البَرَكَةُ
لم أكن أعرف معناها عندما كانت أمي أو أبي يقولها لمعلم القرآن في القرية أو الشّيخ الكبير أو العجوز الكبيرة عندما كانوا يزورونا، لكنّي كنت أشعر أنها عبارة تدلّ على التّقدير والاحترام والتّبجيل وبهذا المعنى رسخت كلمة البركة أو
( البراكة) كما كان أهل القرية يلفظونها في عقلي وقلبي،ولم تكن هذه الكلمة تقال في قريتي إلا لأهل الفضل والخير والصّلاح شأنها في ذلك شأن كلمة (سي) والتي كانت لا تقال إلا لمن حفظ شيئا من كتاب الله جل وعلا.
ثم هذه الكلمة؛أعني البركة، أو (البراكة)،ومثلها كلمة (سي) كانت من ألفاظ الكبار،ولا يسمح للصّغار ففي ذلك الزّمن كان النّاس بالنّسبة لي ولأقراني إما عمّ أو عمّة أو خال أو خالة وأمّا معلّم القرآن فكنّا نقول له: سيدي ولم يكن يجوز لنا أن ننادي من يكبرنا سنّا باسمه مطلقا.
هكذا كنّا وهكذا كان معنى البركة
وبعد أن كبرت ونلت شيئا من العلم عرفت أن ذلك المعنى الذي كان في مخيلتي عن البركة هو تقريبا نفسه المعنى الشَّرعي لهذه الكلمة الرّاقية،فقد صحّ عن النَّبي صلَّى الله عليه وسلم أنه قال:" البركة مع أكابركم ".أخرجه ابن حبان (1912) وغيره وصححه الألباني
والبركة معناها: الخير والزِّيادة وقد جاء في بعض طرق هذا الحديث لفظ:" الخير" مكان" البركة "، وفي التّنزيل قال الله جل وعلا عن عيسى عليه السلام:﴿وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ﴾ قال مجاهد: معلمًا للخير حيثما كنت.
والبركة في الطعام الزيادة فيه.
وقد سئل شيخ الإسلام ابن تيمية عن قَوْلُ الْقَائِلِ: نَحْنُ فِي بَرَكَةِ فُلَانٍ أَوْ مِنْ وَقْتِ حُلُولِهِ عِنْدَنَا حَلَّتْ الْبَرَكَةُ. فَقال: هَذَا الْكَلَامُ صَحِيحٌ بِاعْتِبَارِ بَاطِلٌ بِاعْتِبَارِ.
فَأَمَّا الصَّحِيحُ: فَأَنْ يُرَادَ بِهِ أَنَّهُ هَدَانَا وَعَلَّمَنَا وَأَمَرَنَا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَانَا عَنْ الْمُنْكَرِ فَبِبَرَكَةِ اتِّبَاعِهِ وَطَاعَتِهِ حَصَلَ لَنَا مِنْ الْخَيْرِ مَا حَصَلَ فَهَذَا كَلَامٌ صَحِيحٌ. كَمَا كَانَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ لَمَّا قَدِمَ عَلَيْهِمْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي بَرَكَتِهِ لَمَّا آمَنُوا بِهِ وَأَطَاعُوهُ فَبِبَرَكَةِ ذَلِكَ حَصَلَ لَهُمْ سَعَادَةُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ بَلْ كُلُّ مُؤْمِنٍ آمَنَ بِالرَّسُولِ وَأَطَاعَهُ حَصَلَ لَهُ مِنْ بَرَكَةِ الرَّسُولِ بِسَبَبِ إيمَانِهِ وَطَاعَتِهِ مِنْ خَيْرِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ مَا لَا يَعْلَمُهُ إلَّا اللَّهُ. وَ أَيْضًا إذَا أُرِيدَ بِذَلِكَ أَنَّهُ بِبَرَكَةِ دُعَائِهِ وَصَلَاحِهِ دَفَعَ اللَّهُ الشَّرَّ وَحَصَلَ لَنَا رِزْقٌ وَنَصْرٌ فَهَذَا حَقٌّ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :«وَهَلْ تُنْصَرُونَ وَتُرْزَقُونَ إلَّا بِضُعَفَائِكُمْ» بِدُعَائِهِمْ وَصَلَاتِهِمْ وَإِخْلَاصِهِمْ؟ وَقَدْ يَدْفَعُ الْعَذَابَ عَنْ الْكُفَّارِ وَالْفُجَّارِ لِئَلَّا يُصِيبَ مِنْ بَيْنِهِمْ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ مِمَّنْ لَا يَسْتَحِقُّ الْعَذَابَ. وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى ﴿وَلَوْلَا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ ﴾- إلَى قَوْلِهِ - ﴿لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا﴾ فَلَوْلَا الضُّعَفَاءُ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ كَانُوا بِمَكَّةَ بَيْنَ ظهراني الْكُفَّارِ عَذَّبَ اللَّهُ الْكُفَّارَ: وَكَذَلِكَ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَوْلَا مَا فِي الْبُيُوتِ مِنْ النِّسَاءِ وَالذَّرَارِيِّ لَأَمَرْت بِالصَّلَاةِ فَتُقَامُ ثُمَّ أَنْطَلِقُ مَعِي بِرِجَالِ مَعَهُمْ حُزَمٌ مِنْ حَطَبٍ إلَى قَوْمٍ لَا يَشْهَدُونَ الصَّلَاةَ مَعَنَا فَأُحَرِّقَ عَلَيْهِمْ بُيُوتَهُمْ »،وَكَذَلِكَ تَرَكَ رَجْمَ الْحَامِلِ حَتَّى تَضَعَ جَنِينَهَا. وَقَدْ قَالَ الْمَسِيحُ عَلَيْهِ السَّلَامُ ﴿وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ﴾ فَبَرَكَاتُ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ الصَّالِحِينَ بِاعْتِبَارِ نَفْعِهِمْ لِلْخَلْقِ بِدُعَائِهِمْ إلَى طَاعَةِ اللَّهِ وَبِدُعَائِهِمْ لِلْخَلْقِ وَبِمَا يُنْزِلُ اللَّهُ مِنْ الرَّحْمَةِ وَيَدْفَعُ مِنْ الْعَذَابِ بِسَبَبِهِمْ حَقٌّ مَوْجُودٌ فَمَنْ أَرَادَ بِالْبَرَكَةِ هَذَا وَكَانَ صَادِقًا فَقَوْلُهُ حَقٌّ. وَأَمَّا " الْمَعْنَى الْبَاطِلُ " فَمِثْلُ أَنْ يُرِيدَ الْإِشْرَاكَ بِالْخَلْقِ: مِثْلُ أَنْ يَكُونَ رَجُلٌ مَقْبُورٌ بِمَكَانِ فَيَظُنُّ أَنَّ اللَّهَ يَتَوَلَّاهُمْ لِأَجْلِهِ وَإِنْ لَمْ يَقُومُوا بِطَاعَةِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ فَهَذَا جَهْلٌ. انتهى كلامه رحمه الله
واليوم وأنا أذكر تلك الكلمة الطيّبة الرّاقية ( البركة) أو(البراكة) ومثلها كلمة (سي) ودلالاتهما عند جدتي وأهل قريتي مع جهلهم وقلة علمهم، أنظر إلى البقية الباقية من النّاس ممن بقي يقولها بازدراء واحتقار ذلك أن أكثرهم صار يصف بالبركة من وصفهم الله أو نبيه صلى الله عليه وسلم بالفسق
والفجور كما أصبحت كلمة (سي) تضاف لكل من جمع المال وعدّده يحسب أنّ ماله أخلده، وأما معلم القرآن الذي كنّا نناديه سيدي ترى اليوم كثيرا ممن يعلمهم ينادونه باسمه
ولكني أومن بقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم:«لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خذلهم حتى يأتي أمر الله وهم كذلك». رواه مسلم
ولكني أومن بقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم:«لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خذلهم حتى يأتي أمر الله وهم كذلك». رواه مسلم
وصلَّى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه