بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله نحمده و نستعينه ونستغفره ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضلّ له ومن يضلل فلا هادي له ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله ، صلى الله عليه وعلى آله ومن تبعه بإحسان إلى يوم الدين
فإن المسلم البصير في دينه إنما يعبد الله عز وجل على علم وهدى ، بعيداً عن الأهواء والتعصب ، والعواطف الهيّاجة ، لأن صاحب الهوى يسير حسب مصلحته ، أو يميل إلى الكثرة خوفاً من مصادمتها ومواجهة المضايقات والمتاعب من جرّاء الوقوف أمامها
ثم لا يهتم بدراسة المسألة ومعرفة أصولها , لكن المسلم الواعي لا تؤثر به العواطف ولا ينجرّ خلف الأهواء والعصبيات والعادات والتقاليد , بل دائماً يبحث عن الحق بدليله من الكتاب والسنة وفهم سلف الأمة ، فإذا قام الدليل على أمر ما ؛ أصبح عقيدة عنده لا تتغيّر ولا تتبدّل .
فإذا علم ما سبق عرفنا حكم أي مسألة تواجهنا ، خاصة المسائل التي يخوض فيها الناس كثيراً بحيث يصبح الشخص حيراناً لا يدري الحق مع من ؟! . وهذه الحيرة حصلت بسبب تزيين الباطل بغشاء الحق , لكن المسألة إذا جُليت بالحق الصافي فلا يمكن أن تسبب للشخص حيرة أبداً .
ونحن في هذا البحث سنتكلم عن المسجد الإبراهيمي من حيث تاريخه ومراحل تطوره إلى أن أصبح مسجداً ، ومن حيث وجود القبور فيه ، وهل تصح الصلاة فيه مع وجود القبور، وموقف العلماء من ذلك ، والشبهات التي يتمسّك بها من يجعله مسجدا تصح الصلاة فيه إلى آخر ذلك ، فهذه مسألة مهمة تمسّ عقيدة المسلمين وتمس واقعهم ، وكيف أنهم بجهلهم وبعدهم عن دينهم – إلاّ من رحم الله – يقعون في المحظور معتمدين على القصص والحكايات ، وعلى العواطف والسياسات , فضلا عن الروايات المكذوبة والأحاديث الضعيفة , لكن حجة الله باقية إلى يوم القيامة يتلقفها المسلم الواعي بصدرٍ منشرح.
ويتكون هذا البحث من ثلاثة فصول وخاتمة :
الفصل الأول : تاريخ المسجد الإبراهيمي ، وفيه أربعة مباحث :
المبحث الأول : التعريف بالمقبرة الإبراهيمية .
المبحث الثاني : من الذي بنا هذا البناء أو السور حول المقبرة ؟
المبحث الثالث : هل كان هذا المكان معروفاً زمن النبي .
المبحث الرابع : متى تحولت المقبرة الإبراهيمية إلى مسجد يصلى فيه ؟
الفصل الثاني : ذكر المخالفات الشرعية الموجودة في هذا المكان .
وفيه أربعة مباحث :
المبحث الأول : المقامات الموجودة داخله , وحكمها .
المبحث الثاني : إطلاق القول عليه بأنه حرم .
المبحث الثالث : شد الرّحال إليه , وحكمه .
المبحث الرابع : بدع أخرى موجودة إلى اليوم .
الفصل الثالث : الموقف الصحيح من المسجد الإبراهيمي ، وفيه ثلاثة مباحث :
المبحث الأول : حكم بناء المساجد على القبور والصلاة فيها.
المبحث الثاني : أقوال العلماء في هذا المكان وغيره .
المبحث الثالث : الشبهات التي يتمسّك بها من يجيز الصلاة في هذا المكان ، وفيه ثلاثة مطالب :
المطلب الأول : الشبهات الشرعية .
المطلب الثاني : شبهات تعتمد على العادات والتقاليد والتراث .
المطلب الثالث : شبهات تعتمد على الأوضاع السياسية .
وأسأل الله أن يبصرنا في ديننا ، ويجعل أعمالنا خالصة لوجهه الكريم ، وأن يجمع شمل المسلمين ، ويوحد صفهم على الحق ، إنه جواد كريم .
الفصل الأول : تاريخ المسجد الإبراهيمي
المبحث الأول : التعريف بالمقبرة الإبراهيمية المقبرة هي موضع القبور ، والقبر : هو مدفن الإنسان ، من قَبَرَهُ يُقْبِرُهُ ويَقْبِرُهُ قَبْرَاً ومَقْبَرَاً : أي دفنه . وأَقْبَرَهُ: جعله قَبْرَاً .
والمقبرة الإبراهيمية : نسبة إلى إبراهيم الخليل عليه السلام حيث دُفن هو وعائلته فيها . وهذا المكان يقع في مدينة الخليل في الجهة الجنوبية الشرقية في المدينة . وهذه المقبرة يحيطها سور كبير أحجاره ضخمة جدا ، وكان هذا السور مغلقا وليس له سقف ، وكان يحيط بالمغارة التي دفن فيها إبراهيم عليه السلام .
ومسألة دفن إبراهيم عليه السلام في هذا المكان لا يوجد عليه دليل من الكتاب أو السنة , لأن هذا أمر غيبي لابد من دليل لمعرفته ، لكن كتب التاريخ أجمعت على أن إبراهيم عليه السلام مدفون في هذا المكان من غير أن يحدّدوا موضع القبر بعينه كما هو بالنسبة إلى قبر النبي .
قال ابن كثير رحمه الله : " فقبره [ أي إبراهيم عليه السلام ] وقبر ولده إسحاق وقبر ولد ولده يعقوب في المربعة التي بناها سليمان بن داود عليه السلام ببلد حبرون ، وهو البلد المعروف بالخليل اليوم ، وهذا متلقى بالتواتر أمة بعد أمة وجيلاً بعد جيل من زمن بني إسرائيل وإلى زماننا هذا , أن قبره بالمربعة تحقيقاً ، فأمّا تعيينه منها فليس فيه خبر صحيح عن المعصوم " . انتهى
المبحث الثاني : من الذي بنى هذا البناء أو السور الذي حول المقبرة ؟ وأما بناء السور فلم يثبت أن سليمان عليه السلام قد بناه ، ويقول العامة أن الذي بناه هم الجن وهذا من الخرافات ، وإنما قالوا ذلك لأن هذا القبور من أن تهان أو تتأثر بالعوامل الخارجية , وكذلك – والله أعلم – ليُعرف أن هذا المكان فيه قبور كيلا يبنى عليه أي بناء، بدليل أن سقفه كان مفتوحا ولا يوجد له باب لدخوله .
ثم جاء العهد الروماني فسقفوا سقفه وبنو فوق السور بناء آخر بحيث جعلوه كنيسة يتعبّدون
فيها , وفي نفس الوقت حصنا يتحصّنون فيه عند غزو الأعداء . ( فالناظر إليه اليوم يجده بشكله يشبه الحصن أكثر مما يشبه غيره ) ، وكان ذلك عام ( 37 ) قبل الميلاد . ثم جُدّد مرة أخرى إلى كنيسة عام ( 1172 م ) تحت حكم الإفرنج .
المبحث الثالث : هل كان هذا المكان معروفا زمن النبي :
جاءت بعض الروايات في كتب التاريخ عن تميم الداري رضي الله عنه أن النبي أقطعه الأرض التي بها بلد إبراهيم الخليل عليه السلام وما حولها ، فجاء في الروايات ذكر ( بيت إبراهيم ) و ( مسجد إبراهيم ) و ( آثار إبراهيم ) . وهذه الروايات لم تثبت عن النبي ، بحيث ذُكرت بأسانيد واهية ومنقطعة .
وأما ما رُوي عن النبي أنه قال : لما أسري بي إلى بيت المقدس مرّ بي جبريل عليه السلام على قبر إبراهيم عليه السلام فقال لي انزل فصلّ ركعتين ها هنا فإن ها هنا قبر أبيك إبراهيم عليه السلام.
ورُوي أيضا أنه قال : من لم يمكنه زيارتي فليزر قبر أبي إبراهيم الخليل عليه السلام .
فهذه الأحاديث وغيرها لم تصح عن النبي ، بل هي مكذوبة موضوعة على النبي ، كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية وغيره . المبحث الرابع : متى تحوّلت المقبرة الإبراهيمية إلى مسجد يصلّى فيه ؟
اعلم – رحمك الله – أنه لا يجوز أن تحوّل المقبرة إلى مسجد للعبادة ، وذلك سدّا للذريعة وخوفا من أن يؤدي هذا الأمر إلى عبادة أصحاب هذه القبور – والعياذ بالله – كما حصل مع قوم نوح عليه السلام ، وما يحصل اليوم عند قبر علي والحسن والحسين ، وعند مشهد السيدة زينب في مصر ، إلى غير ذلك من مظاهر الشرك المنتشرة في بلاد الإسلام .
وهذا المكان ( أي المقبرة الإبراهيمية ) معروف منذ مئات السنين على أنه مقبرة ولم يكن مسجداً ولا معبداً , لكن لما كان من دين اليهود والنصارى بناء المساجد أو المعابد فوق قبور الصالحين كما جاء في الصحيحين من حديث أم حبيبة وأم سلمة ذكرتا كنيسة رأينها بالحبشة فيها تصاوير فذكرتا للنبي صلى الله عليه وسلم فقال : " إن أولئك إذا كان فيهم الرجل الصالح فمات بنوا على قبره مسجداً وصوروا فيه تلك التصاوير , فأولئك شرار الخلق عند الله يوم القيامة " فقاموا إلى هذا المكان ونقبوه وفتحوا له باباً وبنو عليه كنيسة وجعلوه مركزاً دينياً لهم , له مكانته المقدسة عندهم .
ثم جاء بعد ذلك الفتح الإسلامي , وقلَّد بعض الناس من المسلمين اليهود والنصارى في تعظيم الصالحين , فقالوا نحن أحق بالأنبياء منهم , وحوّلوا هذا المكان من كنيسة إلى مسجد ـ ولا حول ولا قوة إلا بالله ـ وصدق فيهم قول النبي صلى الله عليه وسلم كما في الصحيحين من حديث أبي سعيد الخدري أنه قال :" لتتبعن سنن من كان قبلكم شبراً بشبر وذراعاً بذراع حتى لو دخلوا جحر ضبٍ لدخلتموه , قالوا يا رسول الله : اليهود والنصارى ؟ قال : فمن ؟! " .ويمكن أن يقال : إن الذين حوّلوا هذا المكان إلى مسجدٍ يصلى فيه هم الفاطميون في زمن الدولة الفاطمية على أيدي الخلفاء الفاطميين .
يقول أحد الكتّاب : " ومن التقاليد التي استحدثها الفاطميون ورسخت في عهد المماليك تشييد القباب فوق القبور وإنشاء المساجد فوق قبور الأولياء والبارزين من الرجال " .(1)والفاطميّون هم من الشيعة الغلاة الذين ابتدعوا في الدين ما لم يأذن به الله عز وجل , مثل بدعة " حي على خير العمل " في الآذان , ولعن أبي بكر وعمر في الخطب وعلى أبواب المساجد , وبدع تعظيم القبور والبناء عليها , وبدع يوم عاشوراء من اللطم و الشق , وبدع الاحتفال بالمولد النبوي ...الخ .
قال الحافظ ابن كثير رحمه الله : " وقد كان الفاطميون أغنى الخلفاء وأكثرهم مالاً , وكانوا من أغنى الخلفاء وأجبرهم وأظلمهم وأنجس الملوك سيرة وسريرة , ظهرت في دولتهم البدع والمنكرات وكثر أهل الفساد وقل عندهم الصالحون من العلماء والعباد , وكثر بأرض الشام النصرانية و الدرزية و الحشيشية , وتغلب الفرنج على سواحل الشام [ أي بسببهم ] حتى أخذوا القدس و نابلس ... الخ .(2)
فإذا عُلم ما سبق فلا يجوز لنا أن نقول على فعلهم هذا أنه جائز وأنه من التراث الإسلامي والمقدسات الإسلامية , لأن عملهم هذا مخالف للكتاب والسنة وهدي سلف الأمة .
وقد جاء في بعض الكتب التصريح بأن هذا المكان حُوِّل إلى مسجد , فقالوا " وقد صار [ أي السور المحيط بالمقبرة ] مسجداً "(3), وأيضاً " وقد جُعل الحير [ أي السور ] مسجداً , وبني حوله دور للزوار "(4) . وقالوا :" ما من بناءٍ يقع عليه نظرك إلا ألهمك الغرض الذي أنشأ لأجله من أول وهلة وبأقل عناء , فأنت بمجرد نظرة ترسلها على أي بناء تصادفه تعرف إن كان معبداً , أو حصناً , أو قصراً , أو مدرسة أو ملعباً , كأنما تكلمك حجارته بلسان مبين .
غير أن الأمر على الضد من ذلك فيما يتعلق بالحرم الإبراهيمي . فلو أنا جردناه من البنايات الطارئة عليه في عصورٍ مختلفة كالمآذن , والقباب , والشرفات , وتصورناه سوراً ضخماً لا باب له , ضُرب على رقعة صغيرة من الأرض لأشكل علينا شأنه ولو درنا حوله وتأملناه من أسفله أومن أعلاه ...الخ(5).الفصل الثاني : ذكر المخالفات الشرعية الموجودة في هذا المكان :
المبحث الأول : المقامات الموجودة فيه , وحكمها :إن بناء المقامات والمشاهد على القبور لهو من عمل اليهود والنصارى ابتداءً ثم قلدهم عليه المسلمون لجهلهم انتهاءً , وكانت الدولة الفاطمية هي التي قامت بهذا الفعل , وتتابع الناس على هذا الأمر حتى ظنوا أنه من الإسلام ومن احترام أصحاب القبور .
وحكم بناء أي شيء على القبور من مقامات أو مشاهد أو قباب أو حتى بناء القبور من الأحجار وليس من التراب أو الكتابة عليها , كل هذا حرام لا يجوز في شريعة الإسلام , لما روى مسلم من حديث جابر رضي الله عنه قال :" نهى النبي صلى الله عليه وسلم أن يجصص القبر وأن يبنى عليه وأن يقعد عليه " . وفي رواية صحيحة لأبي داود " وأن يكتب عليه " .
وهذه المقامات قيل عنها أنها عبارة عن إشارات ومعالم لقبور الأنبياء الموجودة تحت المغارة , ولكن مع ذلك فالإسلام يحكم بالظاهر , والناظر في هذه المقامات يجد أنها تحتوي على القبور , فالحكم هوهو لا يتغير.
وقد قام كثير من الناس بتعظيم هذه المقامات والأضرحة وكسوتها بالأقمشة الفاخرة ووضع البخور والقناديل , وفرشها بالبساط الفاخر , وكل هذا من البدع المنكرة والعياذ بالله .المبحث الثاني : إطلاق القول عليه بأنه حرم .
لا يصح أن يطلق على أي مكان أنه حرم إلا بنص من الكتاب أو السنة , والحرم من التحريم : أي تحريم القيام بأعمال معينة , فهو يترتب عليه أحكام شرعية كعدم جواز الصيد في هذا المكان , وعدم قلع الأشجار وأخذ اللقطة إلى غير ذلك من الأحكام , فقد ثبت في الصحيحين من حديث أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " إن إبراهيم حرّم مكة , وإني أحرم المدينة ما بين لابتيها " , فأين الدليل على أن هذا المكان قد حُرِّم من الله ورسوله .
بل لا يجوز أن يطلق على المسجد الأقصى أنه حرم , لأنه لم يثبت دليل على ذلك من الكتاب و السنة , قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله : " و الأقصى : اسم للمسجد كله , ولا يسمى هو ولا غيره حرماً وإنما الحرم بمكة و المدينة خاصة " .(6)المبحث الثالث : شد الرحال إليه , وحكمه .شد الرحال في الشرع : أي قصد مكان من الأمكنة والسفر إليه لإقامة الشعائر الدينية عنده , من الدعاء والصلاة والبركة , اعتقاداً منهم أن المكان له ميزة وفضل يميزه عن سائر الأمكنة , وهذا العمل لا يجوز إلا إلى الثلاثة مساجد , ففي الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد , المسجد الحرام والمسجد الأقصى ومسجدي هذا " , فقصد هذه الأماكن والسفر إليها للعبادة والدعاء والذكر و الاعتكاف ...الخ جائز شرعا بل حض الشارع الحكيم على الذهاب إلى هذه الأماكن .
وما سوى هذه المساجد أو الأماكن لا يشرع السفر إليه باتفاق أهل العلم .(7)فلا يجوز تخصيص مسجد من المساجد والسفر إليه إلا إلى الثلاثة مساجد , فكيف إذا كان المكان ليس مسجداً , وإنما هو مقابر أو مقامات أو مشاهد أو غير ذلك , فلا شك أن التحريم أشد وأغلظ .
فعن علي رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه و سلم قال :" لا تتخذوا قبري عيداً " (
فنهى النبي صلى الله عليه وسلم أن نتخذ قبره عيداً , والعيد إذا جُعل اسما للمكان : فهو المكان الذي يقصد الاجتماع فيه وإتيانه للعبادة أو لغير العبادة , فان العيد من المعاودة : أي الاجتماع في الأمكنة واعتياد قصدها .
فهذا قبر النبي صلى الله عليه وسلم ـ وهو أفضل القبور ـ نهينا أن نتخذه عيدا ومزارا ومجمعا للقاء , إلا إذا زار المسلمون مسجده سُنّ لهم أن يذهبوا إلى قبره ويسلموا عليه فقط دون الدعاء أو غيره .
فإذا كان هذا هو حال قبر النبي صلى الله عليه وسلم , فقبور غيره من الأنبياء فضلا عن الأولياء والصالحين من باب أولى أن لا يشد الرحال إليها , أو الاجتماع عندها لان هذا من الأعمال المنكرة والمردودة .المبحث الرابع : بدع أخرى موجودة في هذا المكان : مما ذكرنا سابقاً عدم جواز قصد هذا المكان للعبادة , ومن المؤسف أن هذا المكان يُعد مزاراً مقدساً يأتيه الناس من كل فج عميق فيقصدونه للعبادة و الدعاء عند قبوره والتبرك بآثاره , وانتظار البركات والفيوضات الروحية , وهذا العمل ورثه الناس من أسلافهم دون أن يكون لهم أدنى دليل على ذلك .وقد وصفت بعض الكتب هذا المكان على أنه محطة أنظار الزوّار بحيث يأتونه ويتبركون به ويدعون عنده , وقد بنيت لهم دور بجانب القبور بقصد الاعتكاف عندها وانتظار المدد والبركات .● قال صاحب معجم البلدان : " وهناك [ أي في قبر إبراهيم عليه السلام ] مشهد زوّار وقوّام في الموضع وضيافة للزوّار " . (9)
● قال صاحب كتاب آثار البلاد وأخبار العباد : " وفي الموضع ضيافة للزوار , وهو موضع طيب نزه آثار البركة ظاهرة عليه ." (10)
● قال صاحب المراصد ـ صفي الدين بن عبد الحق ـ سنة 700ه : " الخليل بلدة بها حصن وعمارة وسوق , بينها و بين القدس يوم , فيها قبر الخليل واسحاق ويعقوب ويوسف في المغارة تحت الأرض وعلى المغارة الآن بناء عليه سور دائر متسع , به قوّام وضيافة لمن يقصدونه للزيارة ". (11)
● قال الراهب فلكس فابري 1480 م :" وشاهدنا في الخليل نزلها الكبير , الكثير الغرف ورأينا المطبخ والفرن وكانوا يعدّون طعاماً كثيراً للحجاج المسلمين الذين يأتون جماعات كبيرة لزيارة قبور الأنبياء " . (12)
● قال التلمساني لما وقف عند قبر الخليل عليه السلام :
خليل الله قد جئناك نرجو شفاعتك التي ليست ترد
أنلنا دعوة واشفع تشفع إلى من لا يخيب لديه قصد
وقل يا رب أضياف ووفد لهم بمحمد صلة وعهد
أتوا يستغفرونك من ذنوب عظام لا تعد ولا تحد (13)
● قال النابلسي : وطائفة الدّارية للآن من أعيان البلاد الخليلية , ولهم هناك المشيخة القادرية , يجعلون الذكر كل يوم جمعة بمسجد الخليل ".
(14)
● قال صاحب " مسالك الأمصار في ممالك الأمصار " : وكان قدومنا هذه المرة على الخليل يوم الاثنين لأربع وعشرة ليلة خلت من ذي الحجة سنة خمس وأربعين وسبعمائة :" فبتنا ليلتنا نتبرك بما حوت تلك القبور من العظام , و نعفِّر الوجوه في تلك البقعة المشرفة في مواضع أقدام أولئك الأقوام " . (15)
● قال ناصر خسرو الذي زار المكان عام 438 ه : " حين يخرج السائر من المقصورة إلى وسط ساحة المشهد , يجد مشهدين أمام القبلة : الأيمن به قبر إبراهيم الخليل , وهو مشهد كبير , و من داخله مشهد آخر لا يستطاع الطواف حوله ,ولكن له أربع نوافذ يرى منها.
فيراه الزائرون وهم يطوفون حول المشهد الكبير[هذا الشرك بعينه] وقد كسيت أرضه و جدرانه ببسط من الديباج والقبر من الحجر وارتفاعه ثلاثة أذرع . وعلق به كثير من القناديل والمسارج والمصابيح الفضية[ وهي موجودة إلى الآن ]...الخ.(16)
● قال محمد اسحق النحوي : " خرجت مع القاضي أبي عمرو وعثمان بن جعفر بن سادات إلى قبر إبراهيم عليه السلام , فأقمنا ثلاثة أيام (17) [ أي عند القبر ].
إن انتشار التصوف في تلك الأزمان ساعد على وجود هذه البدع التي يفعلها كثير من الناس وإلى اليوم , وقد كانت مدينة الخليل تعج بالمتصوفة والزوايا الصوفية , يقول أحد الكتاب:( ولعل وجود وسائل الإقامة في المدينة [ أي الخليل ] كالرباط والسماط , كانت ذات أثر في استقطاب العلماء الزهاد والمتصوفة المسلمين للإقامة بجوار الحضرة الخليلية الشريفة عبر السنين . (1
ومن البدع أيضا وجود الزخارف في ذلك المكان, و قد جاء في هذا نهي عن النبي صلى الله عليه وسلم حيث قال: " إذا زخرفتم مساجدكم ,وحليتم مصاحفكم فالدمار عليكم " (19). وهذا العمل يكلف الأموال الباهظة ويدخل في الإسراف المنهي عنه,وفيه تشبه باليهود والنصارى , فعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم" ما أمرت بتشييد المساجد " ثم قال ابن عباس:" لتزخرفنها كما زخرفت اليهود والنصارى". (20)
ومن البدع الموجودة اليوم ما يفعله المؤذنون من التهليل والذكر قبيل صلاة الجمعة , وأيضا الأذان الجماعي فكل هذا من البدع المحدثة التي لم تكن على عهد النبي صلى الله عليه وسلم ولا في عهد الصحابة رضي الله عنهم. ومن هذه التهليلات ما يكون فيها مخالفات شرعية, أذكر منها قولهم : " لولاه [ أي النبي صلى الله عليه وسلم ] ما كانت الأكوان , ولا خلق إنس قبله ولا جان " . وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم:" لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى بن مريم,ولكن أنا عبد فقولوا عبد الله ورسوله " مق . وقولهم هذا: مبناه على الأحاديث المكذوبة على النبي منها " لولاك ما خلقت الأكوان " , " ولولاك ما خلقت الجنة والنار" (21), إلى غير ذلك من الأحاديث الواهية .
الفصل الثالث : الموقف الصحيح من المسجد الإبراهيمي :
المبحث الأول : حكم بناء المساجد على القبور , والصلاة فيها :
لقد تواترت النصوص عن النبي صلى الله عليه وسلم بالنهي عن اتخاذ القبور مساجد والتغليظ فيه , وقد صرّح عامة علماء الطوائف بالنهي عنه متابعة للأحاديث , ولا ريب في القطع بتحريمه , لما روى مسلم في صحيحه عن جندب بن عبد الله البجلي قال : سمعت النبي صلى الله عليه وسلم قبل أن يموت بخمس وهو يقول " ألا وإن من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم مساجد ألا فلا تتخذوا القبور مساجد فاني أنهاكم عن ذلك " .
وعن عائشة رضي الله عنها , وعبد الله بن عباس رضي الله عنهما قالا : لما نزل برسول الله طفق يطرح خميصة له على وجهه فإذا اغتم كشفها , فقال وهو كذلك : لعنة الله على اليهود و النصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد " يحذر ما صنعوا , أخرجه البخاري ومسلم . وأخرجا عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله قال : " قاتل الله اليهود اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد " .
وعن عائشة رضي الله عنها قالت : لما كان مرض النبي صلى الله عليه وسلم تذاكر بعض نسائه كنيسة بأرض الحبشة يقال لها : مارية , وقد كانت أم حبيبة وأم سلمة قد أتتا أرض الحبشة فذكرتا من حسنها و تصاويرها , قالت : فرفع النبي صلى الله عليه وسلم رأسه فقال : أولئك إذا كان فيهم الرجل الصالح بنوا على قبره مسجداً ثم صوروا تلك الصور أولئك شرار الخلق عند الله يوم القيامة " متفق عليه .
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " اللهم لا تجعل قبري وثناً , لعن الله قوماً اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد " .
وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " إن من شرار الناس من تدركه الساعة وهم أحياء , ومن يتخذ القبور مساجد " . (22)
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال : لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم زائرات القبور , والمتخذين عليها المساجد والسرج " . (23)
فتبين مما سبق أن بناء المساجد على القبور من الكبائر العظام المتوعد أصحابها باللعنة والوعيد والغضب , لأن في هذا العمل تعظيم للأموات , ووسيلة من وسائل الشرك الأكبر ـ والعياذ بالله ـ .
ومعنى اتخاذ القبور مساجد : أي بناء المساجد على القبور وقصد الصلاة فيها .
وقد جاء النهي عن بناء المساجد على القبور خشية الصلاة فيها , فإذا كان البناء منهي عنه , فالصلاة فيها منهي عنه من باب أولى , فالنهي عن الوسيلة يستلزم النهي عن الغاية بالأولى والأحرى . وقد اتفقت المذاهب الأربعة على تحريم بناء المساجد على القبور . وسيأتي التفصيل في المبحث الثاني .
المبحث الثاني : أقوال العلماء في هذا المكان وغيره :
أفضل من تكلم في هذا الباب شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله , فله كلام رائع جميل يبين فيه تاريخ المقبرة الإبراهيمية , ويبين الحكم والموقف الصحيح اتجاهه , وموقف الصحابة والعلماء منه .
قال رحمه الله تعالى : " ولما كان اتخاذ القبور مساجد و بناء المساجد عليها محرما و لم يكن شيء من ذلك على عهد الصحابة و التابعين لهم بإحسان و لم يكن يعرف قط مسجد على قبر , و كان الخليل عليه السلام في المغارة التي دفن فيها و هي مسدودة لا أحد يدخل إليها و لا تشد الصحابة الرحال لا إليه و لا إلى غيره من المقابر لأن في الصحيحين من حديث أبى هريرة و أبى سعيد رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال :" لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد المسجد الحرام و المسجد الأقصى و مسجدي هذا " , فكان يأتي من يأتي منهم إلى المسجد الأقصى يصلون فيه ثم يرجعون لا يأتون مغارة الخليل و لا غيرها . و كانت مغارة الخليل مسدودة حتى استولى النصارى على الشام في أواخر المائة الرابعة ففتحوا الباب و جعلوا ذلك المكان كنيسة ثم لما فتح المسلمون البلاد اتخذه بعض الناس مسجدا. و أهل العلم ينكرون ذلك والذي يرويه بعضهم في حديث الإسراء " أنه قيل للنبي صلى الله عليه و سلم هذه طيبة إنزل فصل فنزل فصلى , هذا مكان أبيك إنزل فصل " , كذب موضوع , لم يصلِّ النبي صلى الله عليه و سلم تلك الليلة إلا في المسجد الأقصى خاصة كما ثبت ذلك في الصحيح , و لا نزل إلا فيه .و لهذا لما قدم الشام من الصحابة من لا يحصى عددهم إلا الله , و قدمها عمر بن الخطاب لما فتح بيت المقدس و بعد فتح الشام لما صالح النصارى على الجزية و شرط عليهم الشروط المعروفة و قدمها مرة ثالثة حتى و صل إلى سرغ و معه أكابر السابقين الأولين من المهاجرين و الأنصار فلم يذهب أحد منهم إلى مغارة الخليل و لا غيرها من آثار الأنبياء التي بالشام لا ببيت المقدس و لا بدمشق و لا غير ذلك ...الخ(24) .
وقال رحمه الله : " فقد علم بالنقل المتواتر بل علم بالاضطرار من دين الإسلام أن رسول الله صلى الله عليه وسلم شرع لأمته عمارة المساجد بالصلوات والاجتماع للصلوات الخمس ولصلاة الجمعة والعيدين وغير ذلك , وأنه لم يشرع لأمته أن يبنوا على قبر نبي ولا رجل صالح لا من أهل البيت ولا غيرهم لا مسجدا ولا مشهدا ولم يكن على عهده صلى الله عليه وسلم في الإسلام مشهد مبني على قبر وكذلك على عهد خلفائه الراشدين وأصحابه الثلاثة وعلي بن أبي طالب ومعاوية لم يكن على عهدهم مشهد مبني لا على قبر نبي ولا غيره لا على قبر إبراهيم الخليل ولا على غيره .
