نبذه عن الكتاب : هذا كتاب قيم عالج فيه المصنف مسألة أهم المسائل وأخطرها، وهي مسألة الإيمان بالقضاء والقدر، فبين منهج أهل السنة في هذه المسألة داعماً ذلك بالأدلة من الكتاب والسنة وأقوال السلف الصالح من الصحابة والتابعين.ثم رد على من خالفهم مبيناً أقوالهم، وسخافة عقولهم، حتى أنه قد عقد بابين كاملين، أحدهما للرد على الجبرية، والثاني للرد على القدرية، هذا بالإضافة للرد عليها وعلى غيرهما في ثنايا الكتاب
الحمد لله ذي الإفضال والإنعام، وصلى الله تعالى وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه والأئمة الأعلام أما بعد فإن أهم ما يجب معرفته على المكلف النبيل فضلا عن الفاضل الجليل، ما ورد في القضاء والقدر والحكمة والتعليل، فهو من أسنى المقاصد والإيمان به قطب رحى التوحيد ونظامه، ومبدأ الدين المبين وختامه، فهو أحد أركان الإيمان، وقاعدة أساس الإحسان، التي يرجع إليها، ويدور في جميع تصاريفه عليها، فالعدل قوام الملك، والحكمة مظهر الحمد، والتوحيد متضمن لنهاية الحكمة، وكمال النعمة، ولا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، فبالقدر والحكمة ظهر خلقه وشرعه المبين،: {أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ}.
فصل: وقد سلك جماهير العقلاء في هذا الباب في كل واد، وأخذوا في كل طريق، وتولجوا كل مضيق، وركبوا كل صعب وذلول، وقصدوا الوصول إلى معرفته، والوقوف على حقيقته، وتكلمت فيه الأمم قديما وحديثا، وساروا للوصول إلى مغزاه سيرا حثيثا، وخاضت فيه الفرق على تباينها واختلافها، وصنف فيه المصنفون الكتب على تنوع أصنافها، فلا أحد إلا وهو يحدث نفسه بهذا الشأن، ويطلب الوصول فيه إلى حقيقة العرفان، فتراه إما مترددا فيه مع نفسه، أو مناظرا لبني جنسه، وكل قد اختار لنفسه قولا لا يعتقد الصواب في سواه، ولا يرتضي إلا إياه، وكلهم إلا من تمسك بالوحي عن طريق الصواب مردود، وباب الهدى في وجهه مسدود، تحسى علما غير طائل، وارتوى من ماء آجن، قد طاف على أبواب الأفكار، ففاز بأخس الآراء والمطالب، فرح بما عنده من العلم الذي لا يسمن ولا يغني من جوع، وقدم آراء من أحسن به الظن على الوحي المنزل المشروع، والنص المرفوع، حيران يأتم بكل حيران، يحسب كل شراب ماء فهو طول عمره ظمآن، ينادى إلى الصواب من مكان بعيد، أقبل إلى الهدى فلا يستجيب إلى يوم الوعيد، قد فرح بما عنده من الضلال، وقنع بأنواع الباطل وأصناف المحال، منعه الكفر الذي اعتقده هدى وما هو ببالغه عن الهداة المهتدين، ولسان حاله أو قاله يقول: {أَهَؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ}.
فصل: ولما كان الكلام في هذا الباب نفيا وإثباتا موقوفا على الخبر عن أسماء الله وصفاته وأفعاله وخلقه وأمره وأسعد الناس بالصواب فيه من تلقى ذلك من مشكاة الوحي المبين ورغب بعقله وفطرته وإيمانه عن آراء المتهوكين وتشكيكات المشككين وتكلفات المتنطعين واستمطر ديم الهداية من كلمات أعلم الخلق برب العالمين فإن كلماته الجوامع النوافع في هذا الباب وفي غيره كفت وشفت وجمعت وفرقت وأوضحت وبينت وحلت محل التفسير والبيان لما تضمنه القرآن ثم تلاه أصحابه من بعده على نهجه المستقيم وطريقه القويم فجاءت كلماتهم كافية شافية مختصرة نافعة لقرب العهد ومباشرة التلقي من تلك المشكاة التي هي مظهر كل نور ومنبع كل خير وأساس كل هدى ثم سلك آثارهم التابعون لهم بإحسان فاقتفوا طريقهم وركبوا مناهجهم واهتدوا بهداهم ودعوا إلى ما دعوا إليه ومضوا على ما كانوا عليه ثم نبغ في عهدهم وأواخر عهد الصحابة القدرية مجوس هذه الأمة الذين يقولون لا قدر وأن الأمر أنف فمن شاء هدى نفسه ومن شاء أضلها ومن شاء بخسها حظها وأهملها ومن شاء وفقها للخير وكملها كل ذلك مردود إلى مشيئة العبد ومقتطع من مشيئة العزيز الحميد فأثبتوا في ملكه مالا يشاء وفي مشيئته ما لا يكون ثم جاء خلف هذا السلف فقرروا ما أسسه أولئك من نفي القدر وسموه عدلا وزادوا عليه نفي صفاته سبحانه وحقائق أسمائه وسموه توحيدا فالعدل عندهم إخراج أفعال الملائكة والإنس والجن وحركاتهم وأقوالهم وإراداتهم من قدرته ومشيئته وخلقه والتوحيد عند متأخريهم تعطيله عن صفات كماله ونعوت جلاله وأنه لا سمع له ولا بصر ولا قدرة ولا حياة ولا إرادة تقوم به ولا كلام ما تكلم ولا يتكلم ولا أمر ولا يأمر ولا قال ولا يقول إن ذلك إلا أصوات وحروف مخلوقة منه في الهواء أو في محل مخلوق ولا استوى على عرشه فوق سماواته ولا ترفع إليه الأيدي ولا تعرج الملائكة والروح إليه ولا ينزل الأمر والوحي من عنده وليس فوق العرش إله يعبد ولا رب يصلى له ويسجد ما فوقه إلا العدم المحض والنفي الصرف فهذا توحيدهم وذاك عدلهم.
فصل: ثم نبغت طائفة أخرى من القدرية فنفت فعل العبد و قدرته و اختياره و زعمت أن حركته الاختيارية و لا اختيار كحركة الأشجار عند هبوب الرياح و كحركات الأمواج و إنه على الطاعة و المعصية مجبور و إنه غير ميسر لما خلق له بل هو عليه مقسور و مجبور ثم تلاهم أتباعهم على آثارهم مقتدين و لمناهجهم مقتفين فقرروا هذا المذهب و انتموا إليه و حققوه وزادوا عليه أن تكاليف الرب تعالى لعباده كلها تكليف ما لا يطاق و إنها في الحقيقة كتكليف المقعد أن يرقى إلى السبع الطباق فالتكليف بالإيمان و شرائعه تكليف بما ليس من فعل العبد و لا هو له بمقدور و إنما هو تكليف بفعل من هو متفرد بالخلق و هو على كل شيء قدير فكلف عباده بأفعاله و ليسوا عليها قادرين ثم عاقبهم عليها وليسوا في الحقيقة لها فاعلين ثم تلاهم على آثارهم محققوهم من العباد فقالوا ليس في الكون معصية البتة إذ الفاعل مطيع للإرادة موافق للمراد كما قيل:
أصبحت منفعلا لما يختاره منى ففعلي كله طاعات
ولاموا بعض هؤلاء على فعله فقال إن كنت عصيت أمره فقد أطعت إرادته ومطيع الإرادة غير ملوم وهو في الحقيقة غير مذموم وقرر محققوهم من المتكلمين هذا المذهب بأن الإرادة والمشيئة والمحبة في حق الرب سبحانه هي واحد فمحبته هي نفس مشيئته وكل ما في الكون فقد أراده وشاءه وكل ما شاءه فقد أحبه وأخبرني شيخ الإسلام قدس الله روحه أنه لام بعض هذه الطائفة على محبة ما يبغضه الله ورسوله فقال له الملوم المحبة نار تحرق من القلب ما سوى مراد المحبوب وجميع ما في الكون مراده فأي شيء أبغض منه قال الشيخ فقلت له إذا كان قد سخط على أقوام ولعنهم وغضب عليهم وذمهم فواليتهم أنت وأحببتهم وأحببت أفعالهم ورضيتها تكون مواليا له أو معاديا قال فبهت الجبري ولم ينطق بكلمة وزعمت هذه الفرقة أنهم بذلك للسنة ناصرون وللقدر مثبتون ولأقوال أهل البدع مبطلون هذا وقد طووا بساط التكليف وطففوا في الميزان غاية التطفيف وحملوا ذنوبهم على الأقدار وبرأوا أنفسهم في الحقيقة من فعل الذنوب والأوزار وقالوا أنها في الحقيقة فعل الخلاق العليم وإذا سمع المنزه لربه هذا قال: {سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ} فالشر ليس إليك والخير كله في يديك ولقد ظنت هذه الطائفة بالله أسوأ الظن ونسبته إلى أقبح الظلم وقالوا أن أوامر الرب ونواهيه كتكليف العبد أن يرقى فوق السماوات وكتكليف الميت إحياء الأموات والله يعذب عباده أشد العذاب على فعل ما لا يقدرون يقدرون على تركه وعلى ترك مالا يقدرون على فعله بل يعاقبهم على نفس فعله الذي هو لهم غير مقدور وليس أحد ميسر له بل هو عليه مقهور ونرى العارف منهم ينشد مترنما ومن ربه متشكيا ومتظلما:
ألقاه في اليم مكتوفا وقال له إياك إياك أن تبتل بالماء
وليس عند القوم في نفس الأمر سبب ولا غاية ولا حكمة ولا قوة في الأجسام ولا طبيعة ولا غريزة فليس في الماء قوة التبريد ولا في النار قوة التسخين ولا في الأغذية قوة الغذاء ولا في الأدوية قوة الدواء ولا في العين قوة الإبصار ولا في الأذن قوة السماع ولا في الأنف قوة الشم ولا في الحيوان قوة فاعلة ولا جاذبة ولا ممسكة ولا دافعة والرب تعالى لم يفعل شيئا بشيء ولا شيئا لشيء فليس في أفعاله باء تسبب ولا لام تعليل وما ورد من ذلك فمحمول على باء المصاحبة ولام العاقبة وزادوا على ذلك أن الأفعال لا تنقسم في نفسها إلى حسن وقبيح ولا فرق في نفس الأمر بين الصدق والكذب والبر والفجور والعدل والظلم والسجود للرحمن والسجود للشيطان والإحسان إلى الخلق والإساءة إليهم ومسبة الخالق والثناء عليه وإنما نعلم الحسن من ذلك من القبيح بمجرد الأمر والنهي ولذلك يجوز النهي عن كل ما أمر به والأمر بكل ما نهى عنه ولو فعل ذلك لكان هذا قبيحا وهذا حسنا وزاد بعض محققيهم على هذا أن الأجسام كلها متماثلة فلا فرق في الحقيقة بين جسم النار وجسم الماء ولا بين جسم الذهب وجسم الخشب ولا بين المسك والرجيع وإنما تفترق بصفاتها وأعراضها مع تماثلها في الحد والحقيقة وزادوا على ذلك بأن قالوا الأعراض كلها لا تبقى زمانين ولا تستقر وقتين فإذا جمعت بين قولهم بعدم بقاء الأعراض وقولهم بتماثل الأجسام وتساوي الأفعال وأن العبد لا فعل له البتة وأنه لا سبب في الوجود ولا قوة ولا غريزة ولا طبيعة وقولهم أن الرب تعالى ليس له فعل يقوم به وفعله غير مفعوله وقولهم أنه ليس بمباين لخلقه ولا داخل العالم ولا خارجه ولا متصلا به ولا منفصلا عنه وقولهم أنه لا يتكلم ولا يكلم ولا قال ولا يقول ولا سمع أحد خطابه ولا يسمعه ولا يراه المؤمنون يوم القيامة جهرة بأبصارهم من فوقهم أنتجت لك هذه الأصول عقلا يعارض السمع ويناقض الوحي وقد أوصاك الأشياخ عند التعارض بتقديم هذا المعقول على ما جاء به الرسول
فلو أني بليت بهاشمي ؤلته بنو عبد المدان
لهان عليّ ما ألقى ولكن عالوا فانظروا بمن ابتلاني
فصل: ولما كانت معرفة الصواب في مسائل القضاء والقدر والحكمة والتعليل واقعة في مرتبة الحاجة بل في مرتبة الضرورة اجتهدت في جمع هذا الكتاب وتهذيبه وتحريره وتقريبه فجاء فردا في معناه بديعا في مغزاه وسميته شفاء العليل في مسائل القضاء والقدر والحكمة والتعليل وجعلته أبوابا:
الباب الأول: في تقدير المقادير قبل خلق السماوات والأرض.
الباب الثاني: في تقدير الرب تعالى شقاوة العباد وسعادتهم وأرزاقهم وآجالهم قبل خلقهم وهو تقدير ثان بعد الأول.
