الحمد لله ربِّ العالمين والصَّلاة والسَّلامعلى نبيِّنا محمد و على آله وصحبه وسلَّم
أمّا بعدُ
فإنّ مَبْحَثًا للشيخِ الوالد عبيد الجابري ـــ حفظه الله تعالى وسدّده ــــ في خاتمة شرحه على القاعدة الثانية من شرحه المسمى فتح العلي الأعلى بشرح القواعد المثلى ــــ مبحث يتضمن الرد على شبهٍ بالأجوبة المقنعة المستندة على الدليل .
الشبهة الأولى :
هل الدهر من أسماء الله ؟
فيقال : ليس الدهر من أسماء الله .
أولًا : لأنه اسم جامد لا يتضمن معنى يلحقه بالأسماء الحسنى بوجهٍ من الوجوه
ثانيًا : الذين قالوا: ((إن هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما يهلكنا إلا الدهر ))، لا يريدون أنّ الذي يميتهم ويحييهم أو الذي يهلكهم هو الله ـــ سبحانه وتعالى ـــ وإنّما يريدون الزمن ، يعني الوقت الذي هو محل الحوادث المهلكة لهم وهولاء هم الدهرية الذين ينكرون قدرة الله سبحانه وتعالى وينكرون أنّ الحياة والموت بيد الله عزّ وجلّ ، وينكرون البعث .
هذا هو الرد على السؤال الأول ، وقد يكون شبهة تعرض لبعض النّاس وإنْ كان سنيّا ، وإنّما هو في الحقيقة إشكال وهذا أفضل من كونه شبهة ويزيد هذا وضوحًا الجواب على الإشكال الثاني وهذا الإشكال ، كيف تصنعون بالحديث القدسي الذي رواه البخاري وغيره عن النبيّ ـــ صلى الله عليه وسلم ـــــ قال الله تعالى :(( يؤذيني ابن آدم يسب الدهر .....الخ)). وفي رواية (( لا تسبوا الدهر فإن الله هو الدهر ))؟ فنقول : هذا الإشكال له جوابان :
أحدهما : تفسير المتكلم بهذا الحديث بهذا الحديث القدسي و هو الله ـــ سبحانه وتعالى ـــ فقد فسره بقوله ((بيدي الأمر أقلب الليل والنهار)) وإيضاح ذلك أنّ الحديث تضمن الإخبار بمقلِّب اسم فاعل ومقلَّب اسم مفعول ولا يمكن أنْ يكون الفاعل والمفعول واحد هذا أول الجوابين .
وثانيهما: أنّ الذي يسبّ الدهر لا يسبّ الله تعالى هو يقصد سبّ الزمن وإن كان السبّ يقع في الحقيقة على الله ــــ عزّ وجلّ ــــ لأنّه هو مصرف الدهر وقد تقدم أنّ مِن المشركين من قالوا ، فيما أخبر الله عنهم((وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ وَمَا لَهُم بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ(24) ( (الجاثية).
قال ابن كثير ــــ رحمه الله تعالى ـــ :يخبر تعالى عن قول الدهريّة من الكفار ومن وافقهم من مشركي العرب في إنكار المعاد((وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا))أي : ما تمّ إلا هذه الدار يموت قوم ويعيش آخرون وما تمّ معاد ولا قيامة وهذا يقوله مشركو العرب المنكرون المعاد وتقوله الفلاسفة الإلهيون منهم من ينكرون البداءة والرجعة ، وتقوله الفلاسفة الدهرية المنكرون للصانع المعتقدون أنّ كل ستة وثلاثين ألف سنة يعود كل شيء إلى ما كان عليه ، وزعموا أنّ هذا قد تكرر مرات لا تتناهى فكابروا العقول وكذبوا المنقول ولهذا قالوا : ((وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ)) ، قال تعالى : ((وَمَا لَهُم بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ)) أي : يتوهمون ويتخيلون ، فأما الحديث الذي أخرجه صاحبا الصحيح، وأبو داود،والنسائي من رواية سفيان بن عيينة عن الزهري عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة ـــ رضي الله عنه ـــــ قال : قال رسول الله ـــــ صلى الله عليه وسلم ـــ (( يَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: يُؤْذِينى ابْنُ آدَمَ فَيَسُبُّ الدَّهْرَ، وأنا الدَّهْرُ، بِيَدِى الأَمْرُ أَقلِّبُ اللَّيلَ والنَّهَارَ)) وفي رواية((لا تسبوا الدهر فإن الله هو الدهر)) أورده ابن جرير بسياق غريب جدًا ، فقال حدثنا أبو كريب حدثنا سفيان بن عيينة عن الزهري عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة ـــ رضي الله عنه ــــ قال : (( كان أهل الجاهلية يقولون إنما يهلكنا الليل والنهار ، وهو الذي يهلكنا يميتنا ويحيينا ، فقال الله تعالى : ((وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ ))، ويسبون الدهر فقال الله عزّ وجلّ(( يُؤْذِينى ابْنُ آدَمَ فَيَسُبُّ الدَّهْرَ، وأنا الدَّهْرُ، بِيَدِى الأَمْرُ أَقلِّبُ اللَّيلَ والنَّهَار..........))
فائدة :
َقال الشافعي ــــ رحمه الله ـــــ : (( إن العرب كان من شأنها أن تذم الدهر،وتسبه عند المصائب التي تنزل بهم ، من موت أو هرم أو تلف أو غير ذلك فيقولون : (إنّما يهلكنا الدهر وهو الليل والنهار ويقولون أصابتهم القوارع وأبادهم الدهر) فيجعلون الليل والنهار يفعلان الأشياء ، فيذمون الدهر بأنّه الذي يفنيهم ، ويفعل بهم ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم (( لا تسبوا الدهر )) على أنّه الذي يفنيكم ويفعل بكم هذه الأشياء فإنكم إذا سببتم فاعل هذه الأشياء فإنّما تسبون الله تبارك وتعالى فإنه فاعل هذه الأشياء (الإمداد ،ج3،ص428)
يريدون الزمن الذي فيه مرور الحوادث يريدون الليالي والأيام التي هي محل الحوادث وأنها هي التي تهلكهم .
ابن القيم ـــ رحمه الله ـــ
فصلٌ فى النهى عن سب الدهر من زاد المعاد لابن القيم ـــ رحمه الله ـــ المجلد الثاني ص 323
وأما القِسْمُ الثانى وهو أن تُطلق ألفاظُ الذمِّ على مَن ليس مِن أهلها، فمثلُ نهيه صلى اللَّه عليه وسلم عن سبِّ الدهرِ، وقال: ((إنَّ اللَّهَ هُوَ الدَّهْرُ))، وفى حديث آخر: (( يَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: يُؤْذِينى ابْنُ آدَمَ فَيَسُبُّ الدَّهْرَ، وأنا الدَّهْرُ، بِيَدِى الأَمْرُ أَقلِّبُ اللَّيلَ والنَّهَارَ))، وفى حديث آخر ((لا يَقُولَنَّ أحَدُكُم: يا خَيْبَةَ الدَّهْرِ.))
فى هذا ثلاثُ مفاسد عظيمة. إحداها:سَبُّه مَنْ ليس بأهلٍ أن يُسَب، فإن الدهرَ خَلْقٌ مُسَخَّرٌ مِن خلق اللَّه، منقادٌ لأمره، مذلَّلٌ لتسخيره، فسابُّه أولى بالذمِّ والسبِّ منه.
الثانية: أن سبَّه متضمِّن للشرك، فإنه إنما سبَّه لظنَّه أنه يضرُّ وينفع، وأنه مع ذلك ظالم قد ضرَّ مَن لا يستحق الضرر، وأعطى مَن لا يستحقُّ العطَاءَ، ورفع مَن لا يستحقُّ الرِّفعة، وحرم مَن لا يستحِقُ الحِرمان، وهو عند شاتميه من أظلم الظلمة، وأشعارُ هؤلاء الظلمة الخونة فى سبِّه كثيرةٌ جداً، وكثيرٌ من الجُهَّال يُصرِّح بلعنه وتقبيحِه.
