الأصل الأول: باب الأسماء والصفات
هذان طرفان متطرفان: أهل التعطيل الجهمية، وأهل التمثيل المشبهة.
- فالجهمية: ينكرون صفات الله عز وجل، بل غلاتهم ينكرون الأسماء ويقولون: لا يجوز أن نثبت لله اسما ولا صفة؛ لأنك إذا أثبت له اسما؛ شبهته بالمسميات، أو صفة؛ شبهته بالموصوفات. إذًا؛ لا نثبت اسما ولا صفة وما أضاف الله إلى نفسه من الأسماء؛ فهو من باب المجاز، وليس من باب التسمي بهذه الأسماء.
- والمعتزلة ينكرون الصفات ويثبتون الأسماء.
- والأشعرية يثبتون الأسماء وسبعا من الصفات.
كل هؤلاء يشملهم اسم التعطيل، لكن بعضهم معطل تعطيلا كاملا؛ كالجهمية، وبعضهم تعطيلا نسبيا؛ مثل المعتزلة والأشاعرة.
وأما أهل التمثيل المشبهة؛ فيثبتون لله الصفات، ويقولون: يجب أن نثبت لله الصفات؛ لأنه أثبتها لنفسه، لكن يقولون: إنها مثل صفات المخلوقين.
فهؤلاء غلوا في الإثبات، وأهل التعطيل غلوا في التنزيه.
فهؤلاء قالوا: يجب عليك أن تثبت لله وجها، وهذا الوجه مثل وجه أحسن واحد من بني آدم.
قالوا: لأن الله خاطبنا بما نعقل ونفهم؛ قال: {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ} [الرحمن:27]، ولا نعقل ونفهم من الوجه إلا ما نشاهد، وأحسن ما نشاهد الإنسان.
فهو على زعمهم -والعياذ بالله- على أحسن واحد من الشباب الإنساني، ويدعون أن هذا هو المعقول معقول.
وأما أهل السنة والجماعة؛ فقالوا: نحن نأخذ بالحق الذي مع الجانبين؛ فنأخذ بالحق في باب التنزيه؛ فلا نمثل، ونأخذ بالحق في جانب الإثبات؛ فلا نعطل؛ بل إثبات بلا تمثيل، وتنزيه بلا تعطيل؛ نحن نثبت ولكن بدون تمثيل، فنأخذ بالأدلة من هنا ومن هنا.
والخلاصة: هم وسط في باب الصفات بين طائفتين متطرفتين: طائفة غلت في التنزيه والنفي، وهم أهل التعطيل من الجهمية وغيرهم، وطائفة غلت في الإثبات، وهم الممثلة.
وأهل السنة والجماعة يقولون: لا تغلوا في الإثبات ولا في النفي، ونثبت بدون تمثيل؛ لقوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى:11].
الأصل الثاني: أفعال العباد.
في باب القدر انقسم الناس إلى ثلاثة أقسام:
القسم الأول: آمنوا بقدر الله عز وجل وغلوا في إثباته، حتى سلبوا الإنسان قدرته واختياره، وقالوا: إن الله فاعل كل شيء، وليس للعبد اختيار ولا قدرة، وإنما يفعل الفعل مجبرا عليه، بل إن بعضهم ادعى أن فعل العبد هو فعل الله، ولهذا دخل من بابهم أهل الاتحاد والحلول، وهؤلاء هم الجبرية.
القسم الثاني قالوا: إن العبد مستقل بفعله، وليس لله فيه مشيئة ولا تقدير، حتى غلا بعضهم، فقال: إن الله لا يعلم فعل العبد إلا إذا فعله، أما قبل؛ فلا يعلم عنه شيئا، وهؤلاء هم القدرية، مجوس هذه الأمة.
فالأولون غلوا في إثبات أفعال الله وقدره وقالوا: إن الله عز وجل يجبر الإنسان على فعله، وليس للإنسان اختيار.
والآخرون غلوا في إثبات قدرة العبد، وقالوا: إن القدرة الإلهية والمشيئة الإلهية لا علاقة لها في فعل العبد؛ فهو الفاعل المطلق الاختيار.
القسم الثالث: أهل السنة والجماعة، قالوا: نحن نأخذ بالحق الذي مع الجانبين؛ فنقول: إن فعل العبد واقع بمشيئة الله وخلق الله، ولا يمكن أن يكون في ملك الله ما لا يشاؤه أبدا، والإنسان له اختيار وإرادة، ويفرق بين الفعل الذي يضطر إليه والفعل الذي يختاره؛ فأفعال العباد باختيارهم وإرادتهم، ومع ذلك، فهي واقعة بمشيئة الله وخلقه.
لكن سيبقى عندنا إشكال: كيف تكون خلقا لله وهي فعل الإنسان؟
والجواب: أن أفعال العبد صدرت بإرادة وقدرة، والذي خلق فيه الإرادة والقدرة هو الله عز وجل، لو شاء الله تعالى؛ لسلبك القدرة؛ فلم تستطع، ولو أن أحدا قادرا لم يرد فعلا؛ لم يقع الفعل منه، كل إنسان قادر يفعل الفعل، فإنه بإرادته، اللهم إلا من أكره، فنحن نفعل باختيارنا وقدرتنا، والذي خلق فينا الاختيار والقدرة هو الله.
الأصل الثالث: الوعيد.
المرجئة: اسم فاعل من أرجأ؛ بمعنى: أخر، ومنه قوله تعالى: {قَالُوا أَرْجِهْ وَأَخَاهُ} [الأعراف:111]، وفي قراءة: "أرجئه"؛ أي: أخره وأخر أمره، وسموا مرجئة: إما من الرجاء؛ لتغليبهم أدلة الرجاء على أدلة الوعيد، وإما من الإرجاء؛ بمعنى التأخير؛ لتأخيرهم الأعمال عن مسمى الإيمان.
ولهذا يقولون: الأعمال ليست من الإيمان، والإيمان هو الاعتراف بالقلب فقط.
ولهذا يقولون: إن فاعل الكبيرة كالزاني والسارق وشارب الخمر وقاطع الطريق لا يستحق دخول النار لا دخولا مؤبدا ولا مؤقتا؛ فلا يضر مع الإيمان معصية؛ مهما كانت صغيرة أم كبيرة؛ إذا لم تصل إلى حد الكفر.
وأما الوعيدية؛ فقابلوهم، وغلبوا جانب الوعيد، وقالوا: أي كبيرة يفعلها الإنسان ولم يتب منها؛ فإنه مخلد في النار بها: إن سرق؛ فهو من أهل النار خالدا مخلدا، وإن شرب الخمر؛ فهو في النار خالدا مخلدا ... وهكذا.
والوعيدية يشمل طائفتين: المعتزلة، والخوارج؛ ولهذا قال المؤلف: "من القدرية وغيرهم "؛ فيشمل المعتزلة -والمعتزلة قدرية؛ يرون أن الإنسان مستقل بعلمه، وهم وعيدية- ويشمل الخوارج.
فاتفقت الطائفتان على أن فاعل الكبيرة مخلد في النار، لا يخرج منها أبدا، وأن من شرب الخمر مرة؛ كمن عبد الصنم ألف سنة؛ كلهم مخلدون في النار؛ لكن يختلفون في الاسم؛ كما سيأتي إن شاء الله في الباب الثاني.
وأما أهل السنة والجماعة؛ فيقولون: لا نغلب جانب الوعيد كما فعل المعتزلة والخوارج، ولا جانب الوعد كما فعل المرجئة، ونقول: فاعل الكبيرة مستحق للعذاب، وإن عذِّب؛ لا يخلد في النار.
وسبب الخلاف بين الوعيدية وبين المرجئة: أن كل واحد منهما نظر إلى النصوص بعين عوراء؛ ينظر من جانب واحد.
- هؤلاء نظروا نصوص الوعد، فأدخلوا الإنسان في الرجاء، وقالوا: نأخذ بها، وندع ما سواها، وحملوا نصوص الوعيد على الكافر.
- والوعيدية بالعكس؛ نظروا إلى نصوص الوعيد، فأخذوا بها، وغفلوا عن نصوص الوعد.
فلهذا اختل توازنهم لما نظروا من جانب واحد.
وأهل السنة والجماعة أخذوا بهذا وهذا، وقالوا: نصوص الوعيد محكمة؛ فنأخذ بها، ونصوص الوعد محكمة؛ فنأخذ بها.
فأخذوا من نصوص الوعد ما ردوا به على الوعيدية، ومن نصوص الوعيد ما ردوا به على المرجئة، وقالوا: فاعل الكبيرة مستحق لدخول النار؛ لئلا نهدر نصوص الوعيد؛ غير مخلد فيها؛ لئلا نهدر نصوص الوعد. فأخذوا بالدليلين ونظروا بالعينين.
الأصل الرابع: أسماء الإيمان والدين.
هذا في باب الأسماء والدين، وهو غير باب الأحكام الذي هو الوعد والوعيد؛ ففاعل الكبيرة ماذا نسميه؟ أمؤمن أم كافر؟
وأهل السنة وسط فيه بين طائفتين: الحرورية والمعتزلة من وجه، والمرجئة الجهمية من وجه:
- فالحرورية والمعتزلة أخرجوه من الإيمان، لكن الحرورية قالوا: إنه كافر يحل دمه وماله، ولهذا خرجوا على الأئمة، وكفروا الناس.
- وأما المرجئة الجهمية، فخالفوا هؤلاء وقالوا: هو مؤمن كامل الإيمان يسرق ويزني ويشرب الخمر ويقتل النفس ويقطع الطريق؛ ونقول له: أنت مؤمن كامل الإيمان كرجل فعل الواجبات والمستحبات وتجنب المحرمات أنت وهو في الإيمان واحد.
فهؤلاء وأولئك على الضد في الاسم وفي الحكم.
وأما المعتزلة؛ فقالوا: فاعل الكبيرة خرج من الإيمان، ولم يدخل في الكفر؛ فهو في منزلة بين منزلتين؛ لا نتجاسر أن نقول: إنه كافر وليس لنا أن نقول: إنه مؤمن؛ وهو يفعل الكبيرة؛ يزني ويسرق ويشرب الخمر. وقالوا: نحن أسعد الناس بالحق.
حقيقة أنهم إذا قالوا: أن هذا لا يتساوى مع مؤمن عابد؛ فقد صدقوا. لكن كونهم يخرجونه من الإيمان، ثم يحدثون منزلة بين منزلتين: بدعة ما جاءت لا في كتاب الله ولا في سنة رسوله، كل النصوص تدل على أنه لا يوجد منزلة بين منزلتين: كقوله تعالى: {وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} [سبأ:24]، وقوله: {فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ} [يونس:32]، وقوله: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ} [التغابن:2]، وفي الحديث: "القرآن حجة لك أو عليك".
فأين المنزلة بين المنزلتين؟
هم يقولون: في منزلة بين منزلتين. وفي باب الوعيد ينفذون عليه الوعيد، فيوافقون الخوارج في أن فاعل الكبيرة مخلد في النار، أما في الدنيا؛ فقالوا: تجرى عليه أحكام الإسلام؛ لأنه هو الأصل؛ فهو عندهم في الدنيا بمنزلة الفاسق العاصي.
فيا سبحان الله كيف نصلي عليه، ونقول: اللهم اغفر له. وهو مخلد في النار؟
فيجب عليهم أن يقولوا في أحكام الدنيا: إنه يتوقف فيه؛ لا نقول: مسلم، ولا: كافر، ولا نعطيه أحكام الإسلام، ولا أحكام الكفر؛ إذا مات لا نصلي عليه، ولا نكفنه، ولا نغسله، ولا يدفن مع المسلمين، ولا ندفنه مع الكفار؛ إذًا؛ نبحث له عن مقبرة بين مقبرتين!!
- وأما أهل السنة والجماعة؛ فكانوا وسطا بين هذه الطوائف؛ فقالوا: نسمي المؤمن الذي يفعل الكبيرة مؤمنا ناقص الإيمان، أو نقول: مؤمن بإيمانه، فاسق بكبيرته، وهذا هو العدل؛ فلا يعطى الاسم المطلق، ولا يسلب مطلق الاسم.
ويترتب على هذا: أن الفاسق لا يجوز لنا أن نكرهه كرها مطلقا، ولا أن نحبه حبا مطلقا، بل نحبه على ما معه من الإيمان، ونكرهه على ما معه من المعصية.
الأصل الخامس: في الصحابة رضي الله عنهم.
"أصحاب": جمع صاحب، والصحب اسم جمع صاحب، والصاحب: الملازم للشيء.
والصحابي: هو الذي اجتمع بالنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مؤمنا به ومات على ذلك.
وهذا خاص في الصحابة، وهو من خصائص النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ أن الإنسان يكون من أصحابه، وإن لم يجتمع به إلا لحظة واحدة؛ لكن بشرط أن يكون مؤمنا به.
وأهل السنة والجماعة وسط فيهم بين الرافضة والخوارج.
- فالرافضة: هم الذين يسمون اليوم: شيعة، وسموا رافضة؛ لأنهم رفضوا زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله عنه، الذي ينتسب إليه الآن الزيدية؛ رفضوه لأنهم سألوه: ما تقول في أبي بكر وعمر؟ يريدون منه أن يسبهما ويطعن فيهما ولكنه رضي الله عنه قال لهم: نعم الوزيران وزيرا جدي. يريد بذلك رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ فأثنى عليهما، فرفضوه، وغضبوا عليه، وتركوه فسموا رافضة.
هؤلاء الروافض -والعياذ بالله- لهم أصول معروفة عندهم، ومن أقبح أصولهم: الإمامة التي تتضمن عصمة الإمام، وأنه لا يقول خطأ، وأن مقام الإمامة أرفع من مقام النبوة؛ لأن الإمام يتلقى عن الله مباشرة، والنبي بواسطة الرسول، وهو جبريل، ولا يخطئ الإمام عندهم أبدا، بل غلاتهم يدعون أن الإمام يخلق؛ يقول للشيء: كن فيكون.
وهم يقولون: أن الصحابة كفار، وكلهم ارتدوا النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ حتى أبو بكر وعمر عند بعضهم كانا كافرين وماتا على النفاق والعياذ بالله، ولا يستثنون من الصحابة إلا آل البيت، ونفرا قليلا ممن قالوا: إنهم أولياء آل البيت.
وقد قال صاحب كتاب " الفصل ": " إن غلاتهم كفروا علي بن أبي طالب؛ قالوا: لأن عليا أقر الظلم والباطل حين بايع أبا بكر وعمر، وكان الواجب عليه أن ينكر بيعتهما، فلما لم يأخذ بالحق والعدل، ووافق على الظلم؛ صار ظالما كافرا ".
- أما الخوارج؛ فهم على العكس من الرافضة؛ حيث إنهم كفروا علي بن أبي طالب، وكفروا معاوية بن أبي سفيان، وكفروا كل من لم يكن على طريقتهم، واستحلوا دماء المسلمين، فكانوا كما وصفهم النبي عليه الصلاة والسلام: «يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية» ، وإيمانهم لا يتجاوز حناجرهم.
فالشيعة غلوا في آل البيت وأشياعهم، وبالغوا في ذلك، حتى أن منهم من ادعى ألوهية علي، ومنهم من ادعى أنه أحق بالنبوة من محمد رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، والخوارج بالعكس.
- أما أهل السنة والجماعة؛ فكانوا وسطا بين الطائفتين؛ قالوا: نحن ننزل آل البيت منزلتهم، ونرى أن لهم حقين علينا: حق الإسلام والإيمان، وحق القرابة من رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وقالوا: قرابة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لها الحق علينا، لكن من حقها علينا أن ننزلها منزلتها، وأن لا نغلو فيها.
ويقولون في بقية أصحاب الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لهم الحق علينا بالتوقير والإجلال والترضي، وأن نكون كما قال الله تعالى: {رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [الحشر:10] ، ولا نعادي أحدا منهم أبدا؛ لا آل البيت، ولا غيرهم؛ فكل منهم نعطيه حقه؛ فصاروا وسطا بين جفاة وغلاة.