الباب الثالث: في ذكر احتجاج آدم وموسى في ذلك وحكم النبي صلى الله عليه وسلم لآدم.
الباب الرابع: في ذكر التقدير الثالث والجنين في بطن أمه.
الباب الخامس: في التقدير الرابع ليلة القدر.
الباب السادس: في ذكر التقدير الخامس اليومي.
الباب السابع: في أن سبق المقادير بالسعادة والشقاوة لا يقتضي ترك الأعمال بل يوجب الاجتهاد والحرص لأنه تقدير بالأسباب.
الباب الثامن: في قوله تعالى أن الذين سبقت لهم منا الحسنى.
الباب التاسع: في قوله إنا كل شيء خلقناه بقدر.
الباب العاشر: في مراتب القضاء والقدر التي من استكمل معرفتها والإيمان بها فقد آمن بالقدر وذكر المرتبة الأولى.
الباب الحادي عشر: في ذكر المرتبة الثانية من مراتب القضاء والقدر وهي مرتبة الكتابة
الباب الثاني عشر في ذكر المرتبة الثالثة وهي مرتبة المشيئة.
الباب الثالث عشر: في ذكر المرتبة الرابعة وهي مرتبة خلق الأعمال.
الباب الرابع عشر: في الهدي والضلال ومراتبهما.
الباب الخامس عشر: في الطبع والختم والقفل والغل والسد والغشاوة ونحوها وأنه مفعول الرب.
الباب السادس عشر: في تفرد الرب بالخلق للذات والصفات والأفعال.
الباب السابع عشر: في الكتب والجبر ومعناهما لغة واصطلاحا وإطلاقهما نفيا وإثباتا.
الباب الثامن عشر: في فعل وافعل في القضاء والقدر وذكر الفعل والانفعال.
الباب التاسع عشر: في ذكر مناظرة بين جبري وسني.
الباب العشرون: في مناظرة بين قدري وسني.
الباب الحادي والعشرون: في تنزيه القضاء الإلهي عن الشر ودخوله في المقضي.
الباب الثاني والعشرون: في طرق إثبات حكمة الرب تعالى في خلقه وأمره واثبات الغايات المطلوبة والعواقب الحميدة التي فعل وأمر لأجلها وهو من أجل أبواب الكتاب.
الباب الثالث والعشرون: في استيفاء شبه نفاة الحكمة وذكر الأجوبة المفصلة عنها.
الباب الرابع والعشرون: في معنى قول السلف في الإيمان بالقدر خيره وشره وحلوه ومره.
الباب الخامس والعشرون: في بيان بطلان قول من قال إن الرب تعالى مريد للشر وفاعل له وامتناع إطلاق ذلك نفيا وإثباتا.
الباب السادس والعشرون: فيما دل عليه قوله صلى الله عليه وسلم: "أعوذ برضاك من سخطك وأعوذ بعفوك من عقوبتك وأعوذ بك منك" من تحقيق القدر وإثباته وأسرار هذا الدعاء.
الباب السابع والعشرون: في دخول الإيمان بالقضاء والقدر والعدل والتوحيد تحت قوله: "ماض في حكمك عدل في قضاؤك" وما تضمنه الحديث من قواعد الدين.
الباب الثامن والعشرون: في أحكام الرضا بالقضاء واختلاف الناس في ذلك وتحقيق القول فيه.
الباب التاسع والعشرون: في انقسام القضاء والقدر والإرادة والكتابة والحكم والأمر والإذن والجعل والكلمات والبعث والإرسال والتحريم والعطاء والمنع إلى كوني يتعلق بخلقه وديني يتعلق بأمره وما في تحقيق ذلك من إزالة اللبس والإشكال.
الباب الموفي ثلاثين: في الفطرة الأولى التي فطر الله عباده عليها وبيان أنها لا تنافي القضاء والعدل بل توافقه وتجامعه،
وهذا حين الشروع في المقصود فما كان فيه من صواب فمن الله وحده هو المان به وما كان فيه من خطأ فمني ومن الشيطان والله بريء منه ورسوله.
فيا أيها المتأمل له الواقف عليه لك غنمه، وعلى مؤلفه غرمه، ولك فائدته، وعليه عائدته، فلا تعجل بإنكار ما لم يتقدم لك أسباب معرفته ولا يحملنك شنآن مؤلفه وأصحابه على أن تحرم ما فيه من الفوائد التي لعلك لا تظفر بها في كتاب ولعل أكثر من تعظمه ماتوا بحسرتها ولم يصلوا إلى معرفتها والله يقسم فضله بين خلقه بعلمه وحكمته وهو العليم الحكيم والفضل بيد الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم.
المقدمة
شفاء العليل في مسائل القضاء والقدر والحكمة والتعليل
للإمام ابن قيم الجوزية
بسم الله الرحمن الرحيم
شفاء العليل في مسائل القضاء والقدر والحكمة والتعليل
للإمام ابن قيم الجوزية
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله ذي الإفضال والإنعام، وصلى الله تعالى وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه والأئمة الأعلام أما بعد فإن أهم ما يجب معرفته على المكلف النبيل فضلا عن الفاضل الجليل، ما ورد في القضاء والقدر والحكمة والتعليل، فهو من أسنى المقاصد والإيمان به قطب رحى التوحيد ونظامه، ومبدأ الدين المبين وختامه، فهو أحد أركان الإيمان، وقاعدة أساس الإحسان، التي يرجع إليها، ويدور في جميع تصاريفه عليها، فالعدل قوام الملك، والحكمة مظهر الحمد، والتوحيد متضمن لنهاية الحكمة، وكمال النعمة، ولا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، فبالقدر والحكمة ظهر خلقه وشرعه المبين،: {أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ}.
فصل: وقد سلك جماهير العقلاء في هذا الباب في كل واد، وأخذوا في كل طريق، وتولجوا كل مضيق، وركبوا كل صعب وذلول، وقصدوا الوصول إلى معرفته، والوقوف على حقيقته، وتكلمت فيه الأمم قديما وحديثا، وساروا للوصول إلى مغزاه سيرا حثيثا، وخاضت فيه الفرق على تباينها واختلافها، وصنف فيه المصنفون الكتب على تنوع أصنافها، فلا أحد إلا وهو يحدث نفسه بهذا الشأن، ويطلب الوصول فيه إلى حقيقة العرفان، فتراه إما مترددا فيه مع نفسه، أو مناظرا لبني جنسه، وكل قد اختار لنفسه قولا لا يعتقد الصواب في سواه، ولا يرتضي إلا إياه، وكلهم إلا من تمسك بالوحي عن طريق الصواب مردود، وباب الهدى في وجهه مسدود، تحسى علما غير طائل، وارتوى من ماء آجن، قد طاف على أبواب الأفكار، ففاز بأخس الآراء والمطالب، فرح بما عنده من العلم الذي لا يسمن ولا يغني من جوع، وقدم آراء من أحسن به الظن على الوحي المنزل المشروع، والنص المرفوع، حيران يأتم بكل حيران، يحسب كل شراب ماء فهو طول عمره ظمآن، ينادى إلى الصواب من مكان بعيد، أقبل إلى الهدى فلا يستجيب إلى يوم الوعيد، قد فرح بما عنده من الضلال، وقنع بأنواع الباطل وأصناف المحال، منعه الكفر الذي اعتقده هدى وما هو ببالغه عن الهداة المهتدين، ولسان حاله أو قاله يقول: {أَهَؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ}.
فصل: ولما كان الكلام في هذا الباب نفيا وإثباتا موقوفا على الخبر عن أسماء الله وصفاته وأفعاله وخلقه وأمره وأسعد الناس بالصواب فيه من تلقى ذلك من مشكاة الوحي المبين ورغب بعقله وفطرته وإيمانه عن آراء المتهوكين وتشكيكات المشككين وتكلفات المتنطعين واستمطر ديم الهداية من كلمات أعلم الخلق برب العالمين فإن كلماته الجوامع النوافع في هذا الباب وفي غيره كفت وشفت وجمعت وفرقت وأوضحت وبينت وحلت محل التفسير والبيان لما تضمنه القرآن ثم تلاه أصحابه من بعده على نهجه المستقيم وطريقه القويم فجاءت كلماتهم كافية شافية مختصرة نافعة لقرب العهد ومباشرة التلقي من تلك المشكاة التي هي مظهر كل نور ومنبع كل خير وأساس كل هدى ثم سلك آثارهم التابعون لهم بإحسان فاقتفوا طريقهم وركبوا مناهجهم واهتدوا بهداهم ودعوا إلى ما دعوا إليه ومضوا على ما كانوا عليه ثم نبغ في عهدهم وأواخر