وَقَالَ اللَّهُ لَا تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ
كلمة ألقيت في المدينة النبوية بتاريخ/ 20-12-1435 هـ
للشيخ عبد الرزاق البدر حفظه الله
الحمدُ لله رب العالمين ، وأشهدُ أن لا إله إلا اللهُ وحده لا شريك له ، وأشهدُ أن محمداً عبده ورسوله ؛ صلَّى اللهُ وسلَّم عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين . اللهم علِّمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علَّمتنا وزدنا علما ، وأصلح لنا شأننا كله ، ولا تكلنا إلى أنفسنا طرفة عين ، اللهم واهدنا أجمعين إليك صراطًا مستقيما يا حي يا قيوم يا ذا الجلال والإكرام .
أما بعد معاشر الكرام : لنقف وقفة تأمل مع الآية الكريمة الأولى مما استمعتا إليه قبل قليل وهي قول الله تبارك وتعالى في سورة النحل : {وَقَالَ اللَّهُ لَا تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ (51) وَلَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَهُ الدِّينُ وَاصِبًا أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَتَّقُونَ (52) وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ} .
فإن هذا السياق العظيم من أعظم السياقات في ذكر التوحيد وإقامة الحجج عليه وبيان البراهين في هذه السورة العظيمة «سورة النحل» التي سماها أهل العلم «سورة النِّعَم» لكثرة ما عدَّد الله تبارك وتعالى فقيها من نعمه على عباده ، وأعظم النعم التي عدها الله تبارك وتعالى في هذه السورة هي أول نعمةٍ ذُكرت فيها ، قال الله تعالى: {أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (1) يُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ (2)} ؛ وهذه النعمة هي نعمة التوحيد ، هي أعظم النعم وأجلُّها على الإطلاق ، ولهذا قال أحد السلف -ولعله سفيان بن عيينة- قال : "ما أنعم الله على عباده بنعمة أعظم من أن عرَّفهم لا إله إلا الله" ، فهذه أعظم النعم وأجلُّها على الإطلاق
وسورة النعَم صُدِّرت بهذه النعمة نعمة التوحيد «لا إله إلا الله» ؛ نزول الوحي بالدعوة إلى توحيد الله تبارك وتعالى ، ثم عُدِّدت في هذه السورة نعم الله تبارك وتعالى نعمةً تلو الأخرى والغرض من عدِّ هذه النعم إقامة البراهين على توحيد الله ووجوب إخلاص الدين له تبارك وتعالى ووجوب إفراده بالعبادة تبارك وتعالى ، ولهذا خُتمت هذه النعم وخُتم عدِّها بقول الله عز وجل في تمام عد هذه النعم من هذه السورة بقوله جل وعلا :{كَذَلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ (81)} ؛ هذا هو الغرض من هذه النعم ، الغرض من هذه النعم أن نسلِم لله ، والإسلام : هو الاستسلام لله بالتوحيد ، هذا هو الإسلام ، { لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ } أي : تسلمون لله مخلصين دينكم له ، فالإسلام هو الاستسلام لله بالتوحيد . ومن لم يستسلم لله فهو مستكبر ، ومن استسلم لله ولغيره فهو مشرك ، ولهذا فإن الذي يضاد الإسلام الشرك والاستكبار ، لأن من لم يستسلم لله فهو مستكبر ، ومن استسلم له ولغيره بأن جعل غيره شريكًا له فهو المشرك ، وكلٌ من الاستكبار والشرك منافٍ للاستسلام لله تبارك وتعالى .
الحاصل أن هذه السورة العظيمة عُدِّدت فيها النعم إقامةً للبرهان على وجوب توحيد الله ، توحيد المنعِم وإخلاص الدين له تبارك وتعالى ، ولهذا جاء في أثناء عد هذه النعم قوله جل في علاه {وَقَالَ اللَّهُ لَا تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ} والإله : هو المعبود ، ومعنى { لَا تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ} أي لا تتخذوا معبودين بل أخلصوا عبادتكم لمعبودٍ واحد وهو الله تبارك وتعالى ، أفردوه وحده بالعبادة لا تجعلوا معه شركاء في العبادة .
{وَقَالَ اللَّهُ لَا تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ } وهذا هو التوحيد ؛ { إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ } هذا هو معنى «لا إله إلا الله» كلمة التوحيد ، ومعنى{ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ } : أي إنما هو معبود واحد لا شريك له بالعبادة ، والإله في اللغة هو المعبود . والأسلوب هنا أسلوب حاصر مثل «لا إله إلا الله» أسلوبها أسلوب حاصر، فقوله «لا إله إلا الله» مثله{ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ } فهذا توحيد وهذا توحيد ، قوله { إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ } هذا توحيد ، و«لا إله إلا الله» هذا توحيد ؛ فإن التوحيد نفيٌ وإثبات ، نفي للعبودية عن كل من سوى الله ، وإثبات للعبودية بكل معانيها لله وحده ، وهذا قائم في هذه الآية {وَقَالَ اللَّهُ لَا تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ } هذا نفي ، { إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ } هذا إثبات للعبودية بكل معانيها لله تبارك وتعالى وحده بأن يخلَص له الدين وأن يفرد سبحانه وتعالى وحده بالعبادة وأن لا يجعل معه شريك في شيءٍ منها .
{ فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ } وتقديم المعمول هنا على عامله يفيد الحصر ، فقوله { فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ }أي وحدي لا تجعلوا معي شريكًا في ذلك ؛ أخلصوا لي الخشية والرهبة والخوف { فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ }لأن الأمر كله بيد الله ؛ هو المانع المعطي ، القابض الباسط ، الخافض الرافع ، المعز المذل ، الذي بيده تبارك وتعالى الأمر . ومن خاف من الله خافه كل شيء ، ومن لم يخف الله خاف من كل شيء ، ولهذا من توحيد المرء أن يكون خوفه ورهبته وخشيته من الله وحده {إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ} أي يخوفكم بأوليائه { فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ}[آل عمران:175] ، والخوف والخشية والرهبة هذه كلها عبادة وتقرب ولا يكون إلا لله سبحانه وتعالى ، فلا يكون الخوف والخشية والرهبة ونحوها إلا من الله وحده { فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ } .
من الدلائل على هذا التوحيد:{ وَلَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ } أي ملكًا ، كله ملك الله ، وخلقًا وإيجادًا ، وتصرفًا وتدبيرا ، تفرد تبارك وتعالى بملك السماوات والأرض وما فيهما ؛ وهذا من الدلائل والبراهين على وجوب توحيد الله كما في آية الكرسي {اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ}[البقرة:255] ، هذا من براهين التوحيد { لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ }، تفرده سبحانه وتعالى بالملك من براهين وجوب توحيده وإخلاص الدين له .
{ وَلَهُ الدِّينُ وَاصِبًا أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَتَّقُونَ } أي أنه مع هذه البراهين الواضحات والدلائل البينات والحجج الساطعات تجعلون تقواكم لغير الله !! { أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَتَّقُونَ }!! فإن هذه البراهين من وجوب إخلاص تقوى العبد وعبادته وجميع طاعاته لله سبحانه وتعالى دون أن يجعل معه شريك كما يدل عليه قوله{ وَلَهُ الدِّينُ وَاصِبًا أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَتَّقُونَ } .
{ وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ}؛ « نعمة » هنا مفرد مضاف ، والقاعدة أن المفرد إذا أضيف يفيد العموم ؛ أي كل نعمة بكم فهي من الله ، نعمة الصحة والعافية والمركب والمسكن والمشرب والملبس والولد والتجارة وغير ذلك كل هذه النعم تفرد الله سبحانه وتعالى بالإنعام بها والتفضل بها لا شريك له سبحانه وتعالى في شيء من ذلك ؛ فوجب أن يُفرد وحده بالعبادة وأن يخلَص الدين له جل في علاه وأن لا يجعل معه شريك في شيء من ذلك .
والحاصل أن هذا السياق الكريم السياق العظيم إنما هو في تقرير التوحيد الذي هو أعظم الغايات وأجل المطالب وأنبلها ، وهو الذي ينبغي على المسلم أن يُعنى به عناية مقدمةً على العناية بكل أمرٍ من الأمور ، لأن التوحيد هو أساس الدين ، وأساس السعادة والفلاح في الدنيا والآخرة ، وأساس قبول الأعمال ، والله تبارك وتعالى أمر عباده بتعلم هذا التوحيد وفهم لا إله إلا الله ومعرفة معناها وعقل مدلولها وتحقيق ما دلت عليه من توحيد الله كما قال الله تعالى : { فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ }[محمد:19] ، فبدأ بالعلم قبل القول والعمل . في الآية الأخرى قال جل في علاه: {إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ}[الزخرف:86] أي شهد بـ«لا إله إلا الله» وهو يعلم معنى ما شهد به .
و«لا إله إلا الله» هي كلمة التوحيد ، والتوحيد هو مدلولها ، بل لا توحيد إلا بـ«لا إله إلا الله» ، مثل ما مر معنا {وَقَالَ اللَّهُ لَا تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ } هذا هو التوحيد نفي وإثبات ، فلا توحيد إلا بهما بالنفي والإثبات، فانظر الآيات التي تشرح لك معنى «لا إله إلا الله» :
كقوله تعالى {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا}[النساء:36] ؛ نفي وإثبات .
{وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ}[الإسراء:23] الآية التي قبلها {لَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ} [الإسراء:22]ثم قال {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ}نفي وإثبات .
قال جل وعلا {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ}[النحل:36] نفي إثبات .
قال جل وعلا {إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ (26) إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي}[الزخرف:26-27] نفي وإثبات .
{فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ} نفي وإثبات { فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا }[البقرة:256] أي بـ «لا إله إلا الله» .
هذا هو التوحيد .التوحيد الذي هو مدلول «لا إله إلا الله» نفي وإثبات نفي للعبودية عن كل ما سوى الله وإفراد لله تبارك وتعالى وحده بالعبادة .
ومن يقول «لا إله إلا الله» ويرددها دون أن يعي معناها أو يعرف مدلولها قد يقع في نواقض لها ، مثل ما يحصل من بعض الناس تجده يقول «لا إله إلا الله» لكنه في واقعه العملي ينقضها ، بعضهم يقول«لا إله إلا الله» ثم إذا مد يديه بالدعاء قال مدد يا فلان ، حتى حدثني أحد الأفاضل أنه سمع شخصا في سجوده يقول مدد يا فلان وهو ساجد !! ، وهو قائم يقرأ الفاتحة قرأ قول الله تعالى {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (5)} ؛ وهذا عهد بين العبد وبين الله أن يوحد الله بالعبادة ، {إِيَّاكَ نَعْبُدُ }أي نعبدك ولا نعبد غيرك ، { وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} أي نستعين بك ولا نستعين بغيرك . فمن يقول«لا إله إلا الله» دون أن يفهم معناها أو يعرف مدلولها ربما يقع في أمور تنقض «لا إله إلا الله» .
ولهذا كان من أهم المطالب وأجل المعارف وأعظم العلوم أن يعرف الإنسان«لا إله إلا الله» وأن يعرف مدلولها وأن يعرف مقصودها وغايتها وأن يعمل حياته كلها على تحقيق «لا إله إلا الله» ، فإن «لا إله إلا الله» هي سبب السعادة والفلاح والرفعة في الدنيا والآخرة إذا قالها المرء عن علم وصدق وعمل ؛ لأنه إذا قالها عن علم خرج عن طريقة النصارى الذين يعملون ولا يعلمون ، وإذا قالها عن صدق خرج عن طريقة المنافقين الذين يظهرون ما لا يبطنون ، وإذا قالها عن عمل خرج عن طريقة اليهود الذين يعلمون ولا يعملون ، فلا بد من العلم والعمل والصدق ب «لا إله إلا الله» لا أن يقولها قولًا مجردا ، وأن تعظم عنايته بفهم معناها وتحقيق ما دلت عليه من توحيد الله تبارك وتعالى .
وبهذه المناسبة فإن الأذكار الشرعية المأثورة عن نبينا عليه الصلاة والسلام من فائدتها العظيمة ومنفعتها الكبيرة أنها تجدد مع المسلم كلما ذكر الله بها توحيده وإيمانه وتقوِّي هذا الميثاق ميثاق التوحيد والإيمان وتجدده في قلب العبد مرات وكرات ، إذا كان يذكر الله عن علمٍ بهذه الأذكار وبمدلولها.
ولنقف من ذلكم على مثال واحد نختم به ؛ وهو التهليلات المأثورة عن النبي صلى الله عليه وسلم دبر كل صلاة والتي كان يهلل بهن دبر كل صلاة ، يقول عليه الصلاة والسلام : «لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللهِ، لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَلَا نَعْبُدُ إِلَّا إِيَّاهُ، لَهُ النِّعْمَةُ وَلَهُ الْفَضْلُ وَلَهُ الثَّنَاءُ الْحَسَنُ، لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ» كم تهليلة ؟ ثلاث تهليلات . ثلاث تهليلات كان عليه الصلاة والسلام يكررها دبر كل صلاة ، وكل واحدة من هذه التهليلات الثلاث -وتأملوا أيها الإخوة أرجو الله أن ينفعنا بهذا الكلام ويرفعنا أجمعين- هذه التهليلات الثلاث التي يُشرع لك أن تقولها دبر كل صلاة .