الثالثة:أن السبَّ منهم إنما يقعُ على مَن فعل هذه الأفعال التى لو اتَّبَعَ الحقُّ فيها أهواءَهم لفسدتِ السماواتُ والأرض، وإذا وقعت أهواؤُهم، حَمِدُوا الدهرَ، وأَثْنَوْا عليه. وفى حقيقةِ الأمر، فَربُّ الدهر تعالى هو المعطى المانِعُ، الخافِضُ الرافعُ، المعزُّ المذِلُّ، والدهرُ ليس له من الأمر شيء، فمسبَّتهم للدهر مسبَّة للَّه عَزَّ وجَلَّ، ولهذا كانت مؤذيَةً للربِّ تعالَى، كما فى ((الصحيحين)) من حديث أبى هريرة، عن النبى صلى الله عليه وسلم قال: ((قالَ اللَّه تَعالَى: يُؤْذِينى ابْنُ آدَمَ ؛ يَسُبُّ الدَّهْرَ وأَنَا الدَّهْرُ)) ، فسابُّ الدهر دائر بين أمرين لا بد له من أحدهما. إما سبُّه لِلَّهِ، أو الشِّركُ به، فإنه إذا اعتقد أن الدهر فاعل مع اللَّه فهو مشرك، وإن اعتقد أن اللَّه وحده هو الذى فعل ذلك وهو يسبُّ مَن فعله، فقد سبَّ اللَّه.
ومن هذا قولُه صلى اللَّه عليه وسلم: ((لاَ يَقُولَنَّ أحَدُكُم: تَعِسَ الشَّيْطَانُ فَإنَّهُ يَتَعَاظَمُ حَتَّى يَكُونَ مِثْلَ البَيْتِ، فَيَقُولُ: بِقُوَّتِى صَرَعْتُهُ، وَلَكِنْ لِيَقُلْ: بسْمِ اللَّهِ، فَإنَّهُ يَتَصَاغَرُ حَتَّى يَكُونَ مِثْلَ الذُّبَابِ)).
وفى حديث آخر: ((إنَّ العَبْدَ إذَا لَعَنَ الشَّيْطَانَ يَقُولُ: إنَّكَ لَتَلْعَنُ مُلَعَّناً))
ومثل هذا قولُ القائل: أخزى اللَّه الشيطان، وقبَّح اللَّهُ الشيطان، فإن ذلك كله يفرحه ويقول علم ابن آدم أنى قد نلته بقوتى ، وذلك مما يعينه على إغوائه ، ولا يفيده شيئاً ، فأرشد النبى صلى الله عليه وسلم من مسه شىء من الشيطان أن يذكر الله تعالى ، ويذكر اسمه ، ويستعيذ بالله منه ، فإن ذلك أنفع له ، وأغيظ للشيطان .
الإمام الألباني ــــ رحمه الله ــــ (السلسلة الصحيحة ) المجلد الثاني
رقم الحديث531
الحديث:
قال الله ـــ عزّ وجلّ ــــ : ((يؤذيني ابن آدم يقول يا خيبة الدهر )) وفي رواية يسب الدهر .(( فلا يقولن أحدكم يا خيبة الدهر فإني أنا الدهر أقلب ليله ونهاره فإذا شئت قبضتهما))(صحيح)
معنى الحديث
قال المنذري ومعنى الحديث أن العرب كانت إذا نزلت بأحدهم نازلة وإصابته مصيبة أو مكروه يسب الدهر اعتقادا منهم أن الذي أصابه فعل الدهر كما كانت العرب تستمطر بالأنواء وتقول مطرنا بنوء كذا . اعتقادا أن ذلك فعل الأنواء فكان هذا كالاعن للفاعل ولا فاعل لكل شيء إلا الله تعالى خالق كل شيء وفاعله فنهاهم النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك .
وكان [محمد] بن داود ينكر رواية أهل الحديث : " وأنا الدهر " بضم الراء ويقول : لو كان كذلك كان الدهر اسماً من أسماء الله عز وجل , وكان يرويه : " وأنا الدهر أقلب الليل والنهار " بفتح راء الدهر , على النظر في معناه : أنا طول الدهر والزمان أقلب الليل والنهار , ورجح هذا بعضهم ورواية من قال : "فإن الله هو الدهر " يرد هذا , والجمهور على ضم الراء , والله أعلم".
وللحديث طريق أخرى بلفظ وهو:532((لَا تَسُبُّوا الدَّهْرَ فَإِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ قَالَ أَنَا الدَّهْرُ الْأَيَّامُ وَاللَّيَالِي لِي أُجَدِّدُهَا وَأُبْلِيهَا وَآتِي بِمُلُوكٍ بَعْدَ مُلُوكٍ))
قال النووي : قالوا : هو مجاز، وسببه أن العرب كان شأنها أن تسب الدهر عند النوازل والحوادث والمصائب النازلة بها من موت أو هرم أو تلف مال أو غير ذلك فيقولون " يا خيبة الدهر " ونحو هذا من ألفاظ سب الدهر
فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((لا تسبوا الدهر فإن الله هو الدهر))أي : لا تسبوا فاعل النوازل فإنكم إذا سببتم فاعلها وقع السب على الله تعالى لأنه هو فاعلها ومنزلها ، وأما الدهر الذي هو الزمان فلا فعل له بل هو مخلوق من جملة خلق الله تعالى .
ومعنى " فإن الله هو الدهر " أي : فاعل النوازل والحوادث وخالق الكائنات والله أعلم . شرح مسلم/ ( 15 / 3.(
قال العلامة ابن عثيمين ـــ رحمه الله ـــ:
وينبغي أن يعلم أنه ليس من أسماء الله اسم " الدهر " وإنما نسبته إلى الله تعالى نسبة خلق وتدبير ، أي : أنه خالق الدهر ، بدليل وجود بعض الألفاظ في نفس الحديث تدل على هذا مثل قوله تعالى: ((بيدي الأمر أقلِّب ليلَه ونهارَه))فلا يمكن أن يكون في هذا الحديث المقلِّب - بكسر اللام - والمقلَّب - بفتح اللام - واحداً ، وإنما يوجد مقلِّب - بكسر اللام - وهو الله ، ومقلَّب - بفتح اللام - وهو الدهر ، الذي يتصرف الله فيه كيف شاء ومتى شاء .انظر " فتاوى العقيدة " للشيخ ابن عثيمين ( 1 / 163)
وسئل الشيخ ابن عثيمين ـــ رحمه الله عن حكم سب الدهر:
فأجاب قائلا:
سب الدهر ينقسم إلى ثلاثة أقسام .
القسم الأول: أن يقصد الخبر المحض دون اللوم : فهذا جائز مثل أن يقول " تعبنا من شدة حر هذا اليوم أو برده " وما أشبه ذلك لأن الأعمال بالنيات واللفظ صالح لمجرد الخبر .
القسم الثاني: أن يسب الدهر على أنه هو الفاعل كأن يقصد بسبه الدهر أن الدهر هو الذي يقلِّب الأمور إلى الخير أو الشر : فهذا شرك أكبر لأنه اعتقد أن مع الله خالقا حيث نسب الحوادث إلى غير الله .
القسم الثالث: أن يسب الدهر ويعتقد أن الفاعل هو الله ولكن يسبه لأجل هذه الأمور المكروهة : فهذا محرم لأنه مناف للصبر الواجب وليس بكفر ؛ لأنه ما سب الله مباشرة ، ولو سب الله مباشرة لكان كافراً . فتاوى العقيدة " ( 1 / 197 )
وجاء في السؤال رقم 82 من المناهي اللفظية للعلامة العثيمين ـــ رحمه الله ـــ أنّه سئل : عن عبارة لم تسمح لي الظروف ؟ أو لم يسمح لي الوقت ؟ .
فأجاب قائلا: إن كان القصد انه لم يحصل وقت يتمكن فيه من المقصود فلا بأس به ، وإن كان القصد أن للوقت تأثيرا فلا يجوز.
- قال الحافظ ابن كثير - عند قول الله تعالى : ((وقالوا ما هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما يهلكنا إلا الدهر ))ا(لجاثية الآية 24 ( :
قال الشافعي وأبو عبيدة وغيرهما في تفسير قوله صلى الله عليه وسلم)) : لا تسبوا الدهر فإن الله هو الدهر ((كانت العرب في جاهليتها إذا أصابهم شدة أو بلاء أو نكبة قالوا : " يا خيبة الدهر " فيسندون تلك الأفعال إلى الدهر ويسبونه وإنما فاعلها هو الله تعالى فكأنهم إنما سبوا الله عز وجل لأنه فاعل ذلك في الحقيقة فلهذا نهى عن سب الدهر بهذا الاعتبار لأن الله تعالى هو الدهر الذي يصونه ويسندون إليه تلك الأفعال .
وهذا أحسن ما قيل في تفسيره ، وهو المراد . والله أعلم، تفسير ابن كثير (المجلد 4 ص 152(.
قال الخطابي: في معنى قول الله تعالى :(( أنا الدهر))
معناه :أنا صاحب الدهر ومدبر الأمور التي ينسبونها إلى الدهر فمن سب الدهر من أجل أنه فاعل هذه الأمور عاد سبه إلى ربه الذي هو فاعلها ، وإنما الدهر زمان جعل ظرفا لمواقع الأمور.
