لم يكن من هديه -عليه السلام- تتبع آثار الأنبياء، والدعاء عندها
للشيخ محمد ناصر الدين الألباني رحمه الله
من كتاب تخريج أحاديث فضائل الشام و دمشق
"اجتمع الكُفار يتشاورون في أمري، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم: يا ليتني بالغوطِة، بمدينةٍ يقالُ لها: دمشقُ، حتى آتي الموضع؛ مستغاثَ الأنبياء، حيث قَتلَ ابنُ آدم أخاه، فأسألُ الله أن يهلكَ قومي، فإنهم ظالمون، فأْتاه جبريلُ، فقالَ: يامحمد! ائتِ بعضَ جبالِ مكةَ، فأوِ إلى بعض غاراتِها، فإنها معقِلُك من قومِك, قال: فخرجَ النبي -صلى الله عليه وسلم- وأبو بكر -رضي الله عنه- حتى أتيا الجبلَ، فوجدا غارًا كثيرَ الدَّوابِّ، فَجَعَلَ أبو بكر -رضيَ الله عنه- يُمَزِّقُ رداءَهُ، ويِسُدُّ الثغورَ والثقب، والنبي -صلى الله عليه وسلم- يقولُ: اللهم لا تنساها لأبي بكر..." وذكر الحديث بطوله.
قلت حديث منكر؛ مداره على رجل لم يسم، ورواه عن وهب بن منبه عنه.
وحديث هجرة النبي -صلى الله عليه وسلم- مشهور مستفيض من وجوه شتّى، وليس في شيء منها ما في هذا الحديث من تمنِّيه -صلى الله عليه وسلم أن يكون بالغوطة، ليأتي مستغاث الأنبياء، فيدعو على قومه! ولست أشك أن هذا القدر منه مكذوب موضوع على رسول الله -صلى الله عليه وسلم، فقد عَلِمَ كل مُطَّلِع على السُّنَّة أنه لم يكن من هديه -عليه السلام- تتبع آثار الأنبياء، والدعاء عندها، بل هذا مما نهى عنه الفاروق عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- وغيره.
وقد ورد عنه ذلك في ثلاث قصص:
1- عن ابن سويد قال: خرجت مع أمير المؤمنين عمر بن الخطاب من مكة إلى المدينة، فلما أصبحنا صلى بنا الغداة، ثم رأى الناس يذهبون مذهبًا، فقال: أين يذهب هؤلاء؟ قيل: يا أمير المؤمنين! مسجد صلَّى فيه رسول الله -صلى الله عليه وسلم، هم يأتون يصلون فيه، فقال:
"إنما هلك من كان قبلكم بمثل هذا، يتبعون آثار أنبيائهم، فيتخذونها كنائس وبيعًا، من أدركته الصلاة في هذه المساجد فليصلِّ، ومن لا فليمض، ولا يتعمدها".
رواه سعيد بن منصور في "سننه"، وابن وضّاح القرطبي في "البدع والنهي عنها" "ص 41و 42" بإسناد صحيح على شرط الشيخين.
2- عن نافع, أن الناس كانوا يأتون الشجرة، فقطعها عمر.
رواه ابن وضَّاح "ص42-43"، ورجال إسناده ثقات، وروى عنه شيخه عيسى بن يونس مفتي أهل طرطوس أنه: "قطعها لأن الناس كانوا يذهبون فيصلون تحتها, فخاف عليهم الفتنة".
3- ما وقع في عهده -رضي الله عنه- من تعمية قبر دانيال, فيما رواه أبو خلدة خالد بن دينار، قال ما مختصره: حدثنا أبو العالية قال:
"لما فتحنا تُسْتَر؛ وجدنا في بيت مال الهُرْمُزان سريرًا عليه رجل ميت، قلت: فما صنعتم بالرجل؟ قال: حفرنا بالنهار ثلاثة عشر قبرًا متفرقة، فلمَّا كان الليل دفناه, وسوَّينا القبور كلها لنعميه على الناس لا ينبشونه, قلت: وما يرجون منه؟ قال:كانت السماء إذا حبست عنهم أبرزوا السرير، فيمطرون, قلت: من كنتم تظنون الرجل؟ قال: رجل يُقَالُ له: دانيال".
رواه ابن إسحاق في "مغازيه", ورواه غيره على وجوه أُخَر، وفي بعضها أن الدفن كان بأمر عمر.
ومن هذا الباب ما ورد عن علي بن الحسين -رضي الله عنهما, أنه رأى رجلًا يجيء إلى فرجة كانت عند قبر النبي -صلى الله عليه وسلم, فيدخل فيها فيدعو, فنهاه فقال:
ألا أحدثكم حديثًا سمعته من أبي, عن جدي, عن رسول لله -صلى الله عليه وسلم؟ قال:
"لا تتخذوا قبري عيدًا، ولا بيتوكم قبورًا، فإن تسليمكم يبلغني أينما كنتم".
رواه الضياء المقدسي في "الأحاديث المختارة"، ورواه أبو يعلى في "مسنده", وفي إسناده رجل من أهل البيت مستور، وبقية رجاله ثقات، وهو صحيح بطرقه وشواهده، وقد خرجتها في "تحذير الساجد" "98-99".
ففي هذه الآثار النهي عن قصد قبور الأنبياء، وتتبع آثارهم للصلاة والدعاء عندها، وذلك سدًّا للذريعة، وخشية الغلو فيهم, المؤدي إلى الشرك بالله تعالى، ولذا لم يكن ذلك من فعل السلف الصالح -رضي الله عنهم، بل قال شيخ الإسلام في "اقتضاء الصراط المستقيم مخالفة أصحاب الجحيم" "ص186-187" ما ملخصه:
"كان أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وسائر السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار؛ يذهبون من المدينة إلى مكة حجَّاجًا وعُمَّارًا ومسافرين، ولم ينقل عن أحد منهم أنه تحرَّى الصلاة في مُصليات النبي -صلى الله عليه وسلم، ومعلومٌ أن هذا لو كان عندهم مستحبًّا، لكانوا إليه أسبق، فإنهم أعلم بسنته، وأتبع لها من غيرهم.. أيضًا فإن تحري الصلاة فيها ذريعة إلى اتخاذها مساجد, وذلك ذريعة إلى الشرك بالله، والشارع قد حسم هذه المادة بالنهي عن الصلاة عند طلوع الشمس وعند غروبها، وبالنهي عن اتخاذ القبور مساجد، فإذا كانت قد نهى عن الصلاة المشروعة في هذا المكان وهذا الزمان سدًّا للذريعة، فكيف يستَحبُّ قصد الصلاة والدعاء في مكانٍ اتفق قيامهم فيه أو صلاتهم فيه من غير أن يكونوا قصدوه للصلاة فيه والدعاء فيه؟ ولو ساغ هذا لاسْتُحِبَّ قصد جبل حراء والصلاة فيه، وقصد جبل ثور والصلاة فيه، وقصد الأماكن التي يقال: إن الأنبياء قاموا فيها؛ كالمقامين اللذين بطريق جبل "قاسيون" بدمشق، اللذين يقال: إنهما مقام إبراهيم وعيسى، والمقام الذي يقال: إنه مغارة دم قابيل، وأمثال ذلك من البقاع التي بالحجاز والشام وغيرهما.
ثم ذلك يفضي إلى ما أفضت إليه مفاسد القبور، فإنه يقال: إن هذا مقام نبي، أو قبر نبي، أو ولي، بخبر لا يُعْرَفُ قائله، أو بمنام لا تُعْرَفُ حقيقته، ثم يترتَّب على ذلك اتخاذه مسجدًا، فيصير وثنًا يُعْبَدُ من دون الله تعالى: شرك مبنيّ على إفك، والله سبحانه يقرن في كتابه بين الشرك والكذب، كما يقرن بين الصدق والإخلاص، ولهذا قال النبي -صلى الله عليه وسلم- في الحديث الصحيح:
"عدلت شهادة الزور بالإشراك بالله مرتين، ثم قرأ قوله الله تعالى: {فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ، حُنَفَاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ}1"2.
ثم قال مثل هذا القول في الكتاب المذكور "ص203-204", ثم قال "ص208-209":
"وقد صنَّف طائفة من الناس مصنفات في فضائل بيت المقدس، وغيره من البقاع التي بالشام، وذكروا فيها من الآثار المنقولة عن أهل الكتاب، وعَمَّنْ أخذ عنهم ما لا يحل للمسلمين أن يبنوا عليه دينهم. وأمثل من يُنقل عنه تلك الإسرائليات كعب الأحبار، وكان الشاميون قد أخذوا عنه كثيرًا من الإسرائليات، وقد قال معاوية -رضي الله عنه: "ما رأينا في هؤلاء المحدثين عن أهل الكتاب أمثل من كعب، وإن كنا لنبلوا عليه الكذب أحيانًا".
وقد ثبت في "الصحيح"3 عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال:"إذا حدثكم أهل الكتاب فلا تصدقوهم ولا تكذبوهم؛ فإما أن يحدثوكم بباطل فتصدقوه، وإما أن يحدثوكم بحقٍّ فتكذبوه".
ومن العجب أن هذه الشريعة المحفوظة المحروسة مع هذه الأمة المعصومة التي لا تجتمع على ضلالة، إذا حدث بعض أعيان التابعين عن النبي -صلى الله عليه وسلم- بحديث، كعطاء بن أبي رباح، والحسن البصري، وأبي العالية, ونحوهم، وهم من خيار علماء المسلمين، وأكابر أئمة الدين؛ توقَّفَ أهل العلم في مراسيلهم, وهؤلاء ليس بين أحدهم وبين النبي -صلى الله عليه وسلم- إلّا رجل أو رجلان أو ثلاثة مثلًا, فكيف بما ينقله كعب الأحبار وأمثاله عن الأنبياء، وبين كعب وبين النبي الذي ينقل عنه ألف سنة أو أكثر أو أقل!؟ وهو لم يسند ذلك عن ثقة بعد ثقة، بل غايته أن ينقل عن بعض الكتب التي كتبها شيوخ اليهود، وقد أخبر الله عن تبدليهم وتحريفهم، فكيف يحلُّ لمسلم أن يصدق شيئًا بمجرد هذا النقل؟ بل الواجب أن لا يصدق ذلك ولا يكذبه إلّا بدليلٍ يدل على كذبه، وهكذا أمرنا النبي -صلى الله عليه وسلم.
وفي هذه الإسرائيليات مما هو كذب على الأنبياء, أو ماهو منسوخ في شريعتنا ما لا يعلمه إلّا الله.
ومعلوم أن أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- السابقين الأولين، والتابعين لهم بإحسانٍ قد فتحوا البلاد بعد موت النبي -صلى الله عليه وسلم، وسكنوا بالشام والعراق ومصر وغير هذه الأمصار، وهم كانوا أعلم بالدين, وأتبع له ممن بعدهم، وليس لأحد أن يخالفهم فيما كانوا عليه، فما كان من هذه البقاع لم يعظموه, أو لم يقصدوا تخصيصه بصلاة أو دعاء أو نحو ذلك، لم يكن لنا أن نخالفهم في ذلك، وإن كان بعض مَنْ جاء بعدهم من أهل الفضل والدين فعل ذلك؛ لأن اتباع سبيلهم أولى من اتباع سبيل من خالف سبيلهم، وما من أحد نُقِلَ عنه ما يخالف سبيلهم إلّا وقد نقل عن غيره ممن هو أعلم وأفضل منه أنه خالف سبيل هذا المخالف، وهذه جملة جامعة لا يتسع هذا الموضع لتفصيله، وقد ثبت في الصحيح: "أن النبي -صلى الله عليه وسلم- لما أتى بيت المقدس ليلة الإسراء صلّى فيه ركعتين"، ولم يصل بمكان غيره، ولا زاره".
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الحج: الآيتان 30 و 31.
2 قلت: في تصحيح هذا الحديث نظر؛ فإن في إسناده جهالة واضطرابًا، واستغربه الترمذي, كما بينته في "الأحاديث الضعيفة" "1110"، وأزيد هنا فأقول.
قد رواه الطبراني في "الكبير" 9/ 114/ 8569" من طريق وائل بن ربيعة, عن ابن مسعود موقوفًا عليه، وإسناده حسن كما قال الهيثمي "4/ 201"، فهذا هو أصل الحديث موقوف، أخطأ في رفعه بعض المجهولين، وقد فاتني التنبيه على ذلك سابقًا، وهذا من فوائد هذه الطبعة، والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات.
3- قلت: هذا الإطلاق يعني أنه في أحد "الصحيحين" بهذا التمام، وهو سهو، فإنه إنما رواه البخاري من حديث أبي هريرة دون قوله: "فإما أن يحدثوكم..."إلخ, وهو مخرج في "الصحيحة" "423"، وإنما رواه بهذه الزيادة نحوها أبو داود وغيره من طريق أخرى، وهو مخرج في المصدر المذكور برقم "2800".