تأويل حديث القدرة
السـؤال:
أضيفُ إلى ما سبق في مسألة العذر بالجهل في المسائل العقدية حديث أبي هريرة رضي الله عنه المتعلِّق بالرجل الذي جهل قدرة الله تعالى فقال صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم حكاية عنه: «فوَاللهِ لئِنْ قَدَرَ اللهُ عَلَيْهِ لَيُعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا لاَ يُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِنَ العَالَمِينَ»
( عن أبي هريرةَ رضي الله عنه أنَّ رسول اللهَ صلى الله عليه وآله وسلم قال: «قَالَ رَجُلٌ -لَمْ يَعْمَلْ خَيْراً قَطُّ - إِذَا مَاتَ فَحَرِّقُوهُ واذرُوا نِصفَه في البرّ ونصْفهَ في البَحْرِ، فواللهِ لئِنْ قَدَرَ اللهُ عَلَيْهِ ليُعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا لا يعَذِّبهُ أحدًا من العالمين، فَأَمَرَ اللهُ البَحْرَ فَجَمَعَ مَا فِيهِ، وَأَمَرَ البرَّ فَجَمَعَ مَا فِيهِ، ثُمَّ قَالَ: لِمَ فعلْتَ؟ قَالَ: مِنْ خَشْيَتِكَ وَأَنْتَ أَعْلَمُ، فَغَفَرَ لَهُ». أخرجه البخاري في «صحيحه» كتاب التوحيد، باب قول الله يريدون أن يبدلوا كلام الله:
(7067)، ومسلم في «صحيحه» كتاب التوبة، باب في سعة رحمة الله وأنها سبقت غضبه: (6980).)،
ومع ذلك عذره الله تعالى بجهله وغفر له، فهل هذا الحديث يصلح للاستدلال به في العذر بالجهل في مسائل التوحيد والاعتقاد؟ وجزاكم الله خيرًا.
الجـواب:
الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاةُ والسلامُ على مَنْ أرسله اللهُ رحمةً للعالمين، وعلى آله وصَحْبِهِ وإخوانِه إلى يوم الدِّين، أمّا بعد:
فالجوابُ على الاستدلال بحديث جهلِ الرجل قدرة الله تعالى وإعذاره له من الوجوه التالية:
الأول: عدمُ التسليم بأنه كان يجهل قدرةَ الله تعالى لظهور إيمانه بقُدرة الله تعالى فيما أخرجه مسلم، قوله: «فَإِنِّي لَمْ أَبْتَهِرْ عِنْدَ اللهِ خَيْرًا، وَإنَّ الله يَقْدِرُ عَلَيَّ أَنْ يُعَذِّبَنِي»
(أخرجه مسلم في «صحيحه» كتاب التوبة، باب في سعة رحمة الله وأنها سبقت غضبه: (6984)، من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.)،
وهذه الرواية التي عليها جمهور الرواة، قال النووي: «هكذا هو في معظم النسخ ببلادنا، ونقل اتفاق الرواة والنسخ عليه»
(«شرح مسلم» للنووي (17/73).)،
وفي هذه الرواية ليس فيها نفي حقيقة القدرة، بل بالعكس فيه تقرير لإيمان الرجل بقدرة الله على البعث والتعذيب، وإذا رجّح هذا المعنى لم يبق أي وجهٍ أو طريقٍ للاستدلال له على مسألة العذر بالجهل.
الثاني: فيما إذا ما قوبلت رواية الجمهور بالرواية الأخرى أمكن الجمع بينهما من المناحي التالية:
1- حمل «قدر الله» على القضاء، ويكون المعنى: «فوالله لئن قضى الله عليه ليعذبنَّه..»، وقدر بالتخفيف والتشديد بمعنى واحد.
2- حمل «قدر الله» على التضييق لقوله تعالى: ﴿وَمَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ﴾ [الطلاق: 7]، ﴿فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ﴾ [الفجر: 16]، وهو أحد الأقوال في قوله تعالى: ﴿فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ﴾ [الأنبياء: 87]، ويكون المعنى: «لئن ضيق الله عليه»، والتأويلان ذكرهما النووي
(لمصدر السابق، الجزء نفسه (ص 71).)،
غير أنَّ هذين التأولين يعكّر عليهما ما جاء في غير مسلم حديث: «لَعَلِّي أُضِلُّ اللهَ»
( أخرجه أحمد في «مسنده»: (19540)، من حديث معاوية بن حيدة رضي الله عنه. قال الهيثمي في «مجمع الزوائد»(10/320): «رواه أحمد والطبراني بنحوه في الكبير والأوسط ورجال أحمد ثقات». والحديث صححه الألباني في «السلسلة الصحيحة»: (7/106)، والوادعي في «الصحيح المسند»: (1127). )،
أي: أغيب عنه وهو يدلُّ على أنَّ قوله: «لئن قدر الله» على ظاهره فلا يحتاج إلى تأويل.
