مَا الجَوَابُ عَنِ الأَثَرِ الَّذِي نُقِلَ عَنِ الإِمَامِ أَحْمَدَ رَحِمَهُ اللهُ مِنْ أَنَّهُ لَمْ يَرَ بَأْسًا فِي تَقْبِيلِ القَبْرِ النَّبَوِيِّ وَالتَّمَسُّحِ بِهِ؟
الجَوَابُ:
بِدَايَةً؛ الأَثَرُ هَذَا بِلَفْظِهِ هُوَ -كَمَا جَاءَ فِي كِتَابِ "العِلَلُ وَمَعْرِفَةُ الرِّجَالِ" لِعَبْدِ اللهِ ابْنِ الإِمَامِ أَحْمِدَ- أَنَّهُ سَأَلَ أَبَاهُ: "سَأَلْتُهُ عَنِ الرَّجُلِ يَمَسُّ مِنْبَرَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيَتَبَرَّكُ بِمَسِّهِ وَيُقَبِّلُهُ وَيفْعَلُ بِالقَبْرِ مِثْلَ ذَلِكَ أَو نَحْوَ هَذَا؛ يُرِيدُ بِذَلِكَ التَّقَرُّبَ إِلَى اللهِ جَلَّ وَعَزَّ؟ فَقَالَ: لَا بَأْسَ بِذَلِكَ" (1).
وَأَمَّا جَوَابُهُ؛ فَهُوَ أَنَّهُ أَثَرٌ شَاذٌّ عَنِ الإِمَامِ أَحْمَدَ، وَلَا تَصِحُّ نِسْبَتُهُ إِلَيهِ رَحِمَهُ اللهُ.
وَبَيَانُهُ مِنْ أَوْجُهٍ:
• الوَجْهُ الأَوَّلُ: إِنَّ هَذَا الأَثَرَ شَاذٌّ مَتْنًا مِن عِدَّةِ طُرُقٍ مَنْقُولَةٍ بِالأَسَانِيدِ عَنِ الإِمَامِ أَحْمَدَ رَحِمَهُ اللهُ؛ مِنْهَا:
- نَقَلَ أَبُو بَكْرٍ الأَثْرَمُ -وَهُوَ مِنْ أَجَلِّ أَصْحَابِ الإِمَامِ أَحْمَدَ- عَنِ الإِمَامِ أَحْمَدَ؛ أَنَّهُ "قُلْتُ لِأَبِي عَبْدِ اللهِ -يَعْنِي الإِمَامَ أَحْمَدَ بْنَ حَنْبَلٍ-: قَبْرُ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ يُلْمَسُ وَيُتَمَسَّحُ بِهِ؟ قَالَ: مَا أَعْرِفُ هَذَا! قُلْتُ لَهُ: فَالمِنْبَرُ؟ قَالَ: أَمَّا المِنْبَرُ؛ فَنَعَمْ، قَدْ جَاءَ فِيهِ، قَالَ أَبُو عَبْدِ اللهِ: شَيْءٌ يَرْوُونَهُ عَنِ ابْنِ أَبِي فُدَيكٍ عَنِ ابْنِ أَبِي ذِئْبٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ مَسَحَ عَلَى المِنْبَرِ. قَالَ: وَيَرْوُنَهُ عَنْ سَعِيدٍ بْنِ المُسَيّبِ فِي الرُّمَّانَةِ. قُلْتُ: وَيُرْوَى عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ -يَعْنِي الأَنْصَارِيَّ- شَيخِ مَالِكٍ- وَغَيرِه؛ أَنَّهُ حَيثُ أَرَادَ الخُرُوجَ إِلَى العِرَاقِ جَاءَ إِلَى المِنْبَرِ فَمَسَحَهُ وَدَعَا؛ فَرَأَيْتُهُ اسْتَحْسَنَ ذَلِكَ. ثُمَّ قَالَ: لَعَلَّهُ عِنْدَ الضَّرُورَةِ وَالشَّيءِ. قُلْتُ لِأَبِي عَبْدِ اللهِ: إِنَّهُم يُلْصِقُونَ بُطُونَهُم بِجِدَارِ القَبْرِ! وَقُلْتُ لَهُ: وَرَأَيتُ أَهْلَ العِلْمِ مِنْ أَهْلِ المَدِينَةِ لَا يَمَسُّونَهُ، وَيَقُومُونَ نَاحِيَتَهُ فَيُسَلِّمُونَ! فَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللهِ: نَعَمْ، وَهَكَذَا كَانَ ابْنُ عُمَرَ يَفْعَلُ ذَلِكَ. ثُمَّ قَالَ أَبُو عَبْدِ اللهِ: بِأَبِي وَأُمَّيِ صلَّى الله عليه وسلَّم" (2).
- نَقَلَ صَالِحُ -ابْنُ الإِمَامِ أَحْمَدَ- عَنْهُ: "وَلَا يَمَسُّ الحَائِطَ، وَيَضَعُ يَدَهُ عَلَى الرُّمَّانَةِ وَمَوْضِعِ الَّذِي جَلَسَ فِيهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَا يُقَبِّلُ الحَائِطَ" (3).
- قَالَ عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللهِ الطَّيَالِسِيُّ -وَهُوَ مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَدَ-: "مَسَحْتُ يَدِي عَلَى أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلَ ثُمَّ مَسَحْتُ يَدِي عَلَى بَدَنِي وَهُوَ يَنْظُرُ؛ فَغَضِبَ غَضَبًا شَدِيدًا وَجَعَلَ يَنْفُضُ نَفْسَهُ وَيَقُولُ: عَمَّنْ أَخَذْتُم هَذَا؟! وَأَنْكَرَهُ إِنْكَارًا شَدِيدًا" (4).
وَهَذَا أَثَرٌ وَاضِحٌ بيِّنٌ فِي تَشْنِيعِ الإِمَامِ عَلَى مَنْ يَتَبَرَّكُ بِهِ وَهُوَ حَيٌّ؛ فَكَيفَ يَرْضَى أَنْ يُتَبَرَّكَ بِالقُبُورِ؟!
• الوَجْهُ الثَّانِي: مَا نَقَلَهُ أَئِمَّةُ المَذْهَبِ الحَنْبَلِيِّ -وَالَّذِينَ هُمْ أَدْرَى النَّاسِ بِمَذْهَبِ الإِمَامِ أَحْمَدَ رَحِمَهُ اللهُ وَمَا هُوَ الثَّابِتُ عَنْهُ- وَغَيرُهُم.
- قَالَ الإِمَامُ ابْنُ قُدَامَةَ المَقْدِسِيُّ رَحِمَهُ اللهُ: "وَلَا يُسْتَحَبُّ التَّمَسُّحُ بِحَائِطِ قَبْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ وَلَا تَقْبِيلُهُ. قَالَ أَحْمَدُ: مَا أَعْرِفُ هَذَا. قَالَ الأَثْرَمُ: رَأَيتُ أَهْلَ العِلْمِ مِنْ أَهْلِ المَدِينَةِ لَا يَمَسُّونَ قَبْرَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ" (5).
- قَالَ المَرْدَاوِيُّ رَحِمَهُ اللهُ: "لَا يُسْتَحَبُّ تَمَسُّحُهُ بِقَبْرِهِ عَلَيهِ أَفْضَلُ الصَّلَاةِ وَالسَّلَامِ عَلَى الصَّحِيحِ مِن المَذْهَبِ. قَالَ فَي المُسْتَوعَبِ: بَلْ يُكْرَهُ، قَالَ الإِمَامُ أَحْمَدُ: أَهْلُ العِلْمِ كَانُوا لَا يَمَسُّونَهُ! نَقَلَ أَبُو الحَارِثِ: يَدْنُو مِنْهُ وَلَا يَتَمَسَّحُ بِهِ، بَلْ يَقُومُ حِذَاءَهُ؛ فَيُسَلِّمُ، وَعَنْهُ يُتَمَسَّحُ بِهِ (6) " (7).
- قَالَ الحَجَاوِيُّ رَحِمَهُ اللهُ: "وَلَا يُتَمَسَّحْ، وَلَا يُمَسَّ قَبْرَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ، وَلَا حَائِطَهُ، وَلَا يُلْصِقْ بِهِ صَدْرَهُ، وَلَا يُقَبِّلْهُ".
وكُلُّ مَنْ دَرَسَ المذْهَبَ الحَنْبَلِيَّ عَرَفَ أَنَّ مَسْأَلَةَ التَّمَسُّحِ بِالقَبْرِ مَسْأَلَةٌ مَرْدُودَةٌ مُنْكَرَةٌ فِي المَذْهَبِ؛ فَكَيفَ يُنْسَبُ بَعْدَ هَذَا -وَمَا نُقِلَ نَصًّا عَنْ أَحْمَدَ فِي الإِنْكَارِ- كَيفَ يُنْسَبُ إِلَى الإِمَامِ أَحْمَدَ جَوَازُ التَّمَسُّحِ بِالقَبْرِ؟! وَقَاعِدَةُ العِلْمِ مَعْرُوفَةٌ فِي رَدِّ المُتَشَابِهِ إِلَى المُحْكَمِ.
- قَالَ السَّمْهُودِيُّ: "وَرُوِيَ أَنَّ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ رَأَى رَجُلًا وَضَعَ يَدَهُ عَلَى قَبْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ تَعَالَى عَلَيهِ وَسَلَّمَ؛ فَنَهَاهُ، وَقَالَ: مَا كُنَّا نَعْرِفُ هَذَا عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ! وَقَدْ أَنْكَرَهُ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ أَشَدَّ الإِنْكَارِ" (9).
• الوَجْهُ الثَّالِثُ: قَدْ نَقَلَ كَثِيرٌ مِن المُحَقِّقِينَ الإِجْمَاعِ -وَمِن جُمْلَتِهِم الإِمَامُ أَحْمَدُ كَمَا لَا يَخْفَى- عَلَى المَنْعِ مِن التَّمَسُّحِ بِالقَبْرِ الشَّرِيفِ، وَمِنْهُم:
- قَالَ الإِمَامُ النَّوَوِيُّ رَحِمَهُ اللهُ: "لَا يَجُوزُ أَنْ يُطَافَ بِقَبْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ، ويُكْرَهُ إلْصَاقُ البَطْنِ وَالظهْرِ بِجِدَارِ القَبْرِ، قَالَهُ الحَلِيميُّ وَغَيْرُهُ. وَيُكْرَهُ مَسْحُهُ بِاليَدِ وَتَقْبِيلُهُ، بَلِ الأَدَبُ أَنْ يَبْعُدَ مِنْهُ كَمَا يَبْعُدُ مِنْهُ لَوْ حَضَرَ في حَيَاتِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ، هذَا هُوَ الصَّوَابُ، وَهُوَ الَّذِي قَالَهُ العُلَمَاءُ وَأطْبقُوا عَلَيْهِ. وَيَنْبَغِي أنْ لَا يُغْتَرَّ بِكَثِيرٍ مِنَ العَوَامِّ فِي مُخَالَفَتِهِمْ ذلِكَ؛ فَإِنْ الاقْتِدَاءَ وَالعَمَلَ إنَّمَا يَكُونُ بِأَقْوَالِ العُلماءِ، وَلاَ يُلْتَفَتُ إلى مُحْدَثَاتِ العَوَامِّ وَجَهَالَاتِهِم. وَلَقَدْ أَحْسَنَ السَّيِّدُ الجَلِيلُ أبُو عَلِيٍّ -الفُضَيْلُ بنُ عِيَاضِ- رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى فِي قَوْلهِ مَا مَعْنَاهُ: اتَّبْعِ طُرُقَ الهُدَى وَلاَ يَضُرُّكَ قِلَّةُ السَّالِكِينَ، وَإِيَّاكَ وَطُرُقَ الضَّلَاَلَةِ وَلاَ تَغْتَرَّ بِكَثْرَةِ الهَالِكِينَ! وَمَنْ خَطَرَ بِبَالِهِ أنَّ المَسْحَ بِاليَدِ وَنَحْوهِ أَبْلَغُ فِي البَرَكَةِ! فَهُوَ مِنْ جَهَالَتِهِ وَغَفْلَتِهِ، لَأَنَّ البَرَكَةَ إِنَّمَا هِيَ فِيمَا وَافَقَ الشَّرْعَ وَأَقْوَالَ العُلَمَاءِ، وَكَيْفَ يُبْتَغَى الفَضْلُ فِي مُخَالَفَةِ الصَّوَابِ؟! " (10).
- قَالَ شَيخُ الإِسْلَامِ رَحِمَهُ اللهُ: "وَأَمَّا التَّمَسُّحُ بِقَبْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ وَتَقْبِيلُهُ؛ فَكُلُّهُمْ كَرِهَ ذَلِكَ وَنَهَى عَنْهُ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُمْ عَلِمُوا مَا قَصَدَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ مِنْ حَسْمِ مَادَّةِ الشِّرْكِ وَتَحْقِيقِ التَّوْحِيدِ وَإِخْلَاصِ الدِّينِ لِلَّهِ رَبِّ العَالَمِينَ" (11).
• الوَجْهُ الرَّابِعُ: حَمَلَ بَعْضُ أَصْحَابِ الإِمَامِ أَحْمَدَ رَحِمَهُ اللهُ التَّمَسُّحَ -مُحَاوَلَةً فِي التَّوفِيقِ مَعَ الرِّوَايَةِ المُسْتَنْكَرَةِ تِلْكَ- عَلَى أَنَّ مَسَّ القَبْرِ لَيسَ المَقْصُودَ مِنْهُ التَّبَرُّكُ! وَإِنَّمَا هُوَ بِمَعْنَى مُصَافَحَةِ الحَيِّ.
قَالَ القَاضِي أَبُو يَعْلَى الحَنْبَلِيُّ رَحِمَهُ اللهُ فِي كِتَابِهِ "المَسَائِلُ الفِقْهِيَّةُ مِن كِتَابِ الرِّوَايَتَينِ وَالوَجْهَينِ": "وَجْهُ الرِّوَايَةِ الأُولَى: أَنَّ الزِّيَارَةَ لِلْمَيِّتِ جَارِيَةٌ مَجْرَى زِيَارَةِ الحَيِّ، وَلِهَذَا يُسْتَحَبُّ أَنْ يُسَلَّمَ عَلَى المَيِّتِ عِنْدَ قَبْرِهِ كَمَا أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ أَنْ يُسَلَّمَ عَلَى الحَيِّ وَيُسْتَحَبُّ مُصَافَحَةُ الحَيِّ؛ فَجَازَ أَنْ يُسْتَحَبَّ مَسُّ قَبْرِهِ، لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى المُصَافَحَةِ. وَوَجْهُ الثَّانِيَةِ: إِنَّمَا طَرِيقَةُ القُرْبَةِ تَقِفُ عَلَى التَّوْقِيفِ، وَلِهَذَا قَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ فِي الحَجَرِ: لَولَا أَنِّي رَأَيتُ رَسُولَ اللهِ يُقَبِّلُكُ لَمَا قَبَّلْتُكَ! وَلَيسَ فِي هَذَا تَوقِيفٌ" (12).
• الوَجْهُ الخَامِسُ: أَنَّ عَبْدَ اللهِ ابْنَ الإِمَامِ أَحْمَدَ نفْسَه -الَّذِي رَوَى تِلْكَ الرِّوَايَةَ المُسْتَنْكَرَةَ- نَقَلَ عَنْ أَبِيه أَنَّهُ سَمِعَ سُفْيَانَ بْنَ عُيَينَةَ مَنَعَ مِنْ ذَلِكَ؛ فَأَقَرَّهُ وَلَمْ يَعْتَرِضِ عَلَيهِ!
فَرَوَى أَبُو الحَسَنِ -عَلِيُّ بْنُ عَمَرَ القُزْوِينِيُّ- فِي أَمَالِيهِ قَالَ: "قَرَأْتُ عَلَى عُبَيدِ اللهِ الزُّهْرِيِّ؛ قُلْتُ لَهُ: حَدَّثَكَ أَبُوكَ، قَالَ: حَدَّثَنِي عَبْدُ اللهِ بْنُ أَحْمَدَ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا زَيدٍ -حَمَّادَ بْنَ دَلِيلٍ- قَالَ لِسُفْيَانَ -يَعْنِي ابْنَ عُيَينَةَ- قَالَ: يُتَمَسَّحُ بِالقَبْرِ؟ قَالَ: لَا، وَلَا يُلْتَزَمُ القَبْرُ، وَلَكِنْ يَدْنُو. قَالَ أَبِي: يَعْنِي: الإِعْظَامَ لِرَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ" (13).
• الوَجْهُ السَّادِسُ: أَنَّ عَبْدَ اللهِ هَذَا -ابْنَ الإِمَامِ أَحْمَدَ- قَدْ حَكَتِ الحَنَابِلَةُ عَنْهُ تَغْرِيبَهُ فِي كَثِيرٍ مِمَّا يَروِيهِ عَنْ أَبِيهِ فِي الأَحْكَامِ!
قَالَ أَبُو يَعْلَى الحَنْبَلِيُّ فِي كِتَابِهِ "طَبَقَاتُ الحَنَابِلَةِ": "وَقَعَ لِعَبْدِ اللَّهِ عَنْ أَبِيهِ مَسَائِلُ جِيَادٌ كَثِيرَةٌ؛ يُغَرِّبُ مِنْهَا بِأَشْيَاءَ كَثِيرَةٍ فِي الأَحْكَامِ! فَأَمَّا العِلَلُ؛ فَقَدْ جَوَّدَ عَنْهُ، وَجَاءَ عَنْهُ بِمَا لَمْ يَجِئْ بِهِ غَيرُهُ" (14).
وَلِذَلِكَ -فِيمَا يَخُصُّ مَسْأَلَتَنَا هَذِهِ- قَالَ الحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ رَحِمَهُ اللهُ مُعَلِّقًا عَلَيهَا: "وَاسْتَبْعَدَ بَعْضُ أَتْبَاعِهِ صِحَّةَ ذَلِكَ" (15).
وَكَذَا لَمَّا نَقَلَ ابْنُ حَجَرٍ الهَيتَمِيُّ رَحِمَهُ اللهُ الرِّوَايَتَينِ قَالَ: "فَتَعَارَضَتِ الرِّوَايَتَانِ عَنْ أَحْمَدَ، وَظَاهِرُ كَلَامِ الأَثْرَمِ -وَهُوَ مِن أَجَلِّ أَصْحَابِهِ- أَنَّ مَيلَ أَحْمَدَ إِلَى المَنْعِ؛ فَإِنَّهُ قَالَ: رَأَيتُ أَهْلَ العِلْمِ بِالمَدِينَةِ لَا يَمَسُّونَ القَبْرَ، قَالَ أَحْمَدُ: وَهَكَذَا كَانَ يَفْعَلُ ابْنُ عُمَرَ. انْتَهَى" (16).
وَكَتَبَهُ أَبُو عَبْدِ اللهِ؛ خُلْدُونُ بْنُ مَحْمُودٍ بْنِ نَغَوِي آل حَقُوي
__________
(1) العِلَلُ وَمَعْرِفَةُ الرِّجَالِ لِأَحْمَدَ -رِوَايَةُ ابْنِهِ عَبْدِ اللهِ- (2/ 492).
(2) الصَّارِمُ المُنْكِي لِابْنِ عَبْدِ الهَادِي (ص: 145).
(3) مَسَائِلُ الإِمَامِ أَحْمَدَ -رِوَايَةُ ابْنِهِ أَبِي الفَضْلِ؛ صَالِحٍ- (3/ 60).
(4) طَبَقَاتُ الحَنَابِلَةِ لِأَبِي يَعْلَى (1/ 22.
(5) المُغْنِي (3/ 479).
(6) وَهَذِهِ لَا تَثْبُتُ عَنْ أَحْمَدَ، كَمَا تَجِدُ نَصَّ المَرْدَاوِيِّ عَنْهُ فِي قَولِهِ السَّابِقِ: "عَلَى الصَّحِيحِ مِن المَذْهَبِ".
(7) الإِنْصَافُ (4/ 53).
( الإِقْنَاعُ (1/ 396).
(9) وَفَاءُ الوَفَاءِ (4/ 216).
(10) الإِيضَاحُ فِي مَنَاسِكِ الحَجِّ وَالعُمْرَةِ لِلنَّوَوِيِّ (ص: 456).
(11) مَجْمُوعُ الفَتَاوَى (27/ 80).
(12) المَسَائِلُ الفِقْهِيَّةُ مِن كِتَابِ الرِّوَايَتَينِ وَالوَجْهَينِ (1/ 215).
(13) الإِخْنَائِيَّةُ لِابْنِ تَيمِيَّةَ (ص: 415).
