بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
*قال الإمام البربهاري ( وُلِدَ سنة 252هـ وتوفي سنة 329هـ) في كتابه شرح السّنّة: والإيمان بالرّؤية يوم القيامة، يرون الله عزّ وجلّ بأعين رؤوسهم، وهو يحاسبهم بلا حجاب ولا تُرجُمان.
*يقول الشيخ ربيع بن هادي المدخلي – حفظه الله – في كتابه ''عون الباري بِبيان ما تضمّنه شرح السّنّة للإمام البربهاري'' :القاعدة الأساسية عند أهل السنة : أنهم يؤمنون بالله تبارك وتعالى وبأسمائه وبصفاته على الوجه اللّائق به، ويؤمنون بكُلّ ما ثبت في القرآن والسّنّة؛ فكُلّ ما ورد في القرآن وما ثبت من سُنّة النّبيّ صلى الله عليه وسلم يؤمنون به على الوجه اللّائق بالله عزّ وجلّ، من غير تحريف ولا تمثيل، ومن غير تشبيه ولا تعطيل.
والعقائد الّتي يؤمن بها أهل السّنّة ويخالفهم فيها أهل الضّلال معروفة، وقد مرّ بنا الشّيء الكثير في هذا الكتاب.
ومن هذه العقائد الّتي يتميّز بها أهل السّنّة عن أهل الضّلال: أنّهم يؤمنون بأنّ الله يُرى يوم القيامة، ويراه عباده المؤمنون في الجنّة، ويُرى قبل ذلك في عرصات يوم القيامة، والرّؤية الّتي يتميّز بها المؤمنون هي رؤية الله في الجنّة، وتُشير بعض الأحاديث أو تدُلّ على أنّ في عرصات القيامة يشترك المؤمنون وغيرهم في (رؤية الله)، فالمنافقون يدخلون في ذلك، لكنّها رؤية لا تفيدهم؛ إذ يكشف الله عن ساقه سبحانه وتعالى فيخرّ المؤمنون سُجّدًا لله، والمنافقون لا يستطيعون ذلك، فكُلّما أرادوا أن يسجدوا لا يستطيعون ذلك؛ كما قال تبارك وتعالى ﴿ يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلا يَسْتَطِيعُونَ﴾ [القلم : 42]، ثمّ يراه المؤمنون في الجنّة .
وقال الإمام أبو عثمان الصابوني المتوفى سنة 449هـ رحمه الله :''ويشهد أهل السّنّة أنّ المؤمنين يرون ربّهم تبارك وتعالى يوم القيامة بأبصارهم'' .
والأدلّة على ذلك كثيرة متواترة؛ يعني: بلغت حدّ التّواتر، رُوِيت عن ثلاثين من أصحاب محمّد صلى الله عليه وسلم؛ هذا في السّنّة، أمّا القرآن ففيه أيات وردت في ذلك.
منها: قول الله تبارك وتعالى: ﴿وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ ﴾
[القيامة: 22 / 23]؛ ﴿وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ ﴾ يعني: من النّضرة، وهي الحسن والجمال، من آثار النّعيم الّذي أنعم الله به عليهم في الجنّة، ﴿ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ ﴾ من النّظر، بمعنى الرّؤية بالأبصار؛ يُبصرون الله ويرونه سبحانه وتعالى في جنّات النّعيم ومنها قوله تبارك وتعالى: ﴿ إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ * عَلَى الْأَرَآئِكِ يَنظُرُونَ ﴾ [المطففين: 22 / 23]، ينظرون إلى ربّهم وهم في الجنّة على الأرائك، والأرائك هي السّرر تحت الحِجال، بخلاف الكفّار فإنّهم في هذه السّورة *وهي سورة المطفّفين* قال الله في حقّهم: ﴿كَلَّآ إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ﴾ [المطفّفين: 15]، هذا في صفات الكُفّار، وفي صفات المؤمنين في نفس السّورة قال: ﴿إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ * عَلَى الْأَرَآئِكِ يَنظُرُونَ﴾ بل أكّد هذا النّظر مرّة أخرى في هذه السّورة نفسها.