3- ولو حمل الحديث على ظاهره فإنه يمكن الجمع -أيضًا- بين الحديثين من زاوية ثالثة بحمل رواية الجمهور على الممكنات والرواية الأخرى على الممتنعات، فيكون التقدير: إنَّ الله قادر على أن يعذبني إن دفنتموني بهيئتي، فأمَّا إن سحقتموني وذريتموني في البَرِّ والبحر فلا يقدر علي.
ومعنى هذا أنَّ الرجل مُوقِنٌ بأن الله متصف بكمال القدرة في الممكنات دون الممتنعات، لظنه أن جمع ما تفرق من رماده في البر والبحر ممتنع، والممتنع خارج عن قدره الله تعالى، ومثل هذا التفصيل في القدرة لا يعلم إلاَّ بنصٍّ شرعي فالجهل بالدقيق من صور القدرة لا يؤثِّر في ربوبية الله تعالى ولا في ألوهيته، بخلاف مَن شكَّ في أصل القدرة فهو كافر؛ لأنه ينسب إلى الله العجزَ والضعف عن إمكان الخلق، فالجهل بدقيق الصفات لا يلزم منه الجهل بأصل الصفة، كما أنَّ الجهل بالصفات لا يلزم منه الجهل بالذات، إلاَّ إذا كانت الذات لا تتصور إلاَّ بتلك الصفة، ولما كانت جزئيات المسائل تحتاج في بيانها إلى نصٍّ شرعيٍّ عذر الرجل لجهله بها؛ لأنه لا يثبت حكم الخطاب إلاَّ بعد البلاغ، قال ابن تيمية رحمه الله: «من شكَّ في صفة من صفات الله تعالى ومثله لا يجهلها فمُرتد، وإن كان مثله يجهلها فليس بمرتدٍّ، ولهذا لم يكفر النبي صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم الرجل الشاكَّ في قدرة الله وإعادته؛ لأنه لا يكون إلاَّ بعد الرسالة»
(«الفتاوى الكبرى» لابن تيمية (4/606).).
هذا، والمعلوم أنَّ الحديث ورد في جهل صفة أو شك فيها ولم يرد في التوحيد وترك الشرك الذي هو أصل الدِّين كله؛ ذلك لأنَّ الرجل كان موحّدًا، يشهد له ما رواه أحمد عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم: «كَانَ رَجُلٌ مِمَنْ قَبْلَكُمْ لَمْ يَعْمَلْ خَيْرًا قَطّ إِلاَّ التَوْحِيدَ..»
( أخرجه أحمد في «مسنده»: (7980)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. والحديث صححه الألباني في «السلسلة الصحيحة»: (304. وأخرجه أحمد كذلك من حديث عبد الله بن مسعود (3776)، وصححه أحمد شاكر في «تحقيقه لمسند أحمد»: (5/296).)،
فلو كان التوحيد منتفيًا عنه ومات مشركًا للزم عقابه بنصِّ الآية سمعًا، ولم يكن محلاًّ للغفران لقوله تعالى: ﴿إِنَّ اللهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ﴾ [النساء: 48]، فهذا أصل كلي قطعي أنَّ مَن مات على التوحيد دخل الجنة، فلا يخلد في النار أحد مات على التوحيد، ولو عمل من المعاصي ما عمل، كما أنه لا يدخل الجنة أحدٌ مات على الكفر ولو عمل من أعمال البر ما عمل، وجحد صفة القدرة كفر اتفاقً
( «فتح الباري» لابن حجر: (6/523).)،
والرجل في الحديث -كما تقدم- كان موحِّدًا ومؤمنًا بقدرة الله تعالى في الجملة على إحيائه، ولم يكن شاكًّا للبعث بل كان موقنًا، وقد بيَّن إيمانه باعترافه بأنه فعل ذلك من خشية الله تعالى، ولعلَّه لم يشكَّ أصلاً في قدرة الله في الممكنات ولا في الممتنعات، وإنما قال ذلك «في حالة غلب عليه فيها الدهش والخوف وشدة الجزع بحيث ذهب تيقُّظه وتدبر ما يقوله فصار في معنى الغافل والناسي، وهذه الحالة لا يؤاخذ فيها، وهو نحو قول القائل الآخر الذي غلب عليه الفرح حين وجد راحلته: «أنت عبدي وأنا ربك»، فلم يكفر بذلك الدهش والغلبة والسهو»
(«شرح مسلم» للنووي: (17/71).)