عهد الصحابة القدرية مجوس هذه الأمة الذين يقولون لا قدر وأن الأمر أنف فمن شاء هدى نفسه ومن شاء أضلها ومن شاء بخسها حظها وأهملها ومن شاء وفقها للخير وكملها كل ذلك مردود إلى مشيئة العبد ومقتطع من مشيئة العزيز الحميد فأثبتوا في ملكه مالا يشاء وفي مشيئته ما لا يكون ثم جاء خلف هذا السلف فقرروا ما أسسه أولئك من نفي القدر وسموه عدلا وزادوا عليه نفي صفاته سبحانه وحقائق أسمائه وسموه توحيدا فالعدل عندهم إخراج أفعال الملائكة والإنس والجن وحركاتهم وأقوالهم وإراداتهم من قدرته ومشيئته وخلقه والتوحيد عند متأخريهم تعطيله عن صفات كماله ونعوت جلاله وأنه لا سمع له ولا بصر ولا قدرة ولا حياة ولا إرادة تقوم به ولا كلام ما تكلم ولا يتكلم ولا أمر ولا يأمر ولا قال ولا يقول إن ذلك إلا أصوات وحروف مخلوقة منه في الهواء أو في محل مخلوق ولا استوى على عرشه فوق سماواته ولا ترفع إليه الأيدي ولا تعرج الملائكة والروح إليه ولا ينزل الأمر والوحي من عنده وليس فوق العرش إله يعبد ولا رب يصلى له ويسجد ما فوقه إلا العدم المحض والنفي الصرف فهذا توحيدهم وذاك عدلهم.
فصل: ثم نبغت طائفة أخرى من القدرية فنفت فعل العبد و قدرته و اختياره و زعمت أن حركته الاختيارية و لا اختيار كحركة الأشجار عند هبوب الرياح و كحركات الأمواج و إنه على الطاعة و المعصية مجبور و إنه غير ميسر لما خلق له بل هو عليه مقسور و مجبور ثم تلاهم أتباعهم على آثارهم مقتدين و لمناهجهم مقتفين فقرروا هذا المذهب و انتموا إليه و حققوه وزادوا عليه أن تكاليف الرب تعالى لعباده كلها تكليف ما لا يطاق و إنها في الحقيقة كتكليف المقعد أن يرقى إلى السبع الطباق فالتكليف بالإيمان و شرائعه تكليف بما ليس من فعل العبد و لا هو له بمقدور و إنما هو تكليف بفعل من هو متفرد بالخلق و هو على كل شيء قدير فكلف عباده بأفعاله و ليسوا عليها قادرين ثم عاقبهم عليها وليسوا في الحقيقة لها فاعلين ثم تلاهم على آثارهم محققوهم من العباد فقالوا ليس في الكون معصية البتة إذ الفاعل مطيع للإرادة موافق للمراد كما قيل:
أصبحت منفعلا لما يختاره منى ففعلي كله طاعات
ولاموا بعض هؤلاء على فعله فقال إن كنت عصيت أمره فقد أطعت إرادته ومطيع الإرادة غير ملوم وهو في الحقيقة غير مذموم وقرر محققوهم من المتكلمين هذا المذهب بأن الإرادة والمشيئة والمحبة في حق الرب سبحانه هي واحد فمحبته هي نفس مشيئته وكل ما في الكون فقد أراده وشاءه وكل ما شاءه فقد أحبه وأخبرني شيخ الإسلام قدس الله روحه أنه لام بعض هذه الطائفة على محبة ما يبغضه الله ورسوله فقال له الملوم المحبة نار تحرق من القلب ما سوى مراد المحبوب وجميع ما في الكون مراده فأي شيء أبغض منه قال الشيخ فقلت له إذا كان قد سخط على أقوام ولعنهم وغضب عليهم وذمهم فواليتهم أنت وأحببتهم وأحببت أفعالهم ورضيتها تكون مواليا له أو معاديا قال فبهت الجبري ولم ينطق بكلمة وزعمت هذه الفرقة أنهم بذلك للسنة ناصرون وللقدر مثبتون ولأقوال أهل البدع مبطلون هذا وقد طووا بساط التكليف وطففوا في الميزان غاية التطفيف وحملوا ذنوبهم على الأقدار وبرأوا أنفسهم في الحقيقة من فعل الذنوب والأوزار وقالوا أنها في الحقيقة فعل الخلاق العليم وإذا سمع المنزه لربه هذا قال: {سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ} فالشر ليس إليك والخير كله في يديك ولقد ظنت هذه الطائفة بالله أسوأ الظن ونسبته إلى أقبح الظلم وقالوا أن أوامر الرب ونواهيه كتكليف العبد أن يرقى فوق السماوات وكتكليف الميت إحياء الأموات والله يعذب عباده أشد العذاب على فعل ما لا يقدرون يقدرون على تركه وعلى ترك مالا يقدرون على فعله بل يعاقبهم على نفس فعله الذي هو لهم غير مقدور وليس أحد ميسر له بل هو عليه مقهور ونرى العارف منهم ينشد مترنما ومن ربه متشكيا ومتظلما:
