قال – رحمه الله – في تهذيب اللغة (15 / 513-517): وأما الإيمان فهو مصدر: آمن يُؤمن إيماناً؛ فهو مُؤمن. واتفق أهل العلم من اللُّغويين وغيرهم أن الإيمان معناه: التَّصْديق؛ وقال الله تعالى: ﴿ قالَتِ الأعراب ءَامَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُواْ وَلكِن قُولُواْ أَسْلَمْنَا ﴾[ الحجرات: 14]. وهذا موضع يَحتاج الناس إلى تفهّمه ، وأين يَنْفصل المُؤمن من المُسلم، وأين يستويان؟
والأصل في الإيمان الدُّخول في صِدْق الأمانة التي ائتمنه الله عليها، فإذا اعتقد التَّصديق بقلبه كما صدَّق بلسانه، فقد أدّى الأمانة وهو مؤمن، ومن لم يعتقد التصديق بقلبه فهو غير مؤدَ للأمانة التي ائتمنه الله عليها وهو مُنافق.
ومن زعم أن الإيمان هو إظهار القول دون التصديق بالقَلب، فإنه لا يَخلو مِن وجهين: أحدهما: أن يكون منافقاً يَنْضح عن المنافقين تأييداً لهم. أو يكون جاهلاً لا يَعلم ما يَقوله وما يُقال له، أَخرجه الجهل واللَّجاج إلى عِناد الحق وتَرك قَبُول الصواب .أعاذنا الله من هذه الصفة وجعلنا ممن عَلم فاسْتعمل ما عَلِم، أو جهل فتعلّم ممن علم، وسلّمنا من آفات أهل الزَّيغ والبدع. وحَسبنا الله ونعم الوكيل.
وفي قول الله تعالى: ﴿ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ ءَامَنُواْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُواْ وَجَاهَدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَائِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ ﴾[الحجرات: 15] ما يبيّن لك أن " المؤمن" هو المُتضمن لهذه الصفة، وأن من لم يتضمّن هذه الصفة فليس بمؤُمن، لأن " إنما " في كلام العرب تجيء لتثبيت شيء ونفي ما خالفه. ولا حول ولا قوة إلا بالله.
وقال النضر: قالوا للخليل: ما الإيمان؟ فقال: الطُّمَأنينة. قال: وقالوا للخليل: تقول: أنا مؤمن؟ قال: لا أقوله. وهذا تزكية.
والمؤمن: من أسماء الله تعالى، الذي وَحَّد نَفْسه بقوله: ﴿ وَإِلهُكُمْ إِلهٌ وَاحِدٌ ﴾[البقرة: 163 ] وبقوله: ﴿ شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لاَ إِلهَ إِلاَّ هُوَ ﴾[ آل عمران: 18]. وقيل: المؤمن في صفة الله: الذي آمن الخَلْق من ظُلمه. وقيل: المؤمن: الذي آمن أولياءَه عذابَه . قال ابن الأعرابي: وقيل: المُؤمن: الذي يصدق عبادَه ما وَعدهم.
وكُلّ هذه الصِّفات لله تعالى، لأنه صَدَّق بقوله ما دعا إليه عبادَه من تَوحيد، ولأنه آمَن الخَلْق من ظلمه، وما وعدنا من البعث، والجنة لمن آمن به، والنار لمن كفر به، فإنه مُصدِّق وَعده لا شريك له.
ويقال: استأمنني فلان فآمَنته أُومنه إيماناً. وقُريء في سَجدة بَراءة: ﴿ إِنَّهُمْ لاَ أَيْمَانَ لَهُمْ ﴾[ التوبة: 12]. فمن قرأ بكسر الألف، فمعناه: إنهم إذا أجارُوا وآمَنُوا المُسلمين لم يَفُوا وغَدَروا. والإيمان هاهنا: الإجارة والأمانة. حدثنا السعدي، حَدثنا البكائي، حدثنا عبد الله، عن أبي هلال، عن قتادة، عن أنس، قال: قال رسول الله - r-: " لا إيمان لمن لا أمانة له ، ولا دين لمن لا عَهْد له ".
ويقال: أمّن الإمام والدّاعي تَأْمِيناً، إذا قال بعد الفراغ من أم الكتاب: آمِين.
وأما قول الله تعالى: ﴿ إِنَّا عَرَضْنَا الأمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ﴾[الأحزاب: 72 ] فقد رُوي عن ابن عبَّاس وسَعيد بن جُبير، أنهما قالا: الأمانة هاهنا: الفرائض التي افترضها الله على عِباده. وقال ابن عمر: عُرضت على آدم الطاعة والمَعْصية، وعُرِّف ثواب الطاعة وعقاب المَعْصية.
والذي عندي فيه: أن الأمانة هاهنا: النِّية التي يَعْتقدها الإنسان، لأن الله ائتمنه عليها ولم يُظهر عليها أحداً من خَلقه، فمن أَضْمر من التّوحيد والتصديق مثل ما أظهر، فقد أدّى الأمانة، ومن أَضْمر التكذيب وهو مصدِّق باللّسان في الظاهر، فقد حمل الأمانة ولم يؤدّها، وكُل من خان فيما اؤتمن عليه فهو حامل. والإنسان في قوله تعالى: ﴿وحملها الإنسان ﴾[ الأحزاب: 72 ] هو: الكافر الشاكّ الذي لا يُصدِّق، وهو الظلوم الجهول، يدلّك على ذلك قوله تعالى:﴿ لِّيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً ﴾[ الأحزاب: 73 ].
اللحياني: يقال: ما آمن أن يَجد صحابةً، إيماناً، أي: ما وثق. والإيمان، عنده: الثقة .ابن الأنباري: رجل مؤمن: مصدِّق بالله ورُسُله. وآمنت بالشيء، إذا صدّقت به، قال الله تعالى: ﴿ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ ﴾[ التوبة : 61 ]. وأَنشد:
ومن قَبْل آمنَّا وقد كان قَوْمُنا ** يُصلُّون للأوثان قبلُ محمَّدا