المصدر: شرح العقيدة الواسطية لشيخ الإسلام ابن تيمية ، الجزء الثاني، صفحة 72 -73- 74-75
هذان طرفان متطرفان: أهل التعطيل الجهمية، وأهل التمثيل المشبهة.
- فالجهمية: ينكرون صفات الله عز وجل، بل غلاتهم ينكرون الأسماء ويقولون: لا يجوز أن نثبت لله اسما ولا صفة؛ لأنك إذا أثبت له اسما؛ شبهته بالمسميات، أو صفة؛ شبهته بالموصوفات. إذًا؛ لا نثبت اسما ولا صفة وما أضاف الله إلى نفسه من الأسماء؛ فهو من باب المجاز، وليس من باب التسمي بهذه الأسماء.
- والمعتزلة ينكرون الصفات ويثبتون الأسماء.
- والأشعرية يثبتون الأسماء وسبعا من الصفات.
كل هؤلاء يشملهم اسم التعطيل، لكن بعضهم معطل تعطيلا كاملا؛ كالجهمية، وبعضهم تعطيلا نسبيا؛ مثل المعتزلة والأشاعرة.
وأما أهل التمثيل المشبهة؛ فيثبتون لله الصفات، ويقولون: يجب أن نثبت لله الصفات؛ لأنه أثبتها لنفسه، لكن يقولون: إنها مثل صفات المخلوقين.
فهؤلاء غلوا في الإثبات، وأهل التعطيل غلوا في التنزيه.
فهؤلاء قالوا: يجب عليك أن تثبت لله وجها، وهذا الوجه مثل وجه أحسن واحد من بني آدم.
قالوا: لأن الله خاطبنا بما نعقل ونفهم؛ قال: {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ} [الرحمن:27]، ولا نعقل ونفهم من الوجه إلا ما نشاهد، وأحسن ما نشاهد الإنسان.
فهو على زعمهم -والعياذ بالله- على أحسن واحد من الشباب الإنساني، ويدعون أن هذا هو المعقول معقول.
وأما أهل السنة والجماعة؛ فقالوا: نحن نأخذ بالحق الذي مع الجانبين؛ فنأخذ بالحق في باب التنزيه؛ فلا نمثل، ونأخذ بالحق في جانب الإثبات؛ فلا نعطل؛ بل إثبات بلا تمثيل، وتنزيه بلا تعطيل؛ نحن نثبت ولكن بدون تمثيل، فنأخذ بالأدلة من هنا ومن هنا.
والخلاصة: هم وسط في باب الصفات بين طائفتين متطرفتين: طائفة غلت في التنزيه والنفي، وهم أهل التعطيل من الجهمية وغيرهم، وطائفة غلت في الإثبات، وهم الممثلة.
وأهل السنة والجماعة يقولون: لا تغلوا في الإثبات ولا في النفي، ونثبت بدون تمثيل؛ لقوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى:11].
الأصل الثاني: أفعال العباد.
في باب القدر انقسم الناس إلى ثلاثة أقسام:
القسم الأول: آمنوا بقدر الله عز وجل وغلوا في إثباته، حتى سلبوا الإنسان قدرته واختياره، وقالوا: إن الله فاعل كل شيء، وليس للعبد اختيار ولا قدرة، وإنما يفعل الفعل مجبرا عليه، بل إن بعضهم ادعى أن فعل العبد هو فعل الله، ولهذا دخل من بابهم أهل الاتحاد والحلول، وهؤلاء هم الجبرية.
القسم الثاني قالوا: إن العبد مستقل بفعله، وليس لله فيه مشيئة ولا تقدير، حتى غلا بعضهم، فقال: إن الله لا يعلم فعل العبد إلا إذا فعله، أما قبل؛ فلا يعلم عنه شيئا، وهؤلاء هم القدرية، مجوس هذه الأمة.
فالأولون غلوا في إثبات أفعال الله وقدره وقالوا: إن الله عز وجل يجبر الإنسان على فعله، وليس للإنسان اختيار.
والآخرون غلوا في إثبات قدرة العبد، وقالوا: إن القدرة الإلهية والمشيئة الإلهية لا علاقة لها في فعل العبد؛ فهو الفاعل المطلق الاختيار.
القسم الثالث: أهل السنة والجماعة، قالوا: نحن نأخذ بالحق الذي مع الجانبين؛ فنقول: إن فعل العبد واقع بمشيئة الله وخلق الله، ولا يمكن أن يكون في ملك الله ما لا يشاؤه أبدا، والإنسان له اختيار وإرادة، ويفرق بين الفعل الذي يضطر إليه والفعل الذي يختاره؛ فأفعال العباد باختيارهم وإرادتهم، ومع ذلك، فهي واقعة بمشيئة الله وخلقه.
لكن سيبقى عندنا إشكال: كيف تكون خلقا لله وهي فعل الإنسان؟
والجواب: أن أفعال العبد صدرت بإرادة وقدرة، والذي خلق فيه الإرادة والقدرة هو الله عز وجل، لو شاء الله تعالى؛ لسلبك القدرة؛ فلم تستطع، ولو أن أحدا قادرا لم يرد فعلا؛ لم يقع الفعل منه، كل إنسان قادر يفعل الفعل، فإنه بإرادته، اللهم إلا من أكره، فنحن نفعل باختيارنا وقدرتنا، والذي خلق فينا الاختيار والقدرة هو الله.
الأصل الثالث: الوعيد.
المرجئة: اسم فاعل من أرجأ؛ بمعنى: أخر، ومنه قوله تعالى: {قَالُوا أَرْجِهْ وَأَخَاهُ} [الأعراف:111]، وفي قراءة: "أرجئه"؛ أي: أخره وأخر أمره، وسموا مرجئة: إما من الرجاء؛ لتغليبهم أدلة الرجاء على أدلة الوعيد، وإما من الإرجاء؛ بمعنى التأخير؛ لتأخيرهم الأعمال عن مسمى الإيمان.
ولهذا يقولون: الأعمال ليست من الإيمان، والإيمان هو الاعتراف بالقلب فقط.
ولهذا يقولون: إن فاعل الكبيرة كالزاني والسارق وشارب الخمر وقاطع الطريق لا يستحق دخول النار لا دخولا مؤبدا ولا مؤقتا؛ فلا يضر مع الإيمان معصية؛ مهما كانت صغيرة أم كبيرة؛ إذا لم تصل إلى حد الكفر.
وأما الوعيدية؛ فقابلوهم، وغلبوا جانب الوعيد، وقالوا: أي كبيرة يفعلها الإنسان ولم يتب منها؛ فإنه مخلد في النار بها: إن سرق؛ فهو من أهل النار خالدا مخلدا، وإن شرب الخمر؛ فهو في النار خالدا مخلدا ... وهكذا.
والوعيدية يشمل طائفتين: المعتزلة، والخوارج؛ ولهذا قال المؤلف: "من القدرية وغيرهم "؛ فيشمل المعتزلة -والمعتزلة قدرية؛ يرون أن الإنسان مستقل بعلمه، وهم وعيدية- ويشمل الخوارج.
فاتفقت الطائفتان على أن فاعل الكبيرة مخلد في النار، لا يخرج منها أبدا، وأن من شرب الخمر مرة؛ كمن عبد الصنم ألف سنة؛ كلهم مخلدون في النار؛ لكن يختلفون في الاسم؛ كما سيأتي إن شاء الله في الباب الثاني.
وأما أهل السنة والجماعة؛ فيقولون: لا نغلب جانب الوعيد كما فعل المعتزلة والخوارج، ولا جانب الوعد كما فعل المرجئة، ونقول: فاعل الكبيرة مستحق للعذاب، وإن عذِّب؛ لا يخلد في النار.
وسبب الخلاف بين الوعيدية وبين المرجئة: أن كل واحد منهما نظر إلى النصوص بعين عوراء؛ ينظر من جانب واحد.
- هؤلاء نظروا نصوص الوعد، فأدخلوا الإنسان في الرجاء، وقالوا: نأخذ بها، وندع ما سواها، وحملوا نصوص الوعيد على الكافر.
- والوعيدية بالعكس؛ نظروا إلى نصوص الوعيد، فأخذوا بها، وغفلوا عن نصوص الوعد.
فلهذا اختل توازنهم لما نظروا من جانب واحد.
وأهل السنة والجماعة أخذوا بهذا وهذا، وقالوا: نصوص الوعيد محكمة؛ فنأخذ بها، ونصوص الوعد محكمة؛ فنأخذ بها.
فأخذوا من نصوص الوعد ما ردوا به على الوعيدية، ومن نصوص الوعيد ما ردوا به على المرجئة، وقالوا: فاعل الكبيرة مستحق لدخول النار؛ لئلا نهدر نصوص الوعيد؛ غير مخلد فيها؛ لئلا نهدر نصوص الوعد. فأخذوا بالدليلين ونظروا بالعينين.
الأصل الرابع: أسماء الإيمان والدين.
هذا في باب الأسماء والدين، وهو غير باب الأحكام الذي هو الوعد والوعيد؛ ففاعل الكبيرة ماذا نسميه؟ أمؤمن أم كافر؟
وأهل السنة وسط فيه بين طائفتين: الحرورية والمعتزلة من وجه، والمرجئة الجهمية من وجه:
- فالحرورية والمعتزلة أخرجوه من الإيمان، لكن الحرورية قالوا: إنه كافر يحل دمه وماله، ولهذا خرجوا على الأئمة، وكفروا الناس.
- وأما المرجئة الجهمية، فخالفوا هؤلاء وقالوا: هو مؤمن كامل الإيمان يسرق ويزني ويشرب الخمر ويقتل النفس ويقطع الطريق؛ ونقول له: أنت مؤمن كامل الإيمان كرجل فعل الواجبات والمستحبات وتجنب المحرمات أنت وهو في الإيمان واحد.
فهؤلاء وأولئك على الضد في الاسم وفي الحكم.
وأما المعتزلة؛ فقالوا: فاعل الكبيرة خرج من الإيمان، ولم يدخل في الكفر؛ فهو في منزلة بين منزلتين؛ لا نتجاسر أن نقول: إنه كافر وليس لنا أن نقول: إنه مؤمن؛ وهو يفعل الكبيرة؛ يزني ويسرق ويشرب الخمر. وقالوا: نحن أسعد الناس بالحق.
حقيقة أنهم إذا قالوا: أن هذا لا يتساوى مع مؤمن عابد؛ فقد صدقوا. لكن كونهم يخرجونه من الإيمان، ثم يحدثون منزلة بين منزلتين: بدعة ما جاءت لا في كتاب الله ولا في سنة رسوله، كل النصوص تدل على أنه لا يوجد منزلة بين منزلتين: كقوله تعالى: {وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} [سبأ:24]، وقوله: {فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ} [يونس:32]، وقوله: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ} [التغابن:2]، وفي الحديث: "القرآن حجة لك أو عليك".
فأين المنزلة بين المنزلتين؟
هم يقولون: في منزلة بين منزلتين. وفي باب الوعيد ينفذون عليه الوعيد، فيوافقون الخوارج في أن فاعل الكبيرة مخلد في النار، أما في الدنيا؛ فقالوا: تجرى عليه أحكام الإسلام؛ لأنه هو الأصل؛ فهو عندهم في الدنيا بمنزلة الفاسق العاصي.
فيا سبحان الله كيف نصلي عليه، ونقول: اللهم اغفر له. وهو مخلد في النار؟
فيجب عليهم أن يقولوا في أحكام الدنيا: إنه يتوقف فيه؛ لا نقول: مسلم، ولا: كافر، ولا نعطيه أحكام الإسلام، ولا أحكام الكفر؛ إذا مات لا نصلي عليه، ولا نكفنه، ولا نغسله، ولا يدفن مع المسلمين، ولا ندفنه مع الكفار؛ إذًا؛ نبحث له عن مقبرة بين مقبرتين!!
- وأما أهل السنة والجماعة؛ فكانوا وسطا بين هذه الطوائف؛ فقالوا: نسمي المؤمن الذي يفعل الكبيرة مؤمنا ناقص الإيمان، أو نقول: مؤمن بإيمانه، فاسق بكبيرته، وهذا هو العدل؛ فلا يعطى الاسم المطلق، ولا يسلب مطلق الاسم.
ويترتب على هذا: أن الفاسق لا يجوز لنا أن نكرهه كرها مطلقا، ولا أن نحبه حبا مطلقا، بل نحبه على ما معه من الإيمان، ونكرهه على ما معه من المعصية.
الأصل الخامس: في الصحابة رضي الله عنهم.
"أصحاب": جمع صاحب، والصحب اسم جمع صاحب، والصاحب: الملازم للشيء.
والصحابي: هو الذي اجتمع بالنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مؤمنا به ومات على ذلك.
وهذا خاص في الصحابة، وهو من خصائص النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ أن الإنسان يكون من أصحابه، وإن لم يجتمع به إلا لحظة واحدة؛ لكن بشرط أن يكون مؤمنا به.
وأهل السنة والجماعة وسط فيهم بين الرافضة والخوارج.
- فالرافضة: هم الذين يسمون اليوم: شيعة، وسموا رافضة؛ لأنهم رفضوا زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله عنه، الذي ينتسب إليه الآن الزيدية؛ رفضوه لأنهم سألوه: ما تقول في أبي بكر وعمر؟ يريدون منه أن يسبهما ويطعن فيهما ولكنه رضي الله عنه قال لهم: نعم الوزيران وزيرا جدي. يريد بذلك رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ فأثنى عليهما، فرفضوه، وغضبوا عليه، وتركوه فسموا رافضة.
هؤلاء الروافض -والعياذ بالله- لهم أصول معروفة عندهم، ومن أقبح أصولهم: الإمامة التي تتضمن عصمة الإمام، وأنه لا يقول خطأ، وأن مقام الإمامة أرفع من مقام النبوة؛ لأن الإمام يتلقى عن الله مباشرة، والنبي بواسطة الرسول، وهو جبريل، ولا يخطئ الإمام عندهم أبدا، بل غلاتهم يدعون أن الإمام يخلق؛ يقول للشيء: كن فيكون.
وهم يقولون: أن الصحابة كفار، وكلهم ارتدوا النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ حتى أبو بكر وعمر عند بعضهم كانا كافرين وماتا على النفاق والعياذ بالله، ولا يستثنون من الصحابة إلا آل البيت، ونفرا قليلا ممن قالوا: إنهم أولياء آل البيت.
وقد قال صاحب كتاب " الفصل ": " إن غلاتهم كفروا علي بن أبي طالب؛ قالوا: لأن عليا أقر الظلم والباطل حين بايع أبا بكر وعمر، وكان الواجب عليه أن ينكر بيعتهما، فلما لم يأخذ بالحق والعدل، ووافق على الظلم؛ صار ظالما كافرا ".
- أما الخوارج؛ فهم على العكس من الرافضة؛ حيث إنهم كفروا علي بن أبي طالب، وكفروا معاوية بن أبي سفيان، وكفروا كل من لم يكن على طريقتهم، واستحلوا دماء المسلمين، فكانوا كما وصفهم النبي عليه الصلاة والسلام: «يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية» ، وإيمانهم لا يتجاوز حناجرهم.
فالشيعة غلوا في آل البيت وأشياعهم، وبالغوا في ذلك، حتى أن منهم من ادعى ألوهية علي، ومنهم من ادعى أنه أحق بالنبوة من محمد رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، والخوارج بالعكس.
- أما أهل السنة والجماعة؛ فكانوا وسطا بين الطائفتين؛ قالوا: نحن ننزل آل البيت منزلتهم، ونرى أن لهم حقين علينا: حق الإسلام والإيمان، وحق القرابة من رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وقالوا: قرابة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لها الحق علينا، لكن من حقها علينا أن ننزلها منزلتها، وأن لا نغلو فيها.
ويقولون في بقية أصحاب الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لهم الحق علينا بالتوقير والإجلال والترضي، وأن نكون كما قال الله تعالى: {رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [الحشر:10] ، ولا نعادي أحدا منهم أبدا؛ لا آل البيت، ولا غيرهم؛ فكل منهم نعطيه حقه؛ فصاروا وسطا بين جفاة وغلاة.
المصدر: شرح العقيدة الواسطية لشيخ الإسلام ابن تيمية ، الجزء الثاني، صفحة 72 -73- 74-75