إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون . يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالا كثيرا ونساء واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيبا . يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولا سديدا يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزا عظيما .
أما بعد
فقد قال شيخ الإسلام في اقتضاء الصراط المستقيم (ص162):" كان الذين تناولوا العلم والإيمان من أبناء فارس إنما حصل ذلك بمتابعتهم للدين الحنيف بلوازمه من العربية وغيرها ومن نقص من العرب إنما نقص بتخليهم عن هذا وإما بموافقتهم للعجم فيما جاءت السنة أن يخالفوا فيه فهذا أوجه . وأيضا فإن الله لما أنزل كتابه باللسان العربي وجعل رسوله مبلغا عنه الكتاب والحكمة بلسانه العربي وجعل السابقين إلى هذا الدين متكلمين به لم يكن سبيل إلى ضبط الدين ومعرفته إلا بضبط هذا اللسان وصارت معرفته من الدين وصار اعتياد التكلم به أسهل على أهل الدين في معرفة دين الله وأقرب إلى إقامة شعائر الدين وأقرب إلى مشابهتهم للسابقين الأولين من المهاجرين والأنصار في جميع أمورهم " .
قال سعيد الأفغاني في أصول النحو1/39:"إن علم العربية من أجل العلوم فائدة وأفضلها عائدة وحكمة وافرة جمة ومعرفته تفضي إلى معرفة العلوم المهمة ".
ومن هنا فقد رأيت بعض النحويين قد تأثر بأهل الكلام مما جعل هذا التأثر يعود سلبا على منهجه النحوي وربما يكون له أثر عقدي ؛ ومن ذلك تفسيرهم للكلام . فقد قال ابن مالك في ألفيته :
كلامنا لفظ مفيد كــــاستقم واحــده كلمة والقــول عــم
واسم وفعل ثم حرف الكلم و كلمة بها كلام قد يؤم
وقد غلط عليه بعض النحويين في تفسير نظمه هذا في موضعين:
الموضع الأول : كلامنا .
الموضع الثاني : كلمة بها كلام قد يؤم .
وكما أن النحويين غلطوا على ابن مالك فإنهم غلطوا على العرب ولغتهم زاعمين أن ما اصطلحوا عليه في تعريف الكلام خاص بهم ؛ بل إن الكلام في لغة العرب لا يعني إلا اللفظ المفيد ومن المستبعد أن يقول ابن مالك غير ما عرف عنهم في لغتهم فقد تبيّن لكل من قرأ ترجمته في كتب الرجال أنه من أهل السنة والجماعة ؛ جاء في ترجمته في مقدمة كتاب عقود الزبرجد على مسند أحمد (ص7)/ للسيوطي:" أبو عبد الله جمال الدين محمد بن عبد الله بن مالك الطائي الجياني النحوي اللغوي المقريء المحدث الفقيه الشافعي (600-672 هـ) من أشهر مصنفاته: الكافية الشافية وشرحها، التسهيل وشرحه- لم يتم-، الخلاصة الألفية في النحو والصرف، شرح عمدة الحافظ وعدة اللافظ وقد صنف ابن مالك كتاباً في إعراب الحديث سماه: "شواهد التوضيح والتصحيح لمشكلات الجامع الصحيح وهو يقوم على إعراب مشكلات وقعت في صحيح البخاري. ويتضح فيه منهج ابن مالك في الاحتجاج بالحديث النبوي، واستنباط القواعد النحوية منه، ويستدل للأحاديث بالقرآن والشعر، ويخطّيء النحوِيين في عدد من المسائل ؛ وهو بذلك يتميز عن منهج العكبري الذي كان يلحّن الرواية أحيانا لمخالفتها قواعد النحاة " . وانظر ترجمته في البداية والنهاية لابن كثير (13/267). لهذا من الصعوبة بمكان أن يتأول كلامه على غير لسان العرب .
أما الموضع الأول : فقد نسب النحويون الى ابن مالك أنه عنى بـــــــ ( الكلام ) على اصطلاح النحويين وهو ( اللفظ المركب المفيد ) أما في اللغة فالكلام أعم. قال ابن عقيل في شرحه للألفية (1/ 14) :" وإنما قال المصنف كلامنا ليعلم أن التعريف إنما هو للكلام في اصطلاح النحويين لا في اصطلاح اللغويين وهو في اللغة اسم لكل ما يتكلم به مفيدا كان أو غير مفيد ". ادعى ابن عقيل على ابن مالك أنه يعني بكلامه ( كلامنا ) اي _ النحويين _ وكان الأجدر أن لا يتأوله على خلاف لغة العرب لولا تأثره بعقيدته الأشعرية القاضية بأن الكلام هو المعنى القائم بالنفس ؛ وإلا ما المانع أن يكون مقصود ابن مالك بـــــ ( كلامنا ) أن يكون ( كلامنا ) _ نحن العرب _ لا النحويين _ . وابن عقيل{عبد الله بن عبد الرحمن بن عبد الله القرشي الهاشمي العقيلي الهمداني الأصل ثم المصري قاضي القضاة بهاء الدين ابن عقيل الشافعي، نحوي الديار المصرية.انظربغية الوعاة في طبقات اللغويين والنحاة(1/490)؛ والدرر الكامنة في أعيان المائة الثامنة ج3/ص43}. لم أجد في ترجمته ما يدلني على عقيدته وغالب الظن أن ابن عقيل أشعري المعتقد والذي حملنا على هذا أنه لم يكن في وقته ممن يتولى القضاء إلا أن يكون شافعيا أشعريا ؛ والله أعلم. وأما الأشمونى فقد بيّن في شرحه للألفية (1/ 7) أن الكلام في اللغة غيره في اصطلاح النحويين فقال :" خرج باللفظ غيره من الدوال مما ينطلق عليه في اللغة كلام كالخط والرمز والإشارة ". { والأشموني قال عنه عبد الحي العكري في شذرات الذهب (8/165):" كان ممن جمع بين العلم والعمل إماما في علوم الشرع وقدوة في علوم الحقيقة ". وجاء في الضوء اللامع للسخاوي ج6/ص5 :" وتلقن الذكر من علي حفيد يوسف العجمي وسمع الحديث وشرح ألفية ابن مالك وقطع من التسهيل ونظمه لجمع الجوامع ومجموع الكلائي وإيساغوجي في المنطق وعمل حاشية على الأنوار للأردبيلي وغيره ورد على البقاعي انتقاده قول الغزالي ليس في الإمكان أبدع مما كان ".
يبدو من عبارة عبد الحي " قدوة في علوم الحقيقة " مع ما ذكره السخاوي في ترجمته آنفا أنه كان صوفيا أشعريا خصوصا إذا عرفنا أن شرحه يحتوي على كثير من المادة المنطقية التي شغف بها الصوفية والأشاعرة ؛ والله أعلم }.
مع أن شرحه يعد أغزر شروح الألفية مادة على كثرة الشروح ، واختلاف مشارب أصحابها ، بل ويعد من أكثر كتب النحو جمعا واستيفاء لمذاهب النحاة وتعليلاتهم وشواهدهم مع البسط والتفصيل ، على الرغم مما قيل فيه، ووجه إليه من النقد الذي لا يخلو منه كتاب يضاهيه. وقد علق على هذا الشرح حواشٍ كثيرة، أهمها: حاشية الصبان .