فمن الأدلّة على حصول هذه الرّؤية للمؤمنين ما ذكرنا من هاتين الآيتين، ومنها *أيضا* قول الله تبارك وتعالى: ﴿ لِلَّذِينَ أَحْسَنُواْ الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ ﴾ [يونس: 26] الحسنى: هي الجنّة، والزّيادة: النّظر إلى وجه الله الكريم، وقد روى الإمام مسلم من حديث صهيب رضي الله عنه، أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال: ''إذا دخل أهل الجنّة الجنّةَ *قال*: يقول الله تبارك وتعالى: تُرِيدون شيْئًا أزيدكم؟ فيقولون: ألم تُبَيِّض وُجُوهنا؟ ألم تدخلنا الجنّة وتنجينا من النّار؟ قال: فيكشِف الحِجابَ، فما أُعطُوا شيئا أحبّ إليهم من النّظر إلى ربّهم عزّ وجلّ، ثُمّ تلا: ﴿ لِلَّذِينَ أَحْسَنُواْ الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ ﴾ [يونس: 26] .'' .
فهذا من تفسير النّبيّ صلى الله عليه وسلم لهذه الزّيادة، فذكر في هذا الحديث أنهم بعد أن يُدخلهم الله الجنّة يقول لهم: ''تُرِيدون شيْئًا أزيدكم؟ فيقولون: ألم تُبَيِّض وُجُوهنا؟ ألم تدخلنا الجنّة وتنجينا من النّار؟'' هذا كُلّه فوز عظيم وتبيِيض الوجوه إشارة إلى قول الله تبارك وتعالى: ﴿يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ ﴾ [آل عمران: 106]، تَبْيَضّ وجوه المؤمنين، وتسودّ وجوه الكافرين والمنافقين، وهذا مثل قوله تعالى: ﴿وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُّسْفِرَةٌ * ضَاحِكَةٌ مُّسْتَبْشِرَةٌ * وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ * تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ * أُوْلَئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ ﴾ [عبس: 38 / 42] .
فمن أعظم نعيم الله لعباده المؤمنين في الجنّة وأجزلها أن يتفضّل عليهم
برؤيته سبحانه وتعالى؛ فما يرون نعيمًا أفضل من أن يروا ربّهم تبارك وتعالى؛ فالجنّة وما فيها من حور وقصور وأنهار.. إلى آخره، كلّ النّعيم الّذي فيها يتقاصر أن يصل إلى نعمة رؤية الله تبارك وتعالى.
ومن الأدلّة كذلك أنّ الصّحابة رضوان الله عليهم سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم :'' هل نرى ربّنا يوم القيامة؟ فقال: هلْ تُضَارُّونَ في الشّمس ليس دونها سحاب؟ قالوا: لا يا رسول الله، قال: هلْ تُضَارُّونَ في القمر ليلة البدر ليس دونه سحاب؟ قالوا: لا يا رسول الله، قال: فإنّكم ترونه يوم القيامة كذلك . '' ]أخرجه أحمد والبخاري ومسلم[،فهذا تشبيه للرّؤية بالرّؤية لا المرئي بالمرئيّ؛ كما أشار الصّابوني إلى هذا؛ فالرّسول صلى الله عليه وسلم يؤكّد لهم أنّ الله يُرى حقيقة؛ رؤية حقيقيّة، فكما لا نشكّ ولا نتضارّ في رؤية الشّمس ليس دونها سحاب ورؤية القمر ليلة البدر ليس دونه سحاب؛ كذلك نرى الله تبارك وتعالى في الدّار الآخرة.
فهذا كما قلنا تشبيه للرّؤية بالرّؤية، وهذا التّمثيل من الرّسول صلى الله عليه وسلم تأكيد لإثبات أنّ المؤمنين يرون ربّهم؛ فمثّل لهم بأوضح الأشياء لا يبقى هناك أي شكّ يساور المؤمنين في رؤية الله عزّ وجلّ.