التهليلة الأولى منها أُتبعت بقوله « وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ» ، «لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ» وهذا تأكيد للتوحيد الذي هو مدلول «لا إله إلا الله» لأن «لا إله إلا الله» نفي وإثبات ؛ «لا إله» نفي للعبودية عن كل من سوى الله ، «إلا الله» إثبات للعبودية بكل معانيها لله وحده ، فـ«لا إله» نفي ، «إلا الله» إثبات ؛ اهتمامًا بهذا المقام وتأكيدًا لهذا الشأن العظيم قال : « وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ» ، فقولك «وَحْدَهُ» هذا تأكيد للإثبات ، وقولك «لَا شَرِيكَ لَهُ» هذا تأكيد للنفي ، فأنت وحَّدت « لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ » ، ثم أكدت « وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ » ، فـ« وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ » هذا فيه تأكيد لركني التوحيد في « لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ » النفي والإثبات ، فإن «وَحْدَهُ» تأكيد للإثبات ، «لَا شَرِيكَ لَهُ» تأكيد للنفي .
ثم قال « لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ» وهذه الثلاثة براهين للتوحيد ، ودائما يُذكر التوحيد في القرآن والسنة مع براهينه ، « لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ» أي أن كونه وحده تفرد بالملك وتفرد بالحمد وتفرد بأنه على كل شيء قدير سبحانه وتعالى لا شريك له هذا من براهين وجوب توحيده وإخلاص الدين له وأن يفرد وحده بالذل والخضوع والدعاء والرجاء وجميع أنواع العبادة .
التهليلة الثانية أتبعت بقوله « لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَلَا نَعْبُدُ إِلَّا إِيَّاهُ» وهذا مدلول «لا إله إلا الله» ، لأن «لا إله إلا الله» مدلولها أن لا نعبد إلا الله ، فانظر هذا الاهتمام بمقام «لا إله إلا الله» ، أتبعت في المرة الثانية بذكر مدلولها ، عُطف عليها مدلولها اهتمامًا بمقام التوحيد وتعظيمًا لشأنه وتجديدًا لمقامه في قلب المسلم وتوسيعًا أيضا لمساحته في قلب المسلم « لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَلَا نَعْبُدُ إِلَّا إِيَّاهُ» هذا هو مدلول «لا إله إلا الله» ألا نعبد إلا الله سبحانه وتعالى ، كما قال الله تعالى {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ}[البينة:5] ،كما قال {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا}[النساء:36] كما قال {أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ}[الزمر:3] .
فقال « لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَلَا نَعْبُدُ إِلَّا إِيَّاهُ، لَهُ النِّعْمَةُ وَلَهُ الْفَضْلُ وَلَهُ الثَّنَاءُ الْحَسَنُ» ؛ وهذه الثلاث «لَهُ النِّعْمَةُ وَلَهُ الْفَضْلُ وَلَهُ الثَّنَاءُ الْحَسَنُ» براهين للتوحيد ، كون النعمة لله ، والفضل لله ، والثناء الحسن لله ؛ يثنى عليه بأسمائه وصفاته ويثنى عليه بنعمه وآلائه ومننه التي لا تعد ولا تحصى فهذا من براهين وجوب توحيده وأن يفرد سبحانه وتعالى وحده بالعبادة .
ثم التهليلة الثالثة أتبعت بماذا ؟ « مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ » ؛ « لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ» والإخلاص هو مدلول «لا إله إلا الله» ، ولهذا كلمة «لا إله إلا الله» هي كلمة الإخلاص ، تعني إخلاص الدين لله ، أن نخلص ديننا لله تبارك وتعالى كما مر معنا في الآية الكريمة {أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ}[الزمر:3] ، {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ}[البينة:5] .فقوله « لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ » أي من يقول «لا إله إلا الله» مخلصًا من قلبه محققا ما دلت عليه من إخلاص كان من أهلها حقا ، ولهذا جاء في الحديث الصحيح عندما قال أبو هريرة للنبي عليه الصلاة والسلام « مَنْ أَسْعَدُ النَّاسِ بِشَفَاعَتِكَ يَوْمَ القِيَامَةِ؟» قال : ((مَنْ قَالَ لاَ إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ خَالِصًا مِنْ قَلْبِهِ)) ؛ وهذا يفيد أن «لا إله إلا الله» لا تكفي بمجرد قولها ، لابد أن تكون خالصة من القلب يبتغي بها وجه الله ويحقق ما دلت عليه من إخلاص العبادة لله ، أما أن يقولها بلسانه وينقضها بفعاله بدعاء غير الله والاستغاثة بغير الله والمدد من غير الله فأنى أن يكون من أهل «لا إله إلا الله» وهو ناقض لها بأقواله وأفعاله !!