أمّا بعدُ
فإنّ مَبْحَثًا للشيخِ الوالد عبيد الجابري ـــ حفظه الله تعالى وسدّده ــــ في خاتمة شرحه على القاعدة الثانية من شرحه المسمى فتح العلي الأعلى بشرح القواعد المثلى ــــ مبحث يتضمن الرد على شبهٍ بالأجوبة المقنعة المستندة على الدليل .
الشبهة الأولى :
هل الدهر من أسماء الله ؟
فيقال : ليس الدهر من أسماء الله .
أولًا : لأنه اسم جامد لا يتضمن معنى يلحقه بالأسماء الحسنى بوجهٍ من الوجوه
ثانيًا : الذين قالوا: ((إن هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما يهلكنا إلا الدهر ))، لا يريدون أنّ الذي يميتهم ويحييهم أو الذي يهلكهم هو الله ـــ سبحانه وتعالى ـــ وإنّما يريدون الزمن ، يعني الوقت الذي هو محل الحوادث المهلكة لهم وهولاء هم الدهرية الذين ينكرون قدرة الله سبحانه وتعالى وينكرون أنّ الحياة والموت بيد الله عزّ وجلّ ، وينكرون البعث .
هذا هو الرد على السؤال الأول ، وقد يكون شبهة تعرض لبعض النّاس وإنْ كان سنيّا ، وإنّما هو في الحقيقة إشكال وهذا أفضل من كونه شبهة ويزيد هذا وضوحًا الجواب على الإشكال الثاني وهذا الإشكال ، كيف تصنعون بالحديث القدسي الذي رواه البخاري وغيره عن النبيّ ـــ صلى الله عليه وسلم ـــــ قال الله تعالى :(( يؤذيني ابن آدم يسب الدهر .....الخ)). وفي رواية (( لا تسبوا الدهر فإن الله هو الدهر ))؟ فنقول : هذا الإشكال له جوابان :
أحدهما : تفسير المتكلم بهذا الحديث بهذا الحديث القدسي و هو الله ـــ سبحانه وتعالى ـــ فقد فسره بقوله ((بيدي الأمر أقلب الليل والنهار)) وإيضاح ذلك أنّ الحديث تضمن الإخبار بمقلِّب اسم فاعل ومقلَّب اسم مفعول ولا يمكن أنْ يكون الفاعل والمفعول واحد هذا أول الجوابين .
وثانيهما: أنّ الذي يسبّ الدهر لا يسبّ الله تعالى هو يقصد سبّ الزمن وإن كان السبّ يقع في الحقيقة على الله ــــ عزّ وجلّ ــــ لأنّه هو مصرف الدهر وقد تقدم أنّ مِن المشركين من قالوا ، فيما أخبر الله عنهم((وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ وَمَا لَهُم بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ(24) ( (الجاثية).
قال ابن كثير ــــ رحمه الله تعالى ـــ :يخبر تعالى عن قول الدهريّة من الكفار ومن وافقهم من مشركي العرب في إنكار المعاد((وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا))أي : ما تمّ إلا هذه الدار يموت قوم ويعيش آخرون وما تمّ معاد ولا قيامة وهذا يقوله مشركو العرب المنكرون المعاد وتقوله الفلاسفة الإلهيون منهم من ينكرون البداءة والرجعة ، وتقوله الفلاسفة الدهرية المنكرون للصانع المعتقدون أنّ كل ستة وثلاثين ألف سنة يعود كل شيء إلى ما كان عليه ، وزعموا أنّ هذا قد تكرر مرات لا تتناهى فكابروا العقول وكذبوا المنقول ولهذا قالوا : ((وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ)) ، قال تعالى : ((وَمَا لَهُم بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ)) أي : يتوهمون ويتخيلون ، فأما الحديث الذي أخرجه صاحبا الصحيح، وأبو داود،والنسائي من رواية سفيان بن عيينة عن الزهري عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة ـــ رضي الله عنه ـــــ قال : قال رسول الله ـــــ صلى الله عليه وسلم ـــ (( يَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: يُؤْذِينى ابْنُ آدَمَ فَيَسُبُّ الدَّهْرَ، وأنا الدَّهْرُ، بِيَدِى الأَمْرُ أَقلِّبُ اللَّيلَ والنَّهَارَ)) وفي رواية((لا تسبوا الدهر فإن الله هو الدهر)) أورده ابن جرير بسياق غريب جدًا ، فقال حدثنا أبو كريب حدثنا سفيان بن عيينة عن الزهري عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة ـــ رضي الله عنه ــــ قال : (( كان أهل الجاهلية يقولون إنما يهلكنا الليل والنهار ، وهو الذي يهلكنا يميتنا ويحيينا ، فقال الله تعالى : ((وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ ))، ويسبون الدهر فقال الله عزّ وجلّ(( يُؤْذِينى ابْنُ آدَمَ فَيَسُبُّ الدَّهْرَ، وأنا الدَّهْرُ، بِيَدِى الأَمْرُ أَقلِّبُ اللَّيلَ والنَّهَار..........))