وفي حديث جرير: أنّه صلى الله عليه وسلم نظر إلى القمر ليلة البدر قال: '' إنّكم ترون ربّكم كما ترون هذا القمر،لا تضامون في رؤيته " أخرجه أحمد والبخاري ومسلم
وأحاديث كثيرة جدّا بلغت حدّ التّواتر، منها الأحاديث الّتي ذكرناها، فهي كثيرة جدًّا، ولا يُنكرها إلّا كافِر؛ إذ أنّ السّلف كفّروا من أنكر رؤية الله؛ لأنّهم أنكروا أمورًا متواترة من كتاب الله ومن سنّة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ومِمّن ينكر رؤية الله عزّ وجلّ المُعتزلة والجهميّة؛ فهم ينكرون رؤية الله تبارك وتعالى؛ لأنّه لا تُرى عندهم إلّا الأجسام، ومن لوازم الرّؤية ثبوت الجهة، وإذا قلنا إنّ الله في جهة شبّهناه بخلقه! إلى أخر الضّلالات الّتي اخترعوها يعارضون بها نصوص الكتاب والسّنّة!
ومن أدلّتهم: قول الله تعالى: ﴿ لَّا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ ۖ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ ﴾ [الأنعام: 103]، والآية حُجّة عليهم لا لهم؛ لأنّ نفي الإدراك لا ينفي الرّؤية؛ إذ الإدراك معناه: الإحاطة، يعني لا يُحيطون به رؤية ﴿لَّا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ ﴾: لا يُحيطون به رؤية؛ وفي الآخرة يرونة لكن لا يُحيطون به؛ فكما لا يحيطون به علما كذلك لا يحيطون به رؤية، فإذا كانت العقول تعلم الله لكن لا تحيط به كما قال تعالى : ﴿ وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا ﴾ [طه: 110]؛ فكذلك المؤمنون يرون ربّهم في الجنّة ولا يُدرِكُونه؛ لأنّه سبحانه وتعالى: ﴿ لَّا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ ﴾؛ يعني ﴿وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا﴾ ولا يحيطون به رؤيةً، فليس لهم في الآية حُجّة.
كذلك احتجّوا بقول الله تعالى لموسى لما سأل ربّه أن ينظر إليه، قال الله: ﴿ لَنْ تَرَانِي وَلَٰكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي ... ﴾ [الأعراف: 143]، قالوا: فالله لم يُمكّن موسى من الرّؤية وقال: ** لَنْ تَرَانِي **، فهذه من شبههم، والآية كما يقول أهل السّنّة: حجّة عليهم لا لهم؛ لأنّ موسى من أعلم النّاس بالله أو أعلم النّاس في زمانه بالله ربّ العالمين، كيف يسأل ربّه الرّؤية وهي مستحيلة ؟! ما سأله إلّا وهو مقتنع بأنّ رؤية الله ممكنة، لو كان يعتقد بأنّها مستحيلة ما سأل ربّه عزّ وجلّ، والله سبحانه وتعالى لم يقل (ما أُرى ولا تجوز رؤيتي) وإنّما قال: ﴿ لَنْ تَرَانِي ﴾ أي في هذه الدّنيا……قالوا: ‘(لن)’ : تفيد التّأبيد!
قال لهم أهل السّنّة: كذبتم على اللّغة؛ قال الله في حقّ اليهود في الموت: ﴿وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ۗ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ ﴾ [البقرة: 95]، ثمّ أخبر تبارك وتعالى أنّهم في الأخرة يَتَمَنَّوْنَ الموت ﴿ وَنَادَوْا يَا مَالِك لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبّك قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ ﴾ [الزّخرف: 77]؛ فهم يطلبون، ويتمنّون، ويطلبون، لكن لا يتحقّق لهم؛ فالنّفي بـ (لن) إذن ليس للتّأبيد، فالنّفي بها في هذا السّياق نفي للرّؤية في الدّنيا، وأمّا الأخرة فلا، فالآية لا تتناول نفي الرّؤية في الآخرة وهكذا لا يأتي أهل الباطل بشبهة إلّا وفي القرآن والسّنّة ما يُبطِلُها ويُدحضها.
وقال الإمام أبو عثمان الصابوني المتوفى سنة 449هـ:'' يرون ربّهم تبارك وتعالى يوم القيامة بأبصارهم ''، يعني: يرون الله بأبصارهم لا بالبصائر؛ خلافًا للأشاعرة لأنّهم يقولون: إنّهم يؤمنون بالرّؤية وفي نفس الوقت ينفون الجهة عن الله عزّ وجلّ! فاضطربوا وتحيّروا ماذا يقولون! قالوا: يُرى من كُلّ الجهات! وهذا كلام غير معقول، وهذه عقيدة الحلول؛ يُرى في كُلّ مكان أو قالوا: يُرى بالبصائر يعني: رؤيته تتجلّى للبصائر! وهم دائمًا *يعني الأشاعرة* يُمسكون بوسط العصا كما يقال؛ مذهب سياسي!
يتابعون المعتزلة والجهميّة في كثير من الأشياء ويريدون أن يُحافظوا على مكانتهم بأنّهم أهل السّنّة! مع الأسف الشّديد.
وقول الإمام البربهاري: (وهو يحاسبهم بلا حجاب ولا تُرجمان) .
يُشير المؤلّف إلى قول الله: ﴿ إِنَّ اللَّه سَرِيع الْحِسَاب ﴾ [سورة البقرة: 202]، وقوله تعالى: ﴿ اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ ﴾ [الأنبياء: 1]، وقوله: ﴿ فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ * فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَاباً يَسِيراً ﴾ [الإنشقاق: 7 / 8]، وإلى قول رسول الله صلى الله عليه وسلم الّذي روته عائشة رضي الله عنها فقالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ''من حوسب يوم القيامة عُذّب، فقلت: أليس قد قال الله عزّ وجلّ: ﴿ فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَاباً يَسِيراً ﴾، فقال: ليس ذلك الحساب، إنّما ذلك العرض، من نوقش الحساب يوم القيامة عُذّب. '' رواه البخاري ومسلم والإمام أحمد.
ويُشير إلى الحديث الّذي رواه عديّ بن حاتم رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ''ما منكم من أحد إلّا وسيكلّمه الله، ليس بينه وبينه ترجمان، فينظر أيمن منه فلا يرى إلّا ما قَدَّم، وينظر أشأم منه فلا يرى إلّا ما قدّم، وينظر بين يديه فلا يرى إلّا النّار تلقاء وجهه، فاتّقوا النّار ولو بشقّ تمرة. '' رواه البخاري ومسلم .
هذا لفظ الحديث عند مسلم، وهو في البخاري بلفظ أطول، ومنه: ''ثُمَّ لَيَقِفَنَّ أَحَدُكُمْ بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ لَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ حِجَابٌ يَحْجُبُهُ , وَلا تُرْجُمَانٌ , فَيُتَرْجِمَ لَهُ , فَيَقُولُ : أَلَمْ أُوتِكَ مَالا ؟ فَيَقُولُ : بَلَى فَيَقُولُ : أَلَمْ أُرْسِلْ إِلَيْكَ رَسُولا ؟ فَيَقُولُ : بَلَى , فَيَنْظُرَ عَنْ يَمِينِهِ , فَلا يَرَى إِلا النَّارَ , وَيَنْظُرُ عَنْ يَسَارِهِ , فَلا يَرَى إِلا النَّارَ , فَلْيَتَّقِ أَحَدُكُمُ النَّارَ وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ , فَإِنْ لَمْ يَجِدْ فَبِكَلِمَةَ طَيِّبَةٍ " .
ففي هذا الحديث إثبات أنّ الله يكلّم عباده يوم القيامة مباشرة، وفيه إثبات رؤية العباد لربّهم يوم القيامة.
*قال الإمام البربهاري ( وُلِدَ سنة 252هـ وتوفي سنة 329هـ) في كتابه شرح السّنّة: والإيمان بالرّؤية يوم القيامة، يرون الله عزّ وجلّ بأعين رؤوسهم، وهو يحاسبهم بلا حجاب ولا تُرجُمان.
*يقول الشيخ ربيع بن هادي المدخلي – حفظه الله – في كتابه ''عون الباري بِبيان ما تضمّنه شرح السّنّة للإمام البربهاري'' :القاعدة الأساسية عند أهل السنة : أنهم يؤمنون بالله تبارك وتعالى وبأسمائه وبصفاته على الوجه اللّائق به، ويؤمنون بكُلّ ما ثبت في القرآن والسّنّة؛ فكُلّ ما ورد في القرآن وما ثبت من سُنّة النّبيّ صلى الله عليه وسلم يؤمنون به على الوجه اللّائق بالله عزّ وجلّ، من غير تحريف ولا تمثيل، ومن غير تشبيه ولا تعطيل.
والعقائد الّتي يؤمن بها أهل السّنّة ويخالفهم فيها أهل الضّلال معروفة، وقد مرّ بنا الشّيء الكثير في هذا الكتاب.
ومن هذه العقائد الّتي يتميّز بها أهل السّنّة عن أهل الضّلال: أنّهم يؤمنون بأنّ الله يُرى يوم القيامة، ويراه عباده المؤمنون في الجنّة، ويُرى قبل ذلك في عرصات يوم القيامة، والرّؤية الّتي يتميّز بها المؤمنون هي رؤية الله في الجنّة، وتُشير بعض الأحاديث أو تدُلّ على أنّ في عرصات القيامة يشترك المؤمنون وغيرهم في (رؤية الله)، فالمنافقون يدخلون في ذلك، لكنّها رؤية لا تفيدهم؛ إذ يكشف الله عن ساقه سبحانه وتعالى فيخرّ المؤمنون سُجّدًا لله، والمنافقون لا يستطيعون ذلك، فكُلّما أرادوا أن يسجدوا لا يستطيعون ذلك؛ كما قال تبارك وتعالى ﴿ يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلا يَسْتَطِيعُونَ﴾ [القلم : 42]، ثمّ يراه المؤمنون في الجنّة .
وقال الإمام أبو عثمان الصابوني المتوفى سنة 449هـ رحمه الله :''ويشهد أهل السّنّة أنّ المؤمنين يرون ربّهم تبارك وتعالى يوم القيامة بأبصارهم'' .
والأدلّة على ذلك كثيرة متواترة؛ يعني: بلغت حدّ التّواتر، رُوِيت عن ثلاثين من أصحاب محمّد صلى الله عليه وسلم؛ هذا في السّنّة، أمّا القرآن ففيه أيات وردت في ذلك.
منها: قول الله تبارك وتعالى: ﴿وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ ﴾
[القيامة: 22 / 23]؛ ﴿وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ ﴾ يعني: من النّضرة، وهي الحسن والجمال، من آثار النّعيم الّذي أنعم الله به عليهم في الجنّة، ﴿ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ ﴾ من النّظر، بمعنى الرّؤية بالأبصار؛ يُبصرون الله ويرونه سبحانه وتعالى في جنّات النّعيم ومنها قوله تبارك وتعالى: ﴿ إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ * عَلَى الْأَرَآئِكِ يَنظُرُونَ ﴾ [المطففين: 22 / 23]، ينظرون إلى ربّهم وهم في الجنّة على الأرائك، والأرائك هي السّرر تحت الحِجال، بخلاف الكفّار فإنّهم في هذه السّورة *وهي سورة المطفّفين* قال الله في حقّهم: ﴿كَلَّآ إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ﴾ [المطفّفين: 15]، هذا في صفات الكُفّار، وفي صفات المؤمنين في نفس السّورة قال: ﴿إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ * عَلَى الْأَرَآئِكِ يَنظُرُونَ﴾ بل أكّد هذا النّظر مرّة أخرى في هذه السّورة نفسها.
فمن الأدلّة على حصول هذه الرّؤية للمؤمنين ما ذكرنا من هاتين الآيتين، ومنها *أيضا* قول الله تبارك وتعالى: ﴿ لِلَّذِينَ أَحْسَنُواْ الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ ﴾ [يونس: 26] الحسنى: هي الجنّة، والزّيادة: النّظر إلى وجه الله الكريم، وقد روى الإمام مسلم من حديث صهيب رضي الله عنه، أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال: ''إذا دخل أهل الجنّة الجنّةَ *قال*: يقول الله تبارك وتعالى: تُرِيدون شيْئًا أزيدكم؟ فيقولون: ألم تُبَيِّض وُجُوهنا؟ ألم تدخلنا الجنّة وتنجينا من النّار؟ قال: فيكشِف الحِجابَ، فما أُعطُوا شيئا أحبّ إليهم من النّظر إلى ربّهم عزّ وجلّ، ثُمّ تلا: ﴿ لِلَّذِينَ أَحْسَنُواْ الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ ﴾ [يونس: 26] .'' .
فهذا من تفسير النّبيّ صلى الله عليه وسلم لهذه الزّيادة، فذكر في هذا الحديث أنهم بعد أن يُدخلهم الله الجنّة يقول لهم: ''تُرِيدون شيْئًا أزيدكم؟ فيقولون: ألم تُبَيِّض وُجُوهنا؟ ألم تدخلنا الجنّة وتنجينا من النّار؟'' هذا كُلّه فوز عظيم وتبيِيض الوجوه إشارة إلى قول الله تبارك وتعالى: ﴿يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ ﴾ [آل عمران: 106]، تَبْيَضّ وجوه المؤمنين، وتسودّ وجوه الكافرين والمنافقين، وهذا مثل قوله تعالى: ﴿وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُّسْفِرَةٌ * ضَاحِكَةٌ مُّسْتَبْشِرَةٌ * وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ * تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ * أُوْلَئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ ﴾ [عبس: 38 / 42] .
فمن أعظم نعيم الله لعباده المؤمنين في الجنّة وأجزلها أن يتفضّل عليهم
برؤيته سبحانه وتعالى؛ فما يرون نعيمًا أفضل من أن يروا ربّهم تبارك وتعالى؛ فالجنّة وما فيها من حور وقصور وأنهار.. إلى آخره، كلّ النّعيم الّذي فيها يتقاصر أن يصل إلى نعمة رؤية الله تبارك وتعالى.
ومن الأدلّة كذلك أنّ الصّحابة رضوان الله عليهم سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم :'' هل نرى ربّنا يوم القيامة؟ فقال: هلْ تُضَارُّونَ في الشّمس ليس دونها سحاب؟ قالوا: لا يا رسول الله، قال: هلْ تُضَارُّونَ في القمر ليلة البدر ليس دونه سحاب؟ قالوا: لا يا رسول الله، قال: فإنّكم ترونه يوم القيامة كذلك . '' ]أخرجه أحمد والبخاري ومسلم[،فهذا تشبيه للرّؤية بالرّؤية لا المرئي بالمرئيّ؛ كما أشار الصّابوني إلى هذا؛ فالرّسول صلى الله عليه وسلم يؤكّد لهم أنّ الله يُرى حقيقة؛ رؤية حقيقيّة، فكما لا نشكّ ولا نتضارّ في رؤية الشّمس ليس دونها سحاب ورؤية القمر ليلة البدر ليس دونه سحاب؛ كذلك نرى الله تبارك وتعالى في الدّار الآخرة.
فهذا كما قلنا تشبيه للرّؤية بالرّؤية، وهذا التّمثيل من الرّسول صلى الله عليه وسلم تأكيد لإثبات أنّ المؤمنين يرون ربّهم؛ فمثّل لهم بأوضح الأشياء لا يبقى هناك أي شكّ يساور المؤمنين في رؤية الله عزّ وجلّ.
وفي حديث جرير: أنّه صلى الله عليه وسلم نظر إلى القمر ليلة البدر قال: '' إنّكم ترون ربّكم كما ترون هذا القمر،لا تضامون في رؤيته " أخرجه أحمد والبخاري ومسلم
وأحاديث كثيرة جدّا بلغت حدّ التّواتر، منها الأحاديث الّتي ذكرناها، فهي كثيرة جدًّا، ولا يُنكرها إلّا كافِر؛ إذ أنّ السّلف كفّروا من أنكر رؤية الله؛ لأنّهم أنكروا أمورًا متواترة من كتاب الله ومن سنّة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ومِمّن ينكر رؤية الله عزّ وجلّ المُعتزلة والجهميّة؛ فهم ينكرون رؤية الله تبارك وتعالى؛ لأنّه لا تُرى عندهم إلّا الأجسام، ومن لوازم الرّؤية ثبوت الجهة، وإذا قلنا إنّ الله في جهة شبّهناه بخلقه! إلى أخر الضّلالات الّتي اخترعوها يعارضون بها نصوص الكتاب والسّنّة!
ومن أدلّتهم: قول الله تعالى: ﴿ لَّا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ ۖ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ ﴾ [الأنعام: 103]، والآية حُجّة عليهم لا لهم؛ لأنّ نفي الإدراك لا ينفي الرّؤية؛ إذ الإدراك معناه: الإحاطة، يعني لا يُحيطون به رؤية ﴿لَّا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ ﴾: لا يُحيطون به رؤية؛ وفي الآخرة يرونة لكن لا يُحيطون به؛ فكما لا يحيطون به علما كذلك لا يحيطون به رؤية، فإذا كانت العقول تعلم الله لكن لا تحيط به كما قال تعالى : ﴿ وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا ﴾ [طه: 110]؛ فكذلك المؤمنون يرون ربّهم في الجنّة ولا يُدرِكُونه؛ لأنّه سبحانه وتعالى: ﴿ لَّا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ ﴾؛ يعني ﴿وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا﴾ ولا يحيطون به رؤيةً، فليس لهم في الآية حُجّة.
كذلك احتجّوا بقول الله تعالى لموسى لما سأل ربّه أن ينظر إليه، قال الله: ﴿ لَنْ تَرَانِي وَلَٰكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي ... ﴾ [الأعراف: 143]، قالوا: فالله لم يُمكّن موسى من الرّؤية وقال: ** لَنْ تَرَانِي **، فهذه من شبههم، والآية كما يقول أهل السّنّة: حجّة عليهم لا لهم؛ لأنّ موسى من أعلم النّاس بالله أو أعلم النّاس في زمانه بالله ربّ العالمين، كيف يسأل ربّه الرّؤية وهي مستحيلة ؟! ما سأله إلّا وهو مقتنع بأنّ رؤية الله ممكنة، لو كان يعتقد بأنّها مستحيلة ما سأل ربّه عزّ وجلّ، والله سبحانه وتعالى لم يقل (ما أُرى ولا تجوز رؤيتي) وإنّما قال: ﴿ لَنْ تَرَانِي ﴾ أي في هذه الدّنيا……قالوا: ‘(لن)’ : تفيد التّأبيد!
قال لهم أهل السّنّة: كذبتم على اللّغة؛ قال الله في حقّ اليهود في الموت: ﴿وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ۗ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ ﴾ [البقرة: 95]، ثمّ أخبر تبارك وتعالى أنّهم في الأخرة يَتَمَنَّوْنَ الموت ﴿ وَنَادَوْا يَا مَالِك لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبّك قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ ﴾ [الزّخرف: 77]؛ فهم يطلبون، ويتمنّون، ويطلبون، لكن لا يتحقّق لهم؛ فالنّفي بـ (لن) إذن ليس للتّأبيد، فالنّفي بها في هذا السّياق نفي للرّؤية في الدّنيا، وأمّا الأخرة فلا، فالآية لا تتناول نفي الرّؤية في الآخرة وهكذا لا يأتي أهل الباطل بشبهة إلّا وفي القرآن والسّنّة ما يُبطِلُها ويُدحضها.
