فتاوى العقيدة - التوحيد وما يُضادُّه - الأسماء والصفات
في نفي إضافة الشرِّ إلى الله تعالى
السؤال:
في الشرِّ الذي يقابل الخير، هل عدم إضافة الشرِّ إلى الله تعالى لأنه لو أضيف إليه لكان خيرًا؟ أم أنَّ له اعتبارًا آخَرَ غير هذا؟ أفيدونا جزاكم الله خيرًا.
الجواب:
الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على من أرسله اللهُ رحمةً للعالمين، وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدِّين، أمَّا بعد:
فما تدلُّ عليه النصوص الشرعية أنَّ الخير يضاف إلى الله تعالى، والشرَّ يُنفى عنه، فلا يوصف الله سبحانه بالشرِّ ولا يفعله ولا يتسمَّى به مطلقًا بأيِّ وجهٍ من الوجوه، ويدلُّ عليه قوله تعالى: ﴿... وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ [آل عمران: ٢٦]، وقوله صلَّى الله عليه وسلَّم: «... لَبَّيْكَ وَسَعْدَيْكَ وَالْخَيْرُ كُلُّهُ فِي يَدَيْكَ، وَالشَّرُّ لَيْسَ إِلَيْكَ، ...»(١).
هذا، وليس معنى نفيِ إضافة الشرِّ إلى الله تعالى هو نفيَ كونه مخلوقًا بأمره وإرادته، بل الشرُّ هو داخلٌ في عموم مخلوقاته ومفعولاته، واللهُ سبحانه لا يوصف بشيءٍ من مخلوقاته، وإنما يوصف بفعله وخلقه، قال ابن القيِّم -رحمه الله-: «وهو سبحانه خالق الخير والشرِّ، فالشرُّ في بعض مخلوقاته لا في خلقه وفعله، وخلْقُه وفعلُه وقضاؤه وقدره خيرٌ كلُّه، ولهذا تَنَزَّه سبحانه عن الظلم الذي حقيقتُه وضعُ الشيء في غير موضعه -كما تقدَّم-، فلا يضع الأشياءَ إلا في مواضعها اللائقة بها وذلك خيرٌ كلُّه، والشرُّ وضع الشيء في غير محلِّه، فإذا وُضع في محلِّه لم يكن شرًّا، فعُلم أنَّ الشرَّ ليس إليه»(٢).
كما أنَّ الله تعالى لم يخلقِ الشَّرَّ محضًا مطلقًا من جميع الوجوه، وإنما هو نسبيٌّ إضافيٌّ، ويؤكِّد هذا المعنى ما نصَّ عليه ابن أبي العزِّ -رحمه الله- بقوله: «فاعلم أنَّ الشرَّ كلَّه يرجع إلى العدم، أعني عدمَ الخير وأسبابِه المفضية إليه، وهو من هذه الجهة شرٌّ، وأمَّا مِن جهة وجوده المحض فلا شرَّ فيه، مثالُه أنَّ النفوس الشِّرِّيرة وجودُها خيرٌ من حيث هي موجودةٌ، وإنما حصل لها الشرُّ بقطع مادَّة الخير عنها، فإنها خُلقت في الأصل متحرِّكةً، فإن أُعينتْ بالعلم وإلهام الخير تحرَّكت به، وإن تُركت تحرَّكت بطبعها إلى خلافه، وحركتُها -من حيث هي حركةٌ- خيرٌ، وإنما تكون شرًّا بالإضافة لا من حيث هي حركةٌ، والشرُّ كلُّه ظلمٌ، وهو وضعُ الشيء في غير محلِّه، فلو وُضع في موضعه لم يكن شرًّا، فعُلم أنَّ جهة الشرِّ فيه نسبيةٌ إضافيةٌ، ولهذا كانت العقوبات الموضوعة في محالِّها خيرًا في نفسها، وإن كانت شرًّا بالنسبة إلى المحلِّ الذي حلَّت به لِما أحدثت فيه من الألم الذي كانت الطبيعةُ قابلةً لضدِّه من اللذَّة مستعدَّةً له، فصار ذلك الألم شرًّا بالنسبة إليها، وهو خيرٌ بالنسبة إلى الفاعل حيث وضَعَه في موضعه، فإنه سبحانه لم يخلق شرًّا محضًا من جميع الوجوه والاعتبارات، فإنَّ حكمته تأبى ذلك، فلا يكون في جناب الحقِّ تعالى أن يريد شيئًا يكون فسادًا من كلِّ وجهٍ لا مصلحةَ في خلقه بوجهٍ ما، هذا من أبين المُحال، فإنه سبحانه الخيرُ كلُّه بيديه والشرُّ ليس إليه، بل كلُّ ما إليه فخيرٌ، والشرُّ إنما حصل لعدم هذه الإضافة والنسبة إليه، فلو كان إليه لم يكن شرًّا، فتأمَّلْه، فانقطاع نسبته إليه هو الذي صيَّره شرًّا»(٣).
هذا، وقد يكون انقطاع نسبة الشرِّ إلى الله تعالى يختلف باختلاف المقصود منه:
- فإن أُريد بالشرِّ وضعُ الشيء في غير مَحَلِّه فإنَّ هذا هو الظلمُ، والله منزَّهٌ عن الظلم لقوله تعالى: ﴿وَلاَ يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا﴾ [الكهف: ٤٩]، وقولِه تعالى: ﴿وَمَا رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ﴾ [فُصِّلت: ٤٦]، وقولِه تعالى: ﴿وَلاَ تُظْلَمُونَ فَتِيلاً﴾ [النساء: ٧٧]، وفي الحديث فيما يرويه النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم عن ربِّه: «يَا عِبَادِي إِنِّي حَرَّمْتُ الظُّلْمَ عَلَى نَفْسِي، وَجَعَلْتُهُ بَيْنَكُمْ مُحَرَّمًا، فَلاَ تَظَالَمُوا»(٤).
- وإن أريد بالشرِّ إلحاقُ العقوبة بالمذنب أو الجاني أو الظالم فإنَّ هذا ليس بشرٍّ وإنما هو عدلٌ منه سبحانه وتعالى.
- وإن أريد بالشرِّ عدمُ الخير وانعدامُ أسبابه المفضية إليه وسُبُلِه المُوصِلة إليه، فالعدمُ ليس بشيءٍ في الوجود الخارجيِّ إلاَّ في الذهن والعلم وليس فعلاً -أيضًا-، لذلك لا يُنْسَب العدمُ إلى الله تعالى، ومن هذا المنطلق -أيضًا- إن أريد بالشرِّ من العبد عدمُ التوفيق للإيمان والهدى فإنَّ التوفيق إليهما من فضله سبحانه وتعالى الذي يؤتيه مَن يشاء مِن عباده، ومنعُ الفضل لا يُعَدُّ شرًّا ولا ظلمًا.
قال ابن القيِّم -رحمه الله-: «والعبد إذا فَعَل القبيحَ المنهيَّ عنه كان قد فعَلَ الشرَّ والسوء، والربُّ سبحانه هو الذي جعله فاعلاً لذلك، وهذا الجعل منه عدلٌ وحكمةٌ وصوابٌ، فجعلُه فاعلاً خيرٌ والمفعولُ شرٌّ قبيحٌ، فهو سبحانه بهذا الجعل قد وَضَع الشيءَ موضِعَه لِما له في ذلك مِن الحكمة البالغة التي يُحمد عليها، فهو خيرٌ وحكمةٌ ومصلحةٌ، وإن كان وقوعه مِن العبد عيبًا ونقصًا وشرًّا»(٥)، وقال الحكميُّ -رحمه الله-: «فإذا أراد بعبده الخيرَ أعطاه مِن فضله علمًا وعدلاً وحكمةً، فيصدر منه الإحسانُ والطاعة والبرُّ والخير، وإذا أراد به شرًّا أمسكه عنه وخلاَّه ودواعيَ نفسه وطبعِه وموجَبَها، فصدر منه موجَبُ الجهل والظلم مِن كلِّ شرٍّ وقبيحٍ، وليس منعُه لذلك ظلمًا منه سبحانه، فإنه فضلُه يؤتيه مَن يشاء، وليس مَن منَعَ فضْلَه ظالمًا، ولا سيَّما إذا مَنَعه عن مَحَلٍّ لا يستحقُّه ولا يليق به»(٦).
هذا، وقد بيَّن العلماء أنَّ الشرَّ لم يَرِدْ مضافًا إلى الله في كلامه تعالى إلاَّ متضمِّنًا أحدَ الوجوه الثلاثة التالية:
الأولى: أن يُذكر الشرُّ مع مخلوقاته لدخوله ضمن العموم الذي يفيد عمومَ القدرة والمشيئة والخلق، مثل قوله تعالى: ﴿اللهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ﴾ [الرعد: ١٦، الزمر: ٦٢]، وقوله تعالى: ﴿وَاللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ [البقرة: ٢٨٤]، وقوله تعالى: ﴿يَخْلُقُ اللهُ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ [النور: ٤٥].
الثانية: أن يُحذف فاعلُ الشرِّ مثل قوله تعالى عن مؤمني الجنِّ: ﴿وَأَنَّا لاَ نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا﴾ [الجن: ١٠].
الثالثة: أن يُسْنَدَ إلى مَحَلِّه القائم به كقول إبراهيم عليه السلام في قوله تعالى: ﴿الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ. وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ. وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ﴾ [الشعراء: ٧٨-٨٠]، فأضاف إبراهيم عليه السلام المرضَ إلى نفسه التي هي مَحَلُّ المرض ولم يُسنده إلى الله تعالى.
والعلم عند الله تعالى، وآخر دعوانا أن الحمد لله ربِّ العالمين وصلَّى الله على محمَّدٍ وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين وسلَّم تسليمًا.
(١) أخرجه مسلم في «صلاة المسافرين وقصرها» (٧٧١) من حديث عليِّ بن أبي طالبٍ رضي الله عنه.
(٢) «شفاء العليل» لابن القيِّم (١٧٩).
(٣) «شرح العقيدة الطحاوية» لابن أبي العزِّ (٢٨٣-٢٨٤).
(٤) أخرجه مسلم في «البرِّ والصلة» (٢٥٧٧) من حديث أبي ذرٍّ رضي الله عنه.
(٥) «شفاء العليل» لابن القيِّم (١٨٠).
(٦) «معارج القبول» للحكمي (١/ ٢٢٧).
في نفي إضافة الشرِّ إلى الله تعالى
السؤال:
في الشرِّ الذي يقابل الخير، هل عدم إضافة الشرِّ إلى الله تعالى لأنه لو أضيف إليه لكان خيرًا؟ أم أنَّ له اعتبارًا آخَرَ غير هذا؟ أفيدونا جزاكم الله خيرًا.
الجواب:
الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على من أرسله اللهُ رحمةً للعالمين، وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدِّين، أمَّا بعد:
فما تدلُّ عليه النصوص الشرعية أنَّ الخير يضاف إلى الله تعالى، والشرَّ يُنفى عنه، فلا يوصف الله سبحانه بالشرِّ ولا يفعله ولا يتسمَّى به مطلقًا بأيِّ وجهٍ من الوجوه، ويدلُّ عليه قوله تعالى: ﴿... وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ [آل عمران: ٢٦]، وقوله صلَّى الله عليه وسلَّم: «... لَبَّيْكَ وَسَعْدَيْكَ وَالْخَيْرُ كُلُّهُ فِي يَدَيْكَ، وَالشَّرُّ لَيْسَ إِلَيْكَ، ...»(١).
هذا، وليس معنى نفيِ إضافة الشرِّ إلى الله تعالى هو نفيَ كونه مخلوقًا بأمره وإرادته، بل الشرُّ هو داخلٌ في عموم مخلوقاته ومفعولاته، واللهُ سبحانه لا يوصف بشيءٍ من مخلوقاته، وإنما يوصف بفعله وخلقه، قال ابن القيِّم -رحمه الله-: «وهو سبحانه خالق الخير والشرِّ، فالشرُّ في بعض مخلوقاته لا في خلقه وفعله، وخلْقُه وفعلُه وقضاؤه وقدره خيرٌ كلُّه، ولهذا تَنَزَّه سبحانه عن الظلم الذي حقيقتُه وضعُ الشيء في غير موضعه -كما تقدَّم-، فلا يضع الأشياءَ إلا في مواضعها اللائقة بها وذلك خيرٌ كلُّه، والشرُّ وضع الشيء في غير محلِّه، فإذا وُضع في محلِّه لم يكن شرًّا، فعُلم أنَّ الشرَّ ليس إليه»(٢).
كما أنَّ الله تعالى لم يخلقِ الشَّرَّ محضًا مطلقًا من جميع الوجوه، وإنما هو نسبيٌّ إضافيٌّ، ويؤكِّد هذا المعنى ما نصَّ عليه ابن أبي العزِّ -رحمه الله- بقوله: «فاعلم أنَّ الشرَّ كلَّه يرجع إلى العدم، أعني عدمَ الخير وأسبابِه المفضية إليه، وهو من هذه الجهة شرٌّ، وأمَّا مِن جهة وجوده المحض فلا شرَّ فيه، مثالُه أنَّ النفوس الشِّرِّيرة وجودُها خيرٌ من حيث هي موجودةٌ، وإنما حصل لها الشرُّ بقطع مادَّة الخير عنها، فإنها خُلقت في الأصل متحرِّكةً، فإن أُعينتْ بالعلم وإلهام الخير تحرَّكت به، وإن تُركت تحرَّكت بطبعها إلى خلافه، وحركتُها -من حيث هي حركةٌ- خيرٌ، وإنما تكون شرًّا بالإضافة لا من حيث هي حركةٌ، والشرُّ كلُّه ظلمٌ، وهو وضعُ الشيء في غير محلِّه، فلو وُضع في موضعه لم يكن شرًّا، فعُلم أنَّ جهة الشرِّ فيه نسبيةٌ إضافيةٌ، ولهذا كانت العقوبات الموضوعة في محالِّها خيرًا في نفسها، وإن كانت شرًّا بالنسبة إلى المحلِّ الذي حلَّت به لِما أحدثت فيه من الألم الذي كانت الطبيعةُ قابلةً لضدِّه من اللذَّة مستعدَّةً له، فصار ذلك الألم شرًّا بالنسبة إليها، وهو خيرٌ بالنسبة إلى الفاعل حيث وضَعَه في موضعه، فإنه سبحانه لم يخلق شرًّا محضًا من جميع الوجوه والاعتبارات، فإنَّ حكمته تأبى ذلك، فلا يكون في جناب الحقِّ تعالى أن يريد شيئًا يكون فسادًا من كلِّ وجهٍ لا مصلحةَ في خلقه بوجهٍ ما، هذا من أبين المُحال، فإنه سبحانه الخيرُ كلُّه بيديه والشرُّ ليس إليه، بل كلُّ ما إليه فخيرٌ، والشرُّ إنما حصل لعدم هذه الإضافة والنسبة إليه، فلو كان إليه لم يكن شرًّا، فتأمَّلْه، فانقطاع نسبته إليه هو الذي صيَّره شرًّا»(٣).
هذا، وقد يكون انقطاع نسبة الشرِّ إلى الله تعالى يختلف باختلاف المقصود منه:
- فإن أُريد بالشرِّ وضعُ الشيء في غير مَحَلِّه فإنَّ هذا هو الظلمُ، والله منزَّهٌ عن الظلم لقوله تعالى: ﴿وَلاَ يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا﴾ [الكهف: ٤٩]، وقولِه تعالى: ﴿وَمَا رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ﴾ [فُصِّلت: ٤٦]، وقولِه تعالى: ﴿وَلاَ تُظْلَمُونَ فَتِيلاً﴾ [النساء: ٧٧]، وفي الحديث فيما يرويه النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم عن ربِّه: «يَا عِبَادِي إِنِّي حَرَّمْتُ الظُّلْمَ عَلَى نَفْسِي، وَجَعَلْتُهُ بَيْنَكُمْ مُحَرَّمًا، فَلاَ تَظَالَمُوا»(٤).
- وإن أريد بالشرِّ إلحاقُ العقوبة بالمذنب أو الجاني أو الظالم فإنَّ هذا ليس بشرٍّ وإنما هو عدلٌ منه سبحانه وتعالى.
- وإن أريد بالشرِّ عدمُ الخير وانعدامُ أسبابه المفضية إليه وسُبُلِه المُوصِلة إليه، فالعدمُ ليس بشيءٍ في الوجود الخارجيِّ إلاَّ في الذهن والعلم وليس فعلاً -أيضًا-، لذلك لا يُنْسَب العدمُ إلى الله تعالى، ومن هذا المنطلق -أيضًا- إن أريد بالشرِّ من العبد عدمُ التوفيق للإيمان والهدى فإنَّ التوفيق إليهما من فضله سبحانه وتعالى الذي يؤتيه مَن يشاء مِن عباده، ومنعُ الفضل لا يُعَدُّ شرًّا ولا ظلمًا.
قال ابن القيِّم -رحمه الله-: «والعبد إذا فَعَل القبيحَ المنهيَّ عنه كان قد فعَلَ الشرَّ والسوء، والربُّ سبحانه هو الذي جعله فاعلاً لذلك، وهذا الجعل منه عدلٌ وحكمةٌ وصوابٌ، فجعلُه فاعلاً خيرٌ والمفعولُ شرٌّ قبيحٌ، فهو سبحانه بهذا الجعل قد وَضَع الشيءَ موضِعَه لِما له في ذلك مِن الحكمة البالغة التي يُحمد عليها، فهو خيرٌ وحكمةٌ ومصلحةٌ، وإن كان وقوعه مِن العبد عيبًا ونقصًا وشرًّا»(٥)، وقال الحكميُّ -رحمه الله-: «فإذا أراد بعبده الخيرَ أعطاه مِن فضله علمًا وعدلاً وحكمةً، فيصدر منه الإحسانُ والطاعة والبرُّ والخير، وإذا أراد به شرًّا أمسكه عنه وخلاَّه ودواعيَ نفسه وطبعِه وموجَبَها، فصدر منه موجَبُ الجهل والظلم مِن كلِّ شرٍّ وقبيحٍ، وليس منعُه لذلك ظلمًا منه سبحانه، فإنه فضلُه يؤتيه مَن يشاء، وليس مَن منَعَ فضْلَه ظالمًا، ولا سيَّما إذا مَنَعه عن مَحَلٍّ لا يستحقُّه ولا يليق به»(٦).
هذا، وقد بيَّن العلماء أنَّ الشرَّ لم يَرِدْ مضافًا إلى الله في كلامه تعالى إلاَّ متضمِّنًا أحدَ الوجوه الثلاثة التالية:
الأولى: أن يُذكر الشرُّ مع مخلوقاته لدخوله ضمن العموم الذي يفيد عمومَ القدرة والمشيئة والخلق، مثل قوله تعالى: ﴿اللهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ﴾ [الرعد: ١٦، الزمر: ٦٢]، وقوله تعالى: ﴿وَاللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ [البقرة: ٢٨٤]، وقوله تعالى: ﴿يَخْلُقُ اللهُ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ [النور: ٤٥].
الثانية: أن يُحذف فاعلُ الشرِّ مثل قوله تعالى عن مؤمني الجنِّ: ﴿وَأَنَّا لاَ نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا﴾ [الجن: ١٠].
الثالثة: أن يُسْنَدَ إلى مَحَلِّه القائم به كقول إبراهيم عليه السلام في قوله تعالى: ﴿الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ. وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ. وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ﴾ [الشعراء: ٧٨-٨٠]، فأضاف إبراهيم عليه السلام المرضَ إلى نفسه التي هي مَحَلُّ المرض ولم يُسنده إلى الله تعالى.
والعلم عند الله تعالى، وآخر دعوانا أن الحمد لله ربِّ العالمين وصلَّى الله على محمَّدٍ وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين وسلَّم تسليمًا.
الجزائر في: ٢٢ من ذي الحجَّة ١٤٣٢ﻫ
الموافق ﻟ: ١٨ نوفمبر ٢٠١١م
الشيخ فركوس
الشيخ فركوس
(١) أخرجه مسلم في «صلاة المسافرين وقصرها» (٧٧١) من حديث عليِّ بن أبي طالبٍ رضي الله عنه.
(٢) «شفاء العليل» لابن القيِّم (١٧٩).
(٣) «شرح العقيدة الطحاوية» لابن أبي العزِّ (٢٨٣-٢٨٤).
(٤) أخرجه مسلم في «البرِّ والصلة» (٢٥٧٧) من حديث أبي ذرٍّ رضي الله عنه.
(٥) «شفاء العليل» لابن القيِّم (١٨٠).
(٦) «معارج القبول» للحكمي (١/ ٢٢٧).