فتأمل هذه التهليلات العظيمة وواظب عليها دبر كل صلاة مع استشعار هذه المعاني التي دلت عليها هذه الكلمة العظيمة . أعيد مختصرًا : التهليلة الأولى : «لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ» ، ثم بعدها قال «لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللهِ» وهذه كلمة استعانة . ثم التهليلة الثانية «لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَلَا نَعْبُدُ إِلَّا إِيَّاهُ، لَهُ النِّعْمَةُ وَلَهُ الْفَضْلُ وَلَهُ الثَّنَاءُ الْحَسَنُ» . والتهليلة الثالثة «لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ» .
فانتظمت هذه التهليلات تأكيد التوحيد وتقرير معناه وتحقيق مدلوله . ولو أردنا أن نستخلص تعريفًا جامعًا وافيا للتوحيد من خلال هذه التهليلات الثلاث فماذا نقول ؟ تعريف جامع للتوحيد مستخلص من هذا التهليل الذي نقوله دبر كل صلاة وهو أجمع تعريف وأوفى تعريف لـ «لا إله إلا الله» أن تقول : لا إله إلا الله معناها أن لا نعبد إلا الله وحده لا شريك له مخلصين له الدين ؛ هذا مأخوذ من التهليلات الثلاث . معنى «لا إله إلا الله» أن لا نعبد إلا الله هذه الكلمة التي بعد التهليلة الثانية ، وحده لا شريك له بعد التهليلة الأولى ، مخلصين له الدين بعد التهلية الثالثة ، من التهليلات الثلاث خرجنا بتعريف جامع لكلمة التوحيد «لا إله إلا الله» ويعد أجمع تعريف لهذه الكلمة ، فلو قيل ما معنى لا إله إلا الله ؟ وقال المجيب معناها : أن لا نعبد إلا الله وحده لا شريك له مخلصين له الدين ؛ جاء بتعريف من أحسن وأجمع وأوفى ما يكون لهذه الكلمة .
فانظر رعاك الله كيف أن هذه الأذكار المأثورة عن نبينا الكريم صلوات الله وسلامه وبركاته عليه كيف أنها تجدد توحيد العبد وإيمانه ، وتقوِّي ميثاق التوحيد في قلبه ، وتُذهب عنك بإذن الله تبارك وتعالى الشرك إذا كان يقول صدقًا وإخلاصًا ، ولهذا يقول عليه الصلاة والسلام في حديث فروة ((اقْرَأْ قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ ثُمَّ نَمْ، عَلَى خَاتِمَتِهَا، فَإِنَّهَا بَرَاءَةٌ مِنَ الشِّرْكِ)) ، الأذكار تطهر العبد وتنقيه ، وتجدد توحيده وإيمانه وإخلاصه لله تبارك وتعالى ، ولها أثرها العظيم وثمرتها المباركة على العبد في حياته كلها .
أسأل الله العظيم رب العرش العظيم بأسمائه الحسنى وصفاته العليا أن يرزقنا أجمعين إيمانًا صادقا ويقينًا كاملا وتوحيدًا خالصا ، وأن يهدينا أجمعين إليه صراطا مستقيما ، وأن لا يكلنا إلى أنفسنا طرفة عين . اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا ، وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا ، وأصلح لنا آخرتنا التي فيها معادنا، واجعل الحياة زيادة لنا في كل خير ، والموت راحة لنا من كل شر . اللهم آت نفوسنا تقواها ، وزكها أنت خير من زكاها ، أنت وليها ومولاها . اللهم زينا بزينة الإيمان ، واجعلنا هداة مهتدين غير ضالين ولا مضلين ، اللهم وأصلح لنا النية والذرية يا رب العالمين . اللهم اقسم لنا من خشيتك ما يحول بيننا وبين معاصيك ، ومن طاعتك ما تبلِّغنا به جنتك ، ومن اليقين ما تهوِّن به علينا مصائب الدنيا ، اللهم متِّعنا بأسماعنا وأبصارنا وقوتنا ما أحييتنا واجعله الوارث منا ، واجعل ثأرنا على من ظلمنا ، وانصرنا على من عادانا ، ولا تجعل مصيبتنا في ديننا ، ولا تجعل الدنيا أكبر همنا ولا مبلغ علمنا ، ولا تسلِّط علينا من لا يرحمنا .
سبحانك اللهم وبحمدك ، أشهد أن لا إله إلا أنت ، أستغفرك وأتوب إليك .
اللهم صلِّ وسلِّم على عبدك ورسولك نبينا محمد وآله وصحبه .