وقال الإمام أبو عثمان الصابوني المتوفى سنة 449هـ:'' يرون ربّهم تبارك وتعالى يوم القيامة بأبصارهم ''، يعني: يرون الله بأبصارهم لا بالبصائر؛ خلافًا للأشاعرة لأنّهم يقولون: إنّهم يؤمنون بالرّؤية وفي نفس الوقت ينفون الجهة عن الله عزّ وجلّ! فاضطربوا وتحيّروا ماذا يقولون! قالوا: يُرى من كُلّ الجهات! وهذا كلام غير معقول، وهذه عقيدة الحلول؛ يُرى في كُلّ مكان أو قالوا: يُرى بالبصائر يعني: رؤيته تتجلّى للبصائر! وهم دائمًا *يعني الأشاعرة* يُمسكون بوسط العصا كما يقال؛ مذهب سياسي!
يتابعون المعتزلة والجهميّة في كثير من الأشياء ويريدون أن يُحافظوا على مكانتهم بأنّهم أهل السّنّة! مع الأسف الشّديد.
وقول الإمام البربهاري: (وهو يحاسبهم بلا حجاب ولا تُرجمان) .
يُشير المؤلّف إلى قول الله: ﴿ إِنَّ اللَّه سَرِيع الْحِسَاب ﴾ [سورة البقرة: 202]، وقوله تعالى: ﴿ اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ ﴾ [الأنبياء: 1]، وقوله: ﴿ فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ * فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَاباً يَسِيراً ﴾ [الإنشقاق: 7 / 8]، وإلى قول رسول الله صلى الله عليه وسلم الّذي روته عائشة رضي الله عنها فقالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ''من حوسب يوم القيامة عُذّب، فقلت: أليس قد قال الله عزّ وجلّ: ﴿ فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَاباً يَسِيراً ﴾، فقال: ليس ذلك الحساب، إنّما ذلك العرض، من نوقش الحساب يوم القيامة عُذّب. '' رواه البخاري ومسلم والإمام أحمد.
ويُشير إلى الحديث الّذي رواه عديّ بن حاتم رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ''ما منكم من أحد إلّا وسيكلّمه الله، ليس بينه وبينه ترجمان، فينظر أيمن منه فلا يرى إلّا ما قَدَّم، وينظر أشأم منه فلا يرى إلّا ما قدّم، وينظر بين يديه فلا يرى إلّا النّار تلقاء وجهه، فاتّقوا النّار ولو بشقّ تمرة. '' رواه البخاري ومسلم .
هذا لفظ الحديث عند مسلم، وهو في البخاري بلفظ أطول، ومنه: ''ثُمَّ لَيَقِفَنَّ أَحَدُكُمْ بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ لَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ حِجَابٌ يَحْجُبُهُ , وَلا تُرْجُمَانٌ , فَيُتَرْجِمَ لَهُ , فَيَقُولُ : أَلَمْ أُوتِكَ مَالا ؟ فَيَقُولُ : بَلَى فَيَقُولُ : أَلَمْ أُرْسِلْ إِلَيْكَ رَسُولا ؟ فَيَقُولُ : بَلَى , فَيَنْظُرَ عَنْ يَمِينِهِ , فَلا يَرَى إِلا النَّارَ , وَيَنْظُرُ عَنْ يَسَارِهِ , فَلا يَرَى إِلا النَّارَ , فَلْيَتَّقِ أَحَدُكُمُ النَّارَ وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ , فَإِنْ لَمْ يَجِدْ فَبِكَلِمَةَ طَيِّبَةٍ " .
ففي هذا الحديث إثبات أنّ الله يكلّم عباده يوم القيامة مباشرة، وفيه إثبات رؤية العباد لربّهم يوم القيامة.
تعليق