بل لما قدم المسلمون إلى الشام غير مرة ومعهم عمر بن الخطاب وعثمان ابن عفان وعلي بن أبي طالب وغيرهم ثم لما قدم عمر لفتح بيت المقدس ثم لما قدم لوضع الجزية على أهل الذمة ومشارطتهم, ثم لما قدم إلى سرغ , ففي جميع هذه المرات لم يكن أحدهم يقصد السفر إلى قبر الخليل ولا كان هناك مشهد بل كان هناك البناء المبني على المغارة وكان مسدودا بلا باب له مثل حجرة النبي صلى الله عليه وسلم .
ثم لم يزل الأمر هكذا في خلافة بني أمية وبني العباس إلى أن ملك النصارى تلك البلاد في أواخر المائة الخامسة فبنوا ذلك البناء واتخذوه كنيسة ونقبوا باب البناء فلهذا تجد الباب منقوبا لا مبنيا ثم لما استنقذ المسلمون منهم تلك الأرض اتخذها من اتخذها مسجدا .
بل كان الصحابة إذ رأوا أحدا بني مسجدا على قبر نهوه عن ذلك ولما ظهر قبر دانيال بتستر كتب فيه
أبو موسى الأشعري رضي الله عنه إلى عمر رضي الله عنه , فكتب إليه عمر أن تحفر بالنهار ثلاثة عشر قبرا وتدفنه بالليل في واحد منها لئلا يفتتن الناس به .
وكان عمر بن الخطاب إذا رآهم يتناوبون مكانا يصلون فيه لكونه موضع نبي , ينهاهم عن ذلك ويقول إنما هلك من كان قبلكم باتخاذ آثار أنبيائهم مساجد من أدركته الصلاة فيه فليصل وإلا فليذهب .
فهذا وأمثاله مما كانوا يحققون به التوحيد الذي أرسل الله به الرسول إليهم ويتبعون في ذلك سنته صلى الله عليه وسلم . والإسلام مبني على أصلين أن لا نعبد إلا الله وأن نعبده بما شرع لا نعبده بالبدع . (25)
وقال أيضاً : " ومعلوم أن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم من السابقين الأولين والتابعين لهم بإحسان قد فتحوا البلاد بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم وسكنوا بالشام والعراق ومصر وغير هذه الأمصار , وهم كانوا أعلم بالدين وأتبع له ممن بعدهم وليس لأحد أن يخالفهم فيما كانوا عليه ,
فما كان من هذه البقاع لم يعظموه أو لم يقصدوا تخصيصه بصلاة أو دعاء أو نحو ذلك لم يكن لنا أن نخالفهم في ذلك وإن كان بعض من جاء بعدهم من أهل الفضل والدين فعل ذلك ,لأن اتباع سبيلهم أولى من اتباع سبيل من خالف سبيلهم (*) وما من أحد نقل عنه ما يخالف سبيلهم إلا وقد نقل عن غيره ممن هو أعلم منه وأفضل أنه خالف سبيل هذا المخالف وهذه جملة جامعة لا يتسع هذا الموضع لتفصيلها... إلى أن قال :
" بل قبر إبراهيم الخليل عليه الصلاة والسلام لم يكن في الصحابة ولا التابعين لهم بإحسان من يأتيه للصلاة عنده ولا الدعاء , ولا كانوا يقصدونه للزيارة أصلا . وقد قدم المسلمون إلى الشام غير مرة مع عمر بن الخطاب واستوطن الشام خلائق من الصحابة وليس فيهم من فعل شيئا من هذا ولم يبن المسلمون عليه مسجدا أصلا , لكن لما استولى النصارى على هذه الأمكنة في أواخر المائة الرابعة لما أخذوا البيت المقدس بسبب استيلاء الرافضة على الشام , و لما كانوا ملوك مصر والرافضة أمة مخذولة ليس لها عقل صحيح ولا نقل صريح ولا دين مقبول ولا دنيا منصورة , قويت النصارى وأخذت السواحل وغيرها من الرافضة وحينئذ نقبت النصارى حجرة الخليل صلوات الله عليه وجعلت لها بابا وأثر النقب ظاهر في الباب فكان اتخاذ ذلك معبدا مما أحدثته النصارى ليس من عمل سلف الأمة وخيارها . " (26)
قال ابن حجر الهيتمي الشافعي : " ... قال أصحابنا : تحرم الصلاة إلى قبور الأنبياء والأولياء تبركا وإعظاما ومثلها الصلاة عليه للتبرك والإعظام وكون هذا الفعل كبيرة ظاهرة من الأحاديث المذكورة لما علمت فقال بعض الحنابلة قصد الرجل الصلاة عند القبر متبركا به عين المحادة لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم وابتداع دين لم يأذن به الله للنهي عنها ثم إجماعا فإن أعظم المحرمات وأسباب الشرك الصلاة عندها واتخاذها مساجد أو بناؤها عليها والقول بالكراهة محمول على غير ذلك إذ لا يظن بالعلماء تجويز فعل تواتر عن النبي صلى الله عليه وسلم لعن فاعله ويجب المبادرة لهدمها وهدم القباب التي على القبور إذ هي أضر من مسجد الضرار لأنها أسست على معصية رسول الله صلى الله عليه وسلم لأنه نهى عن ذلك وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بهدم القبور المشرفة وتجب إزالة كل قنديل أو سراج على قبر ولا يصح وقفه ونذره . انتهى (27
ا)
قال القرطبي المالكي : " قال علماؤنا : وهذا يحرم على المسلمين أن يتخذوا قبور الأنبياء والعلماء مساجد " .
وقال الإمام محمد من الحنفية : " لا نرى أن يزاد على ما خرج من القبر , ونكره أن يجصص أو يطين أو يجعل عنده مسجداً " . والكراهة عند الحنفية إذا أطلقت فهي للتحريم كما هو معروف لديهم .(2
فإذا عُلم ما سبق تبين إجماع العلماء على تحريم البناء على القبور , و إن كانت قبور الأنبياء .
المبحث الثالث :الشبهات التي يتمسك بها من يجيز الصلاة في هذا المكان :
المطلب الأول :الشبهات الشرعية :
اعلم ـ رحمك الله ـ أن الشبهات والشهوات من عوائق التوحيد , وقد ذم الله تعالى إتباع الشبهات حيث قال " فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله " , وقال عليه الصلاة والسلام : " ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام " . ومن هذه الشبهات التي استدلوا بها :
● أن المقبرة إذا مضى عليها أكثر من أربعين سنة فإنها لا تكون مقبرة , ويذهب عنها حكم المقابر .
وهذا الكلام لا دليل عليه في الكتاب والسنة , ولم يثبت في ذلك حديث صحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم . ثم إن النبي صلى الله عليه وسلم لم قال" اتخذوا قبور أنبيائهم " يفهم منه أن قبور الأنبياء مرّ عليها مدة من الزمن ثم بنو على قبورهم المساجد .
● ويعتمدون على الأحاديث المكذوبة التي تدعو إلى الصلاة في هذا المكان منها حديث " أنه لما أسري بالنبي صلى الله عليه وسلم إلى بيت المقدس مرّ على قبر إبراهيم عليه السلام فقال له جبريل عليه السلام : هذا قبر إبراهيم انزل فصلّ ركعتين " وحديث " من لم يمكنه زيارتي فليزر قبر أبي إبراهيم عليه السلام " .
● ويستدلون أيضاً بقوله تعالى " قال الذين غلبوا على أمرهم لنتخذن عليهم مسجداً " .
ولا يصح الاستدلال بهذه الآية , لأنها حكاية عن القرون الغابرة وليس إقراراً , قال العلامة الألوسي في روح المعاني عند تفسيره لهذه الآية : " واستُدل بالآية على جواز البناء على قبور الصلحاء واتخاذ مسجد عليها وجواز الصلاة في ذلك وممن ذكر ذلك الشهاب الخفاجي في حواشيه على البيضاوي: وهو قول باطل عاطل فاسد كاسد فقد روى أحمد وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه عن ابن عباس قال : قال رسول الله لعن الله تعالى زائرات القبور والمتخذين عليها المساجد والسرج, ومسلم " ألا وإن من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم مساجد فإني أنهاكم عن ذلك " ...الخ .
● ومن شبههم استدلالهم بالمسجد النبوي حيث أن قبر النبي صلى الله عليه وسلم موجود داخل المسجد و المسلمون يصلون فيه بدون نكير .
وهذا الاستدلال لا يصح : لأن مسجد النبي صلى الله عليه لم يبن على قبره وإنما بُني في حياته , ولما توفي النبي صلى الله عليه وسلم دُفن في بيت عائشة رضي الله عنها خارج المسجد , واستمر هذا الحال إلى خلافة الوليد بن عبد الملك حيث قام بتوسيع المسجد , وأزال حجرات النبي صلى الله عليه وسلم وأدخلها في المسجد , فأصبح قبره داخل المسجد ولم يكن ذلك بمحضر أحدٍ من الصحابة , وقد أنكر بعض التابعين هذا العمل منهم سعيد بن المسيب , لكن الخليفة لم يستجب لذلك وحصل ما حصل , ثم جاء جهلة الناس من الصوفية وبنوا على قبره قبة , ولا حول ولا قوة إلا بالله .
, ● وبعضهم يدعي أنه لا يوجد قبور في هذه المقامات وإنما القبور في أسفل الأرض داخل المغارة
لا يُعلم مكان القبور فيها .
قلنا وما يدرينا بصحة هذا الكلام , ثم إن وجود القبور داخل المسجد كافٍ في المخالفة , لأن أحكام الشريعة المطهرة إنما تبنى على الظاهر لا الباطن كما هو معروف .
وأيضاً فيه مخالفة لما في كتب التاريخ , فإذا نفيتم وجود القبور , فاعملوا بما جاء في صحيح مسلم عن أبي الهيّاج الأسدي قال : قال لي علي بن أبي طالب : ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله صلى الله عليه و سلم ؟ أن لا تدع تمثالاً إلا طمسته , ولا قبراً مشرفاً إلا سويته " , ثم أزيلوا هذه المقامات وأعلنوا براءة المكان من وجود قبور الأنبياء فيه , فيكون الأمر كما أردتم أنه مسجد إسلامي .
● ويستدلون بقوله تعالى " ولا يطؤون موطئاً يغيظ الكفار ولا ينالون من عدوٍ نيلاً إلا كتب لهم به عمل صالح إن الله لا يضيع أجر المحسنين " .
فهذه الآية نزلت في الجهاد , و الحض على فتح بلاد الكفار , ولا دليل في الآية على ما ينشدونه .
المطلب الثاني : شبهات تعتمد على العادات والتقاليد والتراث :
إن العادات تتبع الشرع , و لا يتبع الشرع العادات , فأي شيءٍ من العادات أو التقاليد أو التراث خالفت الشرع فلا يجوز الأخذ بها , وإلا ضاهينا المشركين فيما حكاه الله عنهم " إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون " .
ومن هذه الشبهات :
● اعتمادهم على التاريخ , حيث أن كتب التاريخ أو بعضها وخاصة المعاصرة منها ذكرت هذا المكان على أنه مسجد تقام فيه الصلوات منذ مئات السنين , وقد رحل إليه كثيرٌ من العلماء وأقاموا فيه دون أن يذكروا حرمة الصلاة فيه لوجود القبور ...الخ .
أقول : العبرة بالكتاب والسنة وعمل سلف الأمة , وأي شيءٍ يعارض هذه الأصول فلا عبرة به , فأغلب كتب التاريخ ناقلة ومجمعة وليست ناقحة ومحققة , و من الأمثلة على ذلك ما جاء في كتاب " الأنس الجليل في أخبار القدس والخليل " لمجد الدين الحنبلي , فكما ذكر المؤلف فان كتابه عبارة عن أخبار فيه الصحيح و السقيم , وقد تكلم عن المقبرة الإبراهيمية مستدلاً بالأحاديث الضعيفة .
ومما ينتقد عليه ما نقله عن كعب الأحبار بدون مصدر ولا إسناد , حيث رُوي عن كعب أنه قال :
" أكثروا من الزيارة إلى قبر رسول الله قبل أن تمنعوا ذلك ... فمن منع ذلك فليجعل رحلته وإتيانه إلى قبر إبراهيم الخليل عليه السلام ... وليكثر من الدعاء عنده , فإن الدعاء عند قبر سيدنا إبراهيم الخليل مستجاب , ولم يتوسل به أحد إلى الله في شيء إلا أجابه , ولم يبرح من مكانه حتى يرى الإجابة في ذلك عاجلاً أو آجلاً . "
قلت [ المؤلف ] : وهذا مما لا شك فيه , فإني جربته في أمر وقع لي من أمور الدنيا فكنت أتوقع الهلاك منه فتوجهت من بيت المقدس إلى بلد سيدنا الخليل عليه السلام في ضرورة اقتضت سفري , فلما أن دخلت مسجده ودخلت إلى الضريح المشهور بأنه قبر إبراهيم الخليل , تعلقت بأستاره ودعوت الله تعالى فيما كنت أرجوه , فما كان بأسرع من أن فرّج الله عني كربتي ولطف بي وأزال عني كلما أزعجني.(29)
أقول : إن هذا الكلام يدل على مدى التأثر بالصوفية والمحدثات الدخيلة , ويدل على عدم معرفة الصحيح والضعيف من الأحاديث , فقد اعتمد في كلامه على رواية مكذوبة عن كعب الأحبار وبنا على ذلك عقيدة فطبقها خير تطبيق . فإذا كان الدعاء مستجاب عند قبر إبراهيم عليه السلام , فيكون
الدعاء عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم من باب أولى وأحرى , وهل فعل ذلك الصحابة ؟! ولماذا لم يذهبوا إلى قبر النبي صلى الله عليه وسلم لما أجدبوا زمن خلافة عمر بن الخطاب رضي الله عنه , ـ سبحانك هذا بهتان عظيم ـ . فلا يجوز الذهاب إلى قبور الأنبياء للدعاء عندها ,حتى وإن كان لا يدعو الأنبياء بل يدعو الله , إلا أن ذلك لا يجوز , لأنه اتخذ صاحب هذا القبر واسطة بينه وبين الله عز وجل . وأما أنه جرّب ذلك فتحقق له مراده : فالله أعلم بصدقه , ولعلها تكون فتنة له ولغيره واستدراج من الله كما جاء في أمر الدجّال وما يكون معه من الخوارق , ليعلم الله المؤمن من المنافق .
و مما قاله أيضاً ـ وفيه تلبيس على الناس ـ :
وقد رُوي عن ابن عمر ـ رضي الله عنه ـ أنه قال : إن آدم عليه السلام رأسه عند الصخرة الشريفة , ورجلاه عند مسجد إبراهيم عليه السلام " قال المؤلف : فسماه مسجداً [ وهذه الرواية ضعيفة ] .
ثم قال [ و بئس ما قال ] : وإذا كان مسجداً جاز الدخول إليه , وسماه السبكي بالحرم(30), وعمل الناس اليوم على دخوله , وزيارتهم للقبور الشريفة والوقوف عند الإشارات التي عليها , وصلاة الجماعة و
الجماعات هناك , فإنه بني به محراب شريف ووضع إلى جانبه منبر , وقد مضى على ذلك أزمنه
متطاولة والعلماء وأئمة الإسلام مطلعون على ذلك [ فيه مبالغة ]. وقد أقر الخلفاء وملوك الإسلام ولم ينكره منكر فصار كالإجماع .
وإذا تقرر هذا ثبتت له أحكام المساجد من جواز الاعتكاف فيه وتحريم المكث على الحائض والجنب فيه وفعل التحية , ولا يقال أنه مقبرة , فإن الأنبياء الذين فيه صلوات الله تعالى وسلامه عليهم أحياء في قبورهم ,وأما النساء فعلى خلاف فيه. انتهى (31)
أقول سبحانك هذا بهتان عظيم: و هل دخول الناس في هذا المكان والصلاة فيه يحلل الحرام, وهل بناء المحراب ووجود المنبر أباح ما حُرّم, ومَن مِن العلماء وأْْْئمة الإسلام بحق الذين اطلعوا على ذلك فاقروه ؟ أهم علماء الصوفية والمبتدعة؟! فلا حجة بهم . أم علماء أهل السنة و الجماعة ؟ فهم أبعد الناس عن ذلك كما ذكر شيخ الاسلام ابن تيمية رحمه الله , حيث قال: " وكان أهل الفضل من شيوخنا لا يصلّون في مجموع تلك البنية [ أي التي على قبر إبراهيم الخليل عليه السلام ] وينهون أصحابهم عن الصلاة فيه إتباعا لأمر الرسول صلى الله عليه وسلم واتقاء لمعصيته " . (32)
فكيف يزعم أنه لم ينكره منكر فصار كالإجماع , وكيف يكون اجماعاً مع وجود النهي الواضح الصريح .
وأما قوله أن الأنبياء أحياء في قبورهم : نعم هم أحياء في قبورهم حياة برزخية , فهم ميتون وينطبق عليهم أحكام الموتى , لا خصوصية لهم عن غيرهم , وإلا ماذا يقول في قبور نساء الأنبياء الموجودة مع قبور الأنبياء ؟ لكنه تحيّّّّّّّر ولم يجد جواباً .
● ومن الشبهات أن النبي صلى الله عليه وسلم أقطع الصحابي تميماً الداري رضي الله عنه منطقة حبرون ومسجد إبراهيم وآثار إبراهيم . وقد تم مناقشة ذلك بأن هذا لا يثبت ولا يصح .
● ويستدلون أيضاً بأن المنبر الموجود في المسجد الإبراهيمي من وضع صلاح الدين الأيوبي رحمه الله
بحيث بنسبونه إليه , والذي يرجع إلى المصادر المعتبرة لا يجد لهذا الكلام أصلاً , إلا في بعض
الكتب الغير معتبرة , وقد جاء في بعضها بصيغة الاحتمال .
وإن ثبت ذلك عنه فلا حجة لفعله مع نهي النبي صلى الله عليه وسلم , فلا طاعة لمخلوق في معصية
الخالق . واعلم أن السنة في عمل المنبر ألا يزاد فيه على ثلاثة درجات , بخلاف منابر هذا العصر فأكثرها مخالف للسنة . وفي هذا المنبر ـ أي منبر صلاح الدين الأيوبي ـ( * ) بدع أخرى كالزخارف وكتابة الآيات القرآنية عليه ـ والله المستعان ـ .
● وينسب بعضهم إلى الخلفاء الأمويين والعباسيين اعتناءهم بالمقبرة الإبراهيمية و جعلها مسجداً يصلى فيه , وكل هذا لا يصح عنهم.
المطلب الثالث: شبهات تعتمد على الأوضاع السياسية:
قد يقول البعض أننا نقر أن هذا المكان أصله مقبرة , ولا يجوز أن يتخذ مسجداً, لكن الناظر إلى ما يحصل لهذا المكان من الهجمات العدوانية من اليهود وغيرهم , ومحاولة الاستيلاء عليه وتحويله إلى كنيس يهودي إلى غير ذلك من الأخطار , فإن من الحكمة أن نتخذه مسجداً و نصلي فيه خوفاً من الاستيلاء عليه , فالذي ينظر إلى وضع المسجد الإبراهيمي يوجب الذهاب إليه والصلاة فيه , وعدم الذهاب إليه و الصلاة فيه ذريعة ووسيلة سانحة لليهود ليأخذوا المكان ويحولوه إلى مصلى لهم ... الخ.
ونحن نسأل سؤالا : لماذا اليهود يريدون تحويل هذا المكان بالذات إلى معبد لهم ,مع أنه يوجد حول المقبرة الإبراهيمية مساجد كثيرة, تحت حكم اليهود , كمسجد أهل السنة ـ السنيّة ـ ( * ) ومسجد قيطون و القزازين وغيرهم كثير ؟
والجواب: لأن المسجد الإبراهيمي مبني على قبور الأنبياء دون غيرهم من المساجد , و من دينهم أنهم يبنون الأبنية على قبور الأنبياء ويصلون فيها , كما أخبر عنهم النبي صلى الله عليه وسلم " لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد ", فتمسكهم به نابعه العقيدة وليس القهر والسياسة .
الخاتمة:يتضح مما سبق أن هذا المكان عبارة عن مقبرة إسلامية , وحكمها حكم باقي المقابر , تصان ولا تهان يقول ابن كثير رحمه الله : " فينبغي أن تراعى تلك المحلة ـ أي المقبرة الإبراهيمية ـ [ ولم يسمها مسجداً , فتنبه ] وأن تحترم احترام مثلها وأن تبجل وأن تجل وأن لا يداس في أرجائها خشية أن يكون قبر الخليل أو أحد أولاده الأنبياء عليهم السلام تحتها " .(33)
و هذا هو القول الحق في هذا المكان , ولا يفهم من كلام الإمام ابن كثير تعظيم القبور وإسراجها والدعاء عندها أو شدِّ الرحال إليها , فهو ينهى عن دخول هذا المكان كيلا يداس في أرجائه , لأن الإسلام نهانا نمشي على القبور أو أن نجلس عليها فضلا عن جعلها مسجدا ومصلى , يقول صلى الله عليه وسلم " صلوا في بيوتكم ولا تجعلوا بيوتكم مقابر " ومفهومه أن المقبرة لا يصلى فيها , ويقول أيضا " الأرض كلها مسجد إلا المقبرة و الحمام " .(34)فإذا عرفت كلام النبي صلى الله عليه وسلم وفقهت معناه فلا يجوز لك أن تقدم هواك أو عواطفك أو فتاوى مشايخك على أقوال النبي صلى الله عليه وسلم , وإن زخرفوا لك الأمور وحشدوا لك الشبهات المردودة , فالحق أحق أن يتبع .
أسأل الله أن يفقهنا في الدين , وأن يجعلنا ممن يعبده على علم وبصيرة , وأن يزيل عنا العصبية وحب الأهواء , وأن يحسن خاتمتنا إنه جواد كريم , وبه نستعين .
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلمالفهرست:
1-القاموس المحيط
2- خليل الرحمن العربية مدينة لها تاريخ ، يونس عمرو صفحة 43 ، ط1 ، دار القلم .
3- قصص الأنبياء , ص 180 ط. دار الفكر .
4- الأنس الجليل بتاريخ القدس والخليل ( 1 / 60 ) ط. دار النهضة
5- خليل الرحمن / يونس عمرو صفحة 43 ، 46 .
6- بلادنا فلسطين / الدبّاغ ( 5 / 57 ) .
7- اقتضاء الصراط المستقيم / ابن تيمية صفحة 401 / ط. الوزارة .
8-بلادنا فلسطين / الدباغ (5/80) .ط. دار الهدى
9- البداية والنهاية / ابن كثير ( 12/267) و (11/267) .ط.مكتبة المعارف-بيروت .
10- الأنس الجليل (1/60) .
11-مدائن فلسطين / الآغا . ص85 .
12- بلادنا فلسطين / الدباغ . (5/336) .
13- اقتضاء الصراط المستقيم (2/346) ط. الوزارة
14- المصدر السابق (2/340)
15- انظر تحذير الساجد للإمام الألباني .
16- معجم البلدان / ياقوت الحموي , ط. دار الفكر (2/387) .
17- بلادنا فلسطين (5/80) .
18 المصدر السابق .
19- المصدر السابق . (5/ 89) .
20- المصدر السابق . (5 / 108ـ111 )
21- بلادنا فلسطين . (5/ 111)
22- المصدر السابق . (5 / 322 )
23- المصدر السابق . (5 / 331)
24- المصدر السابق . (5 / 342 )
25- خليل الرحمن العربية / يونس عمرو , ص 51
26- صحيح الجامع ( 585 )
27- صحيح أبي داود ( 1 / 90 )
28- السلسلة الضعيفة ( 282 )
29- رواه الإمام أحمد بسند صحيح .
30- مشكاة المصابيح (640 ) بسند حسن .
31- مجموع الفتاوى (17 / 464 ) .
32- منهاج السنة (1/479ـ481) ط.مؤسسة قرطبة و دقائق التفسير (2/151) ط.علوم القرآن
33- اقتضاء الصراط المستقيم .(1/438ـ439) .
34- انظر تحذير الساجد . للشيخ الألباني ص47 ط.المعارف
* وهذا فيه رد على من يقول أن العلماء دخلوا المقبرة الإبراهمية ولو لم يكن مسجداً لما دخلوه , بل الهدى في اتباع منهج السلف الصالح.
35- انظر تحذير الساجد .
36- الأنس الجليل ( 1 / 56 ) 37-لا عبرة بقول أحد مع قول النبي صلى الله عليه وسلم , والسبكي يجيز شد الرحال إلى قبر النبي صلى الله عليه وسلم , وانظر الصارم المنكي في الرد على السبكي لابن عبد الهادي . وقد ذكر المؤلف أيضاً دخول السبكي وبرهان الدين الجعبري وغيرهم في المقبرة والتدريس فيها. وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم . وانظر ما نقلناه عن شيخ الإسلام ابن تيمية ص10
38- الأنس الجليل (1/57)
39- إقتضاء الصراط المستقيم (1/331) ط.السنة المحمدية (*)وصلاح الدين رحمه الله ـ وإن أخذ شيئاً من العلم على مثل أبي طاهر السلفي الصوفي! على نهج عصره: أشعري المعتقد شافعي المذهب إن لم يكن صوفي الطريقة ـ إنَّما كان عسكريًّا أكثر منه عالماً أو داعياً إلى الله على بصيرة، وقد نفع الله به في استعادة بيت المقدس من الصّليبين ولكن لم تظهر له همَّة أو محاولة لإعادة المسّلمين إلى الدّين الحقّ في البلاد التي حكمها حكماً مطلقاً بعد موت آخر ولاة الفاطميين: العاضد الذي منحه الوزارة وعيّنه قائداً لجيشه ولقَّبه (الملك الناصر)، وقد وفى له صلاح الدين فلم يَصْرف عنه الدعاء في خطبة الجمعة (رمز الولاية) إلى أحد بقايا العبّاسيين إلا في آخر مرض موته بعد أن فقد الإحاطة بما أحدثه صلاح الدّين رحمه الله، ولم يُظْهر صلاح الدين إنكاراً أو تغييراً لشيء من موبقات الفاطميّين وأشنعها وثنيّة المقامات والمشاهد والمزارات (وأشهرها وثن الحسين في القاهرة)، وقد بناه الفاطميّون قبل ربع قرن من دخول صلاح الدين في ولايتهم ثم وراثة ملكهم.ولم يُظْهر صلاح الدين تجاوز الله عنَّا وعنه إنكاراً أو تغييراً لشيء من منكرات الفاطميّين بعد استقلاله بالولاية، إلا ما يفعله أيُّ صوفي أو قبوري أو مبتدع ممن ينتمي إلى السّنة: تغيير مذهب الدراسة في الأزهر إلى مذهب الشافعي رحمه الله في أحكام العبادات والمعاملات (ولا يزال اليوم كما تركه) وإسقاط جملة: (حي على خير العمل) من ألفاظ الأذان.
بل ذكر السيوطي رحمه الله في تاريخ الخلفاء، أن صلاح الدّين هو الذي بنى تربة [قبة وثن] الشافعي في مصر، ويُذْكر عنه أنه هو الذي بنى ضريح [وثن] الرّاعي في فلسطين، ويَعْتَذِر له من يُحْسن الظنَّ به بأنه بناه مخبأ للسلاح أثناء قتال الصليبيين، ولكن هل يجوز أن يقاتل النصارى ممن دونهم بوسيلةٍ وثنيّة؟ويُذكر عنه أنه تجاوز الله عنّا وعنه أحدث بدعتي إضافة جملة الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم إلى ألفاظ الأذان، وإضافة الابتهال قبل أذان الفجر ليلتي الاثنين والجمعة، ولم يُتَحْ لي التثبت من ذلك، ولكن إبقاءه وثن الحسين وغيره، وبناءه وثن الشافعي أشر منه. [ نقلاً من كلام الشيخ سعد الحصين في أحد مقالاته على موقعه في الإنترنت ]
(*) وسبب بناءه : حديث " لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد " [ أي كانوا يرون حرمة الصلاة في المسجد الإبراهيمي ] . انظر كتاب : المسجد الإبراهيمي / قسم إحياء التراث الإسلامي ـ في بيت المقدس . ص 104 , النشرة الرابعة 1985م .ومع ذلك فنحن مع عدم جواز ترك المكان لليهود , ولا ندع لهم أية فرصة ليأخذوا المكان , فيجب أن يبقى للمسلمين و أن تبقى مقبرة إسلامية موقوفة .ولكن البحث هنا في حكم الصلاة في هذا المكان , ولا يفهم مما قلناه أن نترك المكان لليهود ليأخذوه فهذا لا يجوز, ويجب أن يبقى في يد المسلمين ما استطاعوا . وهنا سؤال : هل لا يوجد وسيلة لحماية هذا المكان أو هذه المقبرة إلا بالصلاة فيها , بل هناك وسائل أخرى يستطيع الإنسان أن يحمي هذا المكان كما يحمي مزرعته وأرضه ومصنعه ,إلى غير ذلك . ولنفترض أن مقبرة من المقابر التي ترجع للمسلمين أراد اليهود أخذها , فهل ندعو الناس إلى الصلاة في هذه المقبرة, وإذا لم نفعل ذلك أصبحنا مفرّطين مخذِّلين مسلِّمين المقبرة لليهود ؟ لا يقول هذا الكلام عاقل , فإذا تم لليهود ما يريدون , فلنعلم أن هذا أولاً ابتلاء من الله تعالى يجب الصبر عليه , وثانيا : أن ما يصيب المسلمين من بلاء لا يكون إلا بسبب الذنوب و المعاصي , فالواجب على المسلمين أن يرجعوا إلى الله تعالى , ولا يفرطوا في أوامر الله و رسوله , ولا يقدموا عواطفهم على حكم الله تعالى , قال تعالى : " ومن يتق الله يجعل له مخرجاً ويرزقه من حيث لا يحتسب "
40- قصص الأنبياء (180) ط. دار
41- صحيح الجامع (2767)
بقلم
سعد بن فتحي الزعتري
بتاريخ : 2 صفر 1428ه
ثم لا يهتم بدراسة المسألة ومعرفة أصولها , لكن المسلم الواعي لا تؤثر به العواطف ولا ينجرّ خلف الأهواء والعصبيات والعادات والتقاليد , بل دائماً يبحث عن الحق بدليله من الكتاب والسنة وفهم سلف الأمة ، فإذا قام الدليل على أمر ما ؛ أصبح عقيدة عنده لا تتغيّر ولا تتبدّل .
فإذا علم ما سبق عرفنا حكم أي مسألة تواجهنا ، خاصة المسائل التي يخوض فيها الناس كثيراً بحيث يصبح الشخص حيراناً لا يدري الحق مع من ؟! . وهذه الحيرة حصلت بسبب تزيين الباطل بغشاء الحق , لكن المسألة إذا جُليت بالحق الصافي فلا يمكن أن تسبب للشخص حيرة أبداً .
ونحن في هذا البحث سنتكلم عن المسجد الإبراهيمي من حيث تاريخه ومراحل تطوره إلى أن أصبح مسجداً ، ومن حيث وجود القبور فيه ، وهل تصح الصلاة فيه مع وجود القبور، وموقف العلماء من ذلك ، والشبهات التي يتمسّك بها من يجعله مسجدا تصح الصلاة فيه إلى آخر ذلك ، فهذه مسألة مهمة تمسّ عقيدة المسلمين وتمس واقعهم ، وكيف أنهم بجهلهم وبعدهم عن دينهم – إلاّ من رحم الله – يقعون في المحظور معتمدين على القصص والحكايات ، وعلى العواطف والسياسات , فضلا عن الروايات المكذوبة والأحاديث الضعيفة , لكن حجة الله باقية إلى يوم القيامة يتلقفها المسلم الواعي بصدرٍ منشرح.
ويتكون هذا البحث من ثلاثة فصول وخاتمة :
الفصل الأول : تاريخ المسجد الإبراهيمي ، وفيه أربعة مباحث :
المبحث الأول : التعريف بالمقبرة الإبراهيمية .
المبحث الثاني : من الذي بنا هذا البناء أو السور حول المقبرة ؟
المبحث الثالث : هل كان هذا المكان معروفاً زمن النبي .
المبحث الرابع : متى تحولت المقبرة الإبراهيمية إلى مسجد يصلى فيه ؟
الفصل الثاني : ذكر المخالفات الشرعية الموجودة في هذا المكان .
وفيه أربعة مباحث :
المبحث الأول : المقامات الموجودة داخله , وحكمها .
المبحث الثاني : إطلاق القول عليه بأنه حرم .
المبحث الثالث : شد الرّحال إليه , وحكمه .
المبحث الرابع : بدع أخرى موجودة إلى اليوم .
الفصل الثالث : الموقف الصحيح من المسجد الإبراهيمي ، وفيه ثلاثة مباحث :
المبحث الأول : حكم بناء المساجد على القبور والصلاة فيها.
المبحث الثاني : أقوال العلماء في هذا المكان وغيره .
المبحث الثالث : الشبهات التي يتمسّك بها من يجيز الصلاة في هذا المكان ، وفيه ثلاثة مطالب :
المطلب الأول : الشبهات الشرعية .
المطلب الثاني : شبهات تعتمد على العادات والتقاليد والتراث .
المطلب الثالث : شبهات تعتمد على الأوضاع السياسية .
وأسأل الله أن يبصرنا في ديننا ، ويجعل أعمالنا خالصة لوجهه الكريم ، وأن يجمع شمل المسلمين ، ويوحد صفهم على الحق ، إنه جواد كريم .
الفصل الأول : تاريخ المسجد الإبراهيمي
المبحث الأول : التعريف بالمقبرة الإبراهيمية المقبرة هي موضع القبور ، والقبر : هو مدفن الإنسان ، من قَبَرَهُ يُقْبِرُهُ ويَقْبِرُهُ قَبْرَاً ومَقْبَرَاً : أي دفنه . وأَقْبَرَهُ: جعله قَبْرَاً .
والمقبرة الإبراهيمية : نسبة إلى إبراهيم الخليل عليه السلام حيث دُفن هو وعائلته فيها . وهذا المكان يقع في مدينة الخليل في الجهة الجنوبية الشرقية في المدينة . وهذه المقبرة يحيطها سور كبير أحجاره ضخمة جدا ، وكان هذا السور مغلقا وليس له سقف ، وكان يحيط بالمغارة التي دفن فيها إبراهيم عليه السلام .
ومسألة دفن إبراهيم عليه السلام في هذا المكان لا يوجد عليه دليل من الكتاب أو السنة , لأن هذا أمر غيبي لابد من دليل لمعرفته ، لكن كتب التاريخ أجمعت على أن إبراهيم عليه السلام مدفون في هذا المكان من غير أن يحدّدوا موضع القبر بعينه كما هو بالنسبة إلى قبر النبي .
قال ابن كثير رحمه الله : " فقبره [ أي إبراهيم عليه السلام ] وقبر ولده إسحاق وقبر ولد ولده يعقوب في المربعة التي بناها سليمان بن داود عليه السلام ببلد حبرون ، وهو البلد المعروف بالخليل اليوم ، وهذا متلقى بالتواتر أمة بعد أمة وجيلاً بعد جيل من زمن بني إسرائيل وإلى زماننا هذا , أن قبره بالمربعة تحقيقاً ، فأمّا تعيينه منها فليس فيه خبر صحيح عن المعصوم " . انتهى
المبحث الثاني : من الذي بنى هذا البناء أو السور الذي حول المقبرة ؟ وأما بناء السور فلم يثبت أن سليمان عليه السلام قد بناه ، ويقول العامة أن الذي بناه هم الجن وهذا من الخرافات ، وإنما قالوا ذلك لأن هذا القبور من أن تهان أو تتأثر بالعوامل الخارجية , وكذلك – والله أعلم – ليُعرف أن هذا المكان فيه قبور كيلا يبنى عليه أي بناء، بدليل أن سقفه كان مفتوحا ولا يوجد له باب لدخوله .
ثم جاء العهد الروماني فسقفوا سقفه وبنو فوق السور بناء آخر بحيث جعلوه كنيسة يتعبّدون
فيها , وفي نفس الوقت حصنا يتحصّنون فيه عند غزو الأعداء . ( فالناظر إليه اليوم يجده بشكله يشبه الحصن أكثر مما يشبه غيره ) ، وكان ذلك عام ( 37 ) قبل الميلاد . ثم جُدّد مرة أخرى إلى كنيسة عام ( 1172 م ) تحت حكم الإفرنج .
المبحث الثالث : هل كان هذا المكان معروفا زمن النبي :
جاءت بعض الروايات في كتب التاريخ عن تميم الداري رضي الله عنه أن النبي أقطعه الأرض التي بها بلد إبراهيم الخليل عليه السلام وما حولها ، فجاء في الروايات ذكر ( بيت إبراهيم ) و ( مسجد إبراهيم ) و ( آثار إبراهيم ) . وهذه الروايات لم تثبت عن النبي ، بحيث ذُكرت بأسانيد واهية ومنقطعة .
وأما ما رُوي عن النبي أنه قال : لما أسري بي إلى بيت المقدس مرّ بي جبريل عليه السلام على قبر إبراهيم عليه السلام فقال لي انزل فصلّ ركعتين ها هنا فإن ها هنا قبر أبيك إبراهيم عليه السلام.
ورُوي أيضا أنه قال : من لم يمكنه زيارتي فليزر قبر أبي إبراهيم الخليل عليه السلام .
فهذه الأحاديث وغيرها لم تصح عن النبي ، بل هي مكذوبة موضوعة على النبي ، كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية وغيره . المبحث الرابع : متى تحوّلت المقبرة الإبراهيمية إلى مسجد يصلّى فيه ؟
اعلم – رحمك الله – أنه لا يجوز أن تحوّل المقبرة إلى مسجد للعبادة ، وذلك سدّا للذريعة وخوفا من أن يؤدي هذا الأمر إلى عبادة أصحاب هذه القبور – والعياذ بالله – كما حصل مع قوم نوح عليه السلام ، وما يحصل اليوم عند قبر علي والحسن والحسين ، وعند مشهد السيدة زينب في مصر ، إلى غير ذلك من مظاهر الشرك المنتشرة في بلاد الإسلام .
وهذا المكان ( أي المقبرة الإبراهيمية ) معروف منذ مئات السنين على أنه مقبرة ولم يكن مسجداً ولا معبداً , لكن لما كان من دين اليهود والنصارى بناء المساجد أو المعابد فوق قبور الصالحين كما جاء في الصحيحين من حديث أم حبيبة وأم سلمة ذكرتا كنيسة رأينها بالحبشة فيها تصاوير فذكرتا للنبي صلى الله عليه وسلم فقال : " إن أولئك إذا كان فيهم الرجل الصالح فمات بنوا على قبره مسجداً وصوروا فيه تلك التصاوير , فأولئك شرار الخلق عند الله يوم القيامة " فقاموا إلى هذا المكان ونقبوه وفتحوا له باباً وبنو عليه كنيسة وجعلوه مركزاً دينياً لهم , له مكانته المقدسة عندهم .
ثم جاء بعد ذلك الفتح الإسلامي , وقلَّد بعض الناس من المسلمين اليهود والنصارى في تعظيم الصالحين , فقالوا نحن أحق بالأنبياء منهم , وحوّلوا هذا المكان من كنيسة إلى مسجد ـ ولا حول ولا قوة إلا بالله ـ وصدق فيهم قول النبي صلى الله عليه وسلم كما في الصحيحين من حديث أبي سعيد الخدري أنه قال :" لتتبعن سنن من كان قبلكم شبراً بشبر وذراعاً بذراع حتى لو دخلوا جحر ضبٍ لدخلتموه , قالوا يا رسول الله : اليهود والنصارى ؟ قال : فمن ؟! " .ويمكن أن يقال : إن الذين حوّلوا هذا المكان إلى مسجدٍ يصلى فيه هم الفاطميون في زمن الدولة الفاطمية على أيدي الخلفاء الفاطميين .
يقول أحد الكتّاب : " ومن التقاليد التي استحدثها الفاطميون ورسخت في عهد المماليك تشييد القباب فوق القبور وإنشاء المساجد فوق قبور الأولياء والبارزين من الرجال " .(1)والفاطميّون هم من الشيعة الغلاة الذين ابتدعوا في الدين ما لم يأذن به الله عز وجل , مثل بدعة " حي على خير العمل " في الآذان , ولعن أبي بكر وعمر في الخطب وعلى أبواب المساجد , وبدع تعظيم القبور والبناء عليها , وبدع يوم عاشوراء من اللطم و الشق , وبدع الاحتفال بالمولد النبوي ...الخ .
قال الحافظ ابن كثير رحمه الله : " وقد كان الفاطميون أغنى الخلفاء وأكثرهم مالاً , وكانوا من أغنى الخلفاء وأجبرهم وأظلمهم وأنجس الملوك سيرة وسريرة , ظهرت في دولتهم البدع والمنكرات وكثر أهل الفساد وقل عندهم الصالحون من العلماء والعباد , وكثر بأرض الشام النصرانية و الدرزية و الحشيشية , وتغلب الفرنج على سواحل الشام [ أي بسببهم ] حتى أخذوا القدس و نابلس ... الخ .(2)
فإذا عُلم ما سبق فلا يجوز لنا أن نقول على فعلهم هذا أنه جائز وأنه من التراث الإسلامي والمقدسات الإسلامية , لأن عملهم هذا مخالف للكتاب والسنة وهدي سلف الأمة .
وقد جاء في بعض الكتب التصريح بأن هذا المكان حُوِّل إلى مسجد , فقالوا " وقد صار [ أي السور المحيط بالمقبرة ] مسجداً "(3), وأيضاً " وقد جُعل الحير [ أي السور ] مسجداً , وبني حوله دور للزوار "(4) . وقالوا :" ما من بناءٍ يقع عليه نظرك إلا ألهمك الغرض الذي أنشأ لأجله من أول وهلة وبأقل عناء , فأنت بمجرد نظرة ترسلها على أي بناء تصادفه تعرف إن كان معبداً , أو حصناً , أو قصراً , أو مدرسة أو ملعباً , كأنما تكلمك حجارته بلسان مبين .
غير أن الأمر على الضد من ذلك فيما يتعلق بالحرم الإبراهيمي . فلو أنا جردناه من البنايات الطارئة عليه في عصورٍ مختلفة كالمآذن , والقباب , والشرفات , وتصورناه سوراً ضخماً لا باب له , ضُرب على رقعة صغيرة من الأرض لأشكل علينا شأنه ولو درنا حوله وتأملناه من أسفله أومن أعلاه ...الخ(5).الفصل الثاني : ذكر المخالفات الشرعية الموجودة في هذا المكان :
المبحث الأول : المقامات الموجودة فيه , وحكمها :إن بناء المقامات والمشاهد على القبور لهو من عمل اليهود والنصارى ابتداءً ثم قلدهم عليه المسلمون لجهلهم انتهاءً , وكانت الدولة الفاطمية هي التي قامت بهذا الفعل , وتتابع الناس على هذا الأمر حتى ظنوا أنه من الإسلام ومن احترام أصحاب القبور .
وحكم بناء أي شيء على القبور من مقامات أو مشاهد أو قباب أو حتى بناء القبور من الأحجار وليس من التراب أو الكتابة عليها , كل هذا حرام لا يجوز في شريعة الإسلام , لما روى مسلم من حديث جابر رضي الله عنه قال :" نهى النبي صلى الله عليه وسلم أن يجصص القبر وأن يبنى عليه وأن يقعد عليه " . وفي رواية صحيحة لأبي داود " وأن يكتب عليه " .
وهذه المقامات قيل عنها أنها عبارة عن إشارات ومعالم لقبور الأنبياء الموجودة تحت المغارة , ولكن مع ذلك فالإسلام يحكم بالظاهر , والناظر في هذه المقامات يجد أنها تحتوي على القبور , فالحكم هوهو لا يتغير.
وقد قام كثير من الناس بتعظيم هذه المقامات والأضرحة وكسوتها بالأقمشة الفاخرة ووضع البخور والقناديل , وفرشها بالبساط الفاخر , وكل هذا من البدع المنكرة والعياذ بالله .المبحث الثاني : إطلاق القول عليه بأنه حرم .
لا يصح أن يطلق على أي مكان أنه حرم إلا بنص من الكتاب أو السنة , والحرم من التحريم : أي تحريم القيام بأعمال معينة , فهو يترتب عليه أحكام شرعية كعدم جواز الصيد في هذا المكان , وعدم قلع الأشجار وأخذ اللقطة إلى غير ذلك من الأحكام , فقد ثبت في الصحيحين من حديث أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " إن إبراهيم حرّم مكة , وإني أحرم المدينة ما بين لابتيها " , فأين الدليل على أن هذا المكان قد حُرِّم من الله ورسوله .
بل لا يجوز أن يطلق على المسجد الأقصى أنه حرم , لأنه لم يثبت دليل على ذلك من الكتاب و السنة , قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله : " و الأقصى : اسم للمسجد كله , ولا يسمى هو ولا غيره حرماً وإنما الحرم بمكة و المدينة خاصة " .(6)المبحث الثالث : شد الرحال إليه , وحكمه .شد الرحال في الشرع : أي قصد مكان من الأمكنة والسفر إليه لإقامة الشعائر الدينية عنده , من الدعاء والصلاة والبركة , اعتقاداً منهم أن المكان له ميزة وفضل يميزه عن سائر الأمكنة , وهذا العمل لا يجوز إلا إلى الثلاثة مساجد , ففي الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد , المسجد الحرام والمسجد الأقصى ومسجدي هذا " , فقصد هذه الأماكن والسفر إليها للعبادة والدعاء والذكر و الاعتكاف ...الخ جائز شرعا بل حض الشارع الحكيم على الذهاب إلى هذه الأماكن .
وما سوى هذه المساجد أو الأماكن لا يشرع السفر إليه باتفاق أهل العلم .(7)فلا يجوز تخصيص مسجد من المساجد والسفر إليه إلا إلى الثلاثة مساجد , فكيف إذا كان المكان ليس مسجداً , وإنما هو مقابر أو مقامات أو مشاهد أو غير ذلك , فلا شك أن التحريم أشد وأغلظ .
فعن علي رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه و سلم قال :" لا تتخذوا قبري عيداً " (
فنهى النبي صلى الله عليه وسلم أن نتخذ قبره عيداً , والعيد إذا جُعل اسما للمكان : فهو المكان الذي يقصد الاجتماع فيه وإتيانه للعبادة أو لغير العبادة , فان العيد من المعاودة : أي الاجتماع في الأمكنة واعتياد قصدها .
فهذا قبر النبي صلى الله عليه وسلم ـ وهو أفضل القبور ـ نهينا أن نتخذه عيدا ومزارا ومجمعا للقاء , إلا إذا زار المسلمون مسجده سُنّ لهم أن يذهبوا إلى قبره ويسلموا عليه فقط دون الدعاء أو غيره .
فإذا كان هذا هو حال قبر النبي صلى الله عليه وسلم , فقبور غيره من الأنبياء فضلا عن الأولياء والصالحين من باب أولى أن لا يشد الرحال إليها , أو الاجتماع عندها لان هذا من الأعمال المنكرة والمردودة .المبحث الرابع : بدع أخرى موجودة في هذا المكان : مما ذكرنا سابقاً عدم جواز قصد هذا المكان للعبادة , ومن المؤسف أن هذا المكان يُعد مزاراً مقدساً يأتيه الناس من كل فج عميق فيقصدونه للعبادة و الدعاء عند قبوره والتبرك بآثاره , وانتظار البركات والفيوضات الروحية , وهذا العمل ورثه الناس من أسلافهم دون أن يكون لهم أدنى دليل على ذلك .وقد وصفت بعض الكتب هذا المكان على أنه محطة أنظار الزوّار بحيث يأتونه ويتبركون به ويدعون عنده , وقد بنيت لهم دور بجانب القبور بقصد الاعتكاف عندها وانتظار المدد والبركات .● قال صاحب معجم البلدان : " وهناك [ أي في قبر إبراهيم عليه السلام ] مشهد زوّار وقوّام في الموضع وضيافة للزوّار " . (9)
● قال صاحب كتاب آثار البلاد وأخبار العباد : " وفي الموضع ضيافة للزوار , وهو موضع طيب نزه آثار البركة ظاهرة عليه ." (10)
● قال صاحب المراصد ـ صفي الدين بن عبد الحق ـ سنة 700ه : " الخليل بلدة بها حصن وعمارة وسوق , بينها و بين القدس يوم , فيها قبر الخليل واسحاق ويعقوب ويوسف في المغارة تحت الأرض وعلى المغارة الآن بناء عليه سور دائر متسع , به قوّام وضيافة لمن يقصدونه للزيارة ". (11)
● قال الراهب فلكس فابري 1480 م :" وشاهدنا في الخليل نزلها الكبير , الكثير الغرف ورأينا المطبخ والفرن وكانوا يعدّون طعاماً كثيراً للحجاج المسلمين الذين يأتون جماعات كبيرة لزيارة قبور الأنبياء " . (12)
● قال التلمساني لما وقف عند قبر الخليل عليه السلام :
خليل الله قد جئناك نرجو شفاعتك التي ليست ترد
أنلنا دعوة واشفع تشفع إلى من لا يخيب لديه قصد
وقل يا رب أضياف ووفد لهم بمحمد صلة وعهد
أتوا يستغفرونك من ذنوب عظام لا تعد ولا تحد (13)
● قال النابلسي : وطائفة الدّارية للآن من أعيان البلاد الخليلية , ولهم هناك المشيخة القادرية , يجعلون الذكر كل يوم جمعة بمسجد الخليل ".
(14)
● قال صاحب " مسالك الأمصار في ممالك الأمصار " : وكان قدومنا هذه المرة على الخليل يوم الاثنين لأربع وعشرة ليلة خلت من ذي الحجة سنة خمس وأربعين وسبعمائة :" فبتنا ليلتنا نتبرك بما حوت تلك القبور من العظام , و نعفِّر الوجوه في تلك البقعة المشرفة في مواضع أقدام أولئك الأقوام " . (15)
● قال ناصر خسرو الذي زار المكان عام 438 ه : " حين يخرج السائر من المقصورة إلى وسط ساحة المشهد , يجد مشهدين أمام القبلة : الأيمن به قبر إبراهيم الخليل , وهو مشهد كبير , و من داخله مشهد آخر لا يستطاع الطواف حوله ,ولكن له أربع نوافذ يرى منها.
فيراه الزائرون وهم يطوفون حول المشهد الكبير[هذا الشرك بعينه] وقد كسيت أرضه و جدرانه ببسط من الديباج والقبر من الحجر وارتفاعه ثلاثة أذرع . وعلق به كثير من القناديل والمسارج والمصابيح الفضية[ وهي موجودة إلى الآن ]...الخ.(16)
● قال محمد اسحق النحوي : " خرجت مع القاضي أبي عمرو وعثمان بن جعفر بن سادات إلى قبر إبراهيم عليه السلام , فأقمنا ثلاثة أيام (17) [ أي عند القبر ].
إن انتشار التصوف في تلك الأزمان ساعد على وجود هذه البدع التي يفعلها كثير من الناس وإلى اليوم , وقد كانت مدينة الخليل تعج بالمتصوفة والزوايا الصوفية , يقول أحد الكتاب:( ولعل وجود وسائل الإقامة في المدينة [ أي الخليل ] كالرباط والسماط , كانت ذات أثر في استقطاب العلماء الزهاد والمتصوفة المسلمين للإقامة بجوار الحضرة الخليلية الشريفة عبر السنين . (1
ومن البدع أيضا وجود الزخارف في ذلك المكان, و قد جاء في هذا نهي عن النبي صلى الله عليه وسلم حيث قال: " إذا زخرفتم مساجدكم ,وحليتم مصاحفكم فالدمار عليكم " (19). وهذا العمل يكلف الأموال الباهظة ويدخل في الإسراف المنهي عنه,وفيه تشبه باليهود والنصارى , فعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم" ما أمرت بتشييد المساجد " ثم قال ابن عباس:" لتزخرفنها كما زخرفت اليهود والنصارى". (20)
ومن البدع الموجودة اليوم ما يفعله المؤذنون من التهليل والذكر قبيل صلاة الجمعة , وأيضا الأذان الجماعي فكل هذا من البدع المحدثة التي لم تكن على عهد النبي صلى الله عليه وسلم ولا في عهد الصحابة رضي الله عنهم. ومن هذه التهليلات ما يكون فيها مخالفات شرعية, أذكر منها قولهم : " لولاه [ أي النبي صلى الله عليه وسلم ] ما كانت الأكوان , ولا خلق إنس قبله ولا جان " . وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم:" لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى بن مريم,ولكن أنا عبد فقولوا عبد الله ورسوله " مق . وقولهم هذا: مبناه على الأحاديث المكذوبة على النبي منها " لولاك ما خلقت الأكوان " , " ولولاك ما خلقت الجنة والنار" (21), إلى غير ذلك من الأحاديث الواهية .
الفصل الثالث : الموقف الصحيح من المسجد الإبراهيمي :
المبحث الأول : حكم بناء المساجد على القبور , والصلاة فيها :
لقد تواترت النصوص عن النبي صلى الله عليه وسلم بالنهي عن اتخاذ القبور مساجد والتغليظ فيه , وقد صرّح عامة علماء الطوائف بالنهي عنه متابعة للأحاديث , ولا ريب في القطع بتحريمه , لما روى مسلم في صحيحه عن جندب بن عبد الله البجلي قال : سمعت النبي صلى الله عليه وسلم قبل أن يموت بخمس وهو يقول " ألا وإن من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم مساجد ألا فلا تتخذوا القبور مساجد فاني أنهاكم عن ذلك " .
وعن عائشة رضي الله عنها , وعبد الله بن عباس رضي الله عنهما قالا : لما نزل برسول الله طفق يطرح خميصة له على وجهه فإذا اغتم كشفها , فقال وهو كذلك : لعنة الله على اليهود و النصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد " يحذر ما صنعوا , أخرجه البخاري ومسلم . وأخرجا عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله قال : " قاتل الله اليهود اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد " .
وعن عائشة رضي الله عنها قالت : لما كان مرض النبي صلى الله عليه وسلم تذاكر بعض نسائه كنيسة بأرض الحبشة يقال لها : مارية , وقد كانت أم حبيبة وأم سلمة قد أتتا أرض الحبشة فذكرتا من حسنها و تصاويرها , قالت : فرفع النبي صلى الله عليه وسلم رأسه فقال : أولئك إذا كان فيهم الرجل الصالح بنوا على قبره مسجداً ثم صوروا تلك الصور أولئك شرار الخلق عند الله يوم القيامة " متفق عليه .
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " اللهم لا تجعل قبري وثناً , لعن الله قوماً اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد " .
وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " إن من شرار الناس من تدركه الساعة وهم أحياء , ومن يتخذ القبور مساجد " . (22)
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال : لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم زائرات القبور , والمتخذين عليها المساجد والسرج " . (23)
فتبين مما سبق أن بناء المساجد على القبور من الكبائر العظام المتوعد أصحابها باللعنة والوعيد والغضب , لأن في هذا العمل تعظيم للأموات , ووسيلة من وسائل الشرك الأكبر ـ والعياذ بالله ـ .
ومعنى اتخاذ القبور مساجد : أي بناء المساجد على القبور وقصد الصلاة فيها .
وقد جاء النهي عن بناء المساجد على القبور خشية الصلاة فيها , فإذا كان البناء منهي عنه , فالصلاة فيها منهي عنه من باب أولى , فالنهي عن الوسيلة يستلزم النهي عن الغاية بالأولى والأحرى . وقد اتفقت المذاهب الأربعة على تحريم بناء المساجد على القبور . وسيأتي التفصيل في المبحث الثاني .
المبحث الثاني : أقوال العلماء في هذا المكان وغيره :
أفضل من تكلم في هذا الباب شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله , فله كلام رائع جميل يبين فيه تاريخ المقبرة الإبراهيمية , ويبين الحكم والموقف الصحيح اتجاهه , وموقف الصحابة والعلماء منه .
قال رحمه الله تعالى : " ولما كان اتخاذ القبور مساجد و بناء المساجد عليها محرما و لم يكن شيء من ذلك على عهد الصحابة و التابعين لهم بإحسان و لم يكن يعرف قط مسجد على قبر , و كان الخليل عليه السلام في المغارة التي دفن فيها و هي مسدودة لا أحد يدخل إليها و لا تشد الصحابة الرحال لا إليه و لا إلى غيره من المقابر لأن في الصحيحين من حديث أبى هريرة و أبى سعيد رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال :" لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد المسجد الحرام و المسجد الأقصى و مسجدي هذا " , فكان يأتي من يأتي منهم إلى المسجد الأقصى يصلون فيه ثم يرجعون لا يأتون مغارة الخليل و لا غيرها . و كانت مغارة الخليل مسدودة حتى استولى النصارى على الشام في أواخر المائة الرابعة ففتحوا الباب و جعلوا ذلك المكان كنيسة ثم لما فتح المسلمون البلاد اتخذه بعض الناس مسجدا. و أهل العلم ينكرون ذلك والذي يرويه بعضهم في حديث الإسراء " أنه قيل للنبي صلى الله عليه و سلم هذه طيبة إنزل فصل فنزل فصلى , هذا مكان أبيك إنزل فصل " , كذب موضوع , لم يصلِّ النبي صلى الله عليه و سلم تلك الليلة إلا في المسجد الأقصى خاصة كما ثبت ذلك في الصحيح , و لا نزل إلا فيه .و لهذا لما قدم الشام من الصحابة من لا يحصى عددهم إلا الله , و قدمها عمر بن الخطاب لما فتح بيت المقدس و بعد فتح الشام لما صالح النصارى على الجزية و شرط عليهم الشروط المعروفة و قدمها مرة ثالثة حتى و صل إلى سرغ و معه أكابر السابقين الأولين من المهاجرين و الأنصار فلم يذهب أحد منهم إلى مغارة الخليل و لا غيرها من آثار الأنبياء التي بالشام لا ببيت المقدس و لا بدمشق و لا غير ذلك ...الخ(24) .
وقال رحمه الله : " فقد علم بالنقل المتواتر بل علم بالاضطرار من دين الإسلام أن رسول الله صلى الله عليه وسلم شرع لأمته عمارة المساجد بالصلوات والاجتماع للصلوات الخمس ولصلاة الجمعة والعيدين وغير ذلك , وأنه لم يشرع لأمته أن يبنوا على قبر نبي ولا رجل صالح لا من أهل البيت ولا غيرهم لا مسجدا ولا مشهدا ولم يكن على عهده صلى الله عليه وسلم في الإسلام مشهد مبني على قبر وكذلك على عهد خلفائه الراشدين وأصحابه الثلاثة وعلي بن أبي طالب ومعاوية لم يكن على عهدهم مشهد مبني لا على قبر نبي ولا غيره لا على قبر إبراهيم الخليل ولا على غيره .
بل لما قدم المسلمون إلى الشام غير مرة ومعهم عمر بن الخطاب وعثمان ابن عفان وعلي بن أبي طالب وغيرهم ثم لما قدم عمر لفتح بيت المقدس ثم لما قدم لوضع الجزية على أهل الذمة ومشارطتهم, ثم لما قدم إلى سرغ , ففي جميع هذه المرات لم يكن أحدهم يقصد السفر إلى قبر الخليل ولا كان هناك مشهد بل كان هناك البناء المبني على المغارة وكان مسدودا بلا باب له مثل حجرة النبي صلى الله عليه وسلم .
ثم لم يزل الأمر هكذا في خلافة بني أمية وبني العباس إلى أن ملك النصارى تلك البلاد في أواخر المائة الخامسة فبنوا ذلك البناء واتخذوه كنيسة ونقبوا باب البناء فلهذا تجد الباب منقوبا لا مبنيا ثم لما استنقذ المسلمون منهم تلك الأرض اتخذها من اتخذها مسجدا .
بل كان الصحابة إذ رأوا أحدا بني مسجدا على قبر نهوه عن ذلك ولما ظهر قبر دانيال بتستر كتب فيه
أبو موسى الأشعري رضي الله عنه إلى عمر رضي الله عنه , فكتب إليه عمر أن تحفر بالنهار ثلاثة عشر قبرا وتدفنه بالليل في واحد منها لئلا يفتتن الناس به .
وكان عمر بن الخطاب إذا رآهم يتناوبون مكانا يصلون فيه لكونه موضع نبي , ينهاهم عن ذلك ويقول إنما هلك من كان قبلكم باتخاذ آثار أنبيائهم مساجد من أدركته الصلاة فيه فليصل وإلا فليذهب .
فهذا وأمثاله مما كانوا يحققون به التوحيد الذي أرسل الله به الرسول إليهم ويتبعون في ذلك سنته صلى الله عليه وسلم . والإسلام مبني على أصلين أن لا نعبد إلا الله وأن نعبده بما شرع لا نعبده بالبدع . (25)
وقال أيضاً : " ومعلوم أن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم من السابقين الأولين والتابعين لهم بإحسان قد فتحوا البلاد بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم وسكنوا بالشام والعراق ومصر وغير هذه الأمصار , وهم كانوا أعلم بالدين وأتبع له ممن بعدهم وليس لأحد أن يخالفهم فيما كانوا عليه ,
فما كان من هذه البقاع لم يعظموه أو لم يقصدوا تخصيصه بصلاة أو دعاء أو نحو ذلك لم يكن لنا أن نخالفهم في ذلك وإن كان بعض من جاء بعدهم من أهل الفضل والدين فعل ذلك ,لأن اتباع سبيلهم أولى من اتباع سبيل من خالف سبيلهم (*) وما من أحد نقل عنه ما يخالف سبيلهم إلا وقد نقل عن غيره ممن هو أعلم منه وأفضل أنه خالف سبيل هذا المخالف وهذه جملة جامعة لا يتسع هذا الموضع لتفصيلها... إلى أن قال :
" بل قبر إبراهيم الخليل عليه الصلاة والسلام لم يكن في الصحابة ولا التابعين لهم بإحسان من يأتيه للصلاة عنده ولا الدعاء , ولا كانوا يقصدونه للزيارة أصلا . وقد قدم المسلمون إلى الشام غير مرة مع عمر بن الخطاب واستوطن الشام خلائق من الصحابة وليس فيهم من فعل شيئا من هذا ولم يبن المسلمون عليه مسجدا أصلا , لكن لما استولى النصارى على هذه الأمكنة في أواخر المائة الرابعة لما أخذوا البيت المقدس بسبب استيلاء الرافضة على الشام , و لما كانوا ملوك مصر والرافضة أمة مخذولة ليس لها عقل صحيح ولا نقل صريح ولا دين مقبول ولا دنيا منصورة , قويت النصارى وأخذت السواحل وغيرها من الرافضة وحينئذ نقبت النصارى حجرة الخليل صلوات الله عليه وجعلت لها بابا وأثر النقب ظاهر في الباب فكان اتخاذ ذلك معبدا مما أحدثته النصارى ليس من عمل سلف الأمة وخيارها . " (26)
قال ابن حجر الهيتمي الشافعي : " ... قال أصحابنا : تحرم الصلاة إلى قبور الأنبياء والأولياء تبركا وإعظاما ومثلها الصلاة عليه للتبرك والإعظام وكون هذا الفعل كبيرة ظاهرة من الأحاديث المذكورة لما علمت فقال بعض الحنابلة قصد الرجل الصلاة عند القبر متبركا به عين المحادة لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم وابتداع دين لم يأذن به الله للنهي عنها ثم إجماعا فإن أعظم المحرمات وأسباب الشرك الصلاة عندها واتخاذها مساجد أو بناؤها عليها والقول بالكراهة محمول على غير ذلك إذ لا يظن بالعلماء تجويز فعل تواتر عن النبي صلى الله عليه وسلم لعن فاعله ويجب المبادرة لهدمها وهدم القباب التي على القبور إذ هي أضر من مسجد الضرار لأنها أسست على معصية رسول الله صلى الله عليه وسلم لأنه نهى عن ذلك وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بهدم القبور المشرفة وتجب إزالة كل قنديل أو سراج على قبر ولا يصح وقفه ونذره . انتهى (27
ا)
قال القرطبي المالكي : " قال علماؤنا : وهذا يحرم على المسلمين أن يتخذوا قبور الأنبياء والعلماء مساجد " .
وقال الإمام محمد من الحنفية : " لا نرى أن يزاد على ما خرج من القبر , ونكره أن يجصص أو يطين أو يجعل عنده مسجداً " . والكراهة عند الحنفية إذا أطلقت فهي للتحريم كما هو معروف لديهم .(2
فإذا عُلم ما سبق تبين إجماع العلماء على تحريم البناء على القبور , و إن كانت قبور الأنبياء .
المبحث الثالث :الشبهات التي يتمسك بها من يجيز الصلاة في هذا المكان :
المطلب الأول :الشبهات الشرعية :
اعلم ـ رحمك الله ـ أن الشبهات والشهوات من عوائق التوحيد , وقد ذم الله تعالى إتباع الشبهات حيث قال " فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله " , وقال عليه الصلاة والسلام : " ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام " . ومن هذه الشبهات التي استدلوا بها :
● أن المقبرة إذا مضى عليها أكثر من أربعين سنة فإنها لا تكون مقبرة , ويذهب عنها حكم المقابر .
وهذا الكلام لا دليل عليه في الكتاب والسنة , ولم يثبت في ذلك حديث صحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم . ثم إن النبي صلى الله عليه وسلم لم قال" اتخذوا قبور أنبيائهم " يفهم منه أن قبور الأنبياء مرّ عليها مدة من الزمن ثم بنو على قبورهم المساجد .
● ويعتمدون على الأحاديث المكذوبة التي تدعو إلى الصلاة في هذا المكان منها حديث " أنه لما أسري بالنبي صلى الله عليه وسلم إلى بيت المقدس مرّ على قبر إبراهيم عليه السلام فقال له جبريل عليه السلام : هذا قبر إبراهيم انزل فصلّ ركعتين " وحديث " من لم يمكنه زيارتي فليزر قبر أبي إبراهيم عليه السلام " .
● ويستدلون أيضاً بقوله تعالى " قال الذين غلبوا على أمرهم لنتخذن عليهم مسجداً " .
ولا يصح الاستدلال بهذه الآية , لأنها حكاية عن القرون الغابرة وليس إقراراً , قال العلامة الألوسي في روح المعاني عند تفسيره لهذه الآية : " واستُدل بالآية على جواز البناء على قبور الصلحاء واتخاذ مسجد عليها وجواز الصلاة في ذلك وممن ذكر ذلك الشهاب الخفاجي في حواشيه على البيضاوي: وهو قول باطل عاطل فاسد كاسد فقد روى أحمد وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه عن ابن عباس قال : قال رسول الله لعن الله تعالى زائرات القبور والمتخذين عليها المساجد والسرج, ومسلم " ألا وإن من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم مساجد فإني أنهاكم عن ذلك " ...الخ .
● ومن شبههم استدلالهم بالمسجد النبوي حيث أن قبر النبي صلى الله عليه وسلم موجود داخل المسجد و المسلمون يصلون فيه بدون نكير .
وهذا الاستدلال لا يصح : لأن مسجد النبي صلى الله عليه لم يبن على قبره وإنما بُني في حياته , ولما توفي النبي صلى الله عليه وسلم دُفن في بيت عائشة رضي الله عنها خارج المسجد , واستمر هذا الحال إلى خلافة الوليد بن عبد الملك حيث قام بتوسيع المسجد , وأزال حجرات النبي صلى الله عليه وسلم وأدخلها في المسجد , فأصبح قبره داخل المسجد ولم يكن ذلك بمحضر أحدٍ من الصحابة , وقد أنكر بعض التابعين هذا العمل منهم سعيد بن المسيب , لكن الخليفة لم يستجب لذلك وحصل ما حصل , ثم جاء جهلة الناس من الصوفية وبنوا على قبره قبة , ولا حول ولا قوة إلا بالله .
, ● وبعضهم يدعي أنه لا يوجد قبور في هذه المقامات وإنما القبور في أسفل الأرض داخل المغارة
لا يُعلم مكان القبور فيها .
قلنا وما يدرينا بصحة هذا الكلام , ثم إن وجود القبور داخل المسجد كافٍ في المخالفة , لأن أحكام الشريعة المطهرة إنما تبنى على الظاهر لا الباطن كما هو معروف .
وأيضاً فيه مخالفة لما في كتب التاريخ , فإذا نفيتم وجود القبور , فاعملوا بما جاء في صحيح مسلم عن أبي الهيّاج الأسدي قال : قال لي علي بن أبي طالب : ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله صلى الله عليه و سلم ؟ أن لا تدع تمثالاً إلا طمسته , ولا قبراً مشرفاً إلا سويته " , ثم أزيلوا هذه المقامات وأعلنوا براءة المكان من وجود قبور الأنبياء فيه , فيكون الأمر كما أردتم أنه مسجد إسلامي .
● ويستدلون بقوله تعالى " ولا يطؤون موطئاً يغيظ الكفار ولا ينالون من عدوٍ نيلاً إلا كتب لهم به عمل صالح إن الله لا يضيع أجر المحسنين " .
فهذه الآية نزلت في الجهاد , و الحض على فتح بلاد الكفار , ولا دليل في الآية على ما ينشدونه .
المطلب الثاني : شبهات تعتمد على العادات والتقاليد والتراث :
إن العادات تتبع الشرع , و لا يتبع الشرع العادات , فأي شيءٍ من العادات أو التقاليد أو التراث خالفت الشرع فلا يجوز الأخذ بها , وإلا ضاهينا المشركين فيما حكاه الله عنهم " إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون " .
ومن هذه الشبهات :
● اعتمادهم على التاريخ , حيث أن كتب التاريخ أو بعضها وخاصة المعاصرة منها ذكرت هذا المكان على أنه مسجد تقام فيه الصلوات منذ مئات السنين , وقد رحل إليه كثيرٌ من العلماء وأقاموا فيه دون أن يذكروا حرمة الصلاة فيه لوجود القبور ...الخ .
أقول : العبرة بالكتاب والسنة وعمل سلف الأمة , وأي شيءٍ يعارض هذه الأصول فلا عبرة به , فأغلب كتب التاريخ ناقلة ومجمعة وليست ناقحة ومحققة , و من الأمثلة على ذلك ما جاء في كتاب " الأنس الجليل في أخبار القدس والخليل " لمجد الدين الحنبلي , فكما ذكر المؤلف فان كتابه عبارة عن أخبار فيه الصحيح و السقيم , وقد تكلم عن المقبرة الإبراهيمية مستدلاً بالأحاديث الضعيفة .
ومما ينتقد عليه ما نقله عن كعب الأحبار بدون مصدر ولا إسناد , حيث رُوي عن كعب أنه قال :
" أكثروا من الزيارة إلى قبر رسول الله قبل أن تمنعوا ذلك ... فمن منع ذلك فليجعل رحلته وإتيانه إلى قبر إبراهيم الخليل عليه السلام ... وليكثر من الدعاء عنده , فإن الدعاء عند قبر سيدنا إبراهيم الخليل مستجاب , ولم يتوسل به أحد إلى الله في شيء إلا أجابه , ولم يبرح من مكانه حتى يرى الإجابة في ذلك عاجلاً أو آجلاً . "
قلت [ المؤلف ] : وهذا مما لا شك فيه , فإني جربته في أمر وقع لي من أمور الدنيا فكنت أتوقع الهلاك منه فتوجهت من بيت المقدس إلى بلد سيدنا الخليل عليه السلام في ضرورة اقتضت سفري , فلما أن دخلت مسجده ودخلت إلى الضريح المشهور بأنه قبر إبراهيم الخليل , تعلقت بأستاره ودعوت الله تعالى فيما كنت أرجوه , فما كان بأسرع من أن فرّج الله عني كربتي ولطف بي وأزال عني كلما أزعجني.(29)
أقول : إن هذا الكلام يدل على مدى التأثر بالصوفية والمحدثات الدخيلة , ويدل على عدم معرفة الصحيح والضعيف من الأحاديث , فقد اعتمد في كلامه على رواية مكذوبة عن كعب الأحبار وبنا على ذلك عقيدة فطبقها خير تطبيق . فإذا كان الدعاء مستجاب عند قبر إبراهيم عليه السلام , فيكون
الدعاء عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم من باب أولى وأحرى , وهل فعل ذلك الصحابة ؟! ولماذا لم يذهبوا إلى قبر النبي صلى الله عليه وسلم لما أجدبوا زمن خلافة عمر بن الخطاب رضي الله عنه , ـ سبحانك هذا بهتان عظيم ـ . فلا يجوز الذهاب إلى قبور الأنبياء للدعاء عندها ,حتى وإن كان لا يدعو الأنبياء بل يدعو الله , إلا أن ذلك لا يجوز , لأنه اتخذ صاحب هذا القبر واسطة بينه وبين الله عز وجل . وأما أنه جرّب ذلك فتحقق له مراده : فالله أعلم بصدقه , ولعلها تكون فتنة له ولغيره واستدراج من الله كما جاء في أمر الدجّال وما يكون معه من الخوارق , ليعلم الله المؤمن من المنافق .
و مما قاله أيضاً ـ وفيه تلبيس على الناس ـ :
وقد رُوي عن ابن عمر ـ رضي الله عنه ـ أنه قال : إن آدم عليه السلام رأسه عند الصخرة الشريفة , ورجلاه عند مسجد إبراهيم عليه السلام " قال المؤلف : فسماه مسجداً [ وهذه الرواية ضعيفة ] .
ثم قال [ و بئس ما قال ] : وإذا كان مسجداً جاز الدخول إليه , وسماه السبكي بالحرم(30), وعمل الناس اليوم على دخوله , وزيارتهم للقبور الشريفة والوقوف عند الإشارات التي عليها , وصلاة الجماعة و
الجماعات هناك , فإنه بني به محراب شريف ووضع إلى جانبه منبر , وقد مضى على ذلك أزمنه
متطاولة والعلماء وأئمة الإسلام مطلعون على ذلك [ فيه مبالغة ]. وقد أقر الخلفاء وملوك الإسلام ولم ينكره منكر فصار كالإجماع .
