هل هناك عرش آخر يوم القيامة غير عرش الرحمن ؟
هذا المقال تحقيق على قول الإمام ابن كثير في تفسير قوله تعالى :
{ وَالْمَلَكُ عَلَى أَرْجَائِهَا وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ } الحاقة-17
قال رحمه الله وطيب ثراه :
أي يوم القيامة يحمل العرش ثمانية من الملائكة ، ويحتمل أن يكون المراد بهذا العرش ، العرش العظيم ، أو العرش الذي يوضع في الأرض يوم القيامة لفصل القضاء ، والله أعلم بالصواب . اهـ
أقول : هذا الكلام لم يقله غير ابن كثير رحمه الله تعالى فيما أعلم ..
والإمام ابن كثير أبي عمر هو المحدث الحافظ المفسر المؤرخ إمام وعلم من أعلام أئمة السلفية .. وهو تاج على رؤوسنا .. رحمه الله وأثابه على جهده ..
ولكن تحكمنا ها هنا قاعدتان :
القاعدة الأولى : أن كل إنسان يؤخذ من قوله ويرد ....
والثانية : أنه حبيب إلينا ولكن الحق أحب إلينا منه ....
وهاتان القاعدتان كالرايتان المرفوعتان على عاتق كل إمام من أئمة السلف ..
وهو وشيوخه ( ابن تيمية وابن القيم والذهبي ) وغيرهم - رحمهم الله تعالى - علمونا ألا نتكلم في مسائل الغيبيات والأسماء والصفات .. إلا بدليل صحيح ..
وها هنا السؤال المطروح بداهة :
من أثبت أو قال من العلماء أن العرش يوم القيامة ، والذي تحمله الملائكة بنص الآية ، مغاير لعرش الله المذكور في الكتاب والسنة الصحيحة ؟
أعتقد أنه لم يقل هذا القول أحد قبل الإمام ابن كثير !!
وإن كان ،، فما هو الدليل عليه ؟
وأقول أن هذا الكلام غير صحيح لأمرين :
الأمر الأول :
مأخوذ من كلامه رحمه الله : فقد قال : ( ويحتمل ..)
وهذا الاحتمال بغير دليل أولا .. وليس على ثبوت التغاير دليل ثانيا ..
والأغرب أنه قال في عبارته :
ويحتمل أن يكون المراد بهذا العرش ، العرش العظيم ، أو العرش الذي يوضع في الأرض يوم القيامة لفصل القضاء .. الخ ..
ففيه غير قوله بالاحتمال المذكور أعلاه :
أنه جعل الأول – مع أنه الصحيح المتبادر – محتملا ..
وجعل الثاني مؤكدا بقوله : ( أو العرش ) بالألف واللام ( الذي يوضع في الأرض يوم القيامة لفصل القضاء ) .. جزما منه كما هو ظاهر ..
وهذا الكلام بظاهره يؤكد على وجود عرش آخر يوضع في الأرض يوم القيامة ليستوي عليه الرب لفصل القضاء ..
وإنما بحثه ينصب على أيهما أولى بتفسير الآية !!
وهذا واضح من كلامه رحمه الله وأثابه على جهده ..
الأمر الثاني :
أن العرش المذكور في الكتاب والسنة هو عرش واحد ..
وهو يقينا الذي تحمله الملائكة الثمانية يوم القيامة ..
ودليل ذلك أمران :
الأول أنه لم يثبت في التغاير دليل شرعي من كتاب أو سنة :
ومع عظم الوصف لعرش يوم القيامة لم يبين النبي صلى الله عليه وسلم في أي حديث صحيح أو ضعيف ، أن هناك عرش آخر يوضع يوم القيامة لفصل القضاء بين الناس ، وكذلك لم يرد عن أي من صحابته الكرام ولا أجلاء التابعين ..
ومعلوم أن البيان في هذا الأمر ضروري ..
وكل أحداث الرحلة إلى الدار الآخرة من الموت والبعث والقيامة مرورا بالأحداث العظام إلى الجنة والنار .. لم يثبت أن العرش ليس هو الذي يوضع يوم القيامة ، ولم يثبت شيء غير عرش الرحمن .. وحيث لم يرد فلا يصح التخمين والاحتمال ..
الدليل الثاني :
الأدلة الكثيرة فيما ورد عن العرش ..
فصحيح الأخبار تدل على مباينته لغيره من المخلوقات وأنه ليس نسبته إلى بعضها كنسبة بعضها إلى بعض ..
قال الله تعالى :
{ الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَّحْمَةً وَعِلْماً فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ } غافر-7
وقال الله تعالى :
{ وَتَرَى الْمَلَائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَقُضِيَ بَيْنَهُم بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ } الزمر-75
وأيضاً فقد أخبر أن عرشه كان على الماء قبل أن يخلق السماوات والأرض كما قال تعالى :
{ وَهُوَ الَّذِي خَلَق السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاء لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَلَئِن قُلْتَ إِنَّكُم مَّبْعُوثُونَ مِن بَعْدِ الْمَوْتِ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِنْ هَـذَا إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ } هود-7
فجاء وصف العرش بالألف واللام ، لأنه لم يوصف به غيره ..
وقد ثبت في صحيح البخاري وغيره عن عمران بن حصين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : كان الله ولم يكن شيء غيره ، وكان عرشه على الماء ، وكتب في الذكر كل شيء ، وخلق السموات والأرض .
وثبت في صحيح مسلم عن عبد الله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : إن الله قدر مقادير الخلائق قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة ، وكان عرشه على الماء .
فهذا التقدير بعد وجود العرش وقبل خلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة ، وهو سبحانه وتعالى يتمدح بأنه ذو العرش المجيد كقوله سبحانه :
{ قُل لَّوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذاً لاَّبْتَغَوْاْ إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلاً } الإسراء-42
وقوله تعالى :
{ رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ لِيُنذِرَ يَوْمَ التَّلَاقِ } غافر-15
وقال سبحانه : { وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ * ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ } البروج-14/15
وقد قرئ المجيد بالرفع صفة لله .. وقرئ بالخفض صفة للعرش ..
والمجد في لغة العرب يعطي معنى السعة ..
فوصفه بالمجيد يدل على السعة ، وهو في حق الله تعالى دال على سعة صفاته وعظمتها وكمالها وجلالها .
وقد نبه ابن القيم ـ رحمه الله ـ على قاعدة مفيدة فيما يتعلق بأسماء الله ، وهي :
أنَّ منها ما يدل على صفة واحدة ، مثل السميع فهو دال على صفة السمع ، والبصير دال على صفة البصر ، والرحيم دال على صفة الرحمة ..
ومنها ما يدل على أكثر من صفة ، مثل السيد والعظيم والمجيد ، فالمجيد هذا يدل على صفات كثيرة .. اهـ
وقال تعالى :
وقال سبحانه : { ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ } البروج-15
{ قُلْ مَن رَّبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ } المؤمنون-86
فوصف العرش بأنه مجيد وأنه عظيم .
وقال تعالى :
{ فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ } المؤمنون-116
فوصفه بأنه كريم أيضاً ..
وثبت في الصحيحين عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول عند الكرب : لا إله إلا الله رب العرش العظيم ، لا إله إلا الله رب السموات ورب الأرض ورب العرش الكريم .
فوصفه في الحديث بأنه عظيم وكريم أيضاً .
وثبت في صحيح مسلم عن جويرية بنت الحارث أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل عليها وكانت تسبح بالحصى إلى الضحى فقال :
لقد قلت كلمة تعدل كلمات لو وزنت بما قلتيه لوزنتهن : سبحان الله زنة عرشه ، سبحان الله رضى نفسه ، سبحان الله مداد كلماته .. الحديث ..
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ :
فهذا يبين أنَّ زنة العرش أثقل الأوزان . اهـ
وصح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :
لا تخيروا بين الأنبياء فإن الناس يصعقون يوم القيامة فأكون أول من يفيق فإذا أنا بموسى آخذ بقائمة من قوائم العرش فلا أدري أفاق قبلي أم جوزي بصعقته .
فهذا فيه بيان أن للعرش قوائم .
وفي الصحيحين عن جابر قال سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول :
اهتز عرش الرحمن لموت سعد بن معاذ .