(14) طَبَقَاتُ الحَنَابِلَةِ (1/ 183).
(15) فَتْحُ البَارِي (3/ 475).
(16) حَاشِيَةُ الإِيْضَاحِ (ص: 502).
_____________________________________
الجَوَابُ:
بِدَايَةً؛ الأَثَرُ هَذَا بِلَفْظِهِ هُوَ -كَمَا جَاءَ فِي كِتَابِ "العِلَلُ وَمَعْرِفَةُ الرِّجَالِ" لِعَبْدِ اللهِ ابْنِ الإِمَامِ أَحْمِدَ- أَنَّهُ سَأَلَ أَبَاهُ: "سَأَلْتُهُ عَنِ الرَّجُلِ يَمَسُّ مِنْبَرَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيَتَبَرَّكُ بِمَسِّهِ وَيُقَبِّلُهُ وَيفْعَلُ بِالقَبْرِ مِثْلَ ذَلِكَ أَو نَحْوَ هَذَا؛ يُرِيدُ بِذَلِكَ التَّقَرُّبَ إِلَى اللهِ جَلَّ وَعَزَّ؟ فَقَالَ: لَا بَأْسَ بِذَلِكَ" (1).
وَأَمَّا جَوَابُهُ؛ فَهُوَ أَنَّهُ أَثَرٌ شَاذٌّ عَنِ الإِمَامِ أَحْمَدَ، وَلَا تَصِحُّ نِسْبَتُهُ إِلَيهِ رَحِمَهُ اللهُ.
وَبَيَانُهُ مِنْ أَوْجُهٍ:
• الوَجْهُ الأَوَّلُ: إِنَّ هَذَا الأَثَرَ شَاذٌّ مَتْنًا مِن عِدَّةِ طُرُقٍ مَنْقُولَةٍ بِالأَسَانِيدِ عَنِ الإِمَامِ أَحْمَدَ رَحِمَهُ اللهُ؛ مِنْهَا:
- نَقَلَ أَبُو بَكْرٍ الأَثْرَمُ -وَهُوَ مِنْ أَجَلِّ أَصْحَابِ الإِمَامِ أَحْمَدَ- عَنِ الإِمَامِ أَحْمَدَ؛ أَنَّهُ "قُلْتُ لِأَبِي عَبْدِ اللهِ -يَعْنِي الإِمَامَ أَحْمَدَ بْنَ حَنْبَلٍ-: قَبْرُ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ يُلْمَسُ وَيُتَمَسَّحُ بِهِ؟ قَالَ: مَا أَعْرِفُ هَذَا! قُلْتُ لَهُ: فَالمِنْبَرُ؟ قَالَ: أَمَّا المِنْبَرُ؛ فَنَعَمْ، قَدْ جَاءَ فِيهِ، قَالَ أَبُو عَبْدِ اللهِ: شَيْءٌ يَرْوُونَهُ عَنِ ابْنِ أَبِي فُدَيكٍ عَنِ ابْنِ أَبِي ذِئْبٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ مَسَحَ عَلَى المِنْبَرِ. قَالَ: وَيَرْوُنَهُ عَنْ سَعِيدٍ بْنِ المُسَيّبِ فِي الرُّمَّانَةِ. قُلْتُ: وَيُرْوَى عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ -يَعْنِي الأَنْصَارِيَّ- شَيخِ مَالِكٍ- وَغَيرِه؛ أَنَّهُ حَيثُ أَرَادَ الخُرُوجَ إِلَى العِرَاقِ جَاءَ إِلَى المِنْبَرِ فَمَسَحَهُ وَدَعَا؛ فَرَأَيْتُهُ اسْتَحْسَنَ ذَلِكَ. ثُمَّ قَالَ: لَعَلَّهُ عِنْدَ الضَّرُورَةِ وَالشَّيءِ. قُلْتُ لِأَبِي عَبْدِ اللهِ: إِنَّهُم يُلْصِقُونَ بُطُونَهُم بِجِدَارِ القَبْرِ! وَقُلْتُ لَهُ: وَرَأَيتُ أَهْلَ العِلْمِ مِنْ أَهْلِ المَدِينَةِ لَا يَمَسُّونَهُ، وَيَقُومُونَ نَاحِيَتَهُ فَيُسَلِّمُونَ! فَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللهِ: نَعَمْ، وَهَكَذَا كَانَ ابْنُ عُمَرَ يَفْعَلُ ذَلِكَ. ثُمَّ قَالَ أَبُو عَبْدِ اللهِ: بِأَبِي وَأُمَّيِ صلَّى الله عليه وسلَّم" (2).
- نَقَلَ صَالِحُ -ابْنُ الإِمَامِ أَحْمَدَ- عَنْهُ: "وَلَا يَمَسُّ الحَائِطَ، وَيَضَعُ يَدَهُ عَلَى الرُّمَّانَةِ وَمَوْضِعِ الَّذِي جَلَسَ فِيهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَا يُقَبِّلُ الحَائِطَ" (3).
- قَالَ عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللهِ الطَّيَالِسِيُّ -وَهُوَ مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَدَ-: "مَسَحْتُ يَدِي عَلَى أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلَ ثُمَّ مَسَحْتُ يَدِي عَلَى بَدَنِي وَهُوَ يَنْظُرُ؛ فَغَضِبَ غَضَبًا شَدِيدًا وَجَعَلَ يَنْفُضُ نَفْسَهُ وَيَقُولُ: عَمَّنْ أَخَذْتُم هَذَا؟! وَأَنْكَرَهُ إِنْكَارًا شَدِيدًا" (4).
