تحصيل المنفعة في أحوال نفع الرقى والأدوية:
كثيرا ما يتناول الإنسان الدواء أو يرقي نفسه امتثالا لأمر النبي صلى الله عليه وسلم بالتداوي، وقد يجد أثر الدواء عاجلا، وقد يتأخر الشفاء، وقد لا يشفى، وقد يرتاب بعض الناس في تأثير الرقية الشرعية حين لا يجد أثرها عاجلا، أو يظن بالله الظنون، فيتبادر إلى ذهنه أن رقيته هذه لم يكن لها تأثير، وينسى أنه قد يكون السبب، أو يتناسى أن أفعال الله عز وجل كلها حكمة، أو أنه لو لم يستعمل الرقية لربما استفحل الداء أكثر، أو زادت حدة الأعراض، وسرعان ما يتسرب التسخط على أقدار الله عز وجل إليه, أسر ذلك أو أعلنه، والله عز وجل لطيف بعباده.
والله عز وجل أطلعنا أن لتأثير الدواء الحسي عوامل وأسباب وأحوال قد تجعله فاعلا، وقد تبطئ من مفعوله، وقد لا يكون له تأثيرا، أو يختلف تأثيره من مريض إلى آخر، مع أن الدواء هو الدواء، والكمية هي الكمية، فبدلا من التسخط، لماذا لا نستلهم العبرة بما أطلعنا الله عليه عما غاب عنا؟
ولقد أنبأنا النبي صلى الله عليه وسلم وحي الله إليه بما لا يدع مجالا للظن بأحوال نفع التداوي، ، ومنهالتداوي بالرقية، وهذا كلام بعض أهل العلم في هذه الأحوال للتداوي والرقية.
-- المسألة الأولى:
في أنواع الطب، وأن معرفة طبائع الأمراض وأسبابها تعين على اختيار الدواء الأنسب:
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله في فتح الباري في شرحه لكتاب الطب من صحيح البخاري:
والطب نوعان : طب جسد وهو المراد هنا ، وطب قلب ومعالجته خاصة بما جاء به الرسول عليه الصلاة والسلام عن ربه سبحانه و - تعالى - . وأما طب الجسد فمنه ما جاء في المنقول عنه - صلى الله عليه وسلم - ومنه ما جاء عن غيره ، وغالبه راجع إلى التجربة .
ثم هو نوعان : نوع لا يحتاج إلى فكر ونظر بل فطر الله على معرفته الحيوانات ، مثل ما يدفع الجوع والعطش .
ونوع يحتاج إلى الفكر والنظر كدفع ما يحدث في البدن مما يخرجه عن الاعتدال ، وهو إما إلى حرارة أو برودة ، وكل منهما إما إلى رطوبة ، أو يبوسة ، أو إلى ما يتركب منهما . وغالب ما يقاوم الواحد منهما بضده ، والدفع قد يقع من خارج البدن وقد يقع من داخله وهو أعسرهما .
والطريق إلى معرفته بتحقق السبب والعلامة ، فالطبيب الحاذق هو الذي يسعى في تفريق ما يضر بالبدن جمعه أو عكسه ، وفي تنقيص ما يضر بالبدن زيادته أو عكسه ، ومدار ذلك على ثلاثة أشياء : حفظ الصحة ، والاحتماء عن المؤذي ، واستفراغ المادة الفاسدة .
وقد أشير إلى الثلاثة في القرآن : فالأول من قوله - تعالى - فمن كان مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر وذلك أن السفر مظنة النصب وهو من مغيرات الصحة ، فإذا وقع فيه الصيام ازداد فأبيح الفطر إبقاء على الجسد .
وكذا القول في المرض الثاني وهو الحمية من قوله - تعالى - : ولا تقتلوا أنفسكم فإنه استنبط منه جواز التيمم عند خوف استعمال الماء البارد .
والثالث من قوله - تعالى - : أو به أذى من رأسه ففدية فإنه أشير بذلك إلى جواز حلق الرأس الذي منع منه المحرم لاستفراغ الأذى الحاصل من البخار المحتقن في الرأس . ا.ه
وجملة علوم الطب لا تخرج عن هذا، قديما أو حديثا، وهذا الذي ذكره الحافظ في الفتح أورده ابن القيم في بداية كتاب الطب النبوي مفصلا في فصل عقده لذلك.
-- المسألة الثانية,
في صفة التداوي، ومعنى "ما أنزل الله داء إلا أنزل له شفاء"، وفي ما لا شفاء منه من الأدواء، وأن الأدوية لا تؤثر بذاتها بل هي أسباب تؤثر بإذن الله ذلك وأنه قد يكون في المتطبب مانع يمنع حصول الشفاء:
روى البخاري رحمه الله في صحيحه في باب ما أنزل الله داء إلا أنزل له شفاء
5354 حدثنا محمد بن المثنى حدثنا أبو أحمد الزبيري حدثنا عمر بن سعيد بن أبي حسين قال حدثني عطاء بن أبي رباح عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال ما أنزل الله داء إلا أنزل له شفاء
قال ابن القيم في الطب النبوي:
فقد تضمَّنت هذه الأحاديثُ إثبات الأسباب والمسبِّبات، وإبطالَ قولِ مَن أنكرها، ويجوزُ أن يكون قوله((لكل داءٍ دواء))، على عمومه حتى يتناول الأدواءَ القاتِلة، والأدواء التي لا يُمكن لطبيب أن يُبرئها، ويكون الله عَزَّ وجَلَّ قد جعل لها أدويةً تُبرئها، ولكن طَوَى عِلمَها عن البَشَر، ولم يجعل لهم إليه سبيلاً، لأنه لا عِلم للخلق إلا ما علَّمهم الله، ولهذا علَّق النبي صلى الله عليه وسلم الشِّفاءَ على مصادفة الدواء لِلداء، فإنه لا شيءَ من المخلوقات إلا له ضِدّ، وكلُّ داء له ضد من الدواء يعالَج بضدِّه، فعلَّق النبيصلى الله عليه وسلم البُرءَ بموافقة الداء للدواء، وهذا قدرٌ زائدٌ على مجرد وجوده، فإنَّ الدواء متى جاوز درجة الداء في الكيفية، أو زاد في الكمية على ما ينبغي، نَقَلَه إلى داء آخر، ومتى قصر عنها لم يَفِ بمقاومته، وكان العلاج قاصراً، ومتى لم يقع المُداوِي على الدواء، أو لم يقع الدواء على الداء، لم يحصُل الشفاء، ومتى لم يكن الزمان صالحاً لذلك الدواء، لم ينفع، ومتى كان البدنُ غيرَ قابل له، أو القوةُ عاجزةً عن حمله، أو ثَمَّ مانعٌ يمنعُ من تأثيره، لم يحصل البُرء لعدم المصادفة، ومتى تمت المصادفة حصلَ البرءُ بإذن الله ولا بُدَّ، وهذا أحسنُ المحملَيْن في الحديث. ا.ه
فهذه أمور تتحقق بها موافقة الدواء للداء:
1.الكمية, وهي بتعبير العصر الحاضر الجرع.
2. الكيفية، ويدخل فيها طريقة إيصال الدواء، وطريقة تناوله
3. التوفيق للدواء الناجع، فالأدوية وإن كانت لمرض واحد، يختلف تأثيرهاقوة وضعفا، وبحسب شدة المرض.
4. موافقة هذا الدواء للداء, فلا يمنع مانع من وصوله إليه.5. زمن التداوي, ويدخل فيه: أوقات تناول الدواء، والعوامل الزمنية التي تؤثر في فاعلية الدواء.
6. أن يقبل الجسم الدواء فلا يرفضه.
7. قد يقبل الجسم الدواء، ويمنع من تأثيره مانع.
8. قدرة الجسم على تحمل الدواء.
وكل هذا يطول تفصيله في علم الطب، وأوجزه وحي الله إلى نبيه صلى الله عليه وسلم بأوجز عبارة, {فإذا أصيب دواء الداء}.
والأحاديث التي عناها ابن القيم رحمه الله هي الأحاديث التي ورد فيها الأمر بالتداوي وأن الله عز وجل ما أنزل داء إلا أنزل له شفاء، وهذا زيادة بيان من كلام الحافظ ابن حجر رحمه الله في بيان تلك الأحوال مستنبطة من سائر روايات الحديث..
قال الحافظ في الفتح:
قوله : ( إلا أنزل له شفاء ) في رواية طلحة بن عمرو من الزيادة في أول الحديث يا أيها الناس تداووا " ووقع في رواية طارق بن شهاب عن ابن مسعود رفعه إن الله لم ينزل داء إلا أنزل له شفاء فتداووا وأخرجه النسائي وصححه ابن حبان والحاكم ، ونحوه للطحاوي وأبي نعيم من حديث ابن عباس ، ولأحمد عن أنس إن الله حيث خلق الداء خلق الدواء ، فتداووا وفي حديث أسامة بن شريك " تداووا يا عباد الله ، فإن الله لم يضع داء إلا وضع له شفاء ، إلا داء واحدا الهرم " أخرجه أحمد والبخاري في " الأدب المفرد " والأربعة وصححه الترمذي وابن خزيمة والحاكم ، وفي لفظ إلا السام بمهملة مخففة يعني الموت . ووقع في رواية أبي عبد الرحمن السلمي عن ابن مسعود نحو حديث الباب في آخره " علمه من علمه وجهله من جهله " أخرجه النسائي وابن ماجه وصححه ابن حبان والحاكم .
ولمسلم عن جابر رفعه لكل داء دواء ، فإذا أصيب دواء الداء برأ بإذن الله - تعالى - ولأبي داود من حديث أبي الدرداء رفعه إن الله جعل لكل داء دواء فتداووا ، ولا تداووا بحرام " وفي مجموع هذه الألفاظ ما يعرف منه المراد بالإنزال في حديث الباب وهو إنزال علم ذلك على لسان الملك للنبي - صلى الله عليه وسلم - مثلا ، أو عبر بالإنزال عن التقدير . وفيها التقييد بالحلال فلا يجوز التداوي بالحرام .
وفي حديث جابر منها الإشارة إلى أن الشفاء متوقف على الإصابة بإذن الله ، وذلك أن الدواء قد يحصل معه مجاوزة الحد في الكيفية أو الكمية فلا ينجع ، بل ربما أحدث داء آخر .
وفي حديث ابن مسعود الإشارة إلى أن بعض الأدوية لا يعلمها كل أحد ، وفيها كلها إثبات الأسباب ، وأن ذلك لا ينافي التوكل على الله لمن اعتقد أنها بإذن الله وبتقديره ، وأنها لا تنجع بذواتها بل بما قدره الله - تعالى - فيها ، وأن الدواء قد ينقلب داء إذا قدر الله ذلك ، وإليه الإشارة بقوله في حديث جابر " بإذن الله " فمدار ذلك كله على تقدير الله وإرادته .
والتداوي لا ينافي التوكل كما لا ينافيه دفع الجوع والعطش بالأكل والشرب ، وكذلك تجنب المهلكات والدعاء بطلب العافية ودفع المضار وغير ذلك ، وسيأتي مزيد لهذا البحث في " باب الرقية " إن شاء الله - تعالى - .
ويدخل في عمومها أيضا الداء القاتل الذي اعترف حذاق الأطباء بأن لا دواء له ، وأقروا بالعجز عن مداواته ، ولعل الإشارة في حديث ابن مسعود بقوله وجهله من جهله إلى ذلك فتكون باقية على عمومها ، ويحتمل أن يكون في الخبر حذف تقديره : لم ينزل داء يقبل الدواء إلا أنزل له شفاء ، والأول أولى . ومما يدخل في قوله جهله من جهله " ما يقع لبعض المرضى أنه يتداوى من داء بدواء فيبرأ ثم يعتريه ذلك الداء بعينه فيتداوى بذلك الدواء بعينه فلا ينجع ، والسبب في ذلك الجهل بصفة من صفات الدواء فرب مرضين تشابها ويكون أحدهما مركبا لا ينجع فيه ما ينجع في الذي ليس مركبا فيقع الخطأ من هنا ، وقد يكون متحدا لكن يريد الله أن لا ينجع فلا ينجع ، ومن هنا تخضع رقاب الأطباء ، وقد أخرج ابن ماجه من طريق أبي خزامة وهو بمعجمة وزاي خفيفة " عن أبيه قال : قلت يا رسول الله أرأيت رقى نسترقيها ودواء نتداوى به هل يرد من قدر الله شيئا ؟ قال : هي من قدر الله - تعالى - " والحاصل أن حصول الشفاء بالدواء إنما هو كدفع الجوع بالأكل والعطش بالشرب ، وهو ينجع في ذلك في الغالب ، وقد يتخلف لمانع والله أعلم.
ثم الداء والدواء كلاهما بفتح الدال وبالمد ، وحكي كسر دال الدواء .
واستثناء الموت في حديث أسامة بن شريك واضح ، ولعل التقدير إلا داء الموت ، أي المرض الذي قدر على صاحبه الموت . واستثناء الهرم في الرواية الأخرى إما لأنه جعله شبيها بالموت والجامع بينهما نقص الصحة ، أو لقربه من الموت وإفضائه إليه .
ويحتمل أن يكون الاستثناء منقطعا والتقدير : لكن الهرم لا دواء له ، والله أعلم .
وما يذكر في الأدوية الحسية يذكر في الرقى والأدعية، ولذا قرن ذكرهما في الحديث الذي مر ذكره, {قال : قلت يا رسول الله أرأيت رقى نسترقيها ودواء نتداوى به هل يرد من قدر الله شيئا ؟ قال : هي من قدر الله - تعالى - "
وقال ابن القيم رحمه الله في الجواب الكافي(1/15):
وَالْأَدْعِيَةُ وَالتَّعَوُّذَاتُ بِمَنْزِلَةِ السِّلَاحِ، وَالسِّلَاحُ بِضَارِبِهِ، لَا بِحَدِّهِ فَقَطْ، فَمَتَى كَانَ السِّلَاحُ سِلَاحًا تَامًّا لَا آفَةَ بِهِ، وَالسَّاعِدُ سَاعِدُ قَوِيٍّ، وَالْمَانِعُ مَفْقُودٌ؛ حَصَلَتْ بِهِ النِّكَايَةُ فِي الْعَدُوِّ، وَمَتَى تَخَلَّفَ وَاحِدٌ مِنْ هَذِهِ الثَّلَاثَةِ تَخَلَّفَ التَّأْثِيرُ، فَإِنْ كَانَ الدُّعَاءُ فِي نَفْسِهِ غَيْرَ صَالِحٍ، أَوِ الدَّاعِي لَمْ يَجْمَعْ بَيْنَ قَلْبِهِ وَلِسَانِهِ فِي الدُّعَاءِ، أَوْ كَانَ ثَمَّ مَانِعٌ مِنَ الْإِجَابَةِ، لَمْ يَحْصُلِ الْأَثَرُ.
ولا يخفى أن الرقآ أدعية يتوسل إلى الله بها لحصول المقصود.
وقال أيضا رحمه الله في المصدر نفسه:
وأمراضُ الأبدان على وِزَانِ أمراض القلوب، وما جعل الله للقلب مرضاً إلا جعل له شفاءً بضده، فإنْ علمه صاحبُ الداء واستعمله، وصادف داءَ قلبِه، أبرأه بإذن الله تعالى.
وقال أيضا رحمه الله في الطب النبوي (1/126):
وَمَنْ جَرَّبَ هَذِهِ الدَّعَوَاتِ وَالْعُوَذَ، عَرَفَ مِقْدَارَ مَنْفَعَتِهَا، وَشِدَّةَ الْحَاجَةِ إِلَيْهَا، وَهِيَ تَمْنَعُ وُصُولَ أَثَرِ الْعَائِنِ، وَتَدْفَعُهُ بَعْدَ وُصُولِهِ بِحَسَبِ قُوَّةِ إِيمَانِ قَائِلِهَا، وَقُوَّةِ نَفْسِهِ، وَاسْتِعْدَادِهِ، وَقُوَّةِ تَوَكُّلِهِ وَثَبَاتِ قَلْبِهِ، فَإِنَّهَا سِلَاحٌ وَالسِّلَاحُ بِضَارِبِهِ.
وقال أيضا رحمه الله في الجواب الكافي (1/9):
وَلَوْ أَحْسَنَ الْعَبْدُ التَّدَاوِيَ بِالْفَاتِحَةِ، لَرَأَى لَهَا تَأْثِيرًا عَجِيبًا فِي الشِّفَاءِ. وَمَكَثْتُ بِمَكَّةَ مُدَّةً يَعْتَرِينِي أَدْوَاءٌ وَلَا أَجِدُ طَبِيبًا وَلَا دَوَاءً، فَكُنْتُ أُعَالِجُ نَفْسِي بِالْفَاتِحَةِ، فَأَرَى لَهَا تَأْثِيرًا عَجِيبًا، فَكُنْتُ أَصِفُ ذَلِكَ لِمَنْ يَشْتَكِي أَلَمًا، وَكَانَ كَثِيرٌ مِنْهُمْ يَبْرَأُ سَرِيعًا.
وَلَكِنْ هَاهُنَا أَمْرٌ يَنْبَغِي التَّفَطُّنُ لَهُ، وَهُوَ أَنَّ الْأَذْكَارَ وَالْآيَاتِ وَالْأَدْعِيَةَ الَّتِي يُسْتَشْفَى بِهَا وَيُرْقَى بِهَا، هِيَ فِي نَفْسِهَا نَافِعَةٌ شَافِيَةٌ، وَلَكِنْ تَسْتَدْعِي قَبُولَ الْمَحِلِّ، وَقُوَّةَ هِمَّةِ الْفَاعِلِ وَتَأْثِيرَهُ، فَمَتَى تَخَلَّفَ الشِّفَاءُ كَانَ لِضَعْفِ تَأْثِيرِ الْفَاعِلِ، أَوْ لِعَدَمِ قَبُولِ الْمُنْفَعِلِ، أَوْ لِمَانِعٍ قَوِيٍّ فِيهِ يَمْنَعُ أَنْ يَنْجَعَ فِيهِ الدَّوَاءُ، كَمَا يَكُونُ ذَلِكَ فِي الْأَدْوِيَةِ وَالْأَدْوَاءِ الْحِسِّيَّةِ، فَإِنَّ عَدَمَ تَأْثِيرِهَا قَدْ يَكُونُ لِعَدَمِ قَبُولِ الطَّبِيعَةِ لِذَلِكَ الدَّوَاءِ، وَقَدْ يَكُونُ لِمَانِعٍ قَوِيٍّ يَمْنَعُ مِنَ اقْتِضَائِهِ أَثَرَهُ، فَإِنَّ الطَّبِيعَةَ إِذَا أَخَذَتِ الدَّوَاءَ بِقَبُولٍ تَامٍّ كَانَ انْتِفَاعُ الْبَدَنِ بِهِ بِحَسْبِ ذَلِكَ الْقَبُولِ، فَكَذَلِكَ الْقَلْبُ إِذَا أَخَذَ الرُّقَى وَالتَّعَاوِيذَ بِقَبُولٍ تَامٍّ، وَكَانَ لِلرَّاقِي نَفْسٌ فَعَّالَةٌ وَهِمَّةٌ مُؤَثِّرَةٌ فِي إِزَالَةِ الدَّاءِ.
وَكَذَلِكَ الدُّعَاءُ، فَإِنَّهُ مِنْ أَقْوَى الْأَسْبَابِ فِي دَفْعِ الْمَكْرُوهِ، وَحُصُولِ الْمَطْلُوبِ، وَلَكِنْ قَدْ يَتَخَلَّفُ أَثَرُهُ عَنْهُ، إِمَّا لِضَعْفِهِ فِي نَفْسِهِ - بِأَنْ يَكُونَ دُعَاءً لَا يُحِبُّهُ اللَّهُ، لِمَا فِيهِ مِنَ الْعُدْوَانِ - وَإِمَّا لِضَعْفِ الْقَلْبِ وَعَدَمِ إِقْبَالِهِ عَلَى اللَّهِ وَجَمْعِيَّتِهِ عَلَيْهِ وَقْتَ الدُّعَاءِ، فَيَكُونُ بِمَنْزِلَةِ الْقَوْسِ الرِّخْوِ جِدًّا، فَإِنَّ السَّهْمَ يَخْرُجُ مِنْهُ خُرُوجًا ضَعِيفًا، وَإِمَّا لِحُصُولِ الْمَانِعِ مِنَ الْإِجَابَةِ: مِنْ أَكْلِ الْحَرَامِ، وَالظُّلْمِ، وَرَيْنِ الذُّنُوبِ عَلَى الْقُلُوبِ، وَاسْتِيلَاءِ الْغَفْلَةِ وَالشَّهْوَةِ وَاللَّهْوِ، وَغَلَبَتِهَا عَلَيْهَا. كَمَا فِي مُسْتَدْرَكِ الْحَاكِمِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «ادْعُوا اللَّهَ وَأَنْتُمْ مُوقِنُونَ بِالْإِجَابَةِ» . «وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ لَا يَقْبَلُ دُعَاءً مِنْ قَلْبٍ غَافِلٍ لَاهٍ» فَهَذَا دَوَاءٌ نَافِعٌ مُزِيلٌ لِلدَّاءِ، وَلَكِنَّ غَفْلَةَ الْقَلْبِ عَنِ اللَّهِ تُبْطِلُ قُوَّتَهُ، وَكَذَلِكَ أَكْلُ الْحَرَامِ يُبْطِلُ قُوَّتَهُ وَيُضْعِفُهَا. كَمَا فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «يَا أَيُّهَا النَّاسُ،إِنَّ اللَّهَ طَيِّبٌ، لَا يَقْبَلُ إِلَّا طَيِّبًا، وَإِنَّ اللَّهَ أَمَرَ الْمُؤْمِنِينَ بِمَا أَمَرَ بِهِ الْمُرْسَلِينَ، فَقَالَ: {يَاأَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ} [الْمُؤْمِنُونَ: 51] وَقَالَ: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ} [الْبَقَرَةِ: 172] ثُمَّ ذَكَرَ الرَّجُلَ يُطِيلُ السَّفَرَ أَشْعَثَ أَغْبَرَ، يَمُدُّ يَدَيْهِ إِلَى السَّمَاءِ: يَا رَبِّ يَا رَبِّ، وَمَطْعَمُهُ حَرَامٌ، وَمَشْرَبُهُ حَرَامٌ، وَمَلْبَسُهُ حَرَامٌ، وَغُذِّيَ بِالْحَرَامِ، فَأَنَّى يُسْتَجَابُ لِذَلِكَ؟» . وَذَكَرَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ فِي كِتَابِ الزُّهْدِ لِأَبِيهِ: أَصَابَ بَنِي إِسْرَائِيلَ بَلَاءٌ، فَخَرَجُوا مَخْرَجًا، فَأَوْحَى اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ إِلَى نَبِيِّهِمْ أَنْ أَخْبِرْهُمْ: إِنَّكُمْ تَخْرُجُونَ إِلَى الصَّعِيدِ بِأَبْدَانٍ نَجِسَةٍ، وَتَرْفَعُونَ إِلَيَّ أَكُفًّا قَدْ سَفَكْتُمْ بِهَا الدِّمَاءَ، وَمَلَأْتُمْ بِهَا بُيُوتَكُمْ مِنَ الْحَرَامِ، الْآنَ حِينَ اشْتَدَّ غَضَبِي عَلَيْكُمْ؟ وَلَنْ تَزْدَادُوا مِنِّي إِلَّا بُعْدًا. وَقَالَ أَبُو ذَرٍّ: يَكْفِي مِنَ الدُّعَاءِ مَعَ الْبِرِّ، مَا يَكْفِي الطَّعَامَ مِنَ الْمِلْحِ.
وقال الشيخ محمد بن صالح العثيمين رحمه الله:
إن تأثير الإنسان في قراءته على حسب إخلاصه ونيته، والذي ينبغي للقراء الذين ينفع الله بهم أن يخلصوا النية لله عز وجل، وأن ينووا بذلك- أي: بقراءتهم على المرضى- التقرب إلى الله، والإحسان إلى عباد الله، حتى ينفع الله بهم، ويجعل في قراءتهم خيراً وبركة.
فتاوى نور على الدرب (/4/2.
فأياك ونفسي الظالمة من التسخط، وانتظار الفرج عبادة كما جاء في بعض الآثار عن بعض السلف، والله أعلم.
كثيرا ما يتناول الإنسان الدواء أو يرقي نفسه امتثالا لأمر النبي صلى الله عليه وسلم بالتداوي، وقد يجد أثر الدواء عاجلا، وقد يتأخر الشفاء، وقد لا يشفى، وقد يرتاب بعض الناس في تأثير الرقية الشرعية حين لا يجد أثرها عاجلا، أو يظن بالله الظنون، فيتبادر إلى ذهنه أن رقيته هذه لم يكن لها تأثير، وينسى أنه قد يكون السبب، أو يتناسى أن أفعال الله عز وجل كلها حكمة، أو أنه لو لم يستعمل الرقية لربما استفحل الداء أكثر، أو زادت حدة الأعراض، وسرعان ما يتسرب التسخط على أقدار الله عز وجل إليه, أسر ذلك أو أعلنه، والله عز وجل لطيف بعباده.
والله عز وجل أطلعنا أن لتأثير الدواء الحسي عوامل وأسباب وأحوال قد تجعله فاعلا، وقد تبطئ من مفعوله، وقد لا يكون له تأثيرا، أو يختلف تأثيره من مريض إلى آخر، مع أن الدواء هو الدواء، والكمية هي الكمية، فبدلا من التسخط، لماذا لا نستلهم العبرة بما أطلعنا الله عليه عما غاب عنا؟
ولقد أنبأنا النبي صلى الله عليه وسلم وحي الله إليه بما لا يدع مجالا للظن بأحوال نفع التداوي، ، ومنهالتداوي بالرقية، وهذا كلام بعض أهل العلم في هذه الأحوال للتداوي والرقية.
-- المسألة الأولى:
في أنواع الطب، وأن معرفة طبائع الأمراض وأسبابها تعين على اختيار الدواء الأنسب:
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله في فتح الباري في شرحه لكتاب الطب من صحيح البخاري:
والطب نوعان : طب جسد وهو المراد هنا ، وطب قلب ومعالجته خاصة بما جاء به الرسول عليه الصلاة والسلام عن ربه سبحانه و - تعالى - . وأما طب الجسد فمنه ما جاء في المنقول عنه - صلى الله عليه وسلم - ومنه ما جاء عن غيره ، وغالبه راجع إلى التجربة .
ثم هو نوعان : نوع لا يحتاج إلى فكر ونظر بل فطر الله على معرفته الحيوانات ، مثل ما يدفع الجوع والعطش .
ونوع يحتاج إلى الفكر والنظر كدفع ما يحدث في البدن مما يخرجه عن الاعتدال ، وهو إما إلى حرارة أو برودة ، وكل منهما إما إلى رطوبة ، أو يبوسة ، أو إلى ما يتركب منهما . وغالب ما يقاوم الواحد منهما بضده ، والدفع قد يقع من خارج البدن وقد يقع من داخله وهو أعسرهما .
والطريق إلى معرفته بتحقق السبب والعلامة ، فالطبيب الحاذق هو الذي يسعى في تفريق ما يضر بالبدن جمعه أو عكسه ، وفي تنقيص ما يضر بالبدن زيادته أو عكسه ، ومدار ذلك على ثلاثة أشياء : حفظ الصحة ، والاحتماء عن المؤذي ، واستفراغ المادة الفاسدة .
وقد أشير إلى الثلاثة في القرآن : فالأول من قوله - تعالى - فمن كان مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر وذلك أن السفر مظنة النصب وهو من مغيرات الصحة ، فإذا وقع فيه الصيام ازداد فأبيح الفطر إبقاء على الجسد .
وكذا القول في المرض الثاني وهو الحمية من قوله - تعالى - : ولا تقتلوا أنفسكم فإنه استنبط منه جواز التيمم عند خوف استعمال الماء البارد .
والثالث من قوله - تعالى - : أو به أذى من رأسه ففدية فإنه أشير بذلك إلى جواز حلق الرأس الذي منع منه المحرم لاستفراغ الأذى الحاصل من البخار المحتقن في الرأس . ا.ه
وجملة علوم الطب لا تخرج عن هذا، قديما أو حديثا، وهذا الذي ذكره الحافظ في الفتح أورده ابن القيم في بداية كتاب الطب النبوي مفصلا في فصل عقده لذلك.
-- المسألة الثانية,
في صفة التداوي، ومعنى "ما أنزل الله داء إلا أنزل له شفاء"، وفي ما لا شفاء منه من الأدواء، وأن الأدوية لا تؤثر بذاتها بل هي أسباب تؤثر بإذن الله ذلك وأنه قد يكون في المتطبب مانع يمنع حصول الشفاء:
روى البخاري رحمه الله في صحيحه في باب ما أنزل الله داء إلا أنزل له شفاء
5354 حدثنا محمد بن المثنى حدثنا أبو أحمد الزبيري حدثنا عمر بن سعيد بن أبي حسين قال حدثني عطاء بن أبي رباح عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال ما أنزل الله داء إلا أنزل له شفاء
قال ابن القيم في الطب النبوي:
فقد تضمَّنت هذه الأحاديثُ إثبات الأسباب والمسبِّبات، وإبطالَ قولِ مَن أنكرها، ويجوزُ أن يكون قوله((لكل داءٍ دواء))، على عمومه حتى يتناول الأدواءَ القاتِلة، والأدواء التي لا يُمكن لطبيب أن يُبرئها، ويكون الله عَزَّ وجَلَّ قد جعل لها أدويةً تُبرئها، ولكن طَوَى عِلمَها عن البَشَر، ولم يجعل لهم إليه سبيلاً، لأنه لا عِلم للخلق إلا ما علَّمهم الله، ولهذا علَّق النبي صلى الله عليه وسلم الشِّفاءَ على مصادفة الدواء لِلداء، فإنه لا شيءَ من المخلوقات إلا له ضِدّ، وكلُّ داء له ضد من الدواء يعالَج بضدِّه، فعلَّق النبيصلى الله عليه وسلم البُرءَ بموافقة الداء للدواء، وهذا قدرٌ زائدٌ على مجرد وجوده، فإنَّ الدواء متى جاوز درجة الداء في الكيفية، أو زاد في الكمية على ما ينبغي، نَقَلَه إلى داء آخر، ومتى قصر عنها لم يَفِ بمقاومته، وكان العلاج قاصراً، ومتى لم يقع المُداوِي على الدواء، أو لم يقع الدواء على الداء، لم يحصُل الشفاء، ومتى لم يكن الزمان صالحاً لذلك الدواء، لم ينفع، ومتى كان البدنُ غيرَ قابل له، أو القوةُ عاجزةً عن حمله، أو ثَمَّ مانعٌ يمنعُ من تأثيره، لم يحصل البُرء لعدم المصادفة، ومتى تمت المصادفة حصلَ البرءُ بإذن الله ولا بُدَّ، وهذا أحسنُ المحملَيْن في الحديث. ا.ه
فهذه أمور تتحقق بها موافقة الدواء للداء:
1.الكمية, وهي بتعبير العصر الحاضر الجرع.
2. الكيفية، ويدخل فيها طريقة إيصال الدواء، وطريقة تناوله
3. التوفيق للدواء الناجع، فالأدوية وإن كانت لمرض واحد، يختلف تأثيرهاقوة وضعفا، وبحسب شدة المرض.
4. موافقة هذا الدواء للداء, فلا يمنع مانع من وصوله إليه.5. زمن التداوي, ويدخل فيه: أوقات تناول الدواء، والعوامل الزمنية التي تؤثر في فاعلية الدواء.
6. أن يقبل الجسم الدواء فلا يرفضه.
7. قد يقبل الجسم الدواء، ويمنع من تأثيره مانع.
8. قدرة الجسم على تحمل الدواء.
وكل هذا يطول تفصيله في علم الطب، وأوجزه وحي الله إلى نبيه صلى الله عليه وسلم بأوجز عبارة, {فإذا أصيب دواء الداء}.
والأحاديث التي عناها ابن القيم رحمه الله هي الأحاديث التي ورد فيها الأمر بالتداوي وأن الله عز وجل ما أنزل داء إلا أنزل له شفاء، وهذا زيادة بيان من كلام الحافظ ابن حجر رحمه الله في بيان تلك الأحوال مستنبطة من سائر روايات الحديث..
قال الحافظ في الفتح:
قوله : ( إلا أنزل له شفاء ) في رواية طلحة بن عمرو من الزيادة في أول الحديث يا أيها الناس تداووا " ووقع في رواية طارق بن شهاب عن ابن مسعود رفعه إن الله لم ينزل داء إلا أنزل له شفاء فتداووا وأخرجه النسائي وصححه ابن حبان والحاكم ، ونحوه للطحاوي وأبي نعيم من حديث ابن عباس ، ولأحمد عن أنس إن الله حيث خلق الداء خلق الدواء ، فتداووا وفي حديث أسامة بن شريك " تداووا يا عباد الله ، فإن الله لم يضع داء إلا وضع له شفاء ، إلا داء واحدا الهرم " أخرجه أحمد والبخاري في " الأدب المفرد " والأربعة وصححه الترمذي وابن خزيمة والحاكم ، وفي لفظ إلا السام بمهملة مخففة يعني الموت . ووقع في رواية أبي عبد الرحمن السلمي عن ابن مسعود نحو حديث الباب في آخره " علمه من علمه وجهله من جهله " أخرجه النسائي وابن ماجه وصححه ابن حبان والحاكم .
ولمسلم عن جابر رفعه لكل داء دواء ، فإذا أصيب دواء الداء برأ بإذن الله - تعالى - ولأبي داود من حديث أبي الدرداء رفعه إن الله جعل لكل داء دواء فتداووا ، ولا تداووا بحرام " وفي مجموع هذه الألفاظ ما يعرف منه المراد بالإنزال في حديث الباب وهو إنزال علم ذلك على لسان الملك للنبي - صلى الله عليه وسلم - مثلا ، أو عبر بالإنزال عن التقدير . وفيها التقييد بالحلال فلا يجوز التداوي بالحرام .
وفي حديث جابر منها الإشارة إلى أن الشفاء متوقف على الإصابة بإذن الله ، وذلك أن الدواء قد يحصل معه مجاوزة الحد في الكيفية أو الكمية فلا ينجع ، بل ربما أحدث داء آخر .
وفي حديث ابن مسعود الإشارة إلى أن بعض الأدوية لا يعلمها كل أحد ، وفيها كلها إثبات الأسباب ، وأن ذلك لا ينافي التوكل على الله لمن اعتقد أنها بإذن الله وبتقديره ، وأنها لا تنجع بذواتها بل بما قدره الله - تعالى - فيها ، وأن الدواء قد ينقلب داء إذا قدر الله ذلك ، وإليه الإشارة بقوله في حديث جابر " بإذن الله " فمدار ذلك كله على تقدير الله وإرادته .
والتداوي لا ينافي التوكل كما لا ينافيه دفع الجوع والعطش بالأكل والشرب ، وكذلك تجنب المهلكات والدعاء بطلب العافية ودفع المضار وغير ذلك ، وسيأتي مزيد لهذا البحث في " باب الرقية " إن شاء الله - تعالى - .
ويدخل في عمومها أيضا الداء القاتل الذي اعترف حذاق الأطباء بأن لا دواء له ، وأقروا بالعجز عن مداواته ، ولعل الإشارة في حديث ابن مسعود بقوله وجهله من جهله إلى ذلك فتكون باقية على عمومها ، ويحتمل أن يكون في الخبر حذف تقديره : لم ينزل داء يقبل الدواء إلا أنزل له شفاء ، والأول أولى . ومما يدخل في قوله جهله من جهله " ما يقع لبعض المرضى أنه يتداوى من داء بدواء فيبرأ ثم يعتريه ذلك الداء بعينه فيتداوى بذلك الدواء بعينه فلا ينجع ، والسبب في ذلك الجهل بصفة من صفات الدواء فرب مرضين تشابها ويكون أحدهما مركبا لا ينجع فيه ما ينجع في الذي ليس مركبا فيقع الخطأ من هنا ، وقد يكون متحدا لكن يريد الله أن لا ينجع فلا ينجع ، ومن هنا تخضع رقاب الأطباء ، وقد أخرج ابن ماجه من طريق أبي خزامة وهو بمعجمة وزاي خفيفة " عن أبيه قال : قلت يا رسول الله أرأيت رقى نسترقيها ودواء نتداوى به هل يرد من قدر الله شيئا ؟ قال : هي من قدر الله - تعالى - " والحاصل أن حصول الشفاء بالدواء إنما هو كدفع الجوع بالأكل والعطش بالشرب ، وهو ينجع في ذلك في الغالب ، وقد يتخلف لمانع والله أعلم.
ثم الداء والدواء كلاهما بفتح الدال وبالمد ، وحكي كسر دال الدواء .
واستثناء الموت في حديث أسامة بن شريك واضح ، ولعل التقدير إلا داء الموت ، أي المرض الذي قدر على صاحبه الموت . واستثناء الهرم في الرواية الأخرى إما لأنه جعله شبيها بالموت والجامع بينهما نقص الصحة ، أو لقربه من الموت وإفضائه إليه .
ويحتمل أن يكون الاستثناء منقطعا والتقدير : لكن الهرم لا دواء له ، والله أعلم .
وما يذكر في الأدوية الحسية يذكر في الرقى والأدعية، ولذا قرن ذكرهما في الحديث الذي مر ذكره, {قال : قلت يا رسول الله أرأيت رقى نسترقيها ودواء نتداوى به هل يرد من قدر الله شيئا ؟ قال : هي من قدر الله - تعالى - "
وقال ابن القيم رحمه الله في الجواب الكافي(1/15):
وَالْأَدْعِيَةُ وَالتَّعَوُّذَاتُ بِمَنْزِلَةِ السِّلَاحِ، وَالسِّلَاحُ بِضَارِبِهِ، لَا بِحَدِّهِ فَقَطْ، فَمَتَى كَانَ السِّلَاحُ سِلَاحًا تَامًّا لَا آفَةَ بِهِ، وَالسَّاعِدُ سَاعِدُ قَوِيٍّ، وَالْمَانِعُ مَفْقُودٌ؛ حَصَلَتْ بِهِ النِّكَايَةُ فِي الْعَدُوِّ، وَمَتَى تَخَلَّفَ وَاحِدٌ مِنْ هَذِهِ الثَّلَاثَةِ تَخَلَّفَ التَّأْثِيرُ، فَإِنْ كَانَ الدُّعَاءُ فِي نَفْسِهِ غَيْرَ صَالِحٍ، أَوِ الدَّاعِي لَمْ يَجْمَعْ بَيْنَ قَلْبِهِ وَلِسَانِهِ فِي الدُّعَاءِ، أَوْ كَانَ ثَمَّ مَانِعٌ مِنَ الْإِجَابَةِ، لَمْ يَحْصُلِ الْأَثَرُ.
ولا يخفى أن الرقآ أدعية يتوسل إلى الله بها لحصول المقصود.
وقال أيضا رحمه الله في المصدر نفسه:
وأمراضُ الأبدان على وِزَانِ أمراض القلوب، وما جعل الله للقلب مرضاً إلا جعل له شفاءً بضده، فإنْ علمه صاحبُ الداء واستعمله، وصادف داءَ قلبِه، أبرأه بإذن الله تعالى.
وقال أيضا رحمه الله في الطب النبوي (1/126):
وَمَنْ جَرَّبَ هَذِهِ الدَّعَوَاتِ وَالْعُوَذَ، عَرَفَ مِقْدَارَ مَنْفَعَتِهَا، وَشِدَّةَ الْحَاجَةِ إِلَيْهَا، وَهِيَ تَمْنَعُ وُصُولَ أَثَرِ الْعَائِنِ، وَتَدْفَعُهُ بَعْدَ وُصُولِهِ بِحَسَبِ قُوَّةِ إِيمَانِ قَائِلِهَا، وَقُوَّةِ نَفْسِهِ، وَاسْتِعْدَادِهِ، وَقُوَّةِ تَوَكُّلِهِ وَثَبَاتِ قَلْبِهِ، فَإِنَّهَا سِلَاحٌ وَالسِّلَاحُ بِضَارِبِهِ.
وقال أيضا رحمه الله في الجواب الكافي (1/9):
وَلَوْ أَحْسَنَ الْعَبْدُ التَّدَاوِيَ بِالْفَاتِحَةِ، لَرَأَى لَهَا تَأْثِيرًا عَجِيبًا فِي الشِّفَاءِ. وَمَكَثْتُ بِمَكَّةَ مُدَّةً يَعْتَرِينِي أَدْوَاءٌ وَلَا أَجِدُ طَبِيبًا وَلَا دَوَاءً، فَكُنْتُ أُعَالِجُ نَفْسِي بِالْفَاتِحَةِ، فَأَرَى لَهَا تَأْثِيرًا عَجِيبًا، فَكُنْتُ أَصِفُ ذَلِكَ لِمَنْ يَشْتَكِي أَلَمًا، وَكَانَ كَثِيرٌ مِنْهُمْ يَبْرَأُ سَرِيعًا.
وَلَكِنْ هَاهُنَا أَمْرٌ يَنْبَغِي التَّفَطُّنُ لَهُ، وَهُوَ أَنَّ الْأَذْكَارَ وَالْآيَاتِ وَالْأَدْعِيَةَ الَّتِي يُسْتَشْفَى بِهَا وَيُرْقَى بِهَا، هِيَ فِي نَفْسِهَا نَافِعَةٌ شَافِيَةٌ، وَلَكِنْ تَسْتَدْعِي قَبُولَ الْمَحِلِّ، وَقُوَّةَ هِمَّةِ الْفَاعِلِ وَتَأْثِيرَهُ، فَمَتَى تَخَلَّفَ الشِّفَاءُ كَانَ لِضَعْفِ تَأْثِيرِ الْفَاعِلِ، أَوْ لِعَدَمِ قَبُولِ الْمُنْفَعِلِ، أَوْ لِمَانِعٍ قَوِيٍّ فِيهِ يَمْنَعُ أَنْ يَنْجَعَ فِيهِ الدَّوَاءُ، كَمَا يَكُونُ ذَلِكَ فِي الْأَدْوِيَةِ وَالْأَدْوَاءِ الْحِسِّيَّةِ، فَإِنَّ عَدَمَ تَأْثِيرِهَا قَدْ يَكُونُ لِعَدَمِ قَبُولِ الطَّبِيعَةِ لِذَلِكَ الدَّوَاءِ، وَقَدْ يَكُونُ لِمَانِعٍ قَوِيٍّ يَمْنَعُ مِنَ اقْتِضَائِهِ أَثَرَهُ، فَإِنَّ الطَّبِيعَةَ إِذَا أَخَذَتِ الدَّوَاءَ بِقَبُولٍ تَامٍّ كَانَ انْتِفَاعُ الْبَدَنِ بِهِ بِحَسْبِ ذَلِكَ الْقَبُولِ، فَكَذَلِكَ الْقَلْبُ إِذَا أَخَذَ الرُّقَى وَالتَّعَاوِيذَ بِقَبُولٍ تَامٍّ، وَكَانَ لِلرَّاقِي نَفْسٌ فَعَّالَةٌ وَهِمَّةٌ مُؤَثِّرَةٌ فِي إِزَالَةِ الدَّاءِ.
وَكَذَلِكَ الدُّعَاءُ، فَإِنَّهُ مِنْ أَقْوَى الْأَسْبَابِ فِي دَفْعِ الْمَكْرُوهِ، وَحُصُولِ الْمَطْلُوبِ، وَلَكِنْ قَدْ يَتَخَلَّفُ أَثَرُهُ عَنْهُ، إِمَّا لِضَعْفِهِ فِي نَفْسِهِ - بِأَنْ يَكُونَ دُعَاءً لَا يُحِبُّهُ اللَّهُ، لِمَا فِيهِ مِنَ الْعُدْوَانِ - وَإِمَّا لِضَعْفِ الْقَلْبِ وَعَدَمِ إِقْبَالِهِ عَلَى اللَّهِ وَجَمْعِيَّتِهِ عَلَيْهِ وَقْتَ الدُّعَاءِ، فَيَكُونُ بِمَنْزِلَةِ الْقَوْسِ الرِّخْوِ جِدًّا، فَإِنَّ السَّهْمَ يَخْرُجُ مِنْهُ خُرُوجًا ضَعِيفًا، وَإِمَّا لِحُصُولِ الْمَانِعِ مِنَ الْإِجَابَةِ: مِنْ أَكْلِ الْحَرَامِ، وَالظُّلْمِ، وَرَيْنِ الذُّنُوبِ عَلَى الْقُلُوبِ، وَاسْتِيلَاءِ الْغَفْلَةِ وَالشَّهْوَةِ وَاللَّهْوِ، وَغَلَبَتِهَا عَلَيْهَا. كَمَا فِي مُسْتَدْرَكِ الْحَاكِمِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «ادْعُوا اللَّهَ وَأَنْتُمْ مُوقِنُونَ بِالْإِجَابَةِ» . «وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ لَا يَقْبَلُ دُعَاءً مِنْ قَلْبٍ غَافِلٍ لَاهٍ» فَهَذَا دَوَاءٌ نَافِعٌ مُزِيلٌ لِلدَّاءِ، وَلَكِنَّ غَفْلَةَ الْقَلْبِ عَنِ اللَّهِ تُبْطِلُ قُوَّتَهُ، وَكَذَلِكَ أَكْلُ الْحَرَامِ يُبْطِلُ قُوَّتَهُ وَيُضْعِفُهَا. كَمَا فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «يَا أَيُّهَا النَّاسُ،إِنَّ اللَّهَ طَيِّبٌ، لَا يَقْبَلُ إِلَّا طَيِّبًا، وَإِنَّ اللَّهَ أَمَرَ الْمُؤْمِنِينَ بِمَا أَمَرَ بِهِ الْمُرْسَلِينَ، فَقَالَ: {يَاأَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ} [الْمُؤْمِنُونَ: 51] وَقَالَ: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ} [الْبَقَرَةِ: 172] ثُمَّ ذَكَرَ الرَّجُلَ يُطِيلُ السَّفَرَ أَشْعَثَ أَغْبَرَ، يَمُدُّ يَدَيْهِ إِلَى السَّمَاءِ: يَا رَبِّ يَا رَبِّ، وَمَطْعَمُهُ حَرَامٌ، وَمَشْرَبُهُ حَرَامٌ، وَمَلْبَسُهُ حَرَامٌ، وَغُذِّيَ بِالْحَرَامِ، فَأَنَّى يُسْتَجَابُ لِذَلِكَ؟» . وَذَكَرَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ فِي كِتَابِ الزُّهْدِ لِأَبِيهِ: أَصَابَ بَنِي إِسْرَائِيلَ بَلَاءٌ، فَخَرَجُوا مَخْرَجًا، فَأَوْحَى اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ إِلَى نَبِيِّهِمْ أَنْ أَخْبِرْهُمْ: إِنَّكُمْ تَخْرُجُونَ إِلَى الصَّعِيدِ بِأَبْدَانٍ نَجِسَةٍ، وَتَرْفَعُونَ إِلَيَّ أَكُفًّا قَدْ سَفَكْتُمْ بِهَا الدِّمَاءَ، وَمَلَأْتُمْ بِهَا بُيُوتَكُمْ مِنَ الْحَرَامِ، الْآنَ حِينَ اشْتَدَّ غَضَبِي عَلَيْكُمْ؟ وَلَنْ تَزْدَادُوا مِنِّي إِلَّا بُعْدًا. وَقَالَ أَبُو ذَرٍّ: يَكْفِي مِنَ الدُّعَاءِ مَعَ الْبِرِّ، مَا يَكْفِي الطَّعَامَ مِنَ الْمِلْحِ.
وقال الشيخ محمد بن صالح العثيمين رحمه الله:
إن تأثير الإنسان في قراءته على حسب إخلاصه ونيته، والذي ينبغي للقراء الذين ينفع الله بهم أن يخلصوا النية لله عز وجل، وأن ينووا بذلك- أي: بقراءتهم على المرضى- التقرب إلى الله، والإحسان إلى عباد الله، حتى ينفع الله بهم، ويجعل في قراءتهم خيراً وبركة.
فتاوى نور على الدرب (/4/2.
فأياك ونفسي الظالمة من التسخط، وانتظار الفرج عبادة كما جاء في بعض الآثار عن بعض السلف، والله أعلم.
تعليق