قال ابن حجر -رحمه الله-: «وأظهر الأقوال أنه قال ذلك في حال دهشته وغلبة الخوف عليه حتى ذهب بعقله لما يقول، ولم يكن قاصدًا لحقيقة معناه، بل كان فيها كالغافل والذاهل والناسي الذي لا يؤاخذ بما يصدر منه»
(«فتح الباري» لابن حجر (6/523).).
ومن هنا يتبيّن من خلال أقوال العلماء -بغض النظر عن خروج هذه المسألة عن محل النِّزاع لعدم تعلقها بالتوحيد- اتفاقًا على أنَّ ظاهر الحديث غير مراد، إذ لو كان مرادًا لما صاروا إلى تأويله وأعذروه بالجهل لكن لم يأت من أقوالهم ما يفيد ترك التأويل وإعذاره بالجهل، بل بالعكس إنما صرفوا اللفظ عن ظاهره ضرورة لتعارضه كدليل جزئي على قضية معيَّنة مع القواعد والأصول الكلية جمعًا بين النصوص الشرعية، فاقتضى -والحال هذه- وجوب تأويل دليل قضية عين جزئية وصرفها عن ظاهر معناها لتساير أحكام القواعد الكلية، إذ لا تنتهض الجزئيات على نقض الكليات، استبقاءً لأحكام القواعد الكلية جارية في الجزئيات وقاضية بعدم العذر بالجهل في أصول الإيمان والتوحيد.
والعلمُ عند اللهِ تعالى، وآخرُ دعوانا أنِ الحمدُ للهِ ربِّ العالمين، وصَلَّى اللهُ على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آله وصحبه وإخوانِه إلى يوم الدِّين، وسَلَّم تسليمًا.
الجزائر في: 07 جمادى الثانية 1429ﻫ
الموافق ﻟ: 11 جوان 2008م
من فتاوى الشيخ فركوس حفظه الله تعالى
السـؤال:
أضيفُ إلى ما سبق في مسألة العذر بالجهل في المسائل العقدية حديث أبي هريرة رضي الله عنه المتعلِّق بالرجل الذي جهل قدرة الله تعالى فقال صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم حكاية عنه: «فوَاللهِ لئِنْ قَدَرَ اللهُ عَلَيْهِ لَيُعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا لاَ يُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِنَ العَالَمِينَ»
( عن أبي هريرةَ رضي الله عنه أنَّ رسول اللهَ صلى الله عليه وآله وسلم قال: «قَالَ رَجُلٌ -لَمْ يَعْمَلْ خَيْراً قَطُّ - إِذَا مَاتَ فَحَرِّقُوهُ واذرُوا نِصفَه في البرّ ونصْفهَ في البَحْرِ، فواللهِ لئِنْ قَدَرَ اللهُ عَلَيْهِ ليُعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا لا يعَذِّبهُ أحدًا من العالمين، فَأَمَرَ اللهُ البَحْرَ فَجَمَعَ مَا فِيهِ، وَأَمَرَ البرَّ فَجَمَعَ مَا فِيهِ، ثُمَّ قَالَ: لِمَ فعلْتَ؟ قَالَ: مِنْ خَشْيَتِكَ وَأَنْتَ أَعْلَمُ، فَغَفَرَ لَهُ». أخرجه البخاري في «صحيحه» كتاب التوحيد، باب قول الله يريدون أن يبدلوا كلام الله:
(7067)، ومسلم في «صحيحه» كتاب التوبة، باب في سعة رحمة الله وأنها سبقت غضبه: (6980).)،
ومع ذلك عذره الله تعالى بجهله وغفر له، فهل هذا الحديث يصلح للاستدلال به في العذر بالجهل في مسائل التوحيد والاعتقاد؟ وجزاكم الله خيرًا.
الجـواب:
الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاةُ والسلامُ على مَنْ أرسله اللهُ رحمةً للعالمين، وعلى آله وصَحْبِهِ وإخوانِه إلى يوم الدِّين، أمّا بعد:
فالجوابُ على الاستدلال بحديث جهلِ الرجل قدرة الله تعالى وإعذاره له من الوجوه التالية:
الأول: عدمُ التسليم بأنه كان يجهل قدرةَ الله تعالى لظهور إيمانه بقُدرة الله تعالى فيما أخرجه مسلم، قوله: «فَإِنِّي لَمْ أَبْتَهِرْ عِنْدَ اللهِ خَيْرًا، وَإنَّ الله يَقْدِرُ عَلَيَّ أَنْ يُعَذِّبَنِي»
(أخرجه مسلم في «صحيحه» كتاب التوبة، باب في سعة رحمة الله وأنها سبقت غضبه: (6984)، من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.)،
وهذه الرواية التي عليها جمهور الرواة، قال النووي: «هكذا هو في معظم النسخ ببلادنا، ونقل اتفاق الرواة والنسخ عليه»
(«شرح مسلم» للنووي (17/73).)،
وفي هذه الرواية ليس فيها نفي حقيقة القدرة، بل بالعكس فيه تقرير لإيمان الرجل بقدرة الله على البعث والتعذيب، وإذا رجّح هذا المعنى لم يبق أي وجهٍ أو طريقٍ للاستدلال له على مسألة العذر بالجهل.
الثاني: فيما إذا ما قوبلت رواية الجمهور بالرواية الأخرى أمكن الجمع بينهما من المناحي التالية:
1- حمل «قدر الله» على القضاء، ويكون المعنى: «فوالله لئن قضى الله عليه ليعذبنَّه..»، وقدر بالتخفيف والتشديد بمعنى واحد.
2- حمل «قدر الله» على التضييق لقوله تعالى: ﴿وَمَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ﴾ [الطلاق: 7]، ﴿فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ﴾ [الفجر: 16]، وهو أحد الأقوال في قوله تعالى: ﴿فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ﴾ [الأنبياء: 87]، ويكون المعنى: «لئن ضيق الله عليه»، والتأويلان ذكرهما النووي
(لمصدر السابق، الجزء نفسه (ص 71).)،
غير أنَّ هذين التأولين يعكّر عليهما ما جاء في غير مسلم حديث: «لَعَلِّي أُضِلُّ اللهَ»
( أخرجه أحمد في «مسنده»: (19540)، من حديث معاوية بن حيدة رضي الله عنه. قال الهيثمي في «مجمع الزوائد»(10/320): «رواه أحمد والطبراني بنحوه في الكبير والأوسط ورجال أحمد ثقات». والحديث صححه الألباني في «السلسلة الصحيحة»: (7/106)، والوادعي في «الصحيح المسند»: (1127). )،
أي: أغيب عنه وهو يدلُّ على أنَّ قوله: «لئن قدر الله» على ظاهره فلا يحتاج إلى تأويل.
3- ولو حمل الحديث على ظاهره فإنه يمكن الجمع -أيضًا- بين الحديثين من زاوية ثالثة بحمل رواية الجمهور على الممكنات والرواية الأخرى على الممتنعات، فيكون التقدير: إنَّ الله قادر على أن يعذبني إن دفنتموني بهيئتي، فأمَّا إن سحقتموني وذريتموني في البَرِّ والبحر فلا يقدر علي.
ومعنى هذا أنَّ الرجل مُوقِنٌ بأن الله متصف بكمال القدرة في الممكنات دون الممتنعات، لظنه أن جمع ما تفرق من رماده في البر والبحر ممتنع، والممتنع خارج عن قدره الله تعالى، ومثل هذا التفصيل في القدرة لا يعلم إلاَّ بنصٍّ شرعي فالجهل بالدقيق من صور القدرة لا يؤثِّر في ربوبية الله تعالى ولا في ألوهيته، بخلاف مَن شكَّ في أصل القدرة فهو كافر؛ لأنه ينسب إلى الله العجزَ والضعف عن إمكان الخلق، فالجهل بدقيق الصفات لا يلزم منه الجهل بأصل الصفة، كما أنَّ الجهل بالصفات لا يلزم منه الجهل بالذات، إلاَّ إذا كانت الذات لا تتصور إلاَّ بتلك الصفة، ولما كانت جزئيات المسائل تحتاج في بيانها إلى نصٍّ شرعيٍّ عذر الرجل لجهله بها؛ لأنه لا يثبت حكم الخطاب إلاَّ بعد البلاغ، قال ابن تيمية رحمه الله: «من شكَّ في صفة من صفات الله تعالى ومثله لا يجهلها فمُرتد، وإن كان مثله يجهلها فليس بمرتدٍّ، ولهذا لم يكفر النبي صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم الرجل الشاكَّ في قدرة الله وإعادته؛ لأنه لا يكون إلاَّ بعد الرسالة»
(«الفتاوى الكبرى» لابن تيمية (4/606).).
هذا، والمعلوم أنَّ الحديث ورد في جهل صفة أو شك فيها ولم يرد في التوحيد وترك الشرك الذي هو أصل الدِّين كله؛ ذلك لأنَّ الرجل كان موحّدًا، يشهد له ما رواه أحمد عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم: «كَانَ رَجُلٌ مِمَنْ قَبْلَكُمْ لَمْ يَعْمَلْ خَيْرًا قَطّ إِلاَّ التَوْحِيدَ..»
( أخرجه أحمد في «مسنده»: (7980)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. والحديث صححه الألباني في «السلسلة الصحيحة»: (304. وأخرجه أحمد كذلك من حديث عبد الله بن مسعود (3776)، وصححه أحمد شاكر في «تحقيقه لمسند أحمد»: (5/296).)،
فلو كان التوحيد منتفيًا عنه ومات مشركًا للزم عقابه بنصِّ الآية سمعًا، ولم يكن محلاًّ للغفران لقوله تعالى: ﴿إِنَّ اللهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ﴾ [النساء: 48]، فهذا أصل كلي قطعي أنَّ مَن مات على التوحيد دخل الجنة، فلا يخلد في النار أحد مات على التوحيد، ولو عمل من المعاصي ما عمل، كما أنه لا يدخل الجنة أحدٌ مات على الكفر ولو عمل من أعمال البر ما عمل، وجحد صفة القدرة كفر اتفاقً
( «فتح الباري» لابن حجر: (6/523).)،
والرجل في الحديث -كما تقدم- كان موحِّدًا ومؤمنًا بقدرة الله تعالى في الجملة على إحيائه، ولم يكن شاكًّا للبعث بل كان موقنًا، وقد بيَّن إيمانه باعترافه بأنه فعل ذلك من خشية الله تعالى، ولعلَّه لم يشكَّ أصلاً في قدرة الله في الممكنات ولا في الممتنعات، وإنما قال ذلك «في حالة غلب عليه فيها الدهش والخوف وشدة الجزع بحيث ذهب تيقُّظه وتدبر ما يقوله فصار في معنى الغافل والناسي، وهذه الحالة لا يؤاخذ فيها، وهو نحو قول القائل الآخر الذي غلب عليه الفرح حين وجد راحلته: «أنت عبدي وأنا ربك»، فلم يكفر بذلك الدهش والغلبة والسهو»
(«شرح مسلم» للنووي: (17/71).)
قال ابن حجر -رحمه الله-: «وأظهر الأقوال أنه قال ذلك في حال دهشته وغلبة الخوف عليه حتى ذهب بعقله لما يقول، ولم يكن قاصدًا لحقيقة معناه، بل كان فيها كالغافل والذاهل والناسي الذي لا يؤاخذ بما يصدر منه»
(«فتح الباري» لابن حجر (6/523).).
ومن هنا يتبيّن من خلال أقوال العلماء -بغض النظر عن خروج هذه المسألة عن محل النِّزاع لعدم تعلقها بالتوحيد- اتفاقًا على أنَّ ظاهر الحديث غير مراد، إذ لو كان مرادًا لما صاروا إلى تأويله وأعذروه بالجهل لكن لم يأت من أقوالهم ما يفيد ترك التأويل وإعذاره بالجهل، بل بالعكس إنما صرفوا اللفظ عن ظاهره ضرورة لتعارضه كدليل جزئي على قضية معيَّنة مع القواعد والأصول الكلية جمعًا بين النصوص الشرعية، فاقتضى -والحال هذه- وجوب تأويل دليل قضية عين جزئية وصرفها عن ظاهر معناها لتساير أحكام القواعد الكلية، إذ لا تنتهض الجزئيات على نقض الكليات، استبقاءً لأحكام القواعد الكلية جارية في الجزئيات وقاضية بعدم العذر بالجهل في أصول الإيمان والتوحيد.
والعلمُ عند اللهِ تعالى، وآخرُ دعوانا أنِ الحمدُ للهِ ربِّ العالمين، وصَلَّى اللهُ على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آله وصحبه وإخوانِه إلى يوم الدِّين، وسَلَّم تسليمًا.
الجزائر في: 07 جمادى الثانية 1429ﻫ
الموافق ﻟ: 11 جوان 2008م
من فتاوى الشيخ فركوس حفظه الله تعالى