السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
وبعدُ: فهذا تحريرٌ ماتعٌ جدًا لشيخ الإسلام ابن تيميَّة -رحمه الله- في عدم قبول التَّوبة قبل نزول العذاب، وهل خُصَّ قوم يونس -عليه السلام- بقبولها ؟إذ من المعلوم أنَّ من شروط قبول التَّوبة أنْ تقع في وقت القبول وذلك إمَّا:
2- وإمَّا قبل معاينة العذاب؛ لقوله تعالى: {فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ (84) فَلَمْ يَكُ يَنفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّتَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ} [(85) سورة غافر].
3- وإمَّا قبل طلوع الشَّمس من مغربها؛ لقوله تعالى: {هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن تَأْتِيهُمُ الْمَلآئِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لاَ يَنفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِن قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا قُلِ انتَظِرُواْ إِنَّا مُنتَظِرُونَ} [(15 سورة الأنعام].
وأترككم الآن مع فوائد وتحريراتٍ قلَّما تجدوها في موضعٍ آخر.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-:
«فصل في توبة قوم يونس.
هل هي مختصة بالقبول دون سائر من يتوب كما تابوا؟
وفي ذلك للناس قولان:
قال كثير من المفسرين -وربما قيل: قال أكثر المفسرين-: إن الله تابَ عليهم بعد معاينة بأسِه، وخصَّهم بقبول التوبة في هذه الحال دونَ سائرِ الأمم، واستثناهم من الأمم بقوله: {فَلَوْلَا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ} [يونس:98]، قالوا: وكَشْفُ العذاب لا يكون إلا بعدَ معاينتِه، وذكروا قولين: هل رأوا العذابَ أو دليلَ العذاب؟
قالوا: قال أكثر المفسرين: رأوا نفس العذاب بدليل قوله: {لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا}.
وقالت طائفة: رأوا دليلَ العذاب؛ لأن التوبة بعد معاينته لا تُقبل، ولا فرقَ في ذلك بين أمّةٍ وأمّة، بل هذا حكم عام.
وهذا القول يوافق قول من يقول: ليسوا مخصوصين بقبول التوبة، بل كل من تابَ كما تابوا قَبِلَ اللهُ توبتَه. وهو القول الثاني، وهو الصواب.
لأن الله سبحانه قال: {فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ (84) فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّتَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ} [غافر:84 - 85]، فأخبر سبحانه أن هذه سنته، وسنته سبحانه لن تجد لها تبديلًا ولن تجد لها تحويلًا، كما قال: {فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا} [فاطر:43].
وأيضًا فإنه قال: {وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ} [النساء:18]. وهذا نفيٌ عامّ، ولو كان أحد مستثنًى من هذا العموم لكانت أمة محمد أحقَّ بالاستثناء من قوم يونس، فإنهم أكرم الأمم على الله، ونبيُّهم نبيّ الرحمة ونبيّ التوبة، وقد وسَّع الله لهم في التوبة ما لم يُوسِّعْه لبني إسرائيل مع كرامة أولئك على الله. وهاتان الأمتان قد فضَّلهما اللهُ على العالمين، فإذا لم يقبل توبة أحدهم إذا حضره الموت فكيف يقبل توبة قوم يونس؟
وأيضًا فإن الله حكيم عدلٌ، لا يُفرِّق بين المتماثلات ولا يُسوِّي بين المختلفات، فلا يُفرِّق بين توبة قوم يونس وغيرهم إلا لافتراقِ العملَينِ، وإلا فمن تابَ مثلَ ما تابوا فحكمهُ حكمُهم، وهم إذا تابوا بعد رؤية البأس فهم كغيرهم.
وأيضًا فقد قال موسى في دعائه على قوم فرعون: {رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ} [يونس:88] قال الله تعالى: {قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا} [يونس:89]. ولم يؤمن فرعون حتى أدركَه الغرقُ فقال: {آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [يونس:90]، قال الله تعالى: {آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ} [يونس:91]. فدعاءُ موسى هذا الدعاءَ دليلٌ على أنه قد علم حينئذٍ أن التوبة لا تنفعُ، ولو جاز أن يُخَصَّ من هذا أحدٌ جوَّزَ موسى أن تُقبَل توبة فرعون حينئذٍ كما قُبِلتْ توبةُ قوم يونس، فعُلِم أنه كان مستقرًّا عند موسى أن هذا حكمٌ عامٌّ.
وأما ما احتجُّوا به من أن الله كشفَ عنهم العذابَ لما تابوا فهو حقٌّ كما أخبر الله، وسواء كانوا قد رأوا العذابَ أو لم يَرَوه، فإن العذاب نوعان: عذابٌ يتيقن معه الموت، وعذاب لا يتيقن معه الموت، فهذا الثاني عذابٌ أيضًا، ومن تاب كشفَ الله عنه العذابَ، بدليل قوله تعالى: {وَلَقَدْ أَخَذْنَا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (130) فَإِذَا جَاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قَالُوا لَنَا هَذِهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسَى وَمَنْ مَعَهُ، أَلَا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (131) وَقَالُوا مَهْمَا تَأْتِنَا بِهِ مِنْ آيَةٍ لِتَسْحَرَنَا بِهَا فَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ (132) فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ آيَاتٍ مُفَصَّلَاتٍ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا مُجْرِمِينَ (133) وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ قَالُوا يَا مُوسَى ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرَائِيلَ (134) فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلَى أَجَلٍ هُمْ بَالِغُوهُ إِذَا هُمْ يَنْكُثُونَ (135) فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ} [الأعراف:130 - 136]. وقال تعالى: {وَقَالُوا يَا أَيُّهَ السَّاحِرُ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ إِنَّنَا لَمُهْتَدُونَ (49) فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِذَا هُمْ يَنْكُثُونَ} [الزخرف:49 - 50].
فقد أخبر أنه كشفَ العذابَ عن قومِ فرعونَ.
وعذابُ الله ثلاثة أنواع:
نوع يكون في الدنيا قبلَ الموت، فهذا يقبل الله توبةَ من تابَ بعدَ معاينته، ويكشفه عنه.