ألقاه في اليم مكتوفا وقال له إياك إياك أن تبتل بالماء
وليس عند القوم في نفس الأمر سبب ولا غاية ولا حكمة ولا قوة في الأجسام ولا طبيعة ولا غريزة فليس في الماء قوة التبريد ولا في النار قوة التسخين ولا في الأغذية قوة الغذاء ولا في الأدوية قوة الدواء ولا في العين قوة الإبصار ولا في الأذن قوة السماع ولا في الأنف قوة الشم ولا في الحيوان قوة فاعلة ولا جاذبة ولا ممسكة ولا دافعة والرب تعالى لم يفعل شيئا بشيء ولا شيئا لشيء فليس في أفعاله باء تسبب ولا لام تعليل وما ورد من ذلك فمحمول على باء المصاحبة ولام العاقبة وزادوا على ذلك أن الأفعال لا تنقسم في نفسها إلى حسن وقبيح ولا فرق في نفس الأمر بين الصدق والكذب والبر والفجور والعدل والظلم والسجود للرحمن والسجود للشيطان والإحسان إلى الخلق والإساءة إليهم ومسبة الخالق والثناء عليه وإنما نعلم الحسن من ذلك من القبيح بمجرد الأمر والنهي ولذلك يجوز النهي عن كل ما أمر به والأمر بكل ما نهى عنه ولو فعل ذلك لكان هذا قبيحا وهذا حسنا وزاد بعض محققيهم على هذا أن الأجسام كلها متماثلة فلا فرق في الحقيقة بين جسم النار وجسم الماء ولا بين جسم الذهب وجسم الخشب ولا بين المسك والرجيع وإنما تفترق بصفاتها وأعراضها مع تماثلها في الحد والحقيقة وزادوا على ذلك بأن قالوا الأعراض كلها لا تبقى زمانين ولا تستقر وقتين فإذا جمعت بين قولهم بعدم بقاء الأعراض وقولهم بتماثل الأجسام وتساوي الأفعال وأن العبد لا فعل له البتة وأنه لا سبب في الوجود ولا قوة ولا غريزة ولا طبيعة وقولهم أن الرب تعالى ليس له فعل يقوم به وفعله غير مفعوله وقولهم أنه ليس بمباين لخلقه ولا داخل العالم ولا خارجه ولا متصلا به ولا منفصلا عنه وقولهم أنه لا يتكلم ولا يكلم ولا قال ولا يقول ولا سمع أحد خطابه ولا يسمعه ولا يراه المؤمنون يوم القيامة جهرة بأبصارهم من فوقهم أنتجت لك هذه الأصول عقلا يعارض السمع ويناقض الوحي وقد أوصاك الأشياخ عند التعارض بتقديم هذا المعقول على ما جاء به الرسول
فلو أني بليت بهاشمي ؤلته بنو عبد المدان
لهان عليّ ما ألقى ولكن عالوا فانظروا بمن ابتلاني
فصل: ولما كانت معرفة الصواب في مسائل القضاء والقدر والحكمة والتعليل واقعة في مرتبة الحاجة بل في مرتبة الضرورة اجتهدت في جمع هذا الكتاب وتهذيبه وتحريره وتقريبه فجاء فردا في معناه بديعا في مغزاه وسميته شفاء العليل في مسائل القضاء والقدر والحكمة والتعليل وجعلته أبوابا:
الباب الأول: في تقدير المقادير قبل خلق السماوات والأرض.
الباب الثاني: في تقدير الرب تعالى شقاوة العباد وسعادتهم وأرزاقهم وآجالهم قبل خلقهم وهو تقدير ثان بعد الأول.
الباب الثالث: في ذكر احتجاج آدم وموسى في ذلك وحكم النبي صلى الله عليه وسلم لآدم.
الباب الرابع: في ذكر التقدير الثالث والجنين في بطن أمه.
الباب الخامس: في التقدير الرابع ليلة القدر.
الباب السادس: في ذكر التقدير الخامس اليومي.
الباب السابع: في أن سبق المقادير بالسعادة والشقاوة لا يقتضي ترك الأعمال بل يوجب الاجتهاد والحرص لأنه تقدير بالأسباب.
الباب الثامن: في قوله تعالى أن الذين سبقت لهم منا الحسنى.
الباب التاسع: في قوله إنا كل شيء خلقناه بقدر.
الباب العاشر: في مراتب القضاء والقدر التي من استكمل معرفتها والإيمان بها فقد آمن بالقدر وذكر المرتبة الأولى.
الباب الحادي عشر: في ذكر المرتبة الثانية من مراتب القضاء والقدر وهي مرتبة الكتابة
الباب الثاني عشر في ذكر المرتبة الثالثة وهي مرتبة المشيئة.
الباب الثالث عشر: في ذكر المرتبة الرابعة وهي مرتبة خلق الأعمال.
الباب الرابع عشر: في الهدي والضلال ومراتبهما.
الباب الخامس عشر: في الطبع والختم والقفل والغل والسد والغشاوة ونحوها وأنه مفعول الرب.
الباب السادس عشر: في تفرد الرب بالخلق للذات والصفات والأفعال.
الباب السابع عشر: في الكتب والجبر ومعناهما لغة واصطلاحا وإطلاقهما نفيا وإثباتا.
الباب الثامن عشر: في فعل وافعل في القضاء والقدر وذكر الفعل والانفعال.
الباب التاسع عشر: في ذكر مناظرة بين جبري وسني.
الباب العشرون: في مناظرة بين قدري وسني.
الباب الحادي والعشرون: في تنزيه القضاء الإلهي عن الشر ودخوله في المقضي.
الباب الثاني والعشرون: في طرق إثبات حكمة الرب تعالى في خلقه وأمره واثبات الغايات المطلوبة والعواقب الحميدة التي فعل وأمر لأجلها وهو من أجل أبواب الكتاب.
الباب الثالث والعشرون: في استيفاء شبه نفاة الحكمة وذكر الأجوبة المفصلة عنها.
الباب الرابع والعشرون: في معنى قول السلف في الإيمان بالقدر خيره وشره وحلوه ومره.
الباب الخامس والعشرون: في بيان بطلان قول من قال إن الرب تعالى مريد للشر وفاعل له وامتناع إطلاق ذلك نفيا وإثباتا.
الباب السادس والعشرون: فيما دل عليه قوله صلى الله عليه وسلم: "أعوذ برضاك من سخطك وأعوذ بعفوك من عقوبتك وأعوذ بك منك" من تحقيق القدر وإثباته وأسرار هذا الدعاء.
الباب السابع والعشرون: في دخول الإيمان بالقضاء والقدر والعدل والتوحيد تحت قوله: "ماض في حكمك عدل في قضاؤك" وما تضمنه الحديث من قواعد الدين.
الباب الثامن والعشرون: في أحكام الرضا بالقضاء واختلاف الناس في ذلك وتحقيق القول فيه.
الباب التاسع والعشرون: في انقسام القضاء والقدر والإرادة والكتابة والحكم والأمر والإذن والجعل والكلمات والبعث والإرسال والتحريم والعطاء والمنع إلى كوني يتعلق بخلقه وديني يتعلق بأمره وما في تحقيق ذلك من إزالة اللبس والإشكال.
الباب الموفي ثلاثين: في الفطرة الأولى التي فطر الله عباده عليها وبيان أنها لا تنافي القضاء والعدل بل توافقه وتجامعه،
وهذا حين الشروع في المقصود فما كان فيه من صواب فمن الله وحده هو المان به وما كان فيه من خطأ فمني ومن الشيطان والله بريء منه ورسوله.
فيا أيها المتأمل له الواقف عليه لك غنمه، وعلى مؤلفه غرمه، ولك فائدته، وعليه عائدته، فلا تعجل بإنكار ما لم يتقدم لك أسباب معرفته ولا يحملنك شنآن مؤلفه وأصحابه على أن تحرم ما فيه من الفوائد التي لعلك لا تظفر بها في كتاب ولعل أكثر من تعظمه ماتوا بحسرتها ولم يصلوا إلى معرفتها والله يقسم فضله بين خلقه بعلمه وحكمته وهو العليم الحكيم والفضل بيد الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم.
تعليق