بسم الله الرحمن الرحيم
لذا رأيت أن أجمع ما قاله أهل السنة - فيما اطلعت عليه - في هذه المسألة وبيان ردهم وإبطالهم لقول من خالفهم.
ورود الاستواء في القرآن :
أخبر الله عز وجل في سبعة مواضع من كتابه بأنه استوى على عرشه قال تعالى : ﴿ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ﴾ [الأعراف:54] [يونس:3] [الفرقان:59] [السجدة : 4][الرعد : 2] [الحديد:4] وقوله :﴿الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى﴾[طه:5 ]
وأخبر أنه ﴿اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ﴾في موضعين من كتابه [البقرة:29][فصلت:11].
معنى الاستواء في اللغة :
بالنظر في بيان أهل العلم لمعنى الاستواء نجده كما يقول ابن القيم : لفظ الاستواء في كلام العرب الذي خاطبنا الله تعالى بلغتهم وأنزل بها كلامه ، نوعان : مطلق ومقيد :
* فالمطلق : ما لم يوصل معناه بحرف مثل قوله : ﴿وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَىٰ آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا﴾ . وهذا معناه كَمُلَ وَتَمَّ ، يقال : استوى النبات واستوى الطعام .
*وأما المقيد : فثلاثة أضرب أحدها :
/1مقيد ب"إلى" كقوله : ﴿ ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ ﴾ ، واستوى فلان إلى السطح وإلى الغرفة ، وقد ذكر سبحانه هذا المعدى بإلى في موضعين من كتابه في سورة البقرة في قوله تعالى : ﴿ ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَوَاتٍ ﴾ والثاني في سورة فصلت﴿ ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ﴾ وهذا بمعنى العلو والارتفاع بإجماع السلف كما سنذكر ألفاظهم إن شاء الله.
/2والثاني:مقيد ب"على"كقوله ﴿ لِتَسْتَوُوا عَلَىٰ ظُهُورِهِ﴾وقوله :﴿وَاسْتَوَتْ عَلَى الجُودِيِّ﴾ وقوله﴿ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ﴾ وهذا معناه العلو والارتفاع والاعتدال بإجماع أهل اللغة .
/3والثالث : المقرون ب"واو" :مع التي تعدي الفعل إلى المفعول معه نحو استوى الماء والخشبة بمعنى ساواها .
هذه معاني الاستواء المعقولة في كلامهم ليس فيها معنى استولى ولا نقله أحد من أئمة اللغة الذين يعتمد قولهم وإنما قاله متأخرو النحاة من المعتزلة والجهمية.
أنواع العلو :
1/علو القدر ، أي قدر الله وشأنه عظيم .
2/ علو القهر ، أي علو القهر والسلطان والعظمة.
3/ علو الذات ، أي ذاته فوق العرش.
مذهب أهل السنة والجماعة في الاستواء :
مذهب أهل السنة في الاستواء كمذهبهم في سائر صفات الله عز وجل يثبتون لله عز وجل ما أثبته لنفسه أو أثبته له رسوله صلى الله عليه وسلم وينفون عنه ما نفاه عن نفسه أو نفاه عنه رسوله صلى الله عليه وسلم ويسكتون عما سكت الله عنه أو سكت عنه رسوله صلى الله عليه وسلم ، وباعتصامهم بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم سلموا من التمثيل والتعطيل والتحريف والتكييف ، فهم يجمعون بين الإثبات والتنزيه ، إثبات ما أثبته الله عز وجل ونفي ما ينزه عنه الرب عز وجل من النقص والتمثيل بالمخلوقات يحملون الصفات على الحقيقة التي تليق بجلال الله وقد حكى إجماعهم1/علو القدر ، أي قدر الله وشأنه عظيم .
2/ علو القهر ، أي علو القهر والسلطان والعظمة.
3/ علو الذات ، أي ذاته فوق العرش.
مذهب أهل السنة والجماعة في الاستواء :
الحافظ ابن عبد البر المالكي رحمه الله فقال: }أهل السنة مجمعون على الإقرار بالصفات الواردة كلها في القرآن والسنة والإيمان بها وحملها على الحقيقة لا على المجاز إلا أنهم لا يكيفون شيئا من ذلك ولا يحدون فيه صفة محصورة{
.وعلى هذا المنوال مذهبهم في الاستواء : أن علوه جل وعلا على العرش كما يليق بجلاله عز وجل من غير تمثيل ، وهذا متفق عليه عندهم ينقله المتأخر عن المتقدم ويقرره من بالمشرق والمغرب وهم وإن تعددت مدارسهم الفقهية وتباعدت بلدانهم فقولهم فيه واحد .
وقد حكى اتفاقهم غير واحد من أهل العلم منهم :
*وقال إسحاق بن راهويه )توفي 238 ه(: قال الله تعالى:﴿الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى﴾إجماع أهل العلم أنه فوق العرش استوى ويعلم كل شيء في أسفل الأرض السابعة. ]كتاب العلوّ للذّهبي132، درء تعارض العقل والنّقل[34/2
* قال إسماعيل بن محمد الأصبهاني: قال أهل السنة :"الاستواء هو العلو"
ومن أقوال أهل السنة في تفسير الاستواء :
*قول الحافظ ابن عبد البر إمام أهل الأندلس المالكي )توفي 463 ه(ـ: والاستواء معلوم في اللغة ومفهوم، وهو العلو والارتفاع على الشيء والاستقرار والتمكن فيه وقال : الاستواء الاستقرار في العلو وإذا خاطبنا الله عز وجل وقال:﴿لِتَسْتَوُوا عَلَىٰ ظُهُورِه﴾ وقال : ﴿ وَاسْتَوَتْ عَلَى الجُودِيِّ﴾ وقال : ﴿فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ﴾]التمهيد 7.[* نقل الإمام البخاري في صحيحه في كتاب التوحيد عن أبي العالية الرياحي وعن مجاهد بن جبر تلميذ ابن عباس إطباق السلف على تفسير الاستواء بالعلو والارتفاع] صحيح البخاري ، ك التوحيد ، باب رقم 22. [
*قال الحافظ ابن حجر) توفي 852هـ( : وقد نقل البغوي عن ابن عباس وأكثر المفسرين أن معنى ﴿اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ﴾ ارتفع . وقال أبو عبيد والفراء وغيرهما بنحوه. ]فتح الباري (3/406).[
*قال القرطبي : والاستواء في كلام العرب هو العلو والاستقرار] تفسير القرطبي[
* قال الإمام البغوي: قوله:﴿ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ﴾ علا عليه].معالم التنزيل[
* قول ابن أبي زيد القيرواني )توفي 386 ه( "وأنه فوق عرشه المجيد بذاته ، وهو في كل مكان بعلمه" ]مقدمة رسالة ابن أبي زيد القيرواني[
*وفسر الطبري "العلي "بالعلو والارتفاع]"جامع البيان[
*وقال ابن عبد البر المالكي رحمه الله :ومن الحجة أيضا في أنه عز وجل على العرش فوق السموات السبع : أن الموحدين أجمعين من العرب والعجم إذا كربهم أمر أو نزلت بهم شدة رفعوا وجوههم إلى السماء يستغيثون ربهم تبارك وتعالى . وهذا أشهر وأعرف عند الخاصة والعامة من أن يحتاج فيه إلى أكثر من حكايته لأنه اضطرار لم يؤنبهم عليه أحد ولا أنكره عليهم مسلم . ثم استشهد بحديث الجارية]رواه مالك في الموطأ ومسلم في صحيحه][التمهيد[.
ما نقل عن الإمام مالك في الاستواء :
*روى أبو الشيخ الأصبهاني بسنده عن محمد بن النعمان بن عبد السلام قال :أتى رجل مالك بن أنس فقال﴿الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى﴾كيف استوى؟ قال فأطرق وجعل يعرق وجعلنا ننتظر ما يأمر به فرفع رأسه فقال :الاستواء منه غير مجهول والكيف منه غير معقول والإيمان به واجب والسؤال عنه بدعة.*قال شيخ الإسلام ابن تيمية )توفي 728 هـ(: " وقول مالك من أنبل جواب وقع في هذه المسألة وأشده استيعابا لأن فيه نبذ التكييف وإثبات الاستواء المعقول وقد ائتم أهل العلم بقوله واستجودوه واستحسنوه" .
ومراد الإمام مالك بقوله : الاستواء منه غير مجهول : أن معنى الاستواء معلوم في اللغة وهو العلو ، وبهذا فسر أهل العلم من الأئمة المالكية وغيرهم مراد الإمام مالك والأئمة المالكية أدرى الناس بمراد مالك وأعرف بأقواله من غيرهم ومن هؤلاء : أبو بكر ابن العربي والقرطبي....