وعذاب يكون بالهلاك عند المعاينة، فهذا لا كرَّةَ فيه، ولا تُقبَل توبتُه بعد معاينته.
وكذلك عذاب يوم القيامة، فإن الموت هو القيامة الصغرى، قال المغيرة بن شعبة: إنكم تقولون: القيامة القيامة، وإنه من مات فقد قامتْ قيامتُه. وشهِدَ علقمةُ بن قيس صاحبُ ابن مسعود جنازةً، فلما دُفِنَ قال: أما هذا فقد قامتْ قيامتُه.
وهذا مذهب الصحابة والتابعين لهم بإحسان وأئمة المسلمين وأهل السنة، الذين يُثبِتونَ في البرزخ بعدَ الموتِ وقبلَ قيام الناس من قبورِهم عذابًا ونعيمًا. وطائفة من أهل البدع تُنكِر هذا ويُنكِرون عذابَ القبر، فهؤلاء ليس عندهم جزاءٌ إلا في القيامة الكبرى. وبإزاء هؤلاء كثير من المتفلسفة والملاحدة الباطنية ومن وافقهم يُثبِتون القيامة الصغرى، وهو معادُ النفس إذا فارقت البدنَ، وليس عندهم قيامة كبرى يقوم الناس عنها من قبورهم، وإنما يُثبِتون تغيُّرَ العالم السُّفلِيّ من حالٍ إلى حال. وهذه القيامة الوسطى التي ذكرها النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: «إن يَستنفِدْ هذا الغلامُ أجَلَه لن يُدرِكَه الهَرَمُ حتى تقوم الساعةُ». يُريد به انخرامَ ذلك القرن، هكذا جاء مبينًا في الأحاديث الصحيحة.
وعذاب الله هو في هذه القيامات الثلاث، يُعذِّب من يشاء بعدَ الموتِ ويُعذِّب كثيرًا من الأمم بهلاكهم جميعًا، كما أهلك قومَ نوح وعادًا وثمودَ وغيرهم. وكذلك يُزيلُ الدُّوَل، وقد قال: «إذا رأيتَ الحُفَاةَ العُرَاةَ العَالَةَ رِعاءَ البَهْمِ يتطاولون في البنيان، فذلك من أشراطِها».
والقيامة الكبرى إذا قامَ الناس من القبور، وانشقَّتِ السماءُ وبُسَّتِ الجبالُ، وكان ما أخبر الله به في كتابه. والوعيد في القرآن يتناول هذا وهذا وهذا، والمفسرون يذكرون الأمور الثلاثة.
ومما يبيِّن ذلك قوله: {وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ} [المؤمنون:76]. فدلَّ ذلك على أنه بعد أن يُصيبَ الإنسانَ العذابُ تُقبَل منه الاستكانةُ والتضرعُ، كما قال: {وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ} [الأعراف:94]، وقال تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (40) بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ وَتَنْسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ} [الأنعام:40 - 41]. فهذا يُبيِّن أنه قد يكشف العذاب الذي دَعَوا الله إليه، كما قال: {وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيبًا إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْدَادًا لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلًا إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ} [الزمر:8].
ومما يبيِّن ذلك قوله تعالى: {وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [السجدة:21]، فأخبر أنه يُذِيق الناس العذاب الأدنى في الدنيا لعلهم يتوبون، وذلك أن التوبة ترفعُ العذاب الأدنى عن جميع الناس. وقال تعالى: {أَوَلَا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لَا يَتُوبُونَ وَلَا هُمْ يَذَّكَّرُونَ} [التوبة:126]، وقال تعالى: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [الروم:41].
وإذا كان القرآن قد فرَّق بين العذاب الذي يستعقبه الموتُ وبين غيره وجبَ الفرقُ، والمريض تُقبل توبتُه ما لم يُغرْغِر ويُعايِنْ ملك الموت، وإن كان مرضه مخوفًا. فقوم يونس إنما أخبر الله عنهم أنهم لما آمنوا كشف عنهم عذابَ الخِزي في الحياة الدنيا، فبيَّن أن العذاب المكشوف كان مما يُعَذَّب به في الحياة الدنيا لم يكن هو العذاب الموجب للهلاك، ولو لم يفسّر ذلك فلفظ العذاب مجمل، والقرآن قد فرَّقَ بين النوعين، فلا يجوز حملُ هذا العذاب على العذاب الموجب للموت الذي لا يُقبل معه توبة، فإنّ في هذا مخالفةً لسائرِ آيات القرآن ولحكمةِ الربّ وعدلِه بلا دليلٍ؛ إذ كان اللفظ المجمل لا يعين أحد النوعين، فكيف إذا كان معه ما يقتضي التعيين أنه كان العذاب الأدنى، وإن كانوا قد عاينوه وأصابهم، فالتوبة بعد هذا العذاب مقبولة، فقد أصابَ قومَ فرعون من أنواع العذاب ما ذكره الله، ومع هذا فقد كان يقبل توبتهم لو تابوا ووعدوا بالإرسال، فلما كشف عنهم العذاب نقضوا عهدهم.
وما رُوِي أنه غشِيَهم العذابُ كالغمام الأسود واسودَّتْ أَسْطِحَتُهم ونحو ذلك الله أعلم بثبوته، فإن هذا لم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم، وأكثر ذلك إنما يأخذه المسلمون عن أهل الكتاب، وقد نهانا النبي صلى الله عليه وسلم أن نصدِّقهم أو نكذِّبهم. لكن مثل هذا العذاب قد يكون تهديدًا: إن تبتم وإلا أصابكم كنَتْقِ الجبل فوق بني إسرائيل، وهذا من أعظم الآيات. قيل لهم: إن أخذتم التوراة وإلّا أطبقناه.
ومما يبيِّن ذلك أن القوم لم يَطُلْ مقامُ يونسَ عندهم، بل حين كذَّبوه وعدَهم بالعذاب كما نقله هؤلاء، ومثل هذا يكون عذابَ تهديد، كما قد يُصيبُ الناسَ من الجدب والجوع ما هو أعظمُ من ذلك، ويُصيبُهم من الوباء والطاعون ما يُصيبهم، والذين عبدوا العجلَ أمرهم الله بقتلِ بعضهم بعضًا وقَبِلَ توبتَهم، ثم بعثَهم من بعد موتهم لعلهم يشكرون. وإنما الذي لا يقبل معه توبة ما يقترن به الموتُ كغرقِ فرعون ونحوه.
وأما استثناء الله قومَ يونس فهو حجة في المسألة، فإنّ الله قال: {فَلَوْلَا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ} [يونس:98]، وقوله: {إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ} استثناء منقطع، وهم قد سلموا أنه منقطع، ودليل ذلك أنه منصوب، ولو كان مثبتًا لكان مرفوعًا في اللغة المشهورة، كما في قوله: {مَا فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ} [النساء:66]، فلما قال: {إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ} كان منقطعًا، كالاستثناء في قوله: {فَلَوْلَا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ} [هود:116]، فإنه منقطع. وكذلك أهل العربية والتفسير قالوا: هو استثناء منقطع، والمعنى: لكن قليل ممن أنجينا
منهم من نهى عن الفساد. وقال مقاتل: لم يكن من القرون من ينهى عن المعاصي والشرك، إلا قليلًا ممن أنجينا من العذاب مع الرسل.
ومما يُبيِّن ذلك أن قوله: {فَلَوْلَا} بمعنى فهلَّا، وهي كلمة تحضيضٍ على المذكور وذمٍّ لمن لم يفعله، والمعنى: فهلَّا كانت قرية آمنت فنفعها إيمانها؟ كما قال: {فَلَوْلَا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ} [هود:116]، أي لِمَ لا كان فيهم مَنْ ينهى وفي القرى مَن آمن فنفعه إيمانُه؟ وهذا يقتضي أن أهل القرى لو آمنوا لنفعهم إيمانهم كما نفعَ قومَ يونس، لكن لم يؤمنوا. وعلى ما قاله المنازعون يكون معنى الآية: ما آمنت قرية فنفعَها إيمانُها إلا قوم يونس، أو ما آمن أحدٌ عند رؤية العذاب فنفعَه إيمانُه إلا قوم يونس. فبهذا فسَّروا القرآن، وليس هذا مراد الله، فإن الله لم يخبرنا أن غير قوم يونس آمنوا وما نفعَهم إيمانهم، وأن الإيمان لم ينفع إلا قومَ يونس. بل مقصوده أنه لم يؤمنْ وينتفعْ بإيمانه من أهل القرى إلا قومُ يونس.
وأيضًا فإن هذا المعنى يقال فيه: فما قرية آمنت فنفعَها إيمانُها إلا قومَ يونس بصيغة النفي والسلب، لا يقال: فهلَّا كانت قرية آمنت بصيغة التحضيض والطلب والاستدعاء والتوبيخ والملام على ترك الإيمان، فإن هذه الصيغة أصل وضعها هو للتحضيض لا للنفي، ولهذا قد يُفعل المحضوضُ عليه بعد التحضيض، كما يُفعل بعد الأمر، كما قال تعالى: {وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْلَا نُزِّلَتْ} [محمد:20]، ثم قال: {فَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَأَوْلَى لَهُمْ} [محمد:20]، فأين هذا من هذا؟ أين إخبارُه بأنهم آمنوا ولم ينفعهم إيمانُهم من كونه وبَّخهم وذمَّهم على أنهم لم يؤمنوا فينتفعوا بالإيمان؟
ولهذا كان الاستثناء بعده منقطعًا، ولو كان نفيًا وسلبًا لكان الاستثناء معه متصلًا، كقوله: {مَا فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ} [النساء:66]، فلما قُطِع الاستثناء ونُصِب المستثنَى عُلِمَ أنه استثناء من نفيٍ وسلبٍ، لكن الكلام تحضيض، فلو اتصل الاستثناء لكان المعنى تحضيضهم على الإيمان إلا قوم يونس، وتحضيضهم على النهي عن الفساد إلا القليل. وهذا يوجب قلبَ المعنى، فإن الله يحضُّ الجميع على الإيمان وعلى النهي عن الفساد، لكن لما ذكر صيغة للحضّ العام بيَّن أن هؤلاء وهؤلاء فعلوا ما حُضُّوا عليه، فلا يتناولهم الذمُّ، فإن الاستثناء المنقطع قد يكون من الجنس المشترك بين المستثنَى والمستثنى منه، كما في قوله: {مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ} [النساء:157]، فاتباع الظن مستثنًى من المعنى العام المشترك بين العلم والظن، وهو الاعتقاد، فإنه لما قال: {مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ} بقيت النفس تطلب: فهل عندهم شيء من الاعتقاد؟ فيقال: ما عندهم إلا اتباع الظن.
وكذلك قوله: {لَا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولَى} [الدخان:56]، فإنه استثناء من المعنى المشترك بين الجنة والدنيا، فلما قال: {لَا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ} بقيت النفس تطلب: هل ذاقوه في غيرها؟ فقال: لم يذوقوا إلا الموتة الأولى. وكذلك نظائره.
وقد يكون أخصَّ من المستثنى منه، فلما قال: {فَلَوْلَا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ} [هود:116]، و {فَلَوْلَا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا} [يونس:98]، كان هذا تحضيضًا للجمع، والتحضيض أمر مؤكد يقتضي ذمَّ مَنْ لم يفعل المأمور وعقابَه، ونفسُ الحضّ والأمر لا يستلزم الخبر، فإن المأمور لم يَفعل ما أُمِر به، بل قد يفعله وقد لا يفعله، وإذا لم يفعله استحقَّ الذمَّ والتوبيخ. وقد يكون في المحضوضين مَن فعلَ، فلما ذكر التحضيض والفاعل مستثنى من التوبيخ لا مستثنى من الحضّ، فلو قال: {إِلَّا قَلِيلٌ} و {إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ} لكان هذا استثناءً من التحضيض، وليس كذلك، وإنما هو استثناء من أخص منه وهو التوبيخ ونفي الفعل، فإنه لما حضَّ الجميع كأنه قيل: فكلُّهم لم يُنْهَ، وكلُّهم يستحقون الذمَّ والتوبيخ، فيقال: نعم إلا قوم يونس، وإلا قليلًا.
ومما يبيِّن أن مثل هذا التحضيض لا يستلزم النفي عن الجميع قولُه: {وَلَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ
عَظِيمٌ} [النور:16]، وقوله: {لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ} [النور:12]. وقد كان من المؤمنين من قال لما سمعه: ما ينبغي لنا أن نتكلم بهذا، سبحانك هذا بهتان عظيم. وكثير منهم أو أكثرهم ظنَّ بعائشة خيرًا، مثل أسامة بن زيد وجاريتها وغيرهما ممن زكَّاها وبرَّأها. فعُلِم أن التحضيض لا يستلزم النفي العام.
فلهذا كان قوله: {فَلَوْلَا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ} [هود:116]، التحضيض فيه عام لم يُستثنَ منه أحد، فلم يكن الاستثناء متصلًا، ولكن الاستثناء وقعَ من ترك المحضوض عليه ولوازم الترك، من الذم والتوبيخ، وهذا الترك قد كان في أكثر المحضوضين، وقد صار يُفهم منه أن هذه الصيغة لم تُستعمل إلا إذا حصل تركٌ من جميع المحضوضين أو من بعضهم. فإذا فرَّ الجيشُ مثلًا قيل: هلَّا ثَبتُّم؟! وإذا فَرَّ الأكثر قيل: يستحقون العقوبة إلَّا فلانًا، ولا يقال: هلَّا ثبتُّم إلَّا فلان؟! فإن تحضيض على الثبات إلَّا لفلانٍ، وهذا ليس بمرادٍ، بل هو مستثنًى من الترك وسلبِ الفعل والذمّ والعقاب، لا من شمولِ الطلبِ والحضِّ له. والله أعلم.
ثم يقال: هو مستثنًى من القدر المشترك بين أنواع الحضّ والأمر، حضٌّ وأمرٌ لمن فعلَ ولمن ترك. وقد يقال مستثنى مما هو أخصُّ من الحضِّ، وهو الترك والذمّ، وكلا الأمرين واحدٌ. والله أعلم.
ومثل هذا قوله: {وَلَا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلَّا امْرَأَتَكَ} [هود:81] فمن رفعَ جعلها مستثناةً من النهي، فلم تُنهَ عن الالتفات لأنها من المعذبين. ومن نصبَه جعلَه منقطعًا، فإنه لما نهاهم عن الالتفات، والالتفات مُوجب للعقوبة، فقد يكون منهم من لا يطيع فيُعاقَب، ومنهم من لا يُعاقَب، فكأنه قال: فهل تُطيع وتسلِّم؟ فقال: نعم إلا امرأتك. وقيل: إنها استثناء من قوله: {فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ}، وقد ذكروا الوجهين في قراءة النصب، وهي قراءة نافع وغيره.
قال ابن الأنباري: على قراءة نافع يكون الاستثناء منقطعًا، معناه: لكن امرأتك فإنها تلتفتُ، فيُصيبها ما أصابهم. فإذا كان الاستثناء منقطعًا كان التفاتُها معصية لربِّها؛ لأنه نَدبَ إلى ترك الالتفات.
وقال الزجاج: من قرأ بالنصب فالمعنى: فأسْرِ بأهلك إلا امرأتك. ومن قرأ بالرفع حمله: ولا يلتفتُ منكم أحد إلا امرأتك، وإنما أُمِروا بترك الالتفات لئلا يروا عظيمَ ما نزلَ بهم من العذاب.
فإن قيل: فإذا جعل الاستثناء منقطعًا تكون منهيَّةً عن الالتفات، وعلى قراءة نافعٍ ليست منهيةً، والقراءتانِ لا تتناقضان.
قيل: الالتفات نوعان: نوع يكون مع محبة المعذبين، كالتفاتها. ونوع يكون مع بُغضِهم، كالتفاتِ لوطٍ لو التفتَ.
فنُهوا عن الالتفات لئلا يروا عظيمَ العذاب، فيحصل لهم روعٌ وفزعٌ. فكلهم منهيُّون عن النوع الأول، وهي عاصية التفتتْ التفاتَ محبة، فكان الاستثناء في حقّها منقطعًا. وأما الثاني فهم نُهُوا عنه، وهي لم تُنْهَ عن هذا الالتفات الذي هو مع البغض، ليَسلَمَ صاحبُه من الفزع والروع، بل لو التفتتْ مع البغض لم تكن عاصيةً وإن حصلَ لها روعٌ، ولكن لما التفتتْ وهي مُحِبَّةٌ لهم على دينهم -والمرء على دين خليله- أصابها ما أصابَهم، لمشاركتها لهم في الذنب، لا لمجرد الالتفات لو خلا عن دين القوم. ولهذا لو التفتَ لوطٌ أو إحدى ابنتيهِ لم يُصِبه ما أصابهم. فهذا من دقائق معاني القرآن.
وقد ذكر ابن الجوزي القولين، قال:
فإن قيل: [كيف] كُشِف العذابُ عن قومِ يونس بعد إتيانه إليهم، ولم يُكشَف عن فرعونَ حين آمن؟ فعنه ثلاثة أَجوبة:
أحدها: أن ذلك كان خاصًّا لهم، كما ذكرنا في أول الآية.
والثاني: أن فرعون باشره العذابُ، وهؤلاء دنا منهم ولم يباشرهم، فكانوا كالمريض يخاف الموتَ ويرجو العافيةَ، فأما الذي يُعاين فلا توبة له. ذكره الزجاج.
والثالث: أن الله علم فيهم صدقَ النيات، بخلاف من تقدمَهم من الهالكين. ذكره ابن الأنباري.
قلت: هذا القول معناه: أن هؤلاء تابوا، وغيرهم لم يتبْ، ولو تابَ قُبِلتْ توبتُه. وهذا إنما يكون قبل المعاينة.
وقد ذكر في الكلام هل هو نفيٌ أو تحضيضٌ قولين، فقال:
وفي {لَوْلَا} قولان:
أحدهما: أنها بمعنى لم تكن قرية آمنتْ فنفعَها إيمانُها -أي قُبِل منها- إلا قوم يونس. قاله ابن عباس.
وقال قتادة: لم يكن هذا لأمةٍ آمنتْ عند نزول العذاب إلا لقوم يونس.
والثاني: أنها بمعنى هلَّا. قاله أبو عبيدة، وابن قتيبة، والزجاج. قال الزجاج: المعنى: فهلَّا كانت قرية آمنتْ في وقتٍ ينفعها إيمانُها إلا قوم يونس. و {إِلَّا} ههنا استثناء ليس من الأول، كأنه قال: لكن قوم يونس.
وقال الفراء: نصب القوم على الانقطاع مما قبله، ألا ترى أن ما بعد {إِلَّا} في الجحد يتبع ما قبلها. ما قام أحدٌ إلَّا أخوك، فإذا قلتَ: ما فيها أحدٌ إلا كلبًا أو حمارًا نصبْتَ؛ لانقطاعهم من الجنس. كذلك كان قوم يونس منقطعين من غيرهم من أمم الأنبياء، ولو كان الاستثناء وقعَ على طائفة منهم لكان رفعًا.
قلت: هذا قول أئمة العربية، وهذا مما يُعلَم بالاضطرار من لغة العرب التي بها نزل القرآنُ. {وَلَوْلَا} تارةً يليها الاسم، كقوله {وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ}، فيكون حرف امتناع. وتارةً يليها الفعل، كقوله: {لَوْلَا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ}. فيكون حرفَ تحضيضٍ، وهو يتضمن النفي. فالنفي لازمٌ لها، لا أنها بمعنى «لم تكن».
والمفسرون من السلف يُفسِّرون المعنى، لا يتكلمون في دلالة العربية؛ لأن العربية عادتهم وطبعُهم، لا يحتاجون فيها إلى مقاييس النحاة. وابن عباس ذكر أن الآية دلَّتْ على أنه لم تكن أمةٌ آمنتْ فنفعَها إيمانُها إلَّا قوم يونس. وهذا حق، والاستثناء المنقطع يدل عليه. لم يقل: إنها بمعنى: لم تكن. وكذا قتادة ظنَّ أن المراد أن الإيمان نفعَهم ولم ينفع غيرَهم. وليس كذلك، بل غيرهم لم يؤمن إيمانًا ينفعه، وهؤلاء آمنوا إيمانًا ينفعهم، كانوا صادقين وآمنوا قبل حضور الموت، وغيرهم إما أن يكون كاذبًا في إيمانه كقوم فرعون، وإما أن يؤمن بعد حضور الموت، كالذين قال تعالى فيهم: {فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا} [غافر:85]، والذين قال فيهم: {فَمَا كَانَ دَعْوَاهُمْ إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا إِلَّا أَنْ قَالُوا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ} [الأعراف:5]، وقوله: {فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنَا إِذَا هُمْ مِنْهَا يَرْكُضُونَ (12) لَا تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا إِلَى مَا أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَسَاكِنِكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْأَلُونَ (13) قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ (14) فَمَا زَالَتْ تِلْكَ دَعْوَاهُمْ حَتَّى جَعَلْنَاهُمْ حَصِيدًا خَامِدِينَ} [الأنبياء:12 - 15]، فهؤلاء لم يؤمنوا. وكذلك قوله: {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ} [الأنعام:44]، فهؤلاء إما أنهم لم يتوبوا أو حضر الموتُ الذي لا يندفع.
وقد ذكر ابن الأنباري في الآية قولين آخرين فاسدين:
أحدهما: أن {إِلَّا} بمعنى الواو، فالمعنى: وقوم يونس لما آمنوا فعلنا بهم كذا وكذا. قال: وهذا مروي عن أبي عبيدة، والفراءُ ينكره.
والثاني: أن الاستثناء من الآية التي قبلها، تقديره: حتى يروا العذاب الأليم إلَّا قوم يونس. والاستثناء على هذا متصل غير منقطع.
قلت: هذا في غاية الفساد، فإن ذاك من كلام موسى، قال: {رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ} [يونس:88]، وهو دعاء على آل فرعون، كما قال: {رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالًا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [يونس:88]. ولم يَستثنِ موسى من هؤلاء أحدًا، وقوم يونس ليسوا من قوم فرعون، فأين هذا من هذا؟
والأول أيضًا في غاية الفساد، فإنَّ جَعْلَ {إِلَّا} المُخرِجة بمعنى الواو الجامعة استعمالٌ للفظ في نقيض معناه، وهذا فاسدٌ. وأبو عبيدة له من هذا الجنس أقوال فاسدة، وهذا مما يعلم أئمة النحاة أنه منكر، فالبصريون كلهم ينكرون ذلك، وقد أنكره الفراء وغيره من الكوفيين. وقد ذكر نحو هذا في قوله: {لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ} [البقرة:150]، وهو فاسد من وجوه متعددة، والله أعلم.
فصل
وقد دلت الآية على أن كل من آمن وتاب بعد نزول العذاب نفعَه إيمانُه، وأما من لم يتب أو تاب توبةً كاذبةً فهذا لا ينفعه. وأما التوبة عند حضور الموت فهي كالتوبة يوم القيامة، قال تعالى: {وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ} [النساء:18]، وقال: {كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْمًا كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (86) أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (87) خَالِدِينَ فِيهَا لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ (8 إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (89) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ (90) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَبًا وَلَوِ افْتَدَى بِهِ} [آل عمران:86 - 91]. وقد فسَّروا ازديادهم كفرًا بأنهم أصرُّوا عليه إلى الموت، فلن تُقبل توبتُهم عند الموت، وذلك -والله أعلم- لأنه حين الموت وقع مبادئ الجزاء، فلم يكن ثمَّ زمنٌ يتسع لأنْ يرجعوا عن السيئات، فتنقص أو تذهب، بل حصلت بالإصرار في زيادة بلا نقصان. ولو تاب أحدهم قبل الموت لم يكونوا قد ازدادوا كفرًا، بل ذهب الأصل والزيادة، فإنهم بدَّلوا السيئات بالحسنات، وأما عند الموت فقد ازدادوا بالإصرار، ولم يكن هناك وقت يذهب، لا هذا ولا هذا.