وإذا تقرر هذا ثبتت له أحكام المساجد من جواز الاعتكاف فيه وتحريم المكث على الحائض والجنب فيه وفعل التحية , ولا يقال أنه مقبرة , فإن الأنبياء الذين فيه صلوات الله تعالى وسلامه عليهم أحياء في قبورهم ,وأما النساء فعلى خلاف فيه. انتهى (31)
أقول سبحانك هذا بهتان عظيم: و هل دخول الناس في هذا المكان والصلاة فيه يحلل الحرام, وهل بناء المحراب ووجود المنبر أباح ما حُرّم, ومَن مِن العلماء وأْْْئمة الإسلام بحق الذين اطلعوا على ذلك فاقروه ؟ أهم علماء الصوفية والمبتدعة؟! فلا حجة بهم . أم علماء أهل السنة و الجماعة ؟ فهم أبعد الناس عن ذلك كما ذكر شيخ الاسلام ابن تيمية رحمه الله , حيث قال: " وكان أهل الفضل من شيوخنا لا يصلّون في مجموع تلك البنية [ أي التي على قبر إبراهيم الخليل عليه السلام ] وينهون أصحابهم عن الصلاة فيه إتباعا لأمر الرسول صلى الله عليه وسلم واتقاء لمعصيته " . (32)
فكيف يزعم أنه لم ينكره منكر فصار كالإجماع , وكيف يكون اجماعاً مع وجود النهي الواضح الصريح .
وأما قوله أن الأنبياء أحياء في قبورهم : نعم هم أحياء في قبورهم حياة برزخية , فهم ميتون وينطبق عليهم أحكام الموتى , لا خصوصية لهم عن غيرهم , وإلا ماذا يقول في قبور نساء الأنبياء الموجودة مع قبور الأنبياء ؟ لكنه تحيّّّّّّّر ولم يجد جواباً .
● ومن الشبهات أن النبي صلى الله عليه وسلم أقطع الصحابي تميماً الداري رضي الله عنه منطقة حبرون ومسجد إبراهيم وآثار إبراهيم . وقد تم مناقشة ذلك بأن هذا لا يثبت ولا يصح .
● ويستدلون أيضاً بأن المنبر الموجود في المسجد الإبراهيمي من وضع صلاح الدين الأيوبي رحمه الله
بحيث بنسبونه إليه , والذي يرجع إلى المصادر المعتبرة لا يجد لهذا الكلام أصلاً , إلا في بعض
الكتب الغير معتبرة , وقد جاء في بعضها بصيغة الاحتمال .
وإن ثبت ذلك عنه فلا حجة لفعله مع نهي النبي صلى الله عليه وسلم , فلا طاعة لمخلوق في معصية
الخالق . واعلم أن السنة في عمل المنبر ألا يزاد فيه على ثلاثة درجات , بخلاف منابر هذا العصر فأكثرها مخالف للسنة . وفي هذا المنبر ـ أي منبر صلاح الدين الأيوبي ـ( * ) بدع أخرى كالزخارف وكتابة الآيات القرآنية عليه ـ والله المستعان ـ .
● وينسب بعضهم إلى الخلفاء الأمويين والعباسيين اعتناءهم بالمقبرة الإبراهيمية و جعلها مسجداً يصلى فيه , وكل هذا لا يصح عنهم.
المطلب الثالث: شبهات تعتمد على الأوضاع السياسية:
قد يقول البعض أننا نقر أن هذا المكان أصله مقبرة , ولا يجوز أن يتخذ مسجداً, لكن الناظر إلى ما يحصل لهذا المكان من الهجمات العدوانية من اليهود وغيرهم , ومحاولة الاستيلاء عليه وتحويله إلى كنيس يهودي إلى غير ذلك من الأخطار , فإن من الحكمة أن نتخذه مسجداً و نصلي فيه خوفاً من الاستيلاء عليه , فالذي ينظر إلى وضع المسجد الإبراهيمي يوجب الذهاب إليه والصلاة فيه , وعدم الذهاب إليه و الصلاة فيه ذريعة ووسيلة سانحة لليهود ليأخذوا المكان ويحولوه إلى مصلى لهم ... الخ.
ونحن نسأل سؤالا : لماذا اليهود يريدون تحويل هذا المكان بالذات إلى معبد لهم ,مع أنه يوجد حول المقبرة الإبراهيمية مساجد كثيرة, تحت حكم اليهود , كمسجد أهل السنة ـ السنيّة ـ ( * ) ومسجد قيطون و القزازين وغيرهم كثير ؟
والجواب: لأن المسجد الإبراهيمي مبني على قبور الأنبياء دون غيرهم من المساجد , و من دينهم أنهم يبنون الأبنية على قبور الأنبياء ويصلون فيها , كما أخبر عنهم النبي صلى الله عليه وسلم " لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد ", فتمسكهم به نابعه العقيدة وليس القهر والسياسة .
الخاتمة:يتضح مما سبق أن هذا المكان عبارة عن مقبرة إسلامية , وحكمها حكم باقي المقابر , تصان ولا تهان يقول ابن كثير رحمه الله : " فينبغي أن تراعى تلك المحلة ـ أي المقبرة الإبراهيمية ـ [ ولم يسمها مسجداً , فتنبه ] وأن تحترم احترام مثلها وأن تبجل وأن تجل وأن لا يداس في أرجائها خشية أن يكون قبر الخليل أو أحد أولاده الأنبياء عليهم السلام تحتها " .(33)
و هذا هو القول الحق في هذا المكان , ولا يفهم من كلام الإمام ابن كثير تعظيم القبور وإسراجها والدعاء عندها أو شدِّ الرحال إليها , فهو ينهى عن دخول هذا المكان كيلا يداس في أرجائه , لأن الإسلام نهانا نمشي على القبور أو أن نجلس عليها فضلا عن جعلها مسجدا ومصلى , يقول صلى الله عليه وسلم " صلوا في بيوتكم ولا تجعلوا بيوتكم مقابر " ومفهومه أن المقبرة لا يصلى فيها , ويقول أيضا " الأرض كلها مسجد إلا المقبرة و الحمام " .(34)فإذا عرفت كلام النبي صلى الله عليه وسلم وفقهت معناه فلا يجوز لك أن تقدم هواك أو عواطفك أو فتاوى مشايخك على أقوال النبي صلى الله عليه وسلم , وإن زخرفوا لك الأمور وحشدوا لك الشبهات المردودة , فالحق أحق أن يتبع .
أسأل الله أن يفقهنا في الدين , وأن يجعلنا ممن يعبده على علم وبصيرة , وأن يزيل عنا العصبية وحب الأهواء , وأن يحسن خاتمتنا إنه جواد كريم , وبه نستعين .
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلمالفهرست:
1-القاموس المحيط
2- خليل الرحمن العربية مدينة لها تاريخ ، يونس عمرو صفحة 43 ، ط1 ، دار القلم .
3- قصص الأنبياء , ص 180 ط. دار الفكر .
4- الأنس الجليل بتاريخ القدس والخليل ( 1 / 60 ) ط. دار النهضة
5- خليل الرحمن / يونس عمرو صفحة 43 ، 46 .
6- بلادنا فلسطين / الدبّاغ ( 5 / 57 ) .
7- اقتضاء الصراط المستقيم / ابن تيمية صفحة 401 / ط. الوزارة .
8-بلادنا فلسطين / الدباغ (5/80) .ط. دار الهدى
9- البداية والنهاية / ابن كثير ( 12/267) و (11/267) .ط.مكتبة المعارف-بيروت .
10- الأنس الجليل (1/60) .
11-مدائن فلسطين / الآغا . ص85 .
12- بلادنا فلسطين / الدباغ . (5/336) .
13- اقتضاء الصراط المستقيم (2/346) ط. الوزارة
14- المصدر السابق (2/340)
15- انظر تحذير الساجد للإمام الألباني .
16- معجم البلدان / ياقوت الحموي , ط. دار الفكر (2/387) .
17- بلادنا فلسطين (5/80) .
18 المصدر السابق .
19- المصدر السابق . (5/ 89) .
20- المصدر السابق . (5 / 108ـ111 )
21- بلادنا فلسطين . (5/ 111)
22- المصدر السابق . (5 / 322 )
23- المصدر السابق . (5 / 331)
24- المصدر السابق . (5 / 342 )
25- خليل الرحمن العربية / يونس عمرو , ص 51
26- صحيح الجامع ( 585 )
27- صحيح أبي داود ( 1 / 90 )
28- السلسلة الضعيفة ( 282 )
29- رواه الإمام أحمد بسند صحيح .
30- مشكاة المصابيح (640 ) بسند حسن .
31- مجموع الفتاوى (17 / 464 ) .
32- منهاج السنة (1/479ـ481) ط.مؤسسة قرطبة و دقائق التفسير (2/151) ط.علوم القرآن
33- اقتضاء الصراط المستقيم .(1/438ـ439) .
34- انظر تحذير الساجد . للشيخ الألباني ص47 ط.المعارف
* وهذا فيه رد على من يقول أن العلماء دخلوا المقبرة الإبراهمية ولو لم يكن مسجداً لما دخلوه , بل الهدى في اتباع منهج السلف الصالح.
35- انظر تحذير الساجد .
36- الأنس الجليل ( 1 / 56 ) 37-لا عبرة بقول أحد مع قول النبي صلى الله عليه وسلم , والسبكي يجيز شد الرحال إلى قبر النبي صلى الله عليه وسلم , وانظر الصارم المنكي في الرد على السبكي لابن عبد الهادي . وقد ذكر المؤلف أيضاً دخول السبكي وبرهان الدين الجعبري وغيرهم في المقبرة والتدريس فيها. وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم . وانظر ما نقلناه عن شيخ الإسلام ابن تيمية ص10
38- الأنس الجليل (1/57)
39- إقتضاء الصراط المستقيم (1/331) ط.السنة المحمدية (*)وصلاح الدين رحمه الله ـ وإن أخذ شيئاً من العلم على مثل أبي طاهر السلفي الصوفي! على نهج عصره: أشعري المعتقد شافعي المذهب إن لم يكن صوفي الطريقة ـ إنَّما كان عسكريًّا أكثر منه عالماً أو داعياً إلى الله على بصيرة، وقد نفع الله به في استعادة بيت المقدس من الصّليبين ولكن لم تظهر له همَّة أو محاولة لإعادة المسّلمين إلى الدّين الحقّ في البلاد التي حكمها حكماً مطلقاً بعد موت آخر ولاة الفاطميين: العاضد الذي منحه الوزارة وعيّنه قائداً لجيشه ولقَّبه (الملك الناصر)، وقد وفى له صلاح الدين فلم يَصْرف عنه الدعاء في خطبة الجمعة (رمز الولاية) إلى أحد بقايا العبّاسيين إلا في آخر مرض موته بعد أن فقد الإحاطة بما أحدثه صلاح الدّين رحمه الله، ولم يُظْهر صلاح الدين إنكاراً أو تغييراً لشيء من موبقات الفاطميّين وأشنعها وثنيّة المقامات والمشاهد والمزارات (وأشهرها وثن الحسين في القاهرة)، وقد بناه الفاطميّون قبل ربع قرن من دخول صلاح الدين في ولايتهم ثم وراثة ملكهم.ولم يُظْهر صلاح الدين تجاوز الله عنَّا وعنه إنكاراً أو تغييراً لشيء من منكرات الفاطميّين بعد استقلاله بالولاية، إلا ما يفعله أيُّ صوفي أو قبوري أو مبتدع ممن ينتمي إلى السّنة: تغيير مذهب الدراسة في الأزهر إلى مذهب الشافعي رحمه الله في أحكام العبادات والمعاملات (ولا يزال اليوم كما تركه) وإسقاط جملة: (حي على خير العمل) من ألفاظ الأذان.
بل ذكر السيوطي رحمه الله في تاريخ الخلفاء، أن صلاح الدّين هو الذي بنى تربة [قبة وثن] الشافعي في مصر، ويُذْكر عنه أنه هو الذي بنى ضريح [وثن] الرّاعي في فلسطين، ويَعْتَذِر له من يُحْسن الظنَّ به بأنه بناه مخبأ للسلاح أثناء قتال الصليبيين، ولكن هل يجوز أن يقاتل النصارى ممن دونهم بوسيلةٍ وثنيّة؟ويُذكر عنه أنه تجاوز الله عنّا وعنه أحدث بدعتي إضافة جملة الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم إلى ألفاظ الأذان، وإضافة الابتهال قبل أذان الفجر ليلتي الاثنين والجمعة، ولم يُتَحْ لي التثبت من ذلك، ولكن إبقاءه وثن الحسين وغيره، وبناءه وثن الشافعي أشر منه. [ نقلاً من كلام الشيخ سعد الحصين في أحد مقالاته على موقعه في الإنترنت ]
(*) وسبب بناءه : حديث " لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد " [ أي كانوا يرون حرمة الصلاة في المسجد الإبراهيمي ] . انظر كتاب : المسجد الإبراهيمي / قسم إحياء التراث الإسلامي ـ في بيت المقدس . ص 104 , النشرة الرابعة 1985م .ومع ذلك فنحن مع عدم جواز ترك المكان لليهود , ولا ندع لهم أية فرصة ليأخذوا المكان , فيجب أن يبقى للمسلمين و أن تبقى مقبرة إسلامية موقوفة .ولكن البحث هنا في حكم الصلاة في هذا المكان , ولا يفهم مما قلناه أن نترك المكان لليهود ليأخذوه فهذا لا يجوز, ويجب أن يبقى في يد المسلمين ما استطاعوا . وهنا سؤال : هل لا يوجد وسيلة لحماية هذا المكان أو هذه المقبرة إلا بالصلاة فيها , بل هناك وسائل أخرى يستطيع الإنسان أن يحمي هذا المكان كما يحمي مزرعته وأرضه ومصنعه ,إلى غير ذلك . ولنفترض أن مقبرة من المقابر التي ترجع للمسلمين أراد اليهود أخذها , فهل ندعو الناس إلى الصلاة في هذه المقبرة, وإذا لم نفعل ذلك أصبحنا مفرّطين مخذِّلين مسلِّمين المقبرة لليهود ؟ لا يقول هذا الكلام عاقل , فإذا تم لليهود ما يريدون , فلنعلم أن هذا أولاً ابتلاء من الله تعالى يجب الصبر عليه , وثانيا : أن ما يصيب المسلمين من بلاء لا يكون إلا بسبب الذنوب و المعاصي , فالواجب على المسلمين أن يرجعوا إلى الله تعالى , ولا يفرطوا في أوامر الله و رسوله , ولا يقدموا عواطفهم على حكم الله تعالى , قال تعالى : " ومن يتق الله يجعل له مخرجاً ويرزقه من حيث لا يحتسب "
40- قصص الأنبياء (180) ط. دار
41- صحيح الجامع (2767)
بقلم
سعد بن فتحي الزعتري
بتاريخ : 2 صفر 1428ه
تعليق