وقال صلى الله عليه وسلم :
إذا سألتم الله فسلوه الفردوس ، فإنه أوسط الجنة ، وأعلى الجنة ، وفوقه عرش الرحمن ، ومنه تفجر أنهار الجنة .
وهو حديث صحيح متفق عليه .
وقال صلى الله عليه وسلم :
يا أبا ذر : ما السموات السبع مع الكرسي إلا كحلقة ملقاة بأرض فلاة ، وفضل العرش على الكرسي كفضل الفلاة على الحلقة .
الحديث رواه أبو حاتم محمد بن حبان البستي في صحيحه 361 بطوله وأخرجه ابن أبي شيبة في العرش رقم 58 ، وأبو نعيم في الحلية 1/166 ، وأبو الشيخ في العظمة 2/648ـ 649 ، والبيهقي في الأسماء والصفات رقم 861 وللحديث طرق أخرى ذكرها الألباني في الصحيحة رقم 109 وقال : وجملة القول أن الحديث بهذه الطرق صحيح .
وروى أبو داود عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال :
أذن لي أن أحدث عن ملك من ملائكة الله عز وجل من حملة العرش ، إن ما بين شحمة أذنه إلى عاتقه مسيرة سبعمائة عام .
الحديث صححه ابن كثير والألباني .
وحديث السبعة الذين يستظلون بظل العرش يوم القيامة .. بجميع رواياته من هذا النوع أيضا ..
واتفق الجمهور من علماء السلف على أن العرش غير الكرسي ..
قال الإمام عثمان بن سعيد الدرامي - رحمه الله - :
هذا الذي عرفناه عن ابن عباس صحيحا مشهورا ، فالكرسي مخلوق عظيم ، وهو موضع القدمين لله سبحانه ..
كما روى ابن أبي شيبة والحاكم ، وقال على شرط الشيخين ، عن ابن عباس في قوله : ( وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ ) أنه قال : الكرسي موضع القدمين والعرش لا يقدر قدره إلا الله .
وصححه الألباني عنه موقوفا في تخريج الطحاوية ومختصر العلو للذهبي ..
وعليه فأقول :
أن العرش الموصوف بهذه الصفات لا يصح أولا أن يكون هناك عرش غيره لعظيم صفاته المذكورة في تلك الأدلة السالفة الذكر ..
ولا يصح ثانيا : أن يكون هناك عرش آخر تحمله الملائكة يوم القيامة ولم يأت دليل على وصف كنهه ، بخلاف العرش المذكور ..
فائدة
في تفسير القرآن للشيخ ابن عثيمين رحمه الله قال :
أن العرش يوم القيامة يكون بدل السماء التي فوقنا الآن ؛ لأن السماء تطوى بيمين الله عز وجل يطويها بيمينه ويهزها وكذلك يقبض الأرض ويقول : أنا الملك ، أين ملوك الأرض . اهـ والله أعلى وأعلم ..
وفي الختام أقول :
أنا لا أقصد أن أرد على أحد بعينه ، فالإمام ابن كثير إمام من أهل الحفظ والاجتهاد ومن أكابر أهل السنة ، ويكفيه أنه تتلمذ على يدي شيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم والحافظ الذهبي وكان صهرا للإمام المزي صاحب تهذيب الكمال في أسماء الرجال ..
ولكنه ليس بمعصوم ،، غفر الله لنا وله ..
وإنما أصحح مسألة من المسائل المهمة ، والتي غفل عنها كثير من المعلقين على تفسير ابن كثير في كل طبعاته التي بين يدي فيما أعلم ..
وكذلك لم يطرح بحث لردها أو حتى لإثباتها في كتب العقيدة أو كتب اليوم الآخر على حد علمي أيضا ..
وإنما حدا بي إلى هذا الرد المطول - والممل على قارئيه مع أسفي الشديد – إنما هو النصح لدين الله وتبصير إخواني من طلبة العلم ..
هذا إن كنت مصيبا .. وإلا .. فأستغفر الله من الخطأ والزلل ..
وأرجو المسامحة من إخواني الكرام ..
ويا حبذا لو علقتم بارك الله فيكم ..
والحمد لله رب العالمين .
تعليق