فقوله: {ثُمَّ ازْدَادُوا} في معنى قوله: واستمروا على كفرهم وأصرّوا على كفرهم، ونظيرها قوله: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلًا} [النساء:137]، فهنا قال: {لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ}، وهناك قال: {لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ}، فإنه لو آمن ثم كفر ثم آمن وتاب من رِدَّته قُبِلتْ توبتُه كما تقدَّم، فإن كَفَر وارتدَّ مرةً ثانيةً حَبِطَ الإيمان الذي غُفِر به ذلك الكفر، فيبقى عليه إثم الكفر الأول والثاني، فإذا ازداد كفرًا فأصرَّ إلى الموت لم يُغفَرْ له. وقد ذكر في أول السورة الذي ازداد كفرًا بعد الكفر الأول، فذكر الكفر الأول والمكرر إذا حصل معهما ازدياد، ولما قال هناك: لم تُقبل توبتُهم عند الموت كان هذا تنبيهًا على أن الثاني لا تُقبل توبتُه بطريق الأولى. ولما ذكر في الثاني أنهم آمنوا ثم كفروا ثم آمنوا ثم كفروا، كان مفهومه أنهم لو تابوا قبل الارتداد لَقُبِلَتْ توبتهم وإن كرروا الكفر. فدلَّ على أن قوله في الأولى: {ازْدَادُوا} أراد به الإصرار، فإنه لو لم يرد به الإصرار لكان من كفر بعد إيمانه وبقي مدةً ثم تابَ لم تُقبل توبتُه، وهذا خلاف قوله قبل ذلك: {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [آل عمران:89]، وخلاف مفهوم آية التكرير، ولو كان كل مرتد بقي مدةً لا تُقبل توبتُه لم يحتج إلى التكرير.
فإن قيل: ازدياد الكفر أن يأتي مع الردَّة بزيادة في الكفر يغلظ به الكفر، فتكون رِدَّتُه مغلَّظةً، كردَّة مِقيَس بن صُبابة وعبد الله بن خَطَل اللذين أُهدِر دمُهما يوم الفتح.
قيل: هذا من مسائل الاجتهاد، والكلام فيه مبسوط في غير هذا الموضع. والذين أتاهم العذابُ وبقي زمنًا حتى ماتوا، كقوم نوح لما شرع الماء يزيد لو تابوا كما تاب قوم يونس لقَبِلَ الله توبتَهم، لكن لم يتوبوا. وكذلك قوم عادٍ لما رأوا السحابَ فقالوا: {هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا} [الأحقاف:24]، فهبَّت الريح سبعَ ليالٍ وثمانيةَ أيام حُسومًا، لم يتوبوا. وكذلك قوم صالح لما عقروا الناقة قال: {تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ ذَلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ} [هود:65] لم يتوبوا.
فإن قيل: فقد قال: {فَعَقَرُوهَا فَأَصْبَحُوا نَادِمِينَ (157) فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ} [الشعراء:157 - 158].
قيل: وقد قال عن أحد ابنَي آدم: {فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ} [المائدة:31]، ولم يكن هذا ندمَ توبة، كذلك أولئك قالوا: وقد يقال: كانوا موعودين بالعذاب إذا عقروها، وعذاب الدنيا لا يندفع بمثل هذه التوبة، فإن قوم موسى لما تابوا من عبادة العجل كانت توبتهم بقتل خلقٍ كثير منهم. وكذلك لما سألوا الرؤية جهرةً فأخذتهم الصاعقة وهم لم يتوبوا إلّا خوفًا من عذاب الدنيا.
أو يقال: كانت توبتهم من جنس توبة آل فرعون، إذا جاءهم العذاب تابوا، فإذا رُفِع نكثوا التوبة. فقوله: {نَادِمِينَ} لا يدل على توبة صادقة ثابتة.
وكذلك قوله: {وَكَمْ قَصَمْنَا مِنْ قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً وَأَنْشَأْنَا بَعْدَهَا قَوْمًا آخَرِينَ (11) فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنَا إِذَا هُمْ مِنْهَا يَرْكُضُونَ (12) لَا تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا إِلَى مَا أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَسَاكِنِكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْأَلُونَ (13) قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ (14) فَمَا زَالَتْ تِلْكَ دَعْوَاهُمْ حَتَّى جَعَلْنَاهُمْ حَصِيدًا خَامِدِينَ} [الأنبياء:11 - 15]. فهو لم يذكر عنهم توبة، ولكن إخبارهم بأنهم ظالمون، والكفار والعصاة معترفون أنهم ظالمون مع الإصرار، وإبليس معترف أنه عاصٍ لربه مع إصرارِه، وفرعون كان يعلم أن موسى صادق مع إصراره، ومجرد العلم بأنه مذنب ليس توبة، إنما التوبة رجوع القلب عن الذنب إلى الله تعالى وطاعتُه.
وكذلك قوم شعيب لما أخذتْهم الظُّلَّة لم يتوبوا، وكذلك قوم لوط لما جاءهم العذاب لم يتوبوا. والتوبة عند نزول العذاب كثيرًا ما تكون غير صادقة، بل يتوب إلى أن ينكشف، ثم يعود، كتوبة آل فرعون باللسان من غير عملٍ بموجبها، بل مع الكذب.
ولهذا لم يقبل أكثر العلماء توبةَ الزنديق في الظاهر؛ لأنه لا يُعلَم صدقُه، وهو ما زال يُظهِر الإيمان، فلم يجدِّد شيئًا يُعرَف به صدقُه، وهو منافق، ولم ينتهِ عن إظهار النفاق. وقال تعالى: {لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لَا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلَّا قَلِيلًا (60) مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلًا (61) سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا} [الأحزاب:60 - 62]، ولو تاب قبل أن يؤخذَ، وأظهر التوبةَ بحيث تغيّر حاله وهجرَ ما كان عليه أولًا، قُبِلتْ توبتُه.
وكذلك أرجح القولين أن كل مَنْ تابَ قبلَ الرفع إلى الإمام لم يقم عليه [الحدّ]، ولو جاء إلى الإمام تائبًا فأقر لم تجب إقامة الحدِّ عليه، فلا تجب إقامته على تائب. لكن مَن جاء مقرًّا وطلب من الإمام أن يُقيمه فله أن يقيمه، لأنه من تمام تطهيره، وللإمام أن يدفع مَن جاء مقرًّا تائبًا، بخلاف من أُخِذَ قهرًا واعترف بهذا ولم تظهر منه توبة، فقوله تعالى: {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ} [المائدة:34] نص عام، ومَن جاء مقرًّا تائبًا فقد تابَ قبل القدرة عليه، فإن هذا قد ظهر صدقُه في توبته، بخلاف من قامت عليه البيّنةُ ثم تاب، أو أقرَّ بعد أن أخذوه، فإن هذا لا يُعرَف صحة توبته، ولو أُسقِط الحدُّ عن مثلِ هذا لأمكنَ كلَّ مجرمٍ أن يُظهِر مثلَ هذه التوبة.
وقد قال بعض العلماء عمّن تاب عند رؤية السيف: {فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ (84) فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا} [غافر:84 - 85]، وهذا لأن هؤلاء قد يتوبون مثل توبة آل فرعون، وينقضون التوبة. أو يكون هذا العالم رأى معاينة القتل لم يتحتم مثل معاينة الملَك، ولكن هذا مثل من يُطعَنُ في جوفه ويجيئه الموت، وهذا تُقبل توبتُه على الصحيح وتنفذ وصاياه، فإن عمر أوصى في هذه الحال، وغايته أنه أيقن بالموت بعد زمنٍ، وكلُّ أحدٍ يوقن بالموتِ بعد زمنٍ طويل أو قصير، إلا أن يقال: من هؤلاء من يضطرب عقلُه، فلا يمكنه توبة صحيحة، فإن التوبة لا بد فيها من رجوع القلب إلى الله عما فعله من السيئات، وهذا قد لا يحصل في هذا الزمان مع تغير العقل.
ومن المذنبين من لا يتوب توبة صادقة بعد معاينة عذاب الآخرة، فكيف بعذاب الدنيا، بل يَعِد بالتوبة، فإذا أُطلق عاد. قال تعالى: {وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقَالُوا يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلَا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [الأنعام:27]. قال الله تعالى: {بَلْ بَدَا لَهُمْ مَا كَانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} [الأنعام:28]. فهؤلاء قد عاينوا العذابَ وتمنَّوا الردَّ، وقالوا: إنهم لا يكذبون بآيات ربهم ويكونون من المؤمنين، وقد كذَّبهم الله في ذلك فقال: {وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ}.
وهذا يُبيِّن أن قوله: {وَلَا نُكَذِّبَ} و {وَنَكُونَ} إخبارٌ منهم عن أنفسهم، وجواب تمنيهم ليس هو مما تمنَّوه، كأنهم قالوا: يا ليتنا نُردّ فنكون حينئذٍ مؤمنين لا مكذبين. وجواب النهي في لغة العرب يكون بالواو والفاء. فما كلُّ من ذكر أنه تائب عند معاينة العذاب يَصدُق في بقائه تائبًا، كآل فرعون، وهذا موجود في الناس كثيرًا عند الشدائد يتوبون وينذرون، ثم إذا زالت الشدة منهم من يُوفي بتوبته ونذره، ومنهم من لا يوفي بذلك. قال تعالى: {وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ (75) فَلَمَّا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ (76) فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ} [التوبة:75 - 77].
فهذا النفاق الذي حصل في قلوب هؤلاء قد أخبر الله أنه باقٍ إلى يوم يَلْقَونه، وهذا قد يكون لأنهم لم يتوبوا منه توبةً صادقةً. ومن الناس من يقول: إن من الذنوب ما لا يزول بالتوبة، وقد روي أن منهم من جاء بصدقته فلم يقبلها، كالذين قال فيهم: {فَإِنْ رَجَعَكَ اللَّهُ إِلَى طَائِفَةٍ مِنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَدًا وَلَنْ تُقَاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا} [التوبة:83]. فهؤلاء لم يُقبل منهم الجهاد لما امتنعوا عام تبوك، وهذا لم تُقبل منه الصدقة لما منعها أولًا.
وقوله في الثلاثة الذين خُلِّفوا: {وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللَّهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ} [التوبة:106] دليلٌ على أن هؤلاء الذين عُذِّبوا لم يتب الله عليهم، إما لكونهم لم يأتوا بتوبةٍ تمحو ذلك الذنب، هذا قول الأكثرين. وحينئذٍ فيكون التقصير منهم، وهم ظلموا أنفسهم. و[يكون] قوله: {إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا} [الزمر:53]، على أنه إذا تاب توبةً صادقةً، والشأن في تحقيق التوبة، ولهذا أخَّر الثلاثة الذين خُلِّفوا، وقد كانوا نادمين من حين رجع الرسول والمؤمنون.
وهذا كما قد قيل: إن الله حجرَ التوبة عن كل صاحب بدعة، بمعنى أنه لا يتوب منها، لأنه يراها حسنةً، والتوبة إنما تتيسر على من عرف أن عمله سيِّء قبيح، فيكون عمله داعيًا له إلى التوبة، أما إذا اعتقد أنه حسن فيحتاج ذلك الاعتقاد إلى أن يزول، وزوال الاعتقاد لا يكون بالوعظ والتخويف، وإنما يكون بعلم وهدى يبيِّن الله له فساد اعتقادِه، وصاحب الاعتقاد الفاسد جهلُه مركب، وهو لا يُصغي إلى أدلّة مخالفيه وتفهُّمِها لوجهين:
أحدهما: أنه لا يجتمع النقيضان في القلب، فلا يجتمع ذلك ودليلُ نقيضِه، فإن دليل النقيض يستلزمه، فلا يمكن أن يتصور دليل النقيض إلا مع عُزوب ذلك الاعتقاد عن القلب، لا مع حضوره، ولأن اعتقاده لذلك القول يدعوه إلى أن لا ينظر نظرًا تامًّا في دليل خلافه، فلا يعرف الحق [وهذا هو الثاني].
ولهذا قال السلف: إن البدعة أحبُّ إلى إبليس من المعصية. وقال أيوب السختياني وغيره: إن المبتدع لا يرجع. واحتج بقوله في الخوارج: «يمرقون من الإسلام كما يمرق السهمُ من الرميَّة، ينظر في نَصْلِه فلا يرى شيئًا، وينظر في رِصَافِه فلا يرى شيئًا، وينظر في قِدْحِه فلا يرى شيئًا، وينظر في نَضِيِّه فلا يرى شيئًا، ويتمارى في الفُوْق قد سبقَ الفرثَ والدمَ».
وهذا الذي ذكره هو كحال من {فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ} [التوبة:77]، والذين لو {رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ} [الأنعام:28]. لكن ليس هذا وصف جميع أهل البدع، فليست البدعة أعظم من الردّة عن الإسلام والكفر، وقد تاب خلقٌ من المرتدّين والكفار، لكن هو مظنة الخوف، كالذين أسلموا من المرتدّين كان الصحابة يحذرون منهم خوفًا من بقايا الردَّة في قلوبهم. فهذا هو العدل في هذا الموضع، وقد تاب خلقٌ من رأي الخوارج والجهمية والرافضة وغيرهم. لكن التوبة من الاعتقادات التي كثُر ملازمةُ صاحبها لها ومعرفتُه بحججها يحتاج إلى ما يقابل ذلك من المعرفة والعلم والأدلة.
ومن هذا الباب قول النبي صلى الله عليه وسلم: «اقتلوا شيوخَ المشركين واستبقُوا شَرْخَهم». قال أحمد وغيره: لأن الشيخ قد عسَا في الكفر، فإسلامه بعيد، بخلاف الشاب، لأن قلبه لين، فهو قريبٌ إلى قبول الإسلام.
ومما يناسب هذا قوله تعالى عن مسجد أهل الضرار: {لَا يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِلَّا أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ} [التوبة:110]، هذا قرأه الجماعة، وقرأ يعقوب «إلى أن تقطع»، وعلى هذا فالريبة باقية إلى حين التقطع. وأما قراءة الجمهور فإنه استثنى فقال: {إِلَّا أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ}، فإذا قطعت قلوبهم لم يبقَ ريبةٌ في قلوبهم.
وقد قال سفيان وغيره: هو التوبة.
وقال كثير من المفسرين: هو التقطع بالموت أو في القبر أو يوم القيامة. وقول هؤلاء يناسب قراءة يعقوب، فإنه لا تزال ريبة إلى حين تقطع القلوب.
وأما قراءة الاستثناء فإن كانت توبتهم مقبولة كما قال سفيان وغيره فهي تحتاج إلى تقطع القلوب، تتمزق بالتوبة، فتحتاج إلى مشقة وشدة.
وهكذا كثير من ذنوب أهل الاعتقاد والشبهات وأهل الشهوات القوية يحتاج صاحبُها إلى معالجة قلبه ومجاهدة نفسه وهواه.
وتوبة الثلاثة قد قال الله فيها: {حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لَا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ} [التوبة:118]، فكيف غيرهم؟ وتوبة أبي لبابة وأصحابه كانت لما ربطوا أنفسَهم في السواري، وقوله: {وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} يدل على أنه سبحانه يعلم من أحوالِ القلوب ما يناسب هذا، وهو حكيم في حكمه بأنه {لَا يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِلَّا أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ}. وإذا أريد بتقطع القلوب تقطعها بالتعذيب فقط فيكون ذلك لأنه علمَ أن هؤلاء المعينين لا يتوبون، وإن أريد تقطعُها بالتوبة أو بالتعذيب فلا بدّ لهم من أحد الأمرين: إما أن يقطعوها بالتوبة، وإلا قطعت بالعذاب، كما قال: {إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ} [التوبة:106]. وأولئك المعينون إذا لم يقطعوها بالتوبة قطعت بالتعذيب، فالعذاب مُخرِج ما في النفوس من الريبة والنفاق، لمن لم يُخرِجه بالتوبة، والذنوبُ لا بد فيها من توبة أو تعذيب، ولو أنه ينقص الحسنات لأجلها، كما قال: {إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ}، كما قد بُسِط في غير هذا الموضع. والله أعلم.
فصل
وقوله: {عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ} [التوبة:102]، نُقل عن ابن عباس وغيره أنهم قالوا: عسى من الله واجب. وهذا الذي قالوه قد وُجِد بالاستقراء في مواضع، كقوله: {عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً وَاللَّهُ قَدِيرٌ} [الممتحنة:7]. وجعل الله المودة بين المؤمنين وبين الذين كانوا يعادونهم بعد أن نزلت هذه الآية لما فُتِحتْ مكة وآمن الطلقاءُ، كأبي سفيان، وسهيل بن عمرو، وصفوان بن أمية، وعكرمة بن أبي جهل، والحارث بن هشام وغيره.
وقوله: {فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ} [المائدة:52]، وأتى الله بالفتح وبأمرٍ من عنده، فأصبحوا على ما أسروا في أنفسهم نادمين.
وقوله: {وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ} [التوبة:102]، وتاب عليهم.
وقوله: {قُلْ كُونُوا حِجَارَةً أَوْ حَدِيدًا (50) أَوْ خَلْقًا مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنَا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُءُوسَهُمْ وَيَقُولُونَ مَتَى هُوَ قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَرِيبًا (51) يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ} [الإسراء:50 - 52]. وهذا يكون ذلك اليوم.
وقوله: {فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ} [محمد:22]، ومن تولى عن طاعة الله والرسول أفسد في الأرض وقطعَ رَحِمَه، كما فعل المشركون {لَا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً} [التوبة:10].» اهـ
«جامع المسائل - المجموعة الثامنة» (ص 363 - 392).