السؤال:
فضيلةَ الشيخ، هل يعبدُ المسلمُ اللهَ تعالى لأنه يستحقُّ العبادة، أم يعبده طمعًا في جنَّته وخوفًا مِن ناره؟ وجزاكم الله خيرًا.
الجواب:
الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على مَن أرسله الله رحمةً للعالمين، وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، أمَّا بعد:
فإنَّ مِن حقِّ الله سبحانه وتعالى على عباده توحيدَه وإخلاصَ العبادة له سبحانه، وهو يأمر عبادَه أن يَدْعوه ويعبدوه خوفًا مِن ناره وعذابه، وطمعًا في جنَّته ونعيمه، قال تعالى في سورة الأعراف: ﴿وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا﴾ [الأعراف: ٥٦]، والخوفُ والرغبة مِن أنواع العبادة المقرِّبة إليه سبحانه، إذ الخوفُ مِن الله يحمل العبدَ على الابتعاد عن المعاصي والنواهي، والطمعُ في جنَّته يحفِّزه على العمل الصالح وكلِّ ما يرضي اللهَ تعالى، لذلك امتدح اللهُ أنبياءَه الذين هم أكملُ الناس عقيدةً وإيمانًا وأحوالًا، فوَصَفهم في عبادتهم وتقرُّبهم ودعائهم بقوله: ﴿إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ﴾ [الأنبياء: ٩٠]، أي: راغبين في جنَّته وخائفين مِن عذابه، وقد قال الله تعالى: ﴿نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ. وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ﴾ [الحجر: ٤٩ ـ ٥٠]، وقال تعالى وهو يخاطب رسولَه الكريم: ﴿قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ﴾ [الأنعام: ١٥، الزمر: ١٣]،
وممَّا يؤكِّد ذلك مِن السنَّة أحاديثُ كثيرةٌ منها ما جاء عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلَّى الله عليه وسلَّم لِرَجُلٍ: «مَا تَقُولُ فِي الصَّلَاةِ؟» قَالَ: «أَتَشَهَّدُ ثُمَّ أَسْأَلُ اللهَ الْجَنَّةَ وَأَعُوذُ بِهِ مِنَ النَّارِ، أَمَا وَاللهِ مَا أُحْسِنُ دَنْدَنَتَكَ وَلَا دَنْدَنَةَ مُعَاذٍ»، قَالَ: «حَوْلَهَا نُدَنْدِنُ»، فإذا كان النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم ـ وهو أكملُ الخَلْق وأعلمُهم بالله وأخشاهم له ـ يدندن بدعائه حول الجنَّة؛ فحريٌّ بأمَّته أن تقتديَ به عملًا بقوله تعالى: ﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا﴾ [الأحزاب: ٢١].
ولا شكَّ أنَّ عبادة الله تعالى مجرَّدةً عن الرجاء والخوف والرغبة والرهبة تؤدِّي بطريقٍ أو بآخَرَ إلى التدرُّج إلى غاياتٍ فاسدةٍ أخرى على نحو ما سعى إليه المتصوِّفةُ وهي القول بالفَناء في الربِّ، وما جرَّهم إلى عقيدة الحلول، وفي نهاية المطاف إلى وحدة الوجود.
هذا، والصوفية في معتقدهم خالفوا هذه النصوصَ الصريحة في دعوتهم إلى أن تكون عبادةُ الله لا خوفَ فيها مِن النار ولا طَمَعَ فيها في الجنَّة، بل يجعلون ذلك مِن الشرك بالله تعالى كما جاء عن بعض المفسِّرين المتصوِّفة، فهؤلاء يتركون صريحَ القرآن والسنَّة وما أجمعت عليه الأمَّة، ويستشهدون بقول رابعة العدوية(1): «اللَّهمَّ، إن كنتُ أعبدُكَ طمعًا في جنَّتك فاحْرِمْني منها، وإن كنتُ أعبدُك خوفًا مِن نارك فاحْرِقْني فيها»، وبقول عبد الغنيِّ النابلسيِّ(2): «مَن كان يعبد اللهَ خوفًا مِن ناره فقَدْ عَبَد النارَ، ومَن عَبَد اللهَ طلبًا للجنَّة فقَدْ عَبَد الوثنَ»، فالله المستعان.
ولا يخفى أنَّ هذه الأقوالَ مخالِفةٌ لعبادة الملائكة الذين: ﴿يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ﴾ [النحل: ٥٠]، وعبادةِ الأنبياء الذين يعبدون اللهَ رغَبًا ورهَبًا ـ كما تقدَّم ـ.
----------------------
(١) هي أمُّ الخيرِ رابعةُ بنت إسماعيل العدويةُ البصرية، مولاة آل عتيكٍ، صوفيةٌ مشهورةٌ، ظهرت منها أقوالٌ مستنكَرةٌ في الحبِّ والعشق الإلهيِّ للتعبير عن المحبَّة بين العبد وربِّه، تُوُفِّيت بالقدس سنة (١٨٥ﻫ) على الأصحِّ.
انظر ترجمتها في: «تاريخ بغداد» للخطيب (٢/ ٣٩)، «سير أعلام النبلاء» للذهبي (٨/ ٢٤١)، «البداية والنهاية» لابن كثير (١٠/ ١٨٦)، «وفيات الأعيان» لابن خلِّكان (٢/ ٢٨٥)، «طبقات الأولياء» لابن الملقِّن (٤٠٨)، «شذرات الذهب» لابن العماد (١/ ١٩٣)، «أعلام النساء» لكحالة (١/ ٤٣٠).
(٢) هو عبد الغنيِّ بنُ إسماعيل بن عبد الغنيِّ النابلسيُّ الدمشقيُّ الحنفيُّ، متصوِّفٌ سلك الطريقةَ القادرية على شيخه عبد الرزَّاق الكيلاني، والطريقة النقشبندية على شيخه سعيدٍ البلخيِّ، له تصانيفُ في التصوُّف وديوانُ شعرٍ، كما له رحلاتٌ عديدةٌ، واستقرَّ في دمشق حتَّى وفاته سنة (١١٤٣ﻫ).
انظر ترجمته في: «خلاصة الأثر» للمحبِّي (٢/ ٣٩٥)، «معجم المؤلِّفين» لكحالة (٢/ ١٧٦)، «الأعلام» للزركلي (٤/ ٣٢)، «معجم أعلام شعراء المدح النبوي» لدرنيقة (٢٣٤)
فتاوى العقيدة - التوحيد وما يُضادُّه - الألوهية والعبادة
الشيخ فركوس
فضيلةَ الشيخ، هل يعبدُ المسلمُ اللهَ تعالى لأنه يستحقُّ العبادة، أم يعبده طمعًا في جنَّته وخوفًا مِن ناره؟ وجزاكم الله خيرًا.
الجواب:
الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على مَن أرسله الله رحمةً للعالمين، وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، أمَّا بعد:
فإنَّ مِن حقِّ الله سبحانه وتعالى على عباده توحيدَه وإخلاصَ العبادة له سبحانه، وهو يأمر عبادَه أن يَدْعوه ويعبدوه خوفًا مِن ناره وعذابه، وطمعًا في جنَّته ونعيمه، قال تعالى في سورة الأعراف: ﴿وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا﴾ [الأعراف: ٥٦]، والخوفُ والرغبة مِن أنواع العبادة المقرِّبة إليه سبحانه، إذ الخوفُ مِن الله يحمل العبدَ على الابتعاد عن المعاصي والنواهي، والطمعُ في جنَّته يحفِّزه على العمل الصالح وكلِّ ما يرضي اللهَ تعالى، لذلك امتدح اللهُ أنبياءَه الذين هم أكملُ الناس عقيدةً وإيمانًا وأحوالًا، فوَصَفهم في عبادتهم وتقرُّبهم ودعائهم بقوله: ﴿إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ﴾ [الأنبياء: ٩٠]، أي: راغبين في جنَّته وخائفين مِن عذابه، وقد قال الله تعالى: ﴿نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ. وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ﴾ [الحجر: ٤٩ ـ ٥٠]، وقال تعالى وهو يخاطب رسولَه الكريم: ﴿قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ﴾ [الأنعام: ١٥، الزمر: ١٣]،
وممَّا يؤكِّد ذلك مِن السنَّة أحاديثُ كثيرةٌ منها ما جاء عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلَّى الله عليه وسلَّم لِرَجُلٍ: «مَا تَقُولُ فِي الصَّلَاةِ؟» قَالَ: «أَتَشَهَّدُ ثُمَّ أَسْأَلُ اللهَ الْجَنَّةَ وَأَعُوذُ بِهِ مِنَ النَّارِ، أَمَا وَاللهِ مَا أُحْسِنُ دَنْدَنَتَكَ وَلَا دَنْدَنَةَ مُعَاذٍ»، قَالَ: «حَوْلَهَا نُدَنْدِنُ»، فإذا كان النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم ـ وهو أكملُ الخَلْق وأعلمُهم بالله وأخشاهم له ـ يدندن بدعائه حول الجنَّة؛ فحريٌّ بأمَّته أن تقتديَ به عملًا بقوله تعالى: ﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا﴾ [الأحزاب: ٢١].
ولا شكَّ أنَّ عبادة الله تعالى مجرَّدةً عن الرجاء والخوف والرغبة والرهبة تؤدِّي بطريقٍ أو بآخَرَ إلى التدرُّج إلى غاياتٍ فاسدةٍ أخرى على نحو ما سعى إليه المتصوِّفةُ وهي القول بالفَناء في الربِّ، وما جرَّهم إلى عقيدة الحلول، وفي نهاية المطاف إلى وحدة الوجود.
هذا، والصوفية في معتقدهم خالفوا هذه النصوصَ الصريحة في دعوتهم إلى أن تكون عبادةُ الله لا خوفَ فيها مِن النار ولا طَمَعَ فيها في الجنَّة، بل يجعلون ذلك مِن الشرك بالله تعالى كما جاء عن بعض المفسِّرين المتصوِّفة، فهؤلاء يتركون صريحَ القرآن والسنَّة وما أجمعت عليه الأمَّة، ويستشهدون بقول رابعة العدوية(1): «اللَّهمَّ، إن كنتُ أعبدُكَ طمعًا في جنَّتك فاحْرِمْني منها، وإن كنتُ أعبدُك خوفًا مِن نارك فاحْرِقْني فيها»، وبقول عبد الغنيِّ النابلسيِّ(2): «مَن كان يعبد اللهَ خوفًا مِن ناره فقَدْ عَبَد النارَ، ومَن عَبَد اللهَ طلبًا للجنَّة فقَدْ عَبَد الوثنَ»، فالله المستعان.
ولا يخفى أنَّ هذه الأقوالَ مخالِفةٌ لعبادة الملائكة الذين: ﴿يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ﴾ [النحل: ٥٠]، وعبادةِ الأنبياء الذين يعبدون اللهَ رغَبًا ورهَبًا ـ كما تقدَّم ـ.
----------------------
(١) هي أمُّ الخيرِ رابعةُ بنت إسماعيل العدويةُ البصرية، مولاة آل عتيكٍ، صوفيةٌ مشهورةٌ، ظهرت منها أقوالٌ مستنكَرةٌ في الحبِّ والعشق الإلهيِّ للتعبير عن المحبَّة بين العبد وربِّه، تُوُفِّيت بالقدس سنة (١٨٥ﻫ) على الأصحِّ.
انظر ترجمتها في: «تاريخ بغداد» للخطيب (٢/ ٣٩)، «سير أعلام النبلاء» للذهبي (٨/ ٢٤١)، «البداية والنهاية» لابن كثير (١٠/ ١٨٦)، «وفيات الأعيان» لابن خلِّكان (٢/ ٢٨٥)، «طبقات الأولياء» لابن الملقِّن (٤٠٨)، «شذرات الذهب» لابن العماد (١/ ١٩٣)، «أعلام النساء» لكحالة (١/ ٤٣٠).
(٢) هو عبد الغنيِّ بنُ إسماعيل بن عبد الغنيِّ النابلسيُّ الدمشقيُّ الحنفيُّ، متصوِّفٌ سلك الطريقةَ القادرية على شيخه عبد الرزَّاق الكيلاني، والطريقة النقشبندية على شيخه سعيدٍ البلخيِّ، له تصانيفُ في التصوُّف وديوانُ شعرٍ، كما له رحلاتٌ عديدةٌ، واستقرَّ في دمشق حتَّى وفاته سنة (١١٤٣ﻫ).
انظر ترجمته في: «خلاصة الأثر» للمحبِّي (٢/ ٣٩٥)، «معجم المؤلِّفين» لكحالة (٢/ ١٧٦)، «الأعلام» للزركلي (٤/ ٣٢)، «معجم أعلام شعراء المدح النبوي» لدرنيقة (٢٣٤)
فتاوى العقيدة - التوحيد وما يُضادُّه - الألوهية والعبادة
الشيخ فركوس