وعن جمال الدين أبي محمد عبد الله بن يوسف بن أحمد بن هشام المصري المعروف بــــ ( ابن هشام ) في تعريف الكلام قولان :
القول الأول : قال في رسالته المباحث المرضية المتعلقة بــــــــ ( من ) الشرطية (ص50 ) شارحا نظم ابن مالك : كلامنا لفظ مفيد كاستقم: يعني بقوله كلامنا الكلام عند معاشر النحويين وإلى ذلك أشار ابن عقيل عند شرحه بيت ابن مالك فقال إن ابن مالك قال كلامنا لأن الكلام عند اللغويين هو اسم لكل ما يتكلم به مفيدا كان أو غير مفيد وبذلك بين ابن مالك وابن عقيل الفرق بين مفهوم الكلام عند كل من النحويين واللغويين وأوضحا أن الكلام في مصطلح النحويين هو المفيد ويؤكد ذلك ما نقله الزبيدي في تاج العروس ( كلم ) عن شيخه من أن الكلام يطلق على اللفظ المركب أفاد أم لا مجازا ؛ وما صرح به سيبويه في مواضع من كتابه من أنه لا يطلق حقيقة إلا على الجمل المفيدة وهو مذهب ابن جني".
ومذهب سيبيويه وابن جني هو الصحيح الذي تشهد له النصوص القرآنية والأحاديث النبوية كما سيأتي بيانه ؛ وهنا يلاحظ أن عقيدة سيبويه السنية قد كان لها الأثر الواضح في مذهبه النحوي ؛ قال الخطيب في تاريخ بغداد (12/ 195) مترجما لسيبويه :" عمرو بن عثمان بن قنبر أبو بشر المعروف بسيبويه النحوي من أهل البصرة كان يطلب الآثار والفقه ثم صحب الخليل بن أحمد ".
وسيبويه لازم الخليل وكان من أشهر تلاميذه ؛ وأما الخليل فقد قال عنه البخاري في التاريخ الكبير 3/199 :" خليل بن أحمد النحوي البصري الفراهيدي الأزدي سمع منه حماد بن زيد وعلي بن نصر والنضر بن شميل وقال النضر بن شميل خليل الفرهودي وهو من فراهيد أبو عبد الرحمن سمع منه عبد الله بن محمد الجعفي وهو صاحب العروض عن عثمان بن حاضر أو ابن أبي حاضر". وقال عنه ابن حجر في التقريب (ص195) :" صدوق عالم عابد ". وقال الذهبي في سير أعلام النبلاء 7/430 :" حدث عن أيوب السختياني وعاصم الأحول والعوام بن حوشب وغالب القطان". انظر لزاما البداية والنهاية 10/176 ؛ والمختصر في أخبار البشر 1/157.
وأما ابن جني فلم أظفر في ترجمته ما تتبين لنا منه عقيدته غير أنه تلميذ أبي علي الفارسي المتهم بالاعتزال والتصوف كما ذكر الذهبي في تاريخ الإسلام وغيرُه ؛ وكان ابن جني قد لازم الفارسي أربعين عاما فكان لابد من تأثره به ؛ قال ابن حجر عن الفارسي في لسان الميزان (3/ 27) :" لكنه صدوق في نفسه ". والصدق ليس بشيء إذا فسدت عقيدته فلا بد من ظهور أثرها في مذهبه النحوي . أما نص الزبيدي في تاج العروس (33/370) الذي نقله عنه ابن هشام فهو:" وفي شرح شيخنا الكلام لغة يطلق على الدوال الاربع وعلى ما يفهم من حال الشئ مجازا وعلى التكلم وعلى التكليم كذلك وعلى ما في النفس من المعاني التي يعبر بها وعلى اللفظ المركب أفاد أم لا مجازا على ما صرح به سيبويه في مواضع من كتابه من أنه لا يطلق حقيقة إلا على الجمل المفيدة وهو مذهب ابن جني فهو مجاز في النفساني وقيل حقيقة فيه مجاز في تلك الجمل وقيل حقيقة فيهما ويطلق على الخطاب وعلى جنس ما يتكلم به من كلمة ولو كانت على حرف كواو العطف أو أكثر من كلمة مهملة أو لا وعرفه بعض الاصوليين بأنه المنتظم من الحروف المسموعة المتميزة ". ذهب الزبيدي الى أن الكلام في اللغة يطلق على الإشارة والكتابة والخط والعلامة وكل ما يفهم منه كالإيماء ويطلق أيضا على النطق وعلى المعنى القائم بالنفس .
والزبيدي حنفي المذهب صوفي أشعري فمن المسلّم أن تؤثر عقيدته الأشعرية في مذهبه النحوي؛ جاء في ترجمته في الرسالة المستطرفة ص196: شَرحُ الاحياءِ ( إتحاف السادة المتقين في شرح إحياء علوم الدين لأبي حامد الغزالي) للشيخ أبي الفيض الزبيدي نزلا الحنفي مذهبا الحسني نسبا؛ وجاء في حلية البشر في تاريخ القرن الثالث عشر / عبد الرزاق البيطار (2/ 143) : السيد مرتضى الزبيدي: قرأ على الشيخ عبد الرحمن العيدروس مختصر السعد، ولازمه ملازمة كلية وألبسه الخرقة. وللزبيدي مؤلف بعنوان الانتصار لوالدي النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وقيل حديقة الصفا في والدي المصطفى وأيضا كتاب المقاعد العندية في المشاهد النقشبندية ؛ وشرح صيغة السيد البدوى . وانظر ترجمته في هدية العارفين أسماء المؤلفين وآثار المصنفين ج6/ص347.
القول الثاني لابن هشام: قال في شرح قطر الندى (ص44) : ونعني بالمفيد ما يصح الاكتفاء به فنحو قام زيد كلام لأنه لفظ يصح الاكتفاء به وإذا كتبت زيد قائم مثلا فليس بكلام لأنه وإن صح الاكتفاء به لكنه ليس بلفظ وكذلك إذا أشرت إلى أحد بالقيام أو القعود فليس بكلام لأنه ليس بلفظ".
وقال أيضا في شرح شذور الذهب (ص33) :" وأقول للكلام معنيان اصطلاحي ولغوي فأما معناه في الاصطلاح فهو القول المفيد وقد مَضَى تِفسير القول وما المفيد فهو الدالُّ على معنىً يَحْسُنُ السكوتُ عليه نحو زَيْدٌ قَائمٌ وقَامَ أَخُوكَ بخلاف نحو زيد ونحو غَلاَم زيد ونحو الَّذِي قَامَ أَبُوهُ فلا يُسَمَّى شيء من هذا مفيداً لأَنه لا يحسنُ السكوتُ عليه فلا يُسَمَّى كلاماً.
وأَما معناه في اللغة فإِنه يطلق على ثلاثة أمور:
أحدها الَحْدَث الذي هو التَّكْلِيمُ تقول أَعْجَبَني كَلاَمُكَ زَيْداً أي تَكْليِمُكَ إيَّاهُ وإذا استُعمِل بهذا المعنى عَمِلَ عَمَلَ الأَفْعَال كما في هذا المَثال وكقوله ( قَالُوا كلاَمُكَ هِنْداً وَهْيَ مُصْغِيَةٌ ... يَشْفِيكَ قُلْتَ صَحِيحٌ ذَاكَ لَوْ كانَاَ ) أي تَكْليمُكَ هِنْداً ".
قلت ( أبو الحسين ) : هذا هو القول الصحيح الذي دلت عليه الأدلة من الكتاب والسنة ولسان العرب .
والثاني ما في النفس مما يُعَبَّر عنه باللفظ المفيد وذلك كأن يقوم بنفسك معنى قَامَ زيد أو قَعدَ عمرو ونحو ذلك فيسمى ذلك الذي تَخَيَّلْتَه كلاماً قال الأخطل . ( لاَ يُعْجِبِنَّكَ مِنْ خَطِيبٍ خُطْبَةٌ ... حَتَّى يَكُونَ مَعَ الْكَلاَمِ أصِيلاَ ) ( إِنَّ الْكَلاَمَ لَفِي الْفُؤادِ وَإِنَّما ... جُعِلَ اللَّسَانُ عَلَى الْفؤادِ دَلِيلاَ ).
سيأتي بطلان هذا القول ( وهو أن الكلام المعنى القائم بالنفس ) .
والثالث ما تَحصُلُ به الفائدةُ سواء كان لفظاً أَو خطاً أَو اشارة أَو ما نطق به لسانُ الحالِ والدليلُ على ذلك في الخط قولُ العرب الْقَلمُ أحَدُ اللِّسَانَيْنِ وتسميتهم ما بين دَفَّتَي المصحف كلام الله والدليلُ عليه في الإِشارة قولُه تعالى ( آيَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ الناسَ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ الاَّ رَمْزاً ) فاستثنى الرمز من الكلام والأصْلُ في الاستثناء الاتِّصَالُ وأما قوله ( أَشارَتْ بِطَرْفِ الْعَيْنِ خِيفَةَ أَهْلِهِا ... اشارَةً مَحْزُونٍ وَلَمْ تَتَكَلَّمِ ) ( فَأَيقَنْتُ أَن الطّرْفَ قَدْ قَالَ مَرْحَباً ... وَأَهْلاً وَسَهْلاً بِالْحَبِيبِ المُتَيَّمِ ) أما استدلاله بالآية فغير مسلم وقد عجبت جدا لابن هشام وهو يعتبر الرمز كلاما ومن المناسب أن نبيّن هنا حقيقة يغفل عنها كثير من النحويين في باب الاستثناء هي : أن المشتغلين بالنحو يقسمون الاستثناء على ثلاثة أقسام :
1- الاستثناء التام المتصل.
2- الاستثناء التام المنقطع.
3- الاستثناء المفرغ.
ولكن حقيقة الاستثناء لا تكون إلا في التام المتصل ؛ أما المنقطع فليس باستثناء ولكنه استدراك وأما المفرغ فللحصر والتوكيد ؛ والآية التي استشهد بها ابن هشام ( آيتك ألا تكلم الناس ثلاثة أيام إلا رمزا ) لا تصلح دليلا له بل هي من الاستثناء المنقطع و( إلا ) بمعنى لكن ؛ أي لا تكلم الناس ثلاثة أيام لكن رمزا ولو كان الرمز كلاما لما كان في الآية إعجاز.
وأما قول الشاعر ( أشارت ) فقد قال ابن هشام : فإِنما نَفَى الكَلاَمَ اللفظيَّ لا مُطْلَقَ الكلام ولو أراد بقوله ولم تتكلم نَفْيَ غير الكَلاَمِ اللفظيِّ لانتقَضَ بقوله فأَيقنت أن الطرف قد قَالَ مرحباً لأَنه أثْبَتَ للطرف قَوْلاً بعد أن نَفَى الكلام والمراد نَفْيُ الكلام اللفظي وإِثبات الكلام اللغوي .
قلت ( أبو الحسين ): أخطأ ابن هشام بقوله (نَفَى الكَلاَمَ اللفظيَّ لا مُطْلَقَ الكلام ) ؛ بل نفاه وأثبت ما يفهم منه وهو الإشارة بقوله ( أشارت) ونحن لا ننازعه في أن الإشارة يفهم منها ما يفهم من الكلام ؛ وإما استدلال ابن هشام بقول الشاعر ( أن الطرف قد قال ) فاستدلال عليل ذلك لأن القول يطلق على اللفظ ويطلق على الفعل كما في قوله صلى الله عليه وسلم لعمار في صحيح مسلم ج1/ص280 :" إنما كان يَكْفِيكَ أَنْ تَقُولَ بِيَدَيْكَ هَكَذَا ثُمَّ ضَرَبَ بِيَدَيْهِ الْأَرْضَ ". قال ابن هشام: والدليلُ عليه ( أي على الكلام ) فيما نَطَقَ به لسانُ الحالِ قولُ نُصَيْبِ
( فَعَاجُوا فَأَثْنَوْا بِالّذِي أَنتَ أَهْلُهُ ... وَلَوْ سَكَتوا أثْنَتْ عَلَيْكَ الْحَقَائِبُ )
وقال الله تعالى ( قَالَتَا أَتيْنَا طَائِعِينَ ) فزعم قومٌ من العلماء أنهما تكلّمَتَا حقيقة وقال آخَرُون إِنهما لما انْقَادَتَا لأَمر الله عز و جل نُزِّلَ ذلك منزلةَ القولِ ".
قلت ( أبو الحسين ) : أما استدلال ابن هشام بقول الشاعر ( ولو سكتوا أثنت عليك الحقائب ) يريد لو سكتوا لأثْنَت عليك حقائبُ الإبل التي يَحتقبها الرَّكْبُ من هِباتك وهذا الثناء إنما هو بالدلالة والإشارة لا باللفظ وليس بكلام . وأما استدلاله بالآية ( قالتا أتينا طائعين ) فلا مانع من نطق السموات والأرض فإن الله قادر على ذلك ؛ قال تعالى :" وَقَالُواْ لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدتُّمْ عَلَيْنَا قَالُواْ أَنطَقَنَا اللَّهُ الَّذِى أَنطَقَ كُلَّ شَىْء ". غير أن شبهتهم في عدم نسبة الكلام إلى السموات والأرض وتأويلهم ذلك على أنه لسان الحال أن اللفظ لا بد أن يكون من جوف وشفتين قياسا على بني آدم وهو قياس فاسد ؛ ذلك أن الله قادر على كل شيء ولا يغيب عن البال أن الله الذي أمشاهم على أرجلهم في الدنيا قادر على أن يمشيهم على وجوههم يوم القيامة كما جاء في الحديث ؛ فلا مانع من أن ينطق السموات والأرض .
قال شيخ الإسلام في مجموع الفتاوى (6/ 154) :"وأما قولهم: إن الكلام لا يكون إلا من جوف وفم وشفتين ولسان. فنقول: أليس الله قال للسموات والأرض {ائتيا طوعا أو كرها قالتا أتينا طائعين } ؟ أتراها أنها قالت بجوف وفم وشفتين ولسان ؟. وقال: { وسخرنا مع داود الجبال يسبحن } أتراها أنها يسبحن بجوف وفم ولسان وشفتين ؟ ولكن الله أنطقها كيف شاء ".
والذي يترجح عندي أن ابن هشام _ رحمه الله _ عنى بالكلام ما عناه ابن مالك خلافا لبقية الشراح ذلك لحسن عقيدته والله أعلم ؛ قال الشوكاني عنه في البدر الطالع ج1/ص401 :" كان شافعيا ثم تحنبل ".
وقال عنه الصفدي فيأعيان العصر وأعوان النصر (1/ 443) :" كان في أول عمره قد تفقه للشافعي، ثم انتقل أخيراً إلى مذهب الإمام أحمد رضي الله عنه، وحضر مدارس الحنابلة ".
وقال عنه يوسف بن تغري فيالنجوم الزاهرة ج10/ص336 :" وكان أولا حنفيا ثم استقر حنبليا وتنزل في دروس الحنابلة ".
ثم تتابع كثير من شراح الألفية على أن مقصود ابن مالك بـــــ ( الكلام ) هو الاصطلاح النحوي لا اللغوي مع العلم أن الكلام في اللغة لا يعني إلا اللفظ المفيد المركب .
ومن الشراح أبو محمد بدر الدين حسن بن قاسم المرادي المالكي قال في توضيح المقاصد والمسالك بشرح ألفية ابن مالك (1/ 26 :" وخرج بتصدير الحد به ما يطلق عليه كلام في اللغة وليس بلفظ, وهو خمسة أشياء: الخط ، والإشارة ، وما يفهم من حال الشيء ، وحديث النفس ، والتكلم" .
والى هذا ذهب ايضا عبد الله الفوزان في كتابه دليل السالك إلى ألفية ابن مالك (1/ 13) فقال : " الكلام لغة: اللفظ الموضوع لمعنى: مفيداً أو غير مفيد. واصطلاحاً: اللفظ المفيد ، والمراد بالمفيد ما يفهم منه معنى يحسن السكوت عليه. بحيث لا يبقى السامع منتظراً لشيء آخر. مثاله: الله ربنا، ومحمد نبينا ". فالكلام في اصطلاح النحويين : هو اللفظ المفيد فائدة يحسُن السكوت عليها ، نحو : جاء زيدٌ ، ونحو : هذا طالبٌ مجتهدٌ ، ونحو : استقمْ ؛ لأنه مركّب من فعل وفاعل مستتر تقديره ( أنت ) .
في اصطلاح اللغويين: اسم لكل ما يُتكلَّمُ به ، مفيداً كان أو غير مفيد ، فالمفيد نحو : جاء زيدٌ ، وغير المفيد ، نحو : إن جاء زيدٌ ؛ لفظ أو إشارة أو كتابة ... الخ .
غير أن الدكتور محمد بن عبد الرحمن السبيهين ( عميد كلية اللغة العربية في جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية ) قال في شرح (قطر الندى وبل الصدى/ لابن هشام ص3) : " لو كتب الإنسان كلاما لا يسمى هذا كلاما ؛ لأنه لم ينطق. ولو أشار بيده أو بعينه لشخص أن يفعل فعلا معينا كأن يقول:" قم أو اذهب" بالإشارة فهذا أيضا لا يسمى كلاما؛ لأنه خلا من اللفظ، ولا يكون الكلام كلاما إلا إذا اشتمل على ألفاظ أي أصوات".
ولا أدري هل يعني الدكتور بالكلام هو المفيد لغة واصطلاحا أم أنه جرى على نحو ما ذهب إليه كثير من الشراح ؟ الذي يترجح عندي أن الدكتور أثبت الكلام اللفظي المشتمل على حرف وصوت وهو واضح من عبارته إذ نفى الكتابة والإشارة أن تكون كلاما ؛ والله أعلم.
وفي شرح ألفية ابن مالك للعثيمين قوله: (كلامنا): ابن مالك رحمه الله من أئمة النحو، فإذا قال: (كلامنا) وأضاف الكلام إلى نفسه ومن كان على شاكلته صار المراد: (كلامنا نحن النحويين) احترازاً من الكلام في اللغة؛ لأن الكلام في اللغة أعم مما قاله رحمه الله.
الكلام في اللغة يطلق على ما تكلم به الإنسان من مفيد وغير مفيد؛ أما عند النحويين فهو كما سيأتي: لفظ مفيد. لفظ: وهو ما ينطق به اللسان. فخرج بهذا القيد الكتابة والإشارة والعلامات التي تفيد، والعقد بالأصابع، فإنها تفيد ما يفيده الكلام وليست كلاماً، وكذلك النصب. الإشارة مثل أن أشير لشخص أن يذهب. والكتابة معروفة، فالكتابة تفيد ما يفيده الكلام لكنها ليست لفظاً. والعقد: في حديث صفة الصلاة أنه عقد في التشهد ثلاثاً وخمسين، يعني أن العرب تعقد بأصابعها عقوداً تدل على عدد معين. وهذا أيضاً مفيد لاشك ويقوم مقام الكلام؛ لكنه ليس لفظاً فلا يكون كلاماً عند النحويين. والنصب: العلامات، مثل علامات الطريق، بأن توضع علامات في الطريق من أحجار أو أخشاب منصوبة أو غيرها بدون أن يكتب عليها شيء، وكأنها تقول لك: الطريق من هنا، فهي قائمة مقام النطق لكنها ليست لفظاً فلا تكون كلاماً. أقول: عجبت للإمام ابن عثيمين _ رحمه الله _ وهو يذهب ما ذهب إليه شراح الألفية من قبله ولو أنه _ رحمه الله _ بيّن خطأ الشراح في تفسير الكلام لكان أكمل وأجمل فله كلام آخر في غير هذا الموضع يثبت الكلام اللفظي والمعنوي ؛ والله أعلم .
ومما يزيد الأمر وضوحا أن الكلام عند العرب لا يعني إلا اللفظ ( أي الملفوظ ؛ من باب استعمال المصدر نيابة عن اسم المفعول ) أي إنهم _ العرب _ يطلقون الكلمة ولا يعنون بها إلا الكلام المفيد المركب وفي هذا يقول شيخ الإسلام في مجموع الفتاوى (12/ 107) :" وما ذكر في مسمى " الكلام " ما ذكره سيبويه في كتابه عن العرب فقال : واعلم " أن " في كلام العرب إنما وقعت على أن تحكى وإنما يحكى بعد القول ما كان كلاما قولا؛ وإلا فلا يوجد قط لفظ الكلام والكلمة إلا للجملة التامة في كلام العرب ولفظ الحرف يراد به الاسم والفعل وحروف المعاني واسم حروف الهجاء ؛ ولهذا سأل الخليل أصحابه : كيف تنطقون بالزاي من زيد ؟ فقالوا : زاي فقال نطقتم بالاسم وإنما الحرف زه ؛ فبين الخليل أن هذه التي تسمى حروف الهجاء هي أسماء . وكثيرا ما يوجد في كلام المتقدمين هذا " حرف من الغريب " يعبرون بذلك عن الاسم التام ".
ويقول السيوطي أيضا في همع الهوامع (1/ 22):" الكلمة لغة تطلق على الجمل المفيدة قال الله تعالى ( وكلمة الله هي العليا ) أي لا إله إلا الله ! ( تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ) ( كلا إنها كلمة هو قائلها ) إشارة إلى قوله ( رب ارجعون ) وما بعده في حديث الصحيحين الكلمة الطيبة صدقة وأفضل كلمة قالها شاعر كلمة لبيد ( ألا كلُّ شيء ما خلا اللهَ باطِلُ )... وهذا الإطلاق ( الكلمة قول مفرد ) منكر في اصطلاح النحويين ولذا لا يتعرض لذكره في كتبهم بوجه كما قال ابن مالك في شرح التسهيل وإن ذكره في الألفية فقد قيل إنه من أمراضها التي لا دواء لها " .
يلاحظ أن السيوطي أنكر إطلاق لفظ ( الكلمة ) على القول المفرد ؛ وأما إنكار السيوطي على ابن مالك قوله ( واحده كلمة ) فلا أرى له وجها ذلك أن قول ابن مالك ( واحده كلمة ) من باب تقسيم الكل إلى أجزائه لا الكلي الى جزئياته .
أما قول شيخ الإسلام منتقدا بعض النحويين قوله ( قد يؤم ) وأن المقصود منه التقليل فسيأتي بيانه في الموضع الثاني إن شاء الله تعالى .
ولم يرد أيضا في لسان العرب لفظ ( الكلمة ) إلا ويراد بها الكلام وهو اللفظ المفيد الذي تقوم به الأحكام قال شيخ الإسلام في الرد على المنطقيين (ص 12 :" ولفظ الكلمة لا يوجد في لغة العرب إلا اسما لجملة تامة اسمية أو فعلية كقول النبي صلى الله عليه وسلم- كلمتان حفيفتان على اللسان حبيبتان الى الرحمن ثقيلتان في الميزان سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم وقوله أصدق كلمة قالها شاعر كلمة لبيد ألا كل شئ ما خلا الله باطل وقوله في النساء أخذتموهن بأمانة الله واستحللتم فروجهن بكلمة الله ومنه قوله تعالى وجعل كلمة الذين كفروا السفلى وكلمة الله هي العليا وقوله تعالى وينذر الذين قالوا اتخد الله ولدا ما لهم به من علم ولا لآبائهم كبرت كلمة تخرج من أفواههم".
وفي كتاب الإيمان (ص53):" ولهذا كان لفظ " الكلام " و " الكلمة " في لغة العرب بل وفي لغة غيرهم لا تستعمل إلا في المقيد وهو الجملة التامة اسمية كانت أو فعلية أو ندائية إن قيل إنها قسم ثالث. فأما مجرد الاسم أو الفعل أو الحرف الذي جاء لمعنى ليس باسم ولا فعل فهذا لا يسمى في كلام العرب قط كلمة وإنما تسمية هذا كلمة اصطلاح نحوي كما سموا بعض الألفاظ فعلا وقسموه إلى فعل ماض ومضارع وأمر، والعرب م تسم قط اللفظ فعلا ؛ بل النحاة اصطلحوا على هذا فسموا اللفظ باسم مدلوله فاللفظ الدال على حدوث فعل في زمن ماض سموه فعلا ماضيا وكذلك سائرها. وكذلك حيث وجد في الكتاب والسنة بل وفي كلام العرب نظمه ونثره لفظ كلمة ؛ فإنما يراد به المفيد التي تسميها النحاة جملة تامة كقوله تعالى: {وينذر الذين قالوا اتخذ الله ولدا} { ما لهم به من علم ولا لآبائهم كبرت كلمة تخرج من أفواههم إن يقولون إلا كذبا } . وقوله تعالى {وجعل كلمة الذين كفروا السفلى وكلمة الله هي العليا } . وقوله تعالى { تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم }. وقوله: { وجعلها كلمة باقية في عقبه } . وقوله : { وألزمهم كلمة التقوى وكانوا أحق بها وأهلها } . وقول النبي صلى الله عليه وسلم " { أصدق كلمة قالها الشاعر كلمة لبيد : ألا كل شيء ما خلا الله باطل } وقوله " { كلمتان خفيفتان على اللسان ثقيلتان في الميزان حبيبتان إلى الرحمن: سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم}" . وقوله . " { إن الرجل ليتكلم بالكلمة من رضوان الله ما يظن أن تبلغ به ما بلغت يكتب الله له بها رضوانه إلى يوم القيامة وإن الرجل ليتكلم بالكلمة من سخط الله ما يظن أن تبلغ به ما بلغت يكتب الله بها سخطه إلى يوم القيامة}. ولهذا لا ينبغي الاعتماد على اصطلاح النحويين في تعريف الكلام لغة فهو اصطلاح حادث مخالف للسان العرب ولا يجوز فهم كتاب الله وكلام رسوله وفقا للاصطلاحات الحادثة المخالفة للغة العرب. قال شيخ الإسلام في مجموع الفتاوى (12/ 107) :" ومن أعظم أسباب الغلط في فهم كلام الله ورسوله أن ينشأ الرجل على اصطلاح حادث فيريد أن يفسر كلام الله بذلك الاصطلاح ويحمله على تلك اللغة التي اعتادها . وما ذكر في مسمى " الكلام " ما ذكره سيبويه في كتابه عن العرب فقال : واعلم " أن " في كلام العرب إنما وقعت على أن تحكى وإنما يحكى بعد القول ما كان كلاما قولا ؛ وإلا فلا يوجد قط لفظ الكلام والكلمة إلا للجملة التامة في كلام العرب ولفظ الحرف يراد به الاسم والفعل وحروف المعاني واسم حروف الهجاء ؛ ولهذا سأل الخليل أصحابه : كيف تنطقون بالزاي من زيد ؟ فقالوا : زاي فقال نطقتم بالاسم وإنما الحرف زه ؛ فبين الخليل أن هذه التي تسمى حروف الهجاء هي أسماء . وكثيرا ما يوجد في كلام المتقدمين هذا " حرف من الغريب " يعبرون بذلك عن الاسم التام فقوله صلى الله عليه وسلم " { فله بكل حرف } " مثله بقوله : " ولكن ألف حرف ولام حرف وميم حرف " . وعلى نهج ذلك : وذلك حرف والكتاب حرف ونحو ذلك . وقد قيل : إن ذلك أحرف والكتاب أحرف وروي ذلك مفسرا في بعض الطرق . والنحاة اصطلحوا اصطلاحا خاصا فجعلوا لفظ " الكلمة " يراد به الاسم أو الفعل أو الحرف الذي هو من حروف المعاني ؛ لأن سيبويه قال في أول كتابه : الكلام اسم وفعل وحرف جاء لمعنى ليس باسم ولا فعل . فجعل هذا حرفا خاصا وهو الحرف الذي جاء لمعنى ليس باسم ولا فعل ؛ لأن سيبويه كان حديث العهد بلغة العرب وقد عرف أنهم يسمون الاسم أو الفعل حرفا فقيد كلامه بأن قال : وقسموا الكلام إلى اسم وفعل وحرف جاء لمعنى ليس باسم ولا فعل وأراد سيبويه أن الكلام ينقسم إلى ذلك قسمة الكل إلى أجزائه".
وأما أن الكلام هو المعنى القائم بالنفس فباطل من وجوه.
الوجه الأول : أن المعنى القائم بالنفس لا تثبت به أحكام .
قال شيخ الإسلام في الإيمان: ولا يوجد في كلام العرب أن يقال : فلان صدق فلانًا أو كذبه، إذا كان يعلم بقلبه أنه صادق أو كاذب ولم يتكلم بذلك، كما لا يقال : أمره أو نهاه، إذا قام بقلبه طلب مجرد عما يقترن به من لفظ أو إشارة أو نحوهما . ولما قال النبي صلى الله عليه وسلم : " إن صلاتنا هذه لا يصلح فيها شيء من كلام الناس " . وقال : " إن اللّه يحدث من أمره ما شاء، وإن مما أحدث ألاّ تكلِّموا في الصلاة " اتفق العلماء على أنه إذا تكلم في الصلاة عامدًا لغير مصلحتها، بطلت صلاته . واتفقوا كلهم على أن ما يقوم بالقلب من تصديق بأمور دنيوية وطلب لا يبطل الصلاة، وإنما يبطلها التكلم بذلك، فعلم اتفاق المسلمين على أن هذا ليس بكلام . وأيضًا، ففي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " إن اللّه تجاوز لأمتى عما حَدَّثَتْ به أنفسها ما لم تتكلم به أو تعمل به " فقد أخبر أن اللّه عفا عن حديث النفس إلا أن تتكلم، ففرق بين حديث النفس وبين الكلام، وأخبر أنه لا يؤاخذ به حتى يتكلم به، والمراد حتى ينطق به اللسان باتفاق العلماء، فعلم أن هذا هو الكلام في اللغة؛ لأن الشارع كما قرر إنما خاطبنا بلغة العرب".
الوجه الثاني: ولو كان المعنى القائم بالنفس كلاما لكان الأخرس وغيره من أصحاب الأعذار متكلمين . قال شيخ الإسلام في درء تعارض العقل والنقل (2/ 86) :" الاخرس متكلم وكذلك الساكت والنائم".
الوجه الثالث : لم يعرف عن العرب أبدا عند الاستقراء أنهم أطلقوا الكلام على المعنى القائم في النفس . قال شيخ الإسلام في الإيمان (2/ 169):"{ وَاذْكُر رَّبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ } هو الذكر باللسان، والذي يقيد بالنفس لفظ الحديث يقال: حديث النفس، ولم يوجد عنهم أنهم قالوا: كلام النفس وقول النفس؛ كما قالوا: حديث النفس؛ ولهذا يعبر بلفظ الحديث عن الأحلام التي ترى في المنام، كقول يعقوب عليه السلام : {وَيُعَلِّمُكَ مِن تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ }، وقول يوسف : { وَعَلَّمْتَنِي مِن تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ }، وتلك في النفس، لا تكون باللسان؛ فلفظ الحديث قد يقيد بما في النفس، بخلاف لفظ الكلام فإنه لم يعرف أنه أريد به ما في النفس فقط ".
الوجه الرابع : التحريف في الكلام يتناول اللفظ والمعنى .
جاء في تفسير البحر المحيط / أبو حيان الأندلسي في تفسير ( يحرفون الكلم عن مواضعه ) (3/ 359) :" والصحيح أن تحريف الكلم عن مواضعه هو التغيير في اللفظ والمعنى ، ومن اطلع على التوراة علم ذلك حقيقة ".
الوجه الخامس : بطلان استدلالهم بما قاله الأخطل النصراني : إِنَّ الْكَلاَمَ لَفِي الْفُؤادِ وَإِنَّما ... جُعِلَ اللَّسَانُ عَلَى الْفؤادِ دَلِيلاَ.
وليس لي إلا أن أنقل نص ما ذكره الشيخ محمد أمان الجامي في كتابه الصفات الإلهية (ص235) حيث قال : الاستدلال به في غاية الفساد للأوجه التالية:
أولاً: إن المستدلين بهذا البيت قد ردوا، أو من أصولهم أن يردوا أحاديث نبوية مهما بلغت من الصحة، وتلقاها أهل العلم بالقبول، ما لم تبلغ حد التواتر، أو بلغت حد التواتر عند بعضهم بدعوى أنها أخبار آحاد، أو أدلة لفظية! فكيف يستدلون بهذا البيت الذي يختلف أهل العلم في ثبوته؟! وعلى فرض ثبوته فهل تواتر نقله؟!
ثانياً: إن ما يريدون إثباته بهذا البيت النصراني، من أن الكلام ما في النفس أي "حديث النفس" مردود بالنصوص التالية: أ- قوله عليه الصلاة والسلام: "إن صلاتنا هذه لا يصلح فيها شيء من كلام الناس. ب- قوله عليه الصلاة والسلام: "إن الله تجاوز لأمتي عما حدثت به نفسها، ما لم تتكلم به أو تعمل به. جـ- قوله عليه الصلاة والسلام: "إن الله يحدث من أمره ما يشاء، وإن مما أحدث أن لا يتكلموا في الصلاة".
وأزيد وجها ثالثا على ما ذكره الشيخ الجامي أن الأخطل نصراني والنصارى ضلوا في معنى الكلام قالوا إن عيسى عليه السلام نفس كلمة الله فلا مانع من تأثر الأخطل بعقيدته .
جاء في شرح الواسطية/صالح آل الشيخ:" قولكم إن الكلام يكون في الفؤاد نقول :
1 - هذا ما أخذتموه إلا من البيت الذي زعمتموه من قول الأخطل والأخطل أولا نصراني ، الأخطل التغلبي نصراني ، والنصارى أعظم ضلالهم في مسألة الكلام لأن قالوا الله جل وعلا سمى عيسى كلمة الله فجعلوا الكلمة هي من معنى أنه صفة الله فالنصارى ضلت في باب الكلام في نفسه هذا أولا ، وإذا كانت ضلت فلا يؤمَن أن النصراني هذا استعمل شيئا مما ورثه من ديانته ، هذا واحد .
2 - الثاني هذا البيت لم نجده في نسخة لا أصل ولا مشروحة من نسخ ديوان الأخطل ولا في ملحقاتها مما حفظه أهل اللغة ، لا يوجد في كلام في ديوان من دواوين الأخطل لا المشروحة ولا الأصول ، فمن أين أتيتم به ؟.
3 - الثالث نقول : روي هذا البيت على وجه آخر ، روي بقوله : إن البيان لفي الفؤاد وإنما جُعل اللسان على الفؤاد دليلا فهذا يدل على أن لفظة الكلام غير محفوظة ، وإذا كان كذلك فلا يسوغ الاحتجاج في اللغة بما يهدم الأصل بكلام غير محفوظ . وقوله (إن البيان لفي الفؤاد) هذا يوافق اللغة . البيان في الفؤاد لكن الكلام لا يمكن أن يكون في الفؤاد . أما قولهم عن عمر أنه قال (فزورت في نفسي كلاما) نقول : الرواية المحفوظة (فزورت في نفسي مقالا) وأما (فزورت في نفسي كلاما) فعلى فرض صحتها فهو قال (زورت في نفسي كلاما) ولم يقل (قلت في نفسي كلاما) . فزور في نفسه شيئا سماه كلاما باعتبار أنه سيخرجه لا باعتبار وجوده في داخل نفسه فافترق الأمر". فالكلام في لغة العرب لا يحتمل المعنى النفسي بل لا بد أن يكون بحرف وصوت ومعنى.
وفي جواب الاعتراضات المصرية على الفتيا الحموية لشيخ الإسلام/ الجواب الأول (ص : " وأيما أحسن الاستشهاد على معاني القرآن بنفس ألفاظ رسول الله صلى الله عليه وسلم وألفاظ الصحابة والتابعين التي يستفاد بها معنى الآيات على الخصوص وهو المطلوب ، ويعلم بها اللغة التي نزل بها القرآن ، وبها خاطب النبي صلى الله عليه وسلم بالنقل الصحيح الثابت؟ أو الاستشهاد على ذلك ببيت من شعر ، كقوله: إن الكلام لفي الفؤاد وإنما جعل اللسان على الفؤاد دليلا ".
ومن نافلة القول أن نبيّن بعض الألفاظ التي تدل على الكلام ومنها لفظ ( القول ) فهو يدل على النطق وهذا لا يحتاج الى كثير بيان ويدل على الفعل ويدل على ما قام في القلب من اعتقاد؛ وسياق اللفظ والقرائن هو الذي يبيّن ذلك ولا ينصرف عن معناه اللفظي إلا بقرينة. ومن أغرب ما سمعت عن بعض النحويين المعاصرين قوله في تفسير قوله تعالى ( قالت نملة ) هو الكلام القائم بالنفس ولو أنه فسره بلسان الحال لكان أيسر أما أن يفسره بالمعنى القائم بالنفس فهذا الذي لا يطاق ؛ فلِمَ هرب من أنها نطقت وتكلمت وأن لها قولا خاصا بها فهمه سليمان كما فهم منطق الطير الى القول بالمعنى القائم بالنفس فهما سيان أعني ( المعنى القائم بالنفس ؛ واللفظ بالنسبة للنملة ) فالدكتور المشار إليه لم يعقل أن النملة تنطق ولكنه عقل أن لها قلبا تقوم فيه المعاني !!! لكنه تحريف النصوص لفظا ومعنى وضعف الإيمان؛ ويطيب لي في هذا المقام أن أذكّر بما رواه البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الصبح ثم أقبل على الناس فقال (بينا رجل يسوق بقرة إذ ركبها فضربها فقالت إنا لم نخلق لهذا إنما خلقنا للحرث ) فقال الناس سبحان الله بقرة تكلم فقال ( فإني أومن بهذا أنا وأبو بكر وعمر - وما هما ثم - وبينما رجل في غنمه إذ عدا الذئب فذهب منها بشاة فطلب حتى كأنه استنقذها منه فقال له الذئب هذا استنقذتها مني فمن لها يوم السبع يوم لا راعي لها غيري ) فقال الناس سبحان الله ذئب يتكلم قال ( فإني أومن بهذا أنا وأبو بكر وعمر ) وما هما ثم". فلا مانع إذن من أن النمل ينطق ويفهمه سليمان فقد فهم منطق الطير ؛ مع بيان النبي صلى الله عليه وسلم وإخباره بنطق البقرة والذئب والواجب تصديقه صلى الله عليه وسلم فيما أخبر ومن هنا قال الشيخ الشنقيطي في أضواء البيان (8/ 9) ومن ذلك ما جاء عن النملة في قوله تعالى عنها {حَتَّى إِذَا أَتَوْا عَلَى وَادِ النَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ}, فقد أدركت مجيء الجيش وأنه لسليمان وجنوده وأدركت كثرتهم وأن عليها وعلى النمل أن يتجنبوا الطريق ويدخلوا مساكنهم وهذا الإدراك منها جعل سليمان عليه السلام يتبسم ضاحكا من قولها وأن لها قولا علمه سليمان عليه السلام".
والمتكلم يكون بالفعل (النطق ) والقوة ( القدرة على الكلام) لهذا يفرَّق بين الساكت والصامت فإن الساكت متكلم بالقوة أي هو قادر على الكلام بخلاف الصامت الذي لا قدرة له عليه .
قال في تاج العروس4/559: " السُّكوتَ هو تَرْكُ الكلامِ مع القُدْرةِ عليه قالوا وبالقيد الأَخير يُفارقُ الصَّمْتَ فإِنّ القدرةَ على التَّكَلُّم لا تُعْتَبر فيه قاله ابنُ كمال باشا وأَصلُه للرَّاغب الأَصْبَهانيّ فإِنّه قال في مُفرداته الصَّمْتُ أَبلغُ من السُّكُوت لأَنه قد يُستعملُ فيما لا قُوَّةَ له على النُّطْق ولذا قيل لِما لا نُطْقَ له الصّامتُ والمُصْمَت والسُّكُوتُ يقالُ لما لَهُ نُطْقٌ فيَتْرُكُ استعمالَه ". وكما أن القول يطلق على الكلام وعلى الفعل كما في حديث عمار بن ياسر فإنه يطلق على ما قام في القلب من اعتقاد جاء في صحيح مسلم1/96 :" عن أُسَامَةَ بن زَيْدٍ وَهَذَا حَدِيثُ بن أبي شَيْبَةَ قال بَعَثَنَا رسول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم في سَرِيَّةٍ فَصَبَّحْنَا الْحُرَقَاتِ من جُهَيْنَةَ فَأَدْرَكْتُ رَجُلًا فقال لَا إِلَهَ إلا الله فَطَعَنْتُهُ فَوَقَعَ في نَفْسِي من ذلك فَذَكَرْتُهُ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فقال رسول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَقَالَ لَا إِلَهَ إلا الله وَقَتَلْتَهُ قال قلت يا رَسُولَ اللَّهِ إنما قَالَهَا خَوْفًا من السِّلَاحِ قال أَفَلَا شَقَقْتَ عن قَلْبِهِ حتى تَعْلَمَ أَقَالَهَا أَمْ لَا .... " الحديث. قال النووي في شرحه على صحيح مسلم ج2/ص104 :" الفاعل فى قوله ( أقالها) هو القلب ".
وأخيرا فقد ضل في باب الكلام أقوام فالأشاعرة أثبتوا صفة الكلام لله على إنه المعنى القائم في النفس، وليس اللفظ ، ومن هنا جعلوا القرآن الذي هو حرف حكايةً أو عبارةً عن كلام الله وليس كلاماً له وهذا تناقض فإن من أثبت الكلام لله لزم منه الحرف والصوت لأن الكلام كذلك . فحقيقة الكلام الذي جاء في نصوص الكتاب والسنة ولسان العرب يتناول اللفظ والمعنى جميعاً ، ليس هو اللفظ وحده ولا المعنى وحده ، وإن كان النحويون يقولون الكلام هو اللفظ . فالكلام لا يصح أن يوصف بأنه كلام إلا إذا توفر فيه شرطان: الأول: اللفظ. الثاني: إفادة المعنى . ولذلك يقول: كلامنا- أي: كلام العرب-لفظ مفيد فاستقم فلابد أن يكون لفظاً، ولابد أن يكون مفيداً لمعنى، وإلا فلا يوصف بأنه كلام .
وأما الموضع الثاني : كلمة بها كلام قد يؤم . من المعلوم عند النحويين أن الكلمة هي اللفظ المفرد الذي لا يدل جزئه على جزء معناه ؛ ولكن لم يطلق في كلام العرب لفظ الكلمة إلا ويراد بها الكلام ؛ وقد غلط بعضهم على ابن مالك في قوله ( قد يؤم ) بأنه عنى التقليل.
وذكر شيخ الإسلام في المجموع (12/ 104) قائلا :" ولا يوجد قط في الكتاب والسنة وكلام العرب لفظ الكلمة إلا والمراد به الجملة التامة . فكثير من النحاة أو أكثرهم لا يعرفون ذلك ؛ بل يظنون أن اصطلاحهم في مسمى الكلمة ينقسم إلى اسم وفعل وحرف هو لغة العرب والفاضل منهم يقول: وكلمة بها كلام قد يؤم ويقولون: العرب قد تستعمل الكلمة في الجملة التامة وتستعملها في المفرد وهذا غلط لا يوجد قط في كلام العرب لفظ الكلمة إلا للجملة التامة ".
أقول إن كان شيخ الإسلام يعني ابن مالك فالظن به _ ابن مالك _ لا يعني بـــــــــــــ ( قد ) للتقليل وهو إمام اللغة وفارسها ومن المستبعد جدا أنه لا يعي استعمالات ( قد ) ؛ ولعل شيخ الإسلام يعني غيره والله أعلم .حيث قال في الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح (4/190) :" ولما شاع عند المشتغلين بالنحو استعمال لفظ الكلمة في الاسم أو الفعل وحرف لمعنى صاروا يظنون أن هذا هو كلام العرب ثم لما وجد بعضهم ما سمعه من كلام العرب أنه يراد بالكلمة الجملة التامة صار يقول وكلمة بها كلام قد يؤم فيجعل ذلك من القليل. ومنهم من يجعل ذلك مجاز وليس الأمر كذلك بل هذا اصطلاح هؤلاء النحاة فإن العرب لم يعرف عنهم أنهم استعملوا لفظ الكلمة والكلام إلا في الجملة التامة وهكذا نقل عنهم أئمة النحو كسيبويه وغيره ".
وقال الشيخ ابن عثيمين في شرح كتاب الرقاق من صحيح البخاري (ص101) :" وقول ابن مالك: "وكلمة بها كلام قد يُؤم" هذا باعتبار اصطلاح النحويين لا باعتبار اللغة ، وإلا فالأصل في اللغة أن الكلمة هي الجملة المفيدة ". أقول : قد بيَّنا فيما سبق مقصود ابن مالك بقوله ( كلامنا ) فلا حاجة لإعادته هنا ؛
وقول شيخ الإسلام _ رحمه الله _ " وكلمة بها كلام قد يؤم فيجعل ذلك من القليل " هذا مبني على قواعد النحويين أن ( قد ) مع المضارع تفيد التقليل كقول القائل ( قد ينجح الكسول وقد يجود البخيل ) ومع الماضي تفيد التحقيق كقوله تعالى ( قد علمنا ما تنقص الأرض منهم ) أي ما تأكل من أجسادهم؛ وتفيد ( قد ) التقريب كقول المؤذن ( قد قامت الصلاة) اي قربت إقامتها ؛ كل هذا على اصطلاح النحويين ؛ غير أن من عانى لغة العرب واعتنى بها ونظر في نصوص الكتاب يرى أن ( قد ) جاءت مع المضارع وأفادت التحقيق والتكثير ؛ لكن الاعتماد على القواعد النحوية بالكلية وإهمال النصوص من الكتاب والسنة وما صح من لسان العرب يوقع الباحث في أخطاء خطيرة جدا.
وما أجمل ما قاله الشيخ صالح آل الشيخ في شرح الطحاوية1/143: " مثلا الكلمة المشهورة أو البحث عند قوله تعالى إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ في قراءة سبعية متواترة إِنَّ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ ، طيب (إِنَّ) تنصب الاسم، لماذا ما صارت إن هذين لساحران؟ بدؤوايعللون منهم من يخطئ، يقارن، هذا غلط علمي كبير، لماذا؟ لأنك تحكم قواعد وضعها النحاة في الحق المطلق الذي هو القرآن؛ لأنها قراءة متواترة هي الحق، يجب أن تبحث في القواعد لا العكس، فالقواعد اصطلاحية. يأتي في مسند أبي يعلى في مطالعتي عند حديث قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم «إنّ هذان لشيطانان» في الحديث الذي في المتن قال «إنَّ هذين لشيطانان»- أنا لدي بحث على الآية، وأعرف كلام المحققين عليها وما يتعلق بها. استغربت: «إنَّ هذين لشيطانان» ليس هو اللفظ وإنما لأجل أنه يَخْرِمُ القاعدة جَعَلَهَا هكذا، وإذا به في الحاشية يقول: في الأصل «إنَّ هذان لشيطانان» وهذا يخالف القاعدة النحوية فغيرتها إلى (إنَّ هذين لشيطانان). طبعا سيطرة القواعد النحوية على الحق المطلق، سيطرة القضايا الاصطلاحية كلها على الحق المطلق هذه قضية كبيرة في العلم وفي نشأة العلوم وتوسع العلوم، فطالب العلم ينبغي له أن يرتقي في هذه المسائل ولا يعجل. ".
وأؤكد أنه لا ينبغي تحكيم القواعد التي هي من صنع البشر وجعلها حاكمة على نصوص القرآن والسنة وكلام العرب .
ومن المناسب أن نذكر بعض الآيات القرآنية التي تدل على أن ( قد ) تفيد التحقيق مع الفعل المضارع ؛ فلا مانع إذن من أن ابن مالك عنى بها التحقيق والتكثير لا التقليل . قوله تعالى " قد نرى تقلب وجهك في السماء " . وقوله تعالى :" قد نعلم إنه ليحزنك الذي يقولون ". وقوله تعالى :" قد يعلم الله المعوقين منكم والقائلين لإخوانهم هلم إلينا ولا يأتون البأس إلا قليلا ".
قال الزبيدي في تاج العروس ( قدد ) 9/19 :" وأما قَدْ الحَرْفِيَّةُ فإِنها مُخْتَصَّة بالفِعْل أَعمّ من أَن يكون ماضياً أَوْ مضارعاً المُتَصَرِّفِ فلا تَدخل على فِعْلٍ جامدٍ وأَما قولُ الشاعر لَوْلاَ الحَيَاءُ وأَنَّ رَأْسِيَ قَدْ عَسَى فِيهِ المَشِيبُ لَزُرْتُ أُمَّ القَاسِمِ . فعَسَى فيه ليست الجامِدَة بل هي فِعْلٌ متصرِّفٌ معناه اشتَدَّ وظهرَ وانتَشَر كما سيأْتي الخَبَرِيِّ خرجَ بذلك لأَمْرُ فإِنه إِنشاءٌ فلا تَدخل عليه المُثْبَتِ اشترطه الجماهيرُ المُجَرَّدِ مِن جَازِمٍ وناصِبٍ وحَرْفِ تَنْفِيسٍ قال شيخُنا هذه كلُّها شُرُوطٌ في دُخولها على المضارِع لأَن غالِبَ النواصبِ والجوازم تَقتضي الاستقبالَ المَحْضَ وكذلك حَرْفَا التنفيسِ و( قد ) موضوعة للحال كما بُيّن في المُطَوَّلات .
ولها سِتَّةُ مَعَانٍ
الأَوّل التَّوَقُّعُ أَي كون الفِعْل مُنْتَظَراً مُتَوَقَّعاً فتَدخل على الماضي والمضارع نحو قد يَقْدَمُ الغائبُ فتدُلّ على أَن قدوم الغائب منتظَرٌ وقد أَجْحَف المُصنِّف فلم يأْتِ بمثالِ الماضي بناءً على زَعْمِه أَنَّهَا لا تكون للتوقُّعِ مع الماضي لأَن التوقُّعَ هو انتظارُ الوُقُوعه والماضي قد وَقَعَ وقد ذَهَبَ إِلى هذا القولِ جماعَةٌ من النُّحاةِ وقال الذين أَثبتوه معنَى التوقّعِ مع الماضي أَنها تَدُلُّ على أَنه كان مُنْتَظَراً تقول قد رَكِبَ الأَميرُ لِقومٍ كانوا يَنتظرون هذا الخبر ويَتوقَّعُون ثُبوتَ الفِعْل كما قاله ابنُ هِشