بسم الله الرَّحمن الرَّحيم
الحمد لله الذي أرسل رسُوله بالهُدى ودين الحقِّ ليُظهره على الدِّين كُلِّه وكفى بالله شهيدًا؛ وأشهد ألَّا إله إلَّا الله وحده لا شريك له إقرارًا به وتوحيدًا، وأشهد أنَّ محمَّدًا عبده ورسُوله صلَّى الله عليه وسلَّم تسليمًا مزيدًا.
أمَّا بعد:
قال شيخنا مُصطفى مبرم حفظه الله تعالى:
إنَّ الإيمان باليوم الآخر من أعظم آثاره وثماره أنَّه يحجِز الإنسان عن مواطن سخط الرَّب -تبارك وتعالى- وأليم عقابه، أمَا قال الله -جلَّ وعلا- في كتابه الكريم: {وَإِذَا قِيلَ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَالسَّاعَةُ لَا رَيْبَ فِيهَا قُلْتُم مَّا نَدْرِي مَا السَّاعَةُ إِن نَّظُنُّ إِلَّا ظَنًّا وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ } [1] ففسدوا وفسدت عقائدهم لمَّا لم يُؤمنوا باليوم الآخر، وقال -جلَّ وعلا- في كتابه الكريم:{ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ }[2] فإذا نظرت إلى الآثار المترتَّبة إمَّا عن عدم الإيمان باليوم الآخر أو عن ضعف الإيمان باليوم الآخر رأيت أنَّ كلَّ فساد واقع في الأرض بسببه وبسبب عدم الالتفات إلى شناعة وشدَّة وهول الموقف بين يدي الله -تبارك وتعالى-؛ فآثار الإيمان باليوم الآخر عظيمة جدًّا من أعظمها وأجلِّها أنَّ هذا الإيمان يحجزك عن الدُّنيا وعن الوقوع فيما يُسخط الرَّب -جلَّ جلاله-، { إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ }[3] فإذا نسي الإنسان يوم الحساب ويوم العذاب تلاعب بنفسه وتجارى معها في شهواتها؛ والآيات في هذا الأمر كثيرة جدًّا؛ أمَا قال الله -تبارك وتعالى-:{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ غ– وَاتَّقُوا اللَّهَ غڑ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ } [4] ما هو الغد هنا؟ إنَّما هو اليوم الآخر، الوقوف بين يدي الله -جلَّ وعلا-، ما تجارت الأهواء بأصحابها إلَّا بسبب عدم الإيمان باليوم الآخر أو بضعف الإيمان به وكلُّنا نشكو إلى الله -تبارك وتعالى- ذلك، إلَّا من علم أنَّه موقوف بين يدي الله ومُحاسب ومجزي على أعماله إن خيرًا فخير وإن شرًّا فشر، كيف يلقى الله -تبارك وتعالى-؟ يتأمَّل في نفسه وينظر في حاله، نحن محتاجون إلى من يعظنا ويُذكِّرنا بذلك اليوم ويُنبِّهنا على ضرورة الإيمان به ووجوب الإيمان به.
الله -تبارك وتعالى- يقول: {فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِن كَفَرْتُمْ يَوْمًا يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيبًا السَّمَاءُ مُنفَطِرٌ بِهِ غڑ كَانَ وَعْدُهُ مَفْعُولًا}[5] الأمر يا إخوتي لا يقف بنا إلى أن نقف بين يدي الله -عزَّ وجلَّ- وأن نجتمع بين يديه على صعيد واحد حُفاة عراة غُرلا، رجالًا ونساءً، لا يتوقَّف الأمر على هذا، يتوقَّف الأمر إلى أن تتطاير الصُّحف ويقول القائل:{يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ} [6] ويقول:{ مَالِ هظ°ذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا}[7] يتبع ذلك أنَّ الإنسان تُنصب له الموازين فيلتمس الحسنة من أمِّه وأبيه ومن عشيرته ومن أخيه فلا يَلوي أحدٌ على أحد ولا يلتفت أحدٌ إلى أحد: نفسي نفسي لا أسألك سواها { يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ }[8] لا يتوقَّف الأمر على هذا بل هناك الصِّراط منصوب على متن جهنَّم أدقّ من الشَّعرة وأحدُّ من السَّيف وعليه كلاليبُ تخْطف النَّاس، ولا يتوقَّف الأمر على هذا بل الأمر أشد وأشد { وَكَذَظ°لِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِّتُنذِرَ أُمَّ الْقُرَىظ° وَمَنْ حَوْلَهَا وَتُنذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لَا رَيْبَ فِيهِ غڑ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ }[9] وهذا الأمر شديد إنَّها أهوال، إنَّها شدائد، إنَّها عظائم، إنَّها مصائب { يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللهِ شَدِيدٌ }[10]
لا تنسى الآخرة ويغفل قلبك، لا تنسى الآخرة فيمرض قلبك، لا تنسى الآخرة فيموت قلبك؛ نسيان الآخرة من أعظم الأسباب الموجبة للفساد في الأرض لو نظر النَّاس وتأمَّلوا في أحوالهم بين يدي الله -جلَّ في علاه- لأقبلوا على صلاح أنفسهم وأقبلوا على صلاح أحوالهم في ظواهرهم وفي بواطنهم، لكنَّها الغفلة عن اليوم الآخر {اقْتَرَبَ للنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُم فِي غَفْلَة مُعْرِضُون} [11] جاء عنه عليه الصَّلاة والسَّلام أنَّه قال: ((اقْتَرَبَتِ السَّاعَة وَلَا يَزْدَادُ النَّاسُ مِنَ الله إلَّا بُعْدًا وَلَا يَزْدَادُ الأَمْرُ إلَّا شِدَّة)) والحديث في السِّلسلة الصَّحيحة للعلامة الألباني -عليه رحمة الله-، كلَّما قربت السَّاعة ومع كثرة حديث النَّاس اليوم في الشَّرق والغرب من المسلمين والكفَّار من اليهود والنَّصارى وغيرهم عن قُرب السَّاعة ونهاية العالم وتغيُّر العالم وابتداء المرحلة الأخرويَّة وبعضهم يضع حدًّا بالسَّنوات إلى أنَّه ستقوم السَّاعة في يوم كذا وكذا، أو في سنة كذا وكذا أو ما أشبه ذلك، لكن هل يزدادون بهذا قُربًا من الله؟ هل يزدادون بهذا معرفة لله؟ -نسأل الله العافية والسَّلامة-.
أحببتُ أن أتحدَّث عن هذا الأمر أو عن شيءٍ أو عن طرف من هذا الأمر لأهمِّيته بالنِّسبة لنا؛ إنَّما ندرس عقيدتنا لتحيا بها قُلوبنا، لتصلح بها أحوالنا، لتتغيَّر بها مسالكنا، من أعظم ما يُغيِّر مسالك النَّاس من السُّوء إلى الحُسن ومن الشَّر إلى الخير: دراسة العقيدة بجميع أنواعها: العقيدة في الله، والعقيدة في القدر، والعقيدة في اليوم الآخر.
ونحن كلّنا سنقف بين يدي الله -جلَّ وعلا- لا يُستثنى من ذلك أحدٌ من النَّاس، والأنبياء قولهم يوم القيامة: ((اللَّهُمَّ سَلِّم سَلِّم)) فمن يأمن على نفسه والأمر شديد -شديدة أهواله-؟!؟
يوم القيامة لو علمت بهوله = لفررت من أهلٍ ومن خلَّان
فالله الله إخوتي في الله أن نرقب ذلك اليوم، وأن نرقب فيما نلقى الله -تبارك وتعالى- فيه؛ وكلُّنا نحتاج إلى أن يعظ نفسه وأن يُقبل على قلبه هل يسرُّه أن يلقى الله -تبارك وتعالى- بهذه الحال الَّتي هو عليها؟ كيف سيلقى الله؟ كيف سيقف بين يدي الله؟ لو جاءه الموت غدًا هل هو مستعدٌّ له؟ لو نام هذه اللَّيلة ولم يصحوا لن يقوم إلَّا في ذلك اليوم -نسأل الله العافية والسَّلامة-، لو مات الإنسان في أي ليلة من اللَّيالي لا يظنّ أنَّه ستأتيه زوجه أو ولده أو أُمُّه أو خادمه يوقظه للعمل أو يوقظه للدراسة أو يُوقظه للمصالح، ما هناك قومة بعد تلك اللَّيلة إلَّا بين يدي الله.
فالله الله لمعرفة قدر هذا اليوم، لمعرفة مكانته عند الله، وقد جعله الله -تبارك وتعالى- يومًا للقائه، فانظر بما تلقى الله.
أسأل الله -جلَّ وعلا- أن يُصلح أحوالنا وأقوالنا وظواهرنا وبواطننا فهو وليُّ ذلك والقادر عليه؛ والحمد لله ربِّ العالمين، وصلَّى الله على نبيِّنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
تفريغ: أم حور
من الدَّرس 23 _ شرح العقيدة الواسطيَّة
من الدَّرس 23 _ شرح العقيدة الواسطيَّة
_______
[1] [الجاثية: 32]
[2] و [3] [ص: 26]
[4] [الحشر: 18]
[5] [المزمل: 17-18]
[6] [الحاقة: 25]
[7] [الكهف: 49]
[8] [عبس: 34-37]
[9] [الشورى: 7]
[10] [الحج]
[11] [الأنبياء]