بسم الله الرحمن الرحيم
الحمدُ لله ربِّ العالمين والصَّلاة والسَّلام على نبينا محمَّدٍ وآله وصحبه أجمعين، وبعدُ:
فقَدْ كُنْتُ كَتَبْتُ مَقالاً في هَذه الشَّبكة- شَبَكة سحاب السَّلفية- المباركة إنْ شَاء الله، بعُنْوَان (نداءُ نَاصِحٍ مُصْلِحٍ) فِي 27/ 12/ 1429هـ، ومضمونُهُ التَّرْهِيب عَن القَولِ عَلى الله بِغَيْرِ عِلْمٍ، وكانَ البَاعثُ عليه مَا رأيتُه مِنْ كتَابَاتٍ نُشِرت في مَواقع شتَّى، فيْهَا افْتِيَاتٌ علَى الشَّرع الْمُطَهَّر، يَدُلُّ على خُروجٍ بيِّنٍ عَنْ مَسَالِكِ أهْلِ العِلْمِ وطُلاَّبه، وقد أفْصَحْتُ عنْ بَعض أوجه ذلك الافْتِيَات فِي مَقالي الْمُشَارِ إليهِ بِمَا يُغْنِي عَنْ تِكْرارهِ هُنا.لكنْ كأنِّي بالأَمْرِ يَتَجدَّد، وَ بِصُورٍ أكْثَر- ولا حَولَ ولاَ قُوَّة إلا بالله-؛ فَمِنْ ذَلِكَ نَشْرُ بَعضهم كِتَاباتٍ وَمَقَالاتٍ حَمَلت هزَالاً عِلميَّاً، وبُعْدَاً عَنِ الرَّصَانَةِ الدَّالة عَلى أَصَالَةٍ وَقُوَّة علميَّة، ومَعَ الأسفِ تُسوَّق على أنَّها ذَات طَابعٍ عِلميٍّ أَصيلٍ رَصينٍ، تَحْمِلُ الْحُجَّة والبُرْهَان- زَعَمُوا-!وبالنَّظرِ فيها يظهرُ للمنْصِفِ – بِجلاءٍ- تَجَذُّر هَذا الدَّاء العُضَال، أعني الافتيات على الشَّرع، مَعَ الدَّعاوى العريضة و البهْرِج المزيَّف، يُصَاحبه عُجبٌ مُهْلِكٌ!! وَخُلُّوِهَا مِنَ الرَّصانة العلميَّة فضلاً عَن الأصالةِ! أمَّا الحجَّة والبرهان فهو مِن جنْس الدَّعاوى العريضة، تَهويلاً لا غَير، إذْ مِنَ الْمَعْلُوم أنَّ: الدَّعاوى يَسْتَطِيعُهَا كُلّ أحدٍ، لكنْ هَلْ الكُلّ يَستطيعُ أنْ يُثْبتَ صِحَّتها بِبُرْهَانٍ ثَابِتٍ، وفَهْمٍ صَحيحٍ مبني على التَّجرُّد التَّامِّ والعِلْمِ الرَّاسخ، على سَنَنِ الرَّاسخين فِي العِلْمِ!!قالَ شيخُ الإسلام ابن تيميَّة في (الرَّد على البكري) (2 / 729) :" العِلْمُ شَيئان: إمَّا نقلٌ مُصَدَّقٌ، وإمَّا بَحْثٌ مُحقَّقٌ، ومَا سِوَى ذَلِكَ فَهَذَياَنٌ مُزَوَّقٌ".وقال تلميذه شيخُ الإسلام ابن القيم في (اجتماع الجيوش الإسلامية)(ص 45-46):"..فَليسَ العِلْمُ كَثرة النَّقْلِ وَالبَحثِ وَ الكَلامِ، ولكنْ نُورٌ يُمَيِّزُ بِه صَحِيْح الأَقْوَالِ مِنْ سَقِيْمهَا وَحَقّها مِنْ بَاطِلهَا، وَ مَا هُو مِنْ مِشْكَاةِ النُّبُوَّةِ مِمَّا هُو مِنْ آرَاءِ الرِّجَالِ، وَ يُمَيِّزُ النَّقْدَ الَّذي عَليهِ سكَّة أهْلِ الْمَدينَةِ النَّبويَّةِ؛ الَّذي لا يَقْبَلُ الله عَزَّ وجلَّ ثَمناً لِجَنَّتهِ سِوَاهُ مِنَ النَّقدِ الَّذي عليهِ سكَّة جِنْكِسخَان وَنُوابهُ مِنَ الفَلاسِفَةِ وَ الْجَهْمِيَّة وَالْمُعْتَزلَةِ، وَ كُلّ مَن اتَّخذَ لِنَفْسهِ سكَّةً وَ ضَرباً وَ نَقداً يُرَوِّجهُ بَيْن العَالَمِ، فَهذه الأَثْمَانُ كُلّهَا زُيُوفٌ لاَ يَقْبَلُ الله سُبْحَانَهُ وَتَعالَى فِي ثَمَنِ جَنَّتهِ شَيئاً مِنْهَا، بَل تُردُّ عَلى عَامِلهَا أَحْوَج مَا يَكُون إليْهَا، وَ تَكُونُ مِنَ الأْعَمَالِ الَّتي قَدِمَ اللهَ تَعالَى عَليْهَا فَجَعَلهَا هَباءً مَنْثُوراً.." إلى آخر كلامهِ المهمِّ، فانظرهُ غير مأمورٍ.وبعدَ هذا التَّمهيد، أَقُولُ: إنَّه قَد سَألني بعضُ طلبتي- طلبة العِلْم الشَّرعي- بالمدينة النبوية عَنْ لَفْظَةٍ وردت في حديثِ أنسِ بنِ مَالكٍ رضي الله عنه، هَلْ هِي ثَابتة أم لا؟فكانَ أنْ كتبتُ هذه الدِّراسة حولها، وبالله التَّوفيق:الكلامُ عن لفظةٍ وردت في حديث أنس بن مالك رضي الله عنهأولاً: نصُّ الحديث:عن أنسٍ رضي الله عنه قالَ:إنَّ رسولَ الله صلَّى الله عليه وسلَّم دخلَ نَخْلاً لِبَنِي النَّجَّار فَسَمِعَ صَوتاً فَفَزِعَ، فَقَالَ: (مَنْ أَصْحَابُ هَذه القُبُورِ ؟). قَالُوا يَا رَسُولَ الله: نَاسٌ مَاتُوا فِي الْجَاهِليَّةِ. فَقَالَ: ( تَعَوَّذُوا بِاللهِ مِنْ عَذَابِ النَّارِ وَمِنْ فِتْنَةِ الدَّجَّالِ). قَالُوا: وَمِمَّ ذَاكَ يَا رَسُولَ اللهِ ؟ قَالَ: (إنَّ الْمُؤْمنَ إذَا وُضِعَ فِي قَبْرهِ أتَاهُ مَلَكٌ فَيَقَولُ لَهُ: مَا كُنْتَ تَعْبُدُ؟ فَإنِ اللهُ هَدَاهُ قَالَ: كُنْتُ أَعْبُدُ اللهَ، فَيُقَالُ لَهُ: مَا كُنْتَ تَقُولُ فِي هَذَا الرَّجُلِ؟ فَيَقُولُ: هُو عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ، فَمَا يُسْأَلُ عَنْ شَيءٍ غَيَرْهَا، فَيُنْطَلَقُ بِهِ إلَى بَيْتٍ كانَ لَهُ فِي النَّارِ فَيُقَالُ لَهُ: هَذَا بَيْتُكَ كَانَ لَكَ فِي النَّارِ، وَلِكنَّ اللهَ عَصَمَكَ وَرَحِمَكَ فَأَبْدَلَكَ بِهِ بَيْتَا فِي الْجَنَّةِ.