وَهَذَا أَثَرٌ وَاضِحٌ بيِّنٌ فِي تَشْنِيعِ الإِمَامِ عَلَى مَنْ يَتَبَرَّكُ بِهِ وَهُوَ حَيٌّ؛ فَكَيفَ يَرْضَى أَنْ يُتَبَرَّكَ بِالقُبُورِ؟!
• الوَجْهُ الثَّانِي: مَا نَقَلَهُ أَئِمَّةُ المَذْهَبِ الحَنْبَلِيِّ -وَالَّذِينَ هُمْ أَدْرَى النَّاسِ بِمَذْهَبِ الإِمَامِ أَحْمَدَ رَحِمَهُ اللهُ وَمَا هُوَ الثَّابِتُ عَنْهُ- وَغَيرُهُم.
- قَالَ الإِمَامُ ابْنُ قُدَامَةَ المَقْدِسِيُّ رَحِمَهُ اللهُ: "وَلَا يُسْتَحَبُّ التَّمَسُّحُ بِحَائِطِ قَبْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ وَلَا تَقْبِيلُهُ. قَالَ أَحْمَدُ: مَا أَعْرِفُ هَذَا. قَالَ الأَثْرَمُ: رَأَيتُ أَهْلَ العِلْمِ مِنْ أَهْلِ المَدِينَةِ لَا يَمَسُّونَ قَبْرَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ" (5).
- قَالَ المَرْدَاوِيُّ رَحِمَهُ اللهُ: "لَا يُسْتَحَبُّ تَمَسُّحُهُ بِقَبْرِهِ عَلَيهِ أَفْضَلُ الصَّلَاةِ وَالسَّلَامِ عَلَى الصَّحِيحِ مِن المَذْهَبِ. قَالَ فَي المُسْتَوعَبِ: بَلْ يُكْرَهُ، قَالَ الإِمَامُ أَحْمَدُ: أَهْلُ العِلْمِ كَانُوا لَا يَمَسُّونَهُ! نَقَلَ أَبُو الحَارِثِ: يَدْنُو مِنْهُ وَلَا يَتَمَسَّحُ بِهِ، بَلْ يَقُومُ حِذَاءَهُ؛ فَيُسَلِّمُ، وَعَنْهُ يُتَمَسَّحُ بِهِ (6) " (7).
- قَالَ الحَجَاوِيُّ رَحِمَهُ اللهُ: "وَلَا يُتَمَسَّحْ، وَلَا يُمَسَّ قَبْرَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ، وَلَا حَائِطَهُ، وَلَا يُلْصِقْ بِهِ صَدْرَهُ، وَلَا يُقَبِّلْهُ".
وكُلُّ مَنْ دَرَسَ المذْهَبَ الحَنْبَلِيَّ عَرَفَ أَنَّ مَسْأَلَةَ التَّمَسُّحِ بِالقَبْرِ مَسْأَلَةٌ مَرْدُودَةٌ مُنْكَرَةٌ فِي المَذْهَبِ؛ فَكَيفَ يُنْسَبُ بَعْدَ هَذَا -وَمَا نُقِلَ نَصًّا عَنْ أَحْمَدَ فِي الإِنْكَارِ- كَيفَ يُنْسَبُ إِلَى الإِمَامِ أَحْمَدَ جَوَازُ التَّمَسُّحِ بِالقَبْرِ؟! وَقَاعِدَةُ العِلْمِ مَعْرُوفَةٌ فِي رَدِّ المُتَشَابِهِ إِلَى المُحْكَمِ.
- قَالَ السَّمْهُودِيُّ: "وَرُوِيَ أَنَّ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ رَأَى رَجُلًا وَضَعَ يَدَهُ عَلَى قَبْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ تَعَالَى عَلَيهِ وَسَلَّمَ؛ فَنَهَاهُ، وَقَالَ: مَا كُنَّا نَعْرِفُ هَذَا عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ! وَقَدْ أَنْكَرَهُ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ أَشَدَّ الإِنْكَارِ" (9).
• الوَجْهُ الثَّالِثُ: قَدْ نَقَلَ كَثِيرٌ مِن المُحَقِّقِينَ الإِجْمَاعِ -وَمِن جُمْلَتِهِم الإِمَامُ أَحْمَدُ كَمَا لَا يَخْفَى- عَلَى المَنْعِ مِن التَّمَسُّحِ بِالقَبْرِ الشَّرِيفِ، وَمِنْهُم:
- قَالَ الإِمَامُ النَّوَوِيُّ رَحِمَهُ اللهُ: "لَا يَجُوزُ أَنْ يُطَافَ بِقَبْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ، ويُكْرَهُ إلْصَاقُ البَطْنِ وَالظهْرِ بِجِدَارِ القَبْرِ، قَالَهُ الحَلِيميُّ وَغَيْرُهُ. وَيُكْرَهُ مَسْحُهُ بِاليَدِ وَتَقْبِيلُهُ، بَلِ الأَدَبُ أَنْ يَبْعُدَ مِنْهُ كَمَا يَبْعُدُ مِنْهُ لَوْ حَضَرَ في حَيَاتِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ، هذَا هُوَ الصَّوَابُ، وَهُوَ الَّذِي قَالَهُ العُلَمَاءُ وَأطْبقُوا عَلَيْهِ. وَيَنْبَغِي أنْ لَا يُغْتَرَّ بِكَثِيرٍ مِنَ العَوَامِّ فِي مُخَالَفَتِهِمْ ذلِكَ؛ فَإِنْ الاقْتِدَاءَ وَالعَمَلَ إنَّمَا يَكُونُ بِأَقْوَالِ العُلماءِ، وَلاَ يُلْتَفَتُ إلى مُحْدَثَاتِ العَوَامِّ وَجَهَالَاتِهِم. وَلَقَدْ أَحْسَنَ السَّيِّدُ الجَلِيلُ أبُو عَلِيٍّ -الفُضَيْلُ بنُ عِيَاضِ- رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى فِي قَوْلهِ مَا مَعْنَاهُ: اتَّبْعِ طُرُقَ الهُدَى وَلاَ يَضُرُّكَ قِلَّةُ السَّالِكِينَ، وَإِيَّاكَ وَطُرُقَ الضَّلَاَلَةِ وَلاَ تَغْتَرَّ بِكَثْرَةِ الهَالِكِينَ! وَمَنْ خَطَرَ بِبَالِهِ أنَّ المَسْحَ بِاليَدِ وَنَحْوهِ أَبْلَغُ فِي البَرَكَةِ! فَهُوَ مِنْ جَهَالَتِهِ وَغَفْلَتِهِ، لَأَنَّ البَرَكَةَ إِنَّمَا هِيَ فِيمَا وَافَقَ الشَّرْعَ وَأَقْوَالَ العُلَمَاءِ، وَكَيْفَ يُبْتَغَى الفَضْلُ فِي مُخَالَفَةِ الصَّوَابِ؟! " (10).
- قَالَ شَيخُ الإِسْلَامِ رَحِمَهُ اللهُ: "وَأَمَّا التَّمَسُّحُ بِقَبْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ وَتَقْبِيلُهُ؛ فَكُلُّهُمْ كَرِهَ ذَلِكَ وَنَهَى عَنْهُ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُمْ عَلِمُوا مَا قَصَدَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ مِنْ حَسْمِ مَادَّةِ الشِّرْكِ وَتَحْقِيقِ التَّوْحِيدِ وَإِخْلَاصِ الدِّينِ لِلَّهِ رَبِّ العَالَمِينَ" (11).
• الوَجْهُ الرَّابِعُ: حَمَلَ بَعْضُ أَصْحَابِ الإِمَامِ أَحْمَدَ رَحِمَهُ اللهُ التَّمَسُّحَ -مُحَاوَلَةً فِي التَّوفِيقِ مَعَ الرِّوَايَةِ المُسْتَنْكَرَةِ تِلْكَ- عَلَى أَنَّ مَسَّ القَبْرِ لَيسَ المَقْصُودَ مِنْهُ التَّبَرُّكُ! وَإِنَّمَا هُوَ بِمَعْنَى مُصَافَحَةِ الحَيِّ.
قَالَ القَاضِي أَبُو يَعْلَى الحَنْبَلِيُّ رَحِمَهُ اللهُ فِي كِتَابِهِ "المَسَائِلُ الفِقْهِيَّةُ مِن كِتَابِ الرِّوَايَتَينِ وَالوَجْهَينِ": "وَجْهُ الرِّوَايَةِ الأُولَى: أَنَّ الزِّيَارَةَ لِلْمَيِّتِ جَارِيَةٌ مَجْرَى زِيَارَةِ الحَيِّ، وَلِهَذَا يُسْتَحَبُّ أَنْ يُسَلَّمَ عَلَى المَيِّتِ عِنْدَ قَبْرِهِ كَمَا أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ أَنْ يُسَلَّمَ عَلَى الحَيِّ وَيُسْتَحَبُّ مُصَافَحَةُ الحَيِّ؛ فَجَازَ أَنْ يُسْتَحَبَّ مَسُّ قَبْرِهِ، لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى المُصَافَحَةِ. وَوَجْهُ الثَّانِيَةِ: إِنَّمَا طَرِيقَةُ القُرْبَةِ تَقِفُ عَلَى التَّوْقِيفِ، وَلِهَذَا قَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ فِي الحَجَرِ: لَولَا أَنِّي رَأَيتُ رَسُولَ اللهِ يُقَبِّلُكُ لَمَا قَبَّلْتُكَ! وَلَيسَ فِي هَذَا تَوقِيفٌ" (12).
• الوَجْهُ الخَامِسُ: أَنَّ عَبْدَ اللهِ ابْنَ الإِمَامِ أَحْمَدَ نفْسَه -الَّذِي رَوَى تِلْكَ الرِّوَايَةَ المُسْتَنْكَرَةَ- نَقَلَ عَنْ أَبِيه أَنَّهُ سَمِعَ سُفْيَانَ بْنَ عُيَينَةَ مَنَعَ مِنْ ذَلِكَ؛ فَأَقَرَّهُ وَلَمْ يَعْتَرِضِ عَلَيهِ!
فَرَوَى أَبُو الحَسَنِ -عَلِيُّ بْنُ عَمَرَ القُزْوِينِيُّ- فِي أَمَالِيهِ قَالَ: "قَرَأْتُ عَلَى عُبَيدِ اللهِ الزُّهْرِيِّ؛ قُلْتُ لَهُ: حَدَّثَكَ أَبُوكَ، قَالَ: حَدَّثَنِي عَبْدُ اللهِ بْنُ أَحْمَدَ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا زَيدٍ -حَمَّادَ بْنَ دَلِيلٍ- قَالَ لِسُفْيَانَ -يَعْنِي ابْنَ عُيَينَةَ- قَالَ: يُتَمَسَّحُ بِالقَبْرِ؟ قَالَ: لَا، وَلَا يُلْتَزَمُ القَبْرُ، وَلَكِنْ يَدْنُو. قَالَ أَبِي: يَعْنِي: الإِعْظَامَ لِرَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ" (13).
• الوَجْهُ السَّادِسُ: أَنَّ عَبْدَ اللهِ هَذَا -ابْنَ الإِمَامِ أَحْمَدَ- قَدْ حَكَتِ الحَنَابِلَةُ عَنْهُ تَغْرِيبَهُ فِي كَثِيرٍ مِمَّا يَروِيهِ عَنْ أَبِيهِ فِي الأَحْكَامِ!
قَالَ أَبُو يَعْلَى الحَنْبَلِيُّ فِي كِتَابِهِ "طَبَقَاتُ الحَنَابِلَةِ": "وَقَعَ لِعَبْدِ اللَّهِ عَنْ أَبِيهِ مَسَائِلُ جِيَادٌ كَثِيرَةٌ؛ يُغَرِّبُ مِنْهَا بِأَشْيَاءَ كَثِيرَةٍ فِي الأَحْكَامِ! فَأَمَّا العِلَلُ؛ فَقَدْ جَوَّدَ عَنْهُ، وَجَاءَ عَنْهُ بِمَا لَمْ يَجِئْ بِهِ غَيرُهُ" (14).
وَلِذَلِكَ -فِيمَا يَخُصُّ مَسْأَلَتَنَا هَذِهِ- قَالَ الحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ رَحِمَهُ اللهُ مُعَلِّقًا عَلَيهَا: "وَاسْتَبْعَدَ بَعْضُ أَتْبَاعِهِ صِحَّةَ ذَلِكَ" (15).
وَكَذَا لَمَّا نَقَلَ ابْنُ حَجَرٍ الهَيتَمِيُّ رَحِمَهُ اللهُ الرِّوَايَتَينِ قَالَ: "فَتَعَارَضَتِ الرِّوَايَتَانِ عَنْ أَحْمَدَ، وَظَاهِرُ كَلَامِ الأَثْرَمِ -وَهُوَ مِن أَجَلِّ أَصْحَابِهِ- أَنَّ مَيلَ أَحْمَدَ إِلَى المَنْعِ؛ فَإِنَّهُ قَالَ: رَأَيتُ أَهْلَ العِلْمِ بِالمَدِينَةِ لَا يَمَسُّونَ القَبْرَ، قَالَ أَحْمَدُ: وَهَكَذَا كَانَ يَفْعَلُ ابْنُ عُمَرَ. انْتَهَى" (16).
وَكَتَبَهُ أَبُو عَبْدِ اللهِ؛ خُلْدُونُ بْنُ مَحْمُودٍ بْنِ نَغَوِي آل حَقُوي
__________
(1) العِلَلُ وَمَعْرِفَةُ الرِّجَالِ لِأَحْمَدَ -رِوَايَةُ ابْنِهِ عَبْدِ اللهِ- (2/ 492).
(2) الصَّارِمُ المُنْكِي لِابْنِ عَبْدِ الهَادِي (ص: 145).
(3) مَسَائِلُ الإِمَامِ أَحْمَدَ -رِوَايَةُ ابْنِهِ أَبِي الفَضْلِ؛ صَالِحٍ- (3/ 60).
(4) طَبَقَاتُ الحَنَابِلَةِ لِأَبِي يَعْلَى (1/ 22.
(5) المُغْنِي (3/ 479).
(6) وَهَذِهِ لَا تَثْبُتُ عَنْ أَحْمَدَ، كَمَا تَجِدُ نَصَّ المَرْدَاوِيِّ عَنْهُ فِي قَولِهِ السَّابِقِ: "عَلَى الصَّحِيحِ مِن المَذْهَبِ".
(7) الإِنْصَافُ (4/ 53).
( الإِقْنَاعُ (1/ 396).
(9) وَفَاءُ الوَفَاءِ (4/ 216).
(10) الإِيضَاحُ فِي مَنَاسِكِ الحَجِّ وَالعُمْرَةِ لِلنَّوَوِيِّ (ص: 456).
(11) مَجْمُوعُ الفَتَاوَى (27/ 80).
(12) المَسَائِلُ الفِقْهِيَّةُ مِن كِتَابِ الرِّوَايَتَينِ وَالوَجْهَينِ (1/ 215).
(13) الإِخْنَائِيَّةُ لِابْنِ تَيمِيَّةَ (ص: 415).
(14) طَبَقَاتُ الحَنَابِلَةِ (1/ 183).
(15) فَتْحُ البَارِي (3/ 475).
(16) حَاشِيَةُ الإِيْضَاحِ (ص: 502).
_____________________________________