فائدة :
َقال الشافعي ــــ رحمه الله ـــــ : (( إن العرب كان من شأنها أن تذم الدهر،وتسبه عند المصائب التي تنزل بهم ، من موت أو هرم أو تلف أو غير ذلك فيقولون : (إنّما يهلكنا الدهر وهو الليل والنهار ويقولون أصابتهم القوارع وأبادهم الدهر) فيجعلون الليل والنهار يفعلان الأشياء ، فيذمون الدهر بأنّه الذي يفنيهم ، ويفعل بهم ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم (( لا تسبوا الدهر )) على أنّه الذي يفنيكم ويفعل بكم هذه الأشياء فإنكم إذا سببتم فاعل هذه الأشياء فإنّما تسبون الله تبارك وتعالى فإنه فاعل هذه الأشياء (الإمداد ،ج3،ص428)
يريدون الزمن الذي فيه مرور الحوادث يريدون الليالي والأيام التي هي محل الحوادث وأنها هي التي تهلكهم .
ابن القيم ـــ رحمه الله ـــ
فصلٌ فى النهى عن سب الدهر من زاد المعاد لابن القيم ـــ رحمه الله ـــ المجلد الثاني ص 323
وأما القِسْمُ الثانى وهو أن تُطلق ألفاظُ الذمِّ على مَن ليس مِن أهلها، فمثلُ نهيه صلى اللَّه عليه وسلم عن سبِّ الدهرِ، وقال: ((إنَّ اللَّهَ هُوَ الدَّهْرُ))، وفى حديث آخر: (( يَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: يُؤْذِينى ابْنُ آدَمَ فَيَسُبُّ الدَّهْرَ، وأنا الدَّهْرُ، بِيَدِى الأَمْرُ أَقلِّبُ اللَّيلَ والنَّهَارَ))، وفى حديث آخر ((لا يَقُولَنَّ أحَدُكُم: يا خَيْبَةَ الدَّهْرِ.))
فى هذا ثلاثُ مفاسد عظيمة. إحداها:سَبُّه مَنْ ليس بأهلٍ أن يُسَب، فإن الدهرَ خَلْقٌ مُسَخَّرٌ مِن خلق اللَّه، منقادٌ لأمره، مذلَّلٌ لتسخيره، فسابُّه أولى بالذمِّ والسبِّ منه.
الثانية: أن سبَّه متضمِّن للشرك، فإنه إنما سبَّه لظنَّه أنه يضرُّ وينفع، وأنه مع ذلك ظالم قد ضرَّ مَن لا يستحق الضرر، وأعطى مَن لا يستحقُّ العطَاءَ، ورفع مَن لا يستحقُّ الرِّفعة، وحرم مَن لا يستحِقُ الحِرمان، وهو عند شاتميه من أظلم الظلمة، وأشعارُ هؤلاء الظلمة الخونة فى سبِّه كثيرةٌ جداً، وكثيرٌ من الجُهَّال يُصرِّح بلعنه وتقبيحِه.
الثالثة:أن السبَّ منهم إنما يقعُ على مَن فعل هذه الأفعال التى لو اتَّبَعَ الحقُّ فيها أهواءَهم لفسدتِ السماواتُ والأرض، وإذا وقعت أهواؤُهم، حَمِدُوا الدهرَ، وأَثْنَوْا عليه. وفى حقيقةِ الأمر، فَربُّ الدهر تعالى هو المعطى المانِعُ، الخافِضُ الرافعُ، المعزُّ المذِلُّ، والدهرُ ليس له من الأمر شيء، فمسبَّتهم للدهر مسبَّة للَّه عَزَّ وجَلَّ، ولهذا كانت مؤذيَةً للربِّ تعالَى، كما فى ((الصحيحين)) من حديث أبى هريرة، عن النبى صلى الله عليه وسلم قال: ((قالَ اللَّه تَعالَى: يُؤْذِينى ابْنُ آدَمَ ؛ يَسُبُّ الدَّهْرَ وأَنَا الدَّهْرُ)) ، فسابُّ الدهر دائر بين أمرين لا بد له من أحدهما. إما سبُّه لِلَّهِ، أو الشِّركُ به، فإنه إذا اعتقد أن الدهر فاعل مع اللَّه فهو مشرك، وإن اعتقد أن اللَّه وحده هو الذى فعل ذلك وهو يسبُّ مَن فعله، فقد سبَّ اللَّه.
ومن هذا قولُه صلى اللَّه عليه وسلم: ((لاَ يَقُولَنَّ أحَدُكُم: تَعِسَ الشَّيْطَانُ فَإنَّهُ يَتَعَاظَمُ حَتَّى يَكُونَ مِثْلَ البَيْتِ، فَيَقُولُ: بِقُوَّتِى صَرَعْتُهُ، وَلَكِنْ لِيَقُلْ: بسْمِ اللَّهِ، فَإنَّهُ يَتَصَاغَرُ حَتَّى يَكُونَ مِثْلَ الذُّبَابِ)).
وفى حديث آخر: ((إنَّ العَبْدَ إذَا لَعَنَ الشَّيْطَانَ يَقُولُ: إنَّكَ لَتَلْعَنُ مُلَعَّناً))
ومثل هذا قولُ القائل: أخزى اللَّه الشيطان، وقبَّح اللَّهُ الشيطان، فإن ذلك كله يفرحه ويقول علم ابن آدم أنى قد نلته بقوتى ، وذلك مما يعينه على إغوائه ، ولا يفيده شيئاً ، فأرشد النبى صلى الله عليه وسلم من مسه شىء من الشيطان أن يذكر الله تعالى ، ويذكر اسمه ، ويستعيذ بالله منه ، فإن ذلك أنفع له ، وأغيظ للشيطان .
الإمام الألباني ــــ رحمه الله ــــ (السلسلة الصحيحة ) المجلد الثاني
رقم الحديث531
الحديث:
قال الله ـــ عزّ وجلّ ــــ : ((يؤذيني ابن آدم يقول يا خيبة الدهر )) وفي رواية يسب الدهر .(( فلا يقولن أحدكم يا خيبة الدهر فإني أنا الدهر أقلب ليله ونهاره فإذا شئت قبضتهما))(صحيح)
معنى الحديث
قال المنذري ومعنى الحديث أن العرب كانت إذا نزلت بأحدهم نازلة وإصابته مصيبة أو مكروه يسب الدهر اعتقادا منهم أن الذي أصابه فعل الدهر كما كانت العرب تستمطر بالأنواء وتقول مطرنا بنوء كذا . اعتقادا أن ذلك فعل الأنواء فكان هذا كالاعن للفاعل ولا فاعل لكل شيء إلا الله تعالى خالق كل شيء وفاعله فنهاهم النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك .
وكان [محمد] بن داود ينكر رواية أهل الحديث : " وأنا الدهر " بضم الراء ويقول : لو كان كذلك كان الدهر اسماً من أسماء الله عز وجل , وكان يرويه : " وأنا الدهر أقلب الليل والنهار " بفتح راء الدهر , على النظر في معناه : أنا طول الدهر والزمان أقلب الليل والنهار , ورجح هذا بعضهم ورواية من قال : "فإن الله هو الدهر " يرد هذا , والجمهور على ضم الراء , والله أعلم".
وللحديث طريق أخرى بلفظ وهو:532((لَا تَسُبُّوا الدَّهْرَ فَإِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ قَالَ أَنَا الدَّهْرُ الْأَيَّامُ وَاللَّيَالِي لِي أُجَدِّدُهَا وَأُبْلِيهَا وَآتِي بِمُلُوكٍ بَعْدَ مُلُوكٍ))
قال النووي : قالوا : هو مجاز، وسببه أن العرب كان شأنها أن تسب الدهر عند النوازل والحوادث والمصائب النازلة بها من موت أو هرم أو تلف مال أو غير ذلك فيقولون " يا خيبة الدهر " ونحو هذا من ألفاظ سب الدهر
فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((لا تسبوا الدهر فإن الله هو الدهر))أي : لا تسبوا فاعل النوازل فإنكم إذا سببتم فاعلها وقع السب على الله تعالى لأنه هو فاعلها ومنزلها ، وأما الدهر الذي هو الزمان فلا فعل له بل هو مخلوق من جملة خلق الله تعالى .