إثبات علو الله على خلقه :
*قال الله تعالى : ﴿وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ﴾[البقرة]*وقال تعالى :﴿سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى﴾[الأعلى]
* قال الله تعالى:﴿وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ﴾[الأنعام]
*وقال تعالى في وصف الملائكة : ﴿يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ﴾ [النحل]
*قال الله تعالى ﴿أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ﴾ [الملك]
-قال ابن عباس رضي الله عنه: أي أأمنتم عذاب من في السماء إن عصيتموه ؟ ]الجامع لأحكام القرآن القرطبي[
وقوله صلى الله عليه وسلم :"الراحمون يرحمهم الرحمن، ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء" ]رواه أحمد وأبو داود والترمذي والحاكم والبيهقي وابن أبي شيبة[
*وفي البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم: "لما قضى الله الخلق كتب في كتابه فهو عنده فوق العرش : إن رحمتي غلبت غضبي" …
فالله عز وجل موصوف بصفة العلو : علو الذات والصفات والقدر والقهر ومن نفى شيئا من ذلك فعليه الدليل .
أقوال الأئمة الأربعة :
*ورد عن الإمام أبي حنيفةمن طرق تكفير من نفى أن الله في السماء ، قال : لأن الله تعالى يقول : ﴿الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى﴾ وعرشه فوق سمواته ]كتاب العرش ، ص70-71) [توفي 150هـ(*وثبت عن مالك"أن الله في السماء وعلمه في كل مكان" ]أخرجه أبو داوود [
*وعن الإمام الشافعي :"وأن الله فوق عرشه في سمائه"إثبات صفة العلو لابن قدامة
*وأما أحمد بن حنبل :له كتاب"الرد على الجهمية" الذي بيّن فيه معتقده...
إبطال قول أهل التأويل في الاستواء :
وأما من أوّل صفة الاستواء فهم طائفتان : طائفة تقول معناها الاستيلاء فإن "استوى"معناه عندهم استولى بزيادة اللام.وهو قول الجهم بن صفوان والجهم قد أخذه عن الجعد بن درهم عن أبان بن سمعان عن طالوت ابن أخت لبيد بن الأعصم عن خاله لبيد. )ولبيد هو اليهودي الذي سحر النبي صلى الله عليه وسلم ..(وقد صرح جمع من علماء اللغة بأنه مخالف لما تعرفه العرب في كلامها حتى قال ابن الأعرابي) توفي 231 (– النحوي المشهور– لمن قال له ذلك : "ويحك ! إن الاستيلاء لا يكون إلا بعد المغالبة ، والله لا يغالبه أحد"
ثم إنهم لم يجدوا ما يؤيدون به هذا التأويل من كتاب الله ولا من سنة رسوله صلى الله عليه وسلم ولا من قول العرب الفصحاء إلا بيتًا منحولا على الأخطل النصراني – شاعر العصر الأموي – وهو قوله : قد استوى بشر على العراق……
وقد أنكر العلماء نسبة هذا البيت إلى الأخطل.
*ومن الأول ما جاء في لامية ابن تيمية رحمه الله :
قُبْحًا لِمَنْ نَبَذَ الْقُرْآنَ وَرَاءَهُ ** وَإِذَا اسْتَدَلَّ يَقُولُ قَالَ الأَخْطَلُ.
خلاصة قواعد أهل السنة والجماعة في الأسماء والصفات :
1ـ الإثبات :أي إثبات كل ما جاء في الكتاب والسنة. ودليه ﴿وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِير﴾.2ـ التنزيه :أي تنزيه الخالق الكامل عن مماثلة المخلوق الناقص ودليله ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ﴾﴿فَلَا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَالَ﴾﴿وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَد﴾
3ـ المعاني معلومة ونؤمن أن لله كيفية تليق بجلاله وعظمته لكن هذه الكيفية لا نعلمها والسؤال عنها بدعة ودليله ﴿ وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا﴾.
*وإذا أشكل علينا شيء نقول بقول الشافعي) توفي 204ه}(أمنت بالله وبما جاء عن الله على مراد الله وآمنت برسول الله وبما جاء عن رسول الله على مراد رسول الله.{ والخلاصة "آمن تهتد" …
الخاتمة :
الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات . وبعد ، فلا ريب أن من أعظم أسباب زيادة الإيمان العلم بالله وأسمائه وصفاته ولا ريب أنك أخي القارئ الكريم قد تبين لك أن كلّ ما يُثَارُ حَول هذا المُعتقد الصّافي من الشُّبُهات والإشكالات لا يُعكِّر حُسنَهُ، ولا يُذهِبُ جَمَالهُ. فاتبع سبيل الحق ولا يضرّك قلّة السالكين."الحقُّ أبلجٌ لا تَزيغ سبيلهُ * والحَقّ يَعرفهُ ذَوُو الأَلبابِ"
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد، و على آله وصحبه وسلم.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد، و على آله وصحبه وسلم.
تعليق