الحمد لله الشافي لكل داء، والصلاة والسلام على نبينا القائل: ((ما أنزل الله من داءٍ إلا أنزل له شفاءً))، وعلى آله وصحبه الأتقياء.
أما بعدُ:
فقد يهجم على المرء جملة من الأدواء والأسقام، فلا مفرج لها إلا الله عز وجل، ثم ببذل الأسباب الشرعية.
وأعظم هذه الأسباب توحيد الله عز وجل الذي هو أهم المهمات وأول الوجبات، به يتحقق للعبد سعادة الدنيا والآخرة، وبه يطمأن القلب وينشرح الصدر، فيصلح حال كل مهموم ومغموم ومحزون، فتوحيد الله عز وجل أهم ما يعالج به هذه الأدواء والأسقام من الهم والغم.والحزن.
فإذا خف التوحيد ونقص الإيمان في القلب ازدادت الهموم والغموم والأحزان، والعكس بالعكس، فكلما عمر القلب بالإيمان وقوي توحيد العبد ضعفت هذه الأسقام والأدواء.
قال ابن القيم رحمه الله في ((شفاء العليل)): ((فالهم يكون على مكروه يتوقع في المستقبل يهتم به القلب والحزن على مكروه ماض من فوات محبوب أو حصول مكروه إذا تذكره أحدث له حزنا والغم يكون على مكروه حاصل في الحال يوجب لصاحبه الغم فهذه المكروهات هي من أعظم أمراض القلب وأدوائه وقد تنوع الناس في طرق أدويتها والخلاص منها وتباينت طرقهم في ذلك تباينا لا يحصيه إلا الله بل كل أحد يسعى في التخلص منها بما يظن أو يتوهم أنه يخلصه منها وأكثر الطرق والأدوية التي يستعملها الناس في الخلاص منها لا يزيدها إلا شدة لمن يتداوى منها بالمعاصي على اختلافها من أكبر كبائرها إلى أصغرها وكمن يتداوى منها باللهو واللعب والغناء وسماع الأصوات المطربة وغير ذلك فأكثر سعي بني آدم أو كله إنما هو لدفع هذه الأمور والتخلص منها وكلهم قد أخطأ الطريق، إلا من سعى في إزالتها بالدواء الذي وصفه الله لإزالتها، وهو دواء مركب من مجموع أمور متى نقص منها جزء نقص من الشفاء بقدره، وأعظم أجزاء هذا الدواء هو التوحيد والاستغفار قال تعالى: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} [محمد: 19])) اهـ.
وقال ابن القيم رحمه الله في ((زاد المعاد في هدي خير العباد)): ((والقلبُ: خُلِقَ لمعرفةِ فاطره ومحبته وتوحيده والسرور به، والابتهاج بحبه، والرضي عنه، والتوكل عليه، والحب فيه، والبغض فيه، والموالاة فيه، والمعاداة فيه، ودوام ذكره، وأن يكون أحبَّ إليه مِن كل ما سواه، وأرْجَى عنده مِن كل ما سواه، وأجَلَّ في قلبه مِن كل ما سواه، ولا نعيمَ له ولا سرورَ ولا لذَّةَ، بل ولا حياة إلا بذلك، وهذا له بمنزلة الغِذاء والصحة والحياة، فإذا فَقَدَ غذاءه وصحته وحياته، فالهمومُ والغموم والأحزان مسارعةٌ مِن كل صَوْبٍ إليه، ورهْنٌ مقيم عليه)) اهـ.
فالتوحيد شفاء من هذه الأمراض؛ يقول الله عز وجل: { يا أيها الناس قد جاءتكم موعظة من ربكم وشفاء لما في الصدور وهدى ورحمة للمؤمنين } [يونس:57].
ويقول الله سبحانه وتعالى: {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاء وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ} [الإسراء:82].
فالقرآن شفاء لما تضمنه من توحيد الله، والقرآن كله في التوحيد؛ قال الإمام ابن قيم الجوزية رحمه الله في ((مدارج السالكين)): ((وأول سورة تنزيل الكتاب وآخرها وأول سورة يونس ووسطها وآخرها وأول سورة الأعراف وآخرها وجملة سورة الأنعام وغالب سور القرآن بل كل سورة في القرآن فهي متضمنة لنوعي التوحيد بل نقول قولا كليا إن كل آية في القرآن فهي متضمنة للتوحيد شاهدة به داعية إليه)) اهـ.
ولأن القرآن الكريم علاج للهم والغم والحزن جاء الترابط بين الدواء الذي هو القرآن، والداء الذي هو الهم والغم والحزن في حديث ابن مسعود رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((ما أصاب أحدا قط هم ولا حزن فقال اللهم إني عبدك وابن عبدك وابن أمتك ناصيتي بيدك ماض في حكمك عدل قضاؤك أسألك بكل اسم هو لك سميت به نفسك أو أنزلته في كتابك أو علمته أحدا من خلقك أو استأثرت به في علم الغيب عندك أن تجعل القرآن ربيع قلبي ونور صدري وجلاء حزني وذهاب همي إلا أذهب الله عز وجل همه وأبدله مكان حزنه فرحا)).
والحديث أخرجه أحمد في ((المسند)) وابن أبي شيبة في ((المصنف)) والبزار في ((المسند)) وأبو يعلى في ((المسند)) وابن حبان في ((صحيحه)) والحاكم في ((المستدرك)) والطبراني في ((الكبير)) وفي ((الدعاء)) والبيهقي في ((الأسماء والصفات)) في ((القضاء والقدر)) والحارث في ((المسند)) والشاشي في ((المسند)) والضبي في ((الدعاء)) والحديث صححه الإمام الألباني في الصحيحة رقم (199).
قال الشيخ عبد الرزاق بن عبد المحسن البدر حفظه الله في ((أثر الأذكار الشرعية في طرد الهم والغم)) (ص 35): ((ولهذا فأن العناية بالقرآن قراءة وتدبرًا وتطبيقًا هو أساس السعادة والفلاح وزوال الهموم والغموم ولهذا ختم هذا الدعاء بقوله: ((أن تجعل القرآن العظيم ربيع قلبي ونور صدري وجلاء حزني وذهاب همي وغمي((، إذا كان القرآن هذا شأنه في قلبك وهذا شأنه في صدرك، نور صدرك وربيع قلبك وجلاء حزنك وذهاب همك وغمك، هل الغموم والهموم تجد طريقًا إلى قلبك ؟ هل لها مدخل إلى صدرك وفؤادك ؟ لا والله! لأنه معمور بالخير، والقلوب أوعية، فالقلب وعاء، إذا ملأته بالذكر والقرآن واستحضار عظمة الله؛ ما بقي لهذه الأمور أي مكان)) اهـ.
وهذه السنة جاء فيها جملة من الأحاديث في كل منها دعاء يتضمن توحيد الله عز وجل الذي يتحقق به علاج الهم والغم والحزن:
الحديث الأول: عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم كان يقول في الكرب: ((لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ الْعَظِيمُ الْحَلِيمُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ رَبُّ السَّمَوَاتِ وَرَبُّ الْأَرْضِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ)) أخرجه البخاري ومسلم.
قال ابن القيم رحمه الله في ((شفاء العليل)): ((ولذلك كان الدعاء المفرج للكرب محض التوحيد)) اهـ.
وقال الشيخ عبد الرزاق البدر حفظه الله في ((فقه الأدعية والأذكار)): ((حديث ابن عباس رضي الله عنهما وكلُّه توحيدٌ وتمجيدٌ لله عز وجل، وترديدٌ لكلمة التوحيد لا إله إلاَّ الله، مقرونة بما يدلُّ على عظمة الله وجلاله وكماله وربوبيَّته للسَّموات والأرض وللعرش العظيم، فقد انتظمت هؤلاء الكلمات أنواعَ التوحيد الثلاثة: توحيد الربويبية، وتوحيد الألوهية، وتوحيد الأسماء والصفات، فإذا قالها المسلم مُتَأَمِّلاً لمعانيها متفَكِّراً في دلالاتها سكن قلبُه، واطمأنت نفسُه، وزال عنه كَرْبُه وشدَّتُه، وهُديَ إلى صراط مستقيم)) اهـ.
وقال الشيخ عبد الرزاق بن عبد المحسن البدر حفظه الله في ((أثر الأذكار الشرعية في طرد الهم والغم)): ((ولهذا نستفيد من هذا الدعاء وغيره أن علاج الهم والغم توحيد الله، ذكر الله، تعظيم الله، تنزيه الله، الالتجاء إلى الله، هذا هو العلاج)) اهـ.
الحديث الثاني: عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ عُمَيْسٍ رضي الله عنها قَالَتْ قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وعلى آله وَسَلَّمَ: ((أَلَا أُعَلِّمُكِ كَلِمَاتٍ تَقُولِينَهُنَّ عِنْدَ الْكَرْبِ، اللَّهُ اللَّهُ رَبِّي لَا أُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا)) أخرجه أحمد في ((المسند)) وأبو داود وابن ماجة والنسائي في ((الكبرى)) وابن أبي شيبة في ((المصنف)) وإسحاق بن راهوية في ((المسند)) والحديث صححه الألباني.
وفي رواية أخرجها ابن حبان في ((صحيحه)) عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم جمع أهل بيته فقال : (( إذا أصاب أحدكم غم أو كرب فليقل : الله الله ربي لا أشرك به شيئا ))، وقال الإمام الألباني رحمه الله في ((التعليقات الحسان على صحيح ابن حبان)): حسن صحيح ـ
قال الشيخ عبد الرزاق بن عبد المحسن البدر حفظه الله في ((فقه الأدعية والأذكار)): ((حديث أسماء بنت عُميس رضي الله عنها، حيث أرشدها النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أن تَفزَع في الكَرْب أو عند الكرب إلى التوحيد، الذي ما دُفعت عن العبد الشدائد ولا زالت عنه الكُرُبات بمثله)) اهـ.
وقال الشيخ عبد الرزاق البدر حفظه الله في ((أثر الأذكار الشرعية في طرد الهم والغم)): ((فعلاج الهم: إخلاص التوحيد والبراءة من الشرك؛ بأن يعتمد العبد على ربه -سبحانه وتعالى - في كل ملماته، وفي جميع أموره ومهماته)) اهـ.
الحديث الثالث: عن أبي بكرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: ))دَعَوَاتُ الْمَكْرُوبِ اللَّهُمَّ رَحْمَتَكَ أَرْجُو فَلَا تَكِلْنِي إِلَى نَفْسِي طَرْفَةَ عَيْنٍ وَأَصْلِحْ لِي شَأْنِي كُلَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْت)) أخرجه أجمد في ((المسند)) وأبو داود في ((السنن)) والبخاري في ((الأدب المفرد)) والنسائي في ((الكبرى)) وابن حبان في ((صحيحه)) والحديث حسنه الإمام الألباني في الصحيحة رقم (199).
قال الشيخ عبد الرزاق بن عبد المحسن البدر حفظه الله في ((أثر الأذكار الشرعية في طرد الهم والغم)) (ص 16): ((فبدأ دعوته لطرد الكرب الذي أصابه بهذا التوحيد: ))اللهم رحمتك أرجوا )) يعني أرجو الرحمة منك وأطلبها منك، ولا أطلبها من أحد سواك )) اهـ.
الحديث الرابع: عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: ((دعوة ذي النون إذ دعا وهو في بطن الحوت لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين فإنه لم يدع بها رجل مسلم في شيء قط إلا استجاب الله له)).
والحديث أخرجه الترمذي في ((السنن)) والنسائي في ((الكبرى)) والحاكم في ((المستدرك)) والطبراني في ((الدعاء)) والبيهقي في ((الشعب)) والحديث صححه الإمام الألباني في صحيح الترغيب والترهيب.
قال ابن القيم رحمه الله في ((زاد المعاد)): ((وأما دعوةُ ذى النون.. فإنَّ فيها من كمال التوحيد والتنزيه للربِّ تعالى، واعترافِ العبد بظلمه وذنبه ما هو من أبلغ أدويةِ الكَربِ والهَمِّ والغَمِّ)) اهـ.
وقال الشيخ عبد الرزاق بن عبد المحسن البدر حفظه الله في ((فقه الأدعية والأذكار)): ((وجميعُ هذه الكلمات الواردة في هذه الأحاديث كلماتُ إيمان وتوحيد وإخلاص لله عز وجل، وبُعد عن الشِّرك كلِّه كبيره وصغيره، وفي هذا أبيَنُ دلالة على أنَّ أعظمَ علاج للكرب هو تجديدُ الإيمان وترديدُ كلمة التوحيد لا إله إلاَّ الله، فإنَّه ما زالَت عن العبد شدَّةٌ، ولا ارتفع عنه هَمٌّ وكَرْبٌ بمثل توحيد الله وإخلاص الدِّين له، وتحقيقِ العبادة التي خُلق العبدُ لأجلها وأُوجِدَ لتحقيقها؛ فإنَّ القلبَ عندما يُعمَرُ بالتوحيد والإخلاص، ويُشغَل بهذا الأمر العظيم الذي هو أعظم الأمور وأجلُّها على الإطلاق، تذهبُ عنه الكُرُبات، وتزولُ عنه الشدائدُ والغمومُ، ويَسعَدُ غايةَ السعادة)) اهـ.
الحديث الخامس: عن أبي بكرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: ((كلمات المكروب اللهم رحمتك أرجو فلا تكلني إلى نفسي طرفة عين وأصلح لي شأني كله)).
والحديث أخرجه أحمد في ((المسند)) وأبو داود في ((السنن)) والنسائي في ((الكبرى)) والبخاري في ((الأدب المفرد)) وابن أبي شيبة في ((المصنف)) وابن حبان في ((صحيحه)) والحاكم في ((المستدرك)) والطبراني في ((الدعاء)) والبيهقي في ((الشعب)) والحديث حسنه الإمام الألباني في صحيح الترغيب والترهيب.
قال الشيخ عبد الرزاق بن عبد المحسن البدر حفظه الله في ((فقه الأدعية والأذكار)): ((حديث أبي بَكرة عن النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم ((دعواتُ المكروب اللَّهمَّ رحمتَك أرجو، فلا تَكلْنِي إلى نفسي طَرْفَة عَين، وأصلح لي شأني كلَّه لا إله إلاَّ أنت)) وهو كلُّه توحيد لله، والتجاءٌ إليه واعتصامٌ به(( اهـ.
هذه الأدعية المباركة ركنها الأساسي توحيد الله عز وجل، حري بمن به هم أو غم أو حزن أن يتعلمها ويحفظها ويعلم معناها ويعمل بمقتضاها.
وأختم بكلام نفيس للإمام ابن القيم رحمه الله في ((زاد المعاد)) قال: ((فالتوحيد.. يفتح للعبد بابَ الخير والسرور واللَّذة والفرح والابتهاج، والتوبةُ استفراغٌ للأخلاط والمواد الفاسدة التي هي سببُ أسقامه، وحِميةٌ له من التخليط، فهي تُغْلِق عنه بابَ الشرور، فيُفتَح له بابُ السعادة والخير بالتوحيد، ويُغْلَق باب الشرور بالتوبة والاستغفار)) اهـ.
هذا وأسأل الله أن يكشف هم المهمومين وأن ينفس كرب المكروبين وأن ويرفع غم المغمومين من المسلمين، والله أعلم وبالله التوفيق وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
كتبه
عزالدين بن سالم بن الصادق أبوزخار
طرابلس الغرب: الخميس 14 جمادى الآخر سنة 1437 هـ
الموافق لـ: 24 مارس سنة 2016 م
أما بعدُ:
فقد يهجم على المرء جملة من الأدواء والأسقام، فلا مفرج لها إلا الله عز وجل، ثم ببذل الأسباب الشرعية.
وأعظم هذه الأسباب توحيد الله عز وجل الذي هو أهم المهمات وأول الوجبات، به يتحقق للعبد سعادة الدنيا والآخرة، وبه يطمأن القلب وينشرح الصدر، فيصلح حال كل مهموم ومغموم ومحزون، فتوحيد الله عز وجل أهم ما يعالج به هذه الأدواء والأسقام من الهم والغم.والحزن.
فإذا خف التوحيد ونقص الإيمان في القلب ازدادت الهموم والغموم والأحزان، والعكس بالعكس، فكلما عمر القلب بالإيمان وقوي توحيد العبد ضعفت هذه الأسقام والأدواء.
قال ابن القيم رحمه الله في ((شفاء العليل)): ((فالهم يكون على مكروه يتوقع في المستقبل يهتم به القلب والحزن على مكروه ماض من فوات محبوب أو حصول مكروه إذا تذكره أحدث له حزنا والغم يكون على مكروه حاصل في الحال يوجب لصاحبه الغم فهذه المكروهات هي من أعظم أمراض القلب وأدوائه وقد تنوع الناس في طرق أدويتها والخلاص منها وتباينت طرقهم في ذلك تباينا لا يحصيه إلا الله بل كل أحد يسعى في التخلص منها بما يظن أو يتوهم أنه يخلصه منها وأكثر الطرق والأدوية التي يستعملها الناس في الخلاص منها لا يزيدها إلا شدة لمن يتداوى منها بالمعاصي على اختلافها من أكبر كبائرها إلى أصغرها وكمن يتداوى منها باللهو واللعب والغناء وسماع الأصوات المطربة وغير ذلك فأكثر سعي بني آدم أو كله إنما هو لدفع هذه الأمور والتخلص منها وكلهم قد أخطأ الطريق، إلا من سعى في إزالتها بالدواء الذي وصفه الله لإزالتها، وهو دواء مركب من مجموع أمور متى نقص منها جزء نقص من الشفاء بقدره، وأعظم أجزاء هذا الدواء هو التوحيد والاستغفار قال تعالى: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} [محمد: 19])) اهـ.
وقال ابن القيم رحمه الله في ((زاد المعاد في هدي خير العباد)): ((والقلبُ: خُلِقَ لمعرفةِ فاطره ومحبته وتوحيده والسرور به، والابتهاج بحبه، والرضي عنه، والتوكل عليه، والحب فيه، والبغض فيه، والموالاة فيه، والمعاداة فيه، ودوام ذكره، وأن يكون أحبَّ إليه مِن كل ما سواه، وأرْجَى عنده مِن كل ما سواه، وأجَلَّ في قلبه مِن كل ما سواه، ولا نعيمَ له ولا سرورَ ولا لذَّةَ، بل ولا حياة إلا بذلك، وهذا له بمنزلة الغِذاء والصحة والحياة، فإذا فَقَدَ غذاءه وصحته وحياته، فالهمومُ والغموم والأحزان مسارعةٌ مِن كل صَوْبٍ إليه، ورهْنٌ مقيم عليه)) اهـ.
فالتوحيد شفاء من هذه الأمراض؛ يقول الله عز وجل: { يا أيها الناس قد جاءتكم موعظة من ربكم وشفاء لما في الصدور وهدى ورحمة للمؤمنين } [يونس:57].
ويقول الله سبحانه وتعالى: {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاء وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ} [الإسراء:82].
فالقرآن شفاء لما تضمنه من توحيد الله، والقرآن كله في التوحيد؛ قال الإمام ابن قيم الجوزية رحمه الله في ((مدارج السالكين)): ((وأول سورة تنزيل الكتاب وآخرها وأول سورة يونس ووسطها وآخرها وأول سورة الأعراف وآخرها وجملة سورة الأنعام وغالب سور القرآن بل كل سورة في القرآن فهي متضمنة لنوعي التوحيد بل نقول قولا كليا إن كل آية في القرآن فهي متضمنة للتوحيد شاهدة به داعية إليه)) اهـ.
ولأن القرآن الكريم علاج للهم والغم والحزن جاء الترابط بين الدواء الذي هو القرآن، والداء الذي هو الهم والغم والحزن في حديث ابن مسعود رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((ما أصاب أحدا قط هم ولا حزن فقال اللهم إني عبدك وابن عبدك وابن أمتك ناصيتي بيدك ماض في حكمك عدل قضاؤك أسألك بكل اسم هو لك سميت به نفسك أو أنزلته في كتابك أو علمته أحدا من خلقك أو استأثرت به في علم الغيب عندك أن تجعل القرآن ربيع قلبي ونور صدري وجلاء حزني وذهاب همي إلا أذهب الله عز وجل همه وأبدله مكان حزنه فرحا)).
والحديث أخرجه أحمد في ((المسند)) وابن أبي شيبة في ((المصنف)) والبزار في ((المسند)) وأبو يعلى في ((المسند)) وابن حبان في ((صحيحه)) والحاكم في ((المستدرك)) والطبراني في ((الكبير)) وفي ((الدعاء)) والبيهقي في ((الأسماء والصفات)) في ((القضاء والقدر)) والحارث في ((المسند)) والشاشي في ((المسند)) والضبي في ((الدعاء)) والحديث صححه الإمام الألباني في الصحيحة رقم (199).
قال الشيخ عبد الرزاق بن عبد المحسن البدر حفظه الله في ((أثر الأذكار الشرعية في طرد الهم والغم)) (ص 35): ((ولهذا فأن العناية بالقرآن قراءة وتدبرًا وتطبيقًا هو أساس السعادة والفلاح وزوال الهموم والغموم ولهذا ختم هذا الدعاء بقوله: ((أن تجعل القرآن العظيم ربيع قلبي ونور صدري وجلاء حزني وذهاب همي وغمي((، إذا كان القرآن هذا شأنه في قلبك وهذا شأنه في صدرك، نور صدرك وربيع قلبك وجلاء حزنك وذهاب همك وغمك، هل الغموم والهموم تجد طريقًا إلى قلبك ؟ هل لها مدخل إلى صدرك وفؤادك ؟ لا والله! لأنه معمور بالخير، والقلوب أوعية، فالقلب وعاء، إذا ملأته بالذكر والقرآن واستحضار عظمة الله؛ ما بقي لهذه الأمور أي مكان)) اهـ.
وهذه السنة جاء فيها جملة من الأحاديث في كل منها دعاء يتضمن توحيد الله عز وجل الذي يتحقق به علاج الهم والغم والحزن:
الحديث الأول: عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم كان يقول في الكرب: ((لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ الْعَظِيمُ الْحَلِيمُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ رَبُّ السَّمَوَاتِ وَرَبُّ الْأَرْضِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ)) أخرجه البخاري ومسلم.
قال ابن القيم رحمه الله في ((شفاء العليل)): ((ولذلك كان الدعاء المفرج للكرب محض التوحيد)) اهـ.
وقال الشيخ عبد الرزاق البدر حفظه الله في ((فقه الأدعية والأذكار)): ((حديث ابن عباس رضي الله عنهما وكلُّه توحيدٌ وتمجيدٌ لله عز وجل، وترديدٌ لكلمة التوحيد لا إله إلاَّ الله، مقرونة بما يدلُّ على عظمة الله وجلاله وكماله وربوبيَّته للسَّموات والأرض وللعرش العظيم، فقد انتظمت هؤلاء الكلمات أنواعَ التوحيد الثلاثة: توحيد الربويبية، وتوحيد الألوهية، وتوحيد الأسماء والصفات، فإذا قالها المسلم مُتَأَمِّلاً لمعانيها متفَكِّراً في دلالاتها سكن قلبُه، واطمأنت نفسُه، وزال عنه كَرْبُه وشدَّتُه، وهُديَ إلى صراط مستقيم)) اهـ.
وقال الشيخ عبد الرزاق بن عبد المحسن البدر حفظه الله في ((أثر الأذكار الشرعية في طرد الهم والغم)): ((ولهذا نستفيد من هذا الدعاء وغيره أن علاج الهم والغم توحيد الله، ذكر الله، تعظيم الله، تنزيه الله، الالتجاء إلى الله، هذا هو العلاج)) اهـ.
الحديث الثاني: عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ عُمَيْسٍ رضي الله عنها قَالَتْ قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وعلى آله وَسَلَّمَ: ((أَلَا أُعَلِّمُكِ كَلِمَاتٍ تَقُولِينَهُنَّ عِنْدَ الْكَرْبِ، اللَّهُ اللَّهُ رَبِّي لَا أُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا)) أخرجه أحمد في ((المسند)) وأبو داود وابن ماجة والنسائي في ((الكبرى)) وابن أبي شيبة في ((المصنف)) وإسحاق بن راهوية في ((المسند)) والحديث صححه الألباني.
وفي رواية أخرجها ابن حبان في ((صحيحه)) عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم جمع أهل بيته فقال : (( إذا أصاب أحدكم غم أو كرب فليقل : الله الله ربي لا أشرك به شيئا ))، وقال الإمام الألباني رحمه الله في ((التعليقات الحسان على صحيح ابن حبان)): حسن صحيح ـ
قال الشيخ عبد الرزاق بن عبد المحسن البدر حفظه الله في ((فقه الأدعية والأذكار)): ((حديث أسماء بنت عُميس رضي الله عنها، حيث أرشدها النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أن تَفزَع في الكَرْب أو عند الكرب إلى التوحيد، الذي ما دُفعت عن العبد الشدائد ولا زالت عنه الكُرُبات بمثله)) اهـ.
وقال الشيخ عبد الرزاق البدر حفظه الله في ((أثر الأذكار الشرعية في طرد الهم والغم)): ((فعلاج الهم: إخلاص التوحيد والبراءة من الشرك؛ بأن يعتمد العبد على ربه -سبحانه وتعالى - في كل ملماته، وفي جميع أموره ومهماته)) اهـ.
الحديث الثالث: عن أبي بكرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: ))دَعَوَاتُ الْمَكْرُوبِ اللَّهُمَّ رَحْمَتَكَ أَرْجُو فَلَا تَكِلْنِي إِلَى نَفْسِي طَرْفَةَ عَيْنٍ وَأَصْلِحْ لِي شَأْنِي كُلَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْت)) أخرجه أجمد في ((المسند)) وأبو داود في ((السنن)) والبخاري في ((الأدب المفرد)) والنسائي في ((الكبرى)) وابن حبان في ((صحيحه)) والحديث حسنه الإمام الألباني في الصحيحة رقم (199).
قال الشيخ عبد الرزاق بن عبد المحسن البدر حفظه الله في ((أثر الأذكار الشرعية في طرد الهم والغم)) (ص 16): ((فبدأ دعوته لطرد الكرب الذي أصابه بهذا التوحيد: ))اللهم رحمتك أرجوا )) يعني أرجو الرحمة منك وأطلبها منك، ولا أطلبها من أحد سواك )) اهـ.
الحديث الرابع: عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: ((دعوة ذي النون إذ دعا وهو في بطن الحوت لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين فإنه لم يدع بها رجل مسلم في شيء قط إلا استجاب الله له)).
والحديث أخرجه الترمذي في ((السنن)) والنسائي في ((الكبرى)) والحاكم في ((المستدرك)) والطبراني في ((الدعاء)) والبيهقي في ((الشعب)) والحديث صححه الإمام الألباني في صحيح الترغيب والترهيب.
قال ابن القيم رحمه الله في ((زاد المعاد)): ((وأما دعوةُ ذى النون.. فإنَّ فيها من كمال التوحيد والتنزيه للربِّ تعالى، واعترافِ العبد بظلمه وذنبه ما هو من أبلغ أدويةِ الكَربِ والهَمِّ والغَمِّ)) اهـ.
وقال الشيخ عبد الرزاق بن عبد المحسن البدر حفظه الله في ((فقه الأدعية والأذكار)): ((وجميعُ هذه الكلمات الواردة في هذه الأحاديث كلماتُ إيمان وتوحيد وإخلاص لله عز وجل، وبُعد عن الشِّرك كلِّه كبيره وصغيره، وفي هذا أبيَنُ دلالة على أنَّ أعظمَ علاج للكرب هو تجديدُ الإيمان وترديدُ كلمة التوحيد لا إله إلاَّ الله، فإنَّه ما زالَت عن العبد شدَّةٌ، ولا ارتفع عنه هَمٌّ وكَرْبٌ بمثل توحيد الله وإخلاص الدِّين له، وتحقيقِ العبادة التي خُلق العبدُ لأجلها وأُوجِدَ لتحقيقها؛ فإنَّ القلبَ عندما يُعمَرُ بالتوحيد والإخلاص، ويُشغَل بهذا الأمر العظيم الذي هو أعظم الأمور وأجلُّها على الإطلاق، تذهبُ عنه الكُرُبات، وتزولُ عنه الشدائدُ والغمومُ، ويَسعَدُ غايةَ السعادة)) اهـ.
الحديث الخامس: عن أبي بكرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: ((كلمات المكروب اللهم رحمتك أرجو فلا تكلني إلى نفسي طرفة عين وأصلح لي شأني كله)).
والحديث أخرجه أحمد في ((المسند)) وأبو داود في ((السنن)) والنسائي في ((الكبرى)) والبخاري في ((الأدب المفرد)) وابن أبي شيبة في ((المصنف)) وابن حبان في ((صحيحه)) والحاكم في ((المستدرك)) والطبراني في ((الدعاء)) والبيهقي في ((الشعب)) والحديث حسنه الإمام الألباني في صحيح الترغيب والترهيب.
قال الشيخ عبد الرزاق بن عبد المحسن البدر حفظه الله في ((فقه الأدعية والأذكار)): ((حديث أبي بَكرة عن النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم ((دعواتُ المكروب اللَّهمَّ رحمتَك أرجو، فلا تَكلْنِي إلى نفسي طَرْفَة عَين، وأصلح لي شأني كلَّه لا إله إلاَّ أنت)) وهو كلُّه توحيد لله، والتجاءٌ إليه واعتصامٌ به(( اهـ.
هذه الأدعية المباركة ركنها الأساسي توحيد الله عز وجل، حري بمن به هم أو غم أو حزن أن يتعلمها ويحفظها ويعلم معناها ويعمل بمقتضاها.
وأختم بكلام نفيس للإمام ابن القيم رحمه الله في ((زاد المعاد)) قال: ((فالتوحيد.. يفتح للعبد بابَ الخير والسرور واللَّذة والفرح والابتهاج، والتوبةُ استفراغٌ للأخلاط والمواد الفاسدة التي هي سببُ أسقامه، وحِميةٌ له من التخليط، فهي تُغْلِق عنه بابَ الشرور، فيُفتَح له بابُ السعادة والخير بالتوحيد، ويُغْلَق باب الشرور بالتوبة والاستغفار)) اهـ.
هذا وأسأل الله أن يكشف هم المهمومين وأن ينفس كرب المكروبين وأن ويرفع غم المغمومين من المسلمين، والله أعلم وبالله التوفيق وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
كتبه
عزالدين بن سالم بن الصادق أبوزخار
طرابلس الغرب: الخميس 14 جمادى الآخر سنة 1437 هـ
الموافق لـ: 24 مارس سنة 2016 م