ومعنى " فإن الله هو الدهر " أي : فاعل النوازل والحوادث وخالق الكائنات والله أعلم . شرح مسلم/ ( 15 / 3.(
قال العلامة ابن عثيمين ـــ رحمه الله ـــ:
وينبغي أن يعلم أنه ليس من أسماء الله اسم " الدهر " وإنما نسبته إلى الله تعالى نسبة خلق وتدبير ، أي : أنه خالق الدهر ، بدليل وجود بعض الألفاظ في نفس الحديث تدل على هذا مثل قوله تعالى: ((بيدي الأمر أقلِّب ليلَه ونهارَه))فلا يمكن أن يكون في هذا الحديث المقلِّب - بكسر اللام - والمقلَّب - بفتح اللام - واحداً ، وإنما يوجد مقلِّب - بكسر اللام - وهو الله ، ومقلَّب - بفتح اللام - وهو الدهر ، الذي يتصرف الله فيه كيف شاء ومتى شاء .انظر " فتاوى العقيدة " للشيخ ابن عثيمين ( 1 / 163)
وسئل الشيخ ابن عثيمين ـــ رحمه الله عن حكم سب الدهر:
فأجاب قائلا:
سب الدهر ينقسم إلى ثلاثة أقسام .
القسم الأول: أن يقصد الخبر المحض دون اللوم : فهذا جائز مثل أن يقول " تعبنا من شدة حر هذا اليوم أو برده " وما أشبه ذلك لأن الأعمال بالنيات واللفظ صالح لمجرد الخبر .
القسم الثاني: أن يسب الدهر على أنه هو الفاعل كأن يقصد بسبه الدهر أن الدهر هو الذي يقلِّب الأمور إلى الخير أو الشر : فهذا شرك أكبر لأنه اعتقد أن مع الله خالقا حيث نسب الحوادث إلى غير الله .
القسم الثالث: أن يسب الدهر ويعتقد أن الفاعل هو الله ولكن يسبه لأجل هذه الأمور المكروهة : فهذا محرم لأنه مناف للصبر الواجب وليس بكفر ؛ لأنه ما سب الله مباشرة ، ولو سب الله مباشرة لكان كافراً . فتاوى العقيدة " ( 1 / 197 )
وجاء في السؤال رقم 82 من المناهي اللفظية للعلامة العثيمين ـــ رحمه الله ـــ أنّه سئل : عن عبارة لم تسمح لي الظروف ؟ أو لم يسمح لي الوقت ؟ .
فأجاب قائلا: إن كان القصد انه لم يحصل وقت يتمكن فيه من المقصود فلا بأس به ، وإن كان القصد أن للوقت تأثيرا فلا يجوز.
- قال الحافظ ابن كثير - عند قول الله تعالى : ((وقالوا ما هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما يهلكنا إلا الدهر ))ا(لجاثية الآية 24 ( :
قال الشافعي وأبو عبيدة وغيرهما في تفسير قوله صلى الله عليه وسلم)) : لا تسبوا الدهر فإن الله هو الدهر ((كانت العرب في جاهليتها إذا أصابهم شدة أو بلاء أو نكبة قالوا : " يا خيبة الدهر " فيسندون تلك الأفعال إلى الدهر ويسبونه وإنما فاعلها هو الله تعالى فكأنهم إنما سبوا الله عز وجل لأنه فاعل ذلك في الحقيقة فلهذا نهى عن سب الدهر بهذا الاعتبار لأن الله تعالى هو الدهر الذي يصونه ويسندون إليه تلك الأفعال .
وهذا أحسن ما قيل في تفسيره ، وهو المراد . والله أعلم، تفسير ابن كثير (المجلد 4 ص 152(.
قال الخطابي: في معنى قول الله تعالى :(( أنا الدهر))
معناه :أنا صاحب الدهر ومدبر الأمور التي ينسبونها إلى الدهر فمن سب الدهر من أجل أنه فاعل هذه الأمور عاد سبه إلى ربه الذي هو فاعلها ، وإنما الدهر زمان جعل ظرفا لمواقع الأمور.
تعليق