرةِ هُوَ في كِتابٍ عَظِـيمٍ وفي رِسالةٍ مُهِمَّـةٍ لِشَيْخِ الإِسْلامِ ابْنِ تَيْمِيَّـةَ رحمهُ اللهُ تعالَى ، وهِيَ : ( القَـاعِدةُ الـمَـرَّاكُشِيَّـةَ ) الَّتي صَنَّـفَها شَيْخُ الإِسْلامِ في جَوابِ سُؤَالٍ وَرَدَ علَيْه مِنْ أَحدِ السَّائِـلِينَ مِنْ بَلَدِ ( مَـرَّاكُـشْ ) مِنَ المغْرِبِ .
و ( مَـرَّاكُشْ ) هِيَ بَلْدةٌ مِنْ بُلْدانِ المغْرِبِ العَرَبِيِّ ، وهِيَ ما زالَتْ بِهذَا الاسْمِ ، وهِيَ داخِلَةٌ في وِلايَـةِ دَوْلةِ المغْرِبِ ، هذِه الدَّوْلةِ الحديثَـةِ ، ولا زالَتْ تُعْرَفُ بِهذَا الاسْمِ .
وذَكرَ العُلَماءُ في ضَبْطِ وفي التَّعْرِيفِ بِالبُلْدانِ أنَّ هذِه البَلْدةَ أُطْلِقَ علَيْها هذَا الاسْمُ وهُو بِاللُّغةِ البَرْبَرِيَّـةِ يَعْنِي : الإِسْراعَ في المشْيِ ؛ وذلِكَ أَنَّها كانتْ يتربَّصُ اللُّصُوصُ بِالمارِّينَ بِها ، فإِذَا مَرَّتْ بِها القَوافِلُ والرُّكْبانُ أَسْرَعُوا فَأُطْلِقَ علَيْها : ( مَـرَّاكُشْ ) فعُرِفتْ بِهذَا الاسْمِ إِلَى هذَا اليَوْمِ .
ورَدَ السُّؤَالُ لِشَيْخِ الإِسْلامِ ابْنِ تَيْمِيَّـةَ رحمهُ اللهُ مِنْ أَحدِ عُلَماءِ هذَا البَلَدِ ، وهُو مَنْ ذَكرَ المترْجِمُونَ لَهُ أَنَّـهُ محمَّـدٌ بْنُ محمَّدٍ الـمَـرَّاكُشِـيُّ ، سَألَ شَيْخَ الإِسْلامِ ابْنَ تَيْـمِيَّـةَ عنْ هذِه المسْأَلةِ الَّتي هِيَ مَضْمُونُ جَوابِ شَيْخِ الإسْلامِ في هذِه الرِّسالةِ ، سَأَلَه عنْ مَسْأَلةِ الصِّفاتِ وأنَّ اثْـنَـيْنِ اخْتَلَفا في مَسْأَلةِ الصِّفاتِ : هلْ تُثْـبَتُ لله عَزَّ وجَلَّ ؛ فتُـثْبَتُ الصِّفاتُ والعُلُوُّ لله كما جاءَ في الكِتابِ والسُّنَّـةِ ؟ أَمْ أَنَّ إِثْباتَها مِنَ التَّجْسِيمِ والتَّشْبِيه ؟ ويَنْبَغي تَرْكُ الكلامِ فيها وعدَمُ البَحْثِ في هذَا البابِ ؟ ؛ فَأَجابَ شَيْخُ الإِسْلامِ إِجابةً مُوَثَّقةً بِالأَدِلَّـةِ كما هِيَ طَرِيقَتُـهُ رحمَهُ اللهُ .
وهذِه الرِّسالةُ صَنَّـفَها شَيْخُ الإِسْلامِ رحمَهُ اللهُ في سَنةِ اثْنَـتَيْ عَشرةَ وسَبْعِمِئَـة ، وقَدْ مَضَى مِنْ عُمرِه المبارَكِ إِحْدَى وخَمْسُونَ سَنةً ، وكانتْ قَبْلَ وفاتِه بِسِتِّ عشرةَ سَنةً ؛ فكانتْ هذِه الرِّسالةُ مِنَ الكُتُبِ الَّتي أَلَّفَها شَيْخُ الإِسْلامِ في آخِرِ حَياتِه بِالنَّظرِ لِـمَا قَبْلَها ؛ فإنَّـهُ رحمهُ اللهُ بَـدَأَ التَّصْنِـيفَ وهُو شَابٌّ في مُقْـتَـبَلِ العُمرِ ، فكانتْ هذِه الرِّسالةُ هِيَ بَعدَ ( الواسِطِـيَّـةِ ) و ( الحمَوِيَّـةِ ) .
وكانتْ ـ أَيْضًا ـ فيها فَوائِدُ اشْتَمَلَتْ علَيْها ونَبَّـهَ علَيْها شَيْخُ الإِسْلامِ كسَائِـرِ طَرِيقَـتِه في كُتُبِه تَتميَّـزُ بِه هذِه الرِّسالةُ عنْ غَيْرِها لِفَوائِدَ انْفَرَدتْ بِها ، كما أَنَّ كُتُبَ شَيْخِ الإِسْلامِ كُلُّها مَلِيئَـةٌ بِالفَوائدِ ، وبِتَقْرِيرِ القَواعِدِ والأُصُولِ لِعَقِـيدةِ أَهْلِ السُّنَّـةِ والجماعةِ .
فَنَشْرَعُ في قِراءَةِ هذِه الرِّسالةِ ، ونسْأَلُ اللهَ عَزَّ وجَلَّ أَنْ يَرْزُقَـنَا وإِيَّـاكُمُ الإِخْلاصَ في القَوْلِ والعَملِ ، وأَنْ يَرْزُقَـنا حُسْنَ الـمُـتَابَعةِ لِـكِتابِ رَبِّـنا ولِسُنَّـةِ نَبِـيِّـنا صَلَّى اللهُ علَيْه وعلَى آلِه وسَلَّمَ .
*********
ـــــــــــــــــــــــــــ
(1) سُورةُ الصَّفِّ .
(2) هكذَا ضَبطَها الشَّيْخُ ، وممَّـا اسْتَدْرَكهُ الزَّبِيدِيُّ علَى صَاحبِ القامُوسِ : ( الرِّفْضُ ـ بِالكَسْرِ ـ : مُعْتَـقدُ الرَّافِضَةِ ، ومنْهُ قَوْلُ الإِمامِ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللهُ عنهُ فيما يُنْسَبُ إِلَيْه وأَنْشَدَناهُ غيْرُ واحِدٍ مِنَ الشُّيُوخِ : [ الكامِلُ ]
إِنْ كانَ رِفْـضًا حُـبُّ آلِ محمَّـدٍ ..........فَلْـيَـشْهَدِ الثَّـقَلانِ أَنِّي رافِـضِي
والأَرْفاضُ : هُمُ الرَّافِضَةُ ، الطَّائِـفَـةُ الخاسِرةُ ، كأَنَّه جَمعُ رافِضٍ ؛ كصَاحبٍ وأَصْحابٍ ) اهـ ، انظُرْ : تاجَ العَرُوسِ منْ جَواهِرِ القامُوسِ (18/354) ط (وزارةُ الإِعْلامِ بِالكُوَيْتِ ) . (3) انظُرْ ( مُعجَمَ البُلْدانِ ) لِياقُوتَ الحموِيِّ ، ج (4) ص (239) ط : الكُتُب العِلْميَّـةِ بيْرُوتَ .
(4) مِنْ قَوْلِه ( كما أَنَّ الحموِيَّـةَ ) إِلَى هُنا قالَه الشَّيْخُ حفِظهُ اللهُ بَعْدَ الفِقْرةِ الآتِيَـةِ في ذِكر مَوْضُوعِ الرِّسَالةِ ومَضْمُونِها لكِنْ رأَيْتُ أَنَّـهُ أَلْصَقُ بِهذِه الفِقْرةِ المتعلِّـقَةِ بِتَسْمِيَـةِ الرِّسالةِ ، واللهُ أَعْلمُ .
(5.) بِضَمِّ الرَّاءِ وسُكُونِ الحاءِ : الوِجْهةُ الَّتي تُقْصَدُ ، يُقالُ : مكَّةُ رُحْلَتِي ، أَيْ : وَجْهي الَّذي أَقْصِدُ الارْتِحالَ إِلَيْه ، ومِنْ هُنا أُطْلِقَ علَى العالِمِ وصَاحِبِ الجاهِ الَّذي يُرْحلُ إِلَيْه . انظُرْ : تاجَ العَرُوسِ (29/60) ط ( الكويت ) .
تعليق