فَيَقُولُ: دَعُونِي حَتَّى أَذْهَبَ فَأُبَشِرَّ أَهْلِي. فَيُقالُ لَهُ: اسْكُنْ.وَإنَّ الكَافِرَ إذَا وُضِعَ فِي قَبْرهِ أَتَاهُ مَلَكٌ فَيَنْتَهرَهُ فَيَقُولُ لَهُ: مَا كُنْتَ تَعْبُدُ ؟ فَيَقُولُ: لاَ أَدْرِي. فَيُقُالُ لَهُ: لاَ دَرَيْتَ وَلاَ تَلَيْتَ. فَيُقُالُ لَهُ: فَمَا كُنْتَ تَقُولُ فِي هَذَا الرَّجُلِ ؟ فَيَقُولُ: كُنْتُ أَقُولُ مَا يَقُولُ النَّاسُ، فَيَضْرِبُهُ بِمِطْرَاقٍ مِنْ حَديدٍ بَيْنَ أُذُنَيهِ، فَيَصِيْحُ صَيْحَةً يَسْمَعُهَا الْخَلْقُ غَيْرَ الثَّقَلَيْنِ).ثانياً: لفظةُ الاستشكالِ: هي قوله (فما يُسألُ عن شيءٍ غيرها).ثالثاً: التَّخريجُ والكلامُ عليه.الحديثُ أخْرجَهُ أبوداود في (السُّنن)(5 / 112 / رقم 4751) وأحمدُ فِي (الْمُسْنَد) (21 / 119 / رقم 13447) وابنُه عبدالله في (السُّنَّةِ)(229 / رقم 1403- ط الرازحي) والبيهقي في (عذاب القبر ونعيمه)(29 / رقم 18 و19) كلُّهم من طريق عبدالوهَّاب بن عطَاء الخفَّاف عن سعيد بن أبي عروبة عن قتادة عن أنسٍ به.الحديثُ سكتَ عنْه أبوداود.وصحَّحه الألباني فِي (صحيح الجامع)(رقم 1930)، وفي (الصَّحيحة)(3 / تحت رقم 1344) وقال بأنَّه "على شرط مسلمٍ".وخولفَ فيهِ عبدُالوهاب الخفاف، مِنْ:1- يَزيدُ بْنُ زُرَيْعٍ؛ فرواهُ عَنْ سَعيد عن قَتَادة عن أنس به، ولَيْسَت فيه هَذه الْجُمْلَة.أخرجه البُخَاري فِي (الصحيح)(3 / رقم 1338- فتح) ومسلمٌ في (الصحيح)(4 / 71 / رقم 2870)- مختصراً- والبيهقي في (عذاب القبر) (21 / رقم 31)- مطولاً- كلاهما من طريق ابنِ زريع به.ولَفْظُ البخاريِّ: ( العَبْدُ إذَا وُضِعَ فِي قَبْرهِ وَتَولَّى وَذَهَبَ أَصْحَابُهُ، حَتَّى إنَّهُ لَيَسْمَعُ قَرْعَ نِعَالِهمْ، أَتَاهُ مَلَكَانِ فَأَقْعَدَاهُ فَيَقُولاَنِ لَهُ: مَا كُنْتَ تَقُولُ فِي هَذا الرَّجُلِ محمَّدٍ صلَّى الله عليه وسلَّم ؟ فيقولُ: أَشْهدُ أنَّهُ عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ، فيُقَالُ: انْظُرْ إلَى مَقْعَدِكَ فِي النَّارِ أَبْدَلَكَ اللهُ بهِ مَقْعَداً مِنَ الْجَنَّةِ. قالَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلّم: فَيَراهُمَا جَمِيْعَاً، وَأمَّا الكَافِرُ أو الْمُنَافِقُ فَيَقولُ: لاَ أَدْرِي، كُنْتُ أَقُولُ مَا يَقُولُ النَّاسُ. فَيُقَالُ: لاَ دَرَيْتَ وَلاَ تَلَيْتَ، ثُمَّ يُضْرَبُ بِمْطَرَقَةٍ مِنْ حَديدٍ ضَربةً بَيْنَ أُذُنَيْهِ فَيَصِيْحُ صَيْحَةً يَسْمَعُهَا مَنْ يَلِيَهُ إلاَّ الثَّقَلين(.قال البيهقيُّ:" هذا حديثُ الفريابي، رواه البخاري في (الصَّحيح)، فقال: وقال لي خليفة: ثنا يزيد بن زريع... فذكره، ورواه مسلمٌ عن محمد بن المنهال مختصراً".قُلتُ: ويزيدُ بن زُرَيْع هو البَصريُّ، يقال لَهُ: رَيْحَانَةُ البَصْرَة، ثِقَةٌ ثَبْتٌ، أخرج له الجماعة، كما في (التقريب)(رقم 7764).2- عبدالأعلى بن عبدالأعلى؛ فَرَواهُ عَنْ سَعيد عَنْ قَتَادة عَن أنسٍ بهِ، وليستْ فيْه هَذه الْجُمْلة.أخرجَهُ البُخَاريُّ في (الصَّحيح)(3 / رقم 1374- فتح) عن عيَّاش بن الوليد ثنا عبدالأعلى به، ولفظه: ( إنَّ العَبْدَ إذَا وُضِعَ فِي قَبْرهِ وَتَولَّى عَنْهُ أَصْحَابُهُ، وإنَّهُ لَيَسْمَعُ قَرْعَ نِعَالِهمْ، أَتَاهُ مَلَكَانِ فَيُقْعِدَانِهِ فَيَقُولاَنِ: مَا كُنْتَ تَقُولُ فِي الرَّجُلِ؟ لِمُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلَّم. فَأمَّا الْمُؤْمِنُ فَيَقُولُ: أَشْهَدُ أَنَّهُ عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ، فَيُقَالُ لَهُ: انْظُرْ إلَى مَقْعَدِكَ مِنَ النَّارِ، قَدْ أَبْدَلَكَ اللهُ بِهِ مَقْعَداً مِنَ الْجَنَّةِ، فَيَرَاهُمَا جَمِيْعَاً).قَالَ قَتَادَةُ: وَذُكِرَ لَنَا أَنَّهُ يُفسَحُ لَهُ فَي قَبْرهِ. ثُمَّ رَجَعَ إلَى حَديثِ أَنَسٍ قَالَ: ( وأمَّا الْمُنَافِقُ وَالكَافِرُ فَيُقُالُ لَهُ: مَا كُنْتَ تَقُولُ فِي هَذا الرَّجُلِ ؟ فَيَقُولُ: لاَ أَدْرِي، كُنْتُ أَقولُ مَا يَقولُ النَّاسُ، فَيُقَالُ: لاَ دَرَيْتَ وَلاَ تَلَيْتَ، وَيُضْرَبُ بِمَطَارِقَ مِنْ حَدِيْدٍ ضَرْبَةً، فَيَصِيْحُ صَيْحَةً يَسْمَعُهَا مَنْ يَلِيْهِ غَيرَ الثَّقَلينِ).قُلتُ: و عبدُالأعلى بن عبدالأعلى هُو السَّامي البصري،ثِقَةٌ، أخرجَ لَهُ الْجَمَاعَةُ، كما في (التقريب)(رقم 375الحمدُ لله ربِّ العالمين والصَّلاة والسَّلام على نبينا محمَّدٍ وآله وصحبه أجمعين، وبعدُ:


وكتبه
عبدالله بن عبدالرحيم البخاري
المدينة النَّبويَّة
11/ 10/ 1431هـ
عبدالله بن عبدالرحيم البخاري
المدينة النَّبويَّة
11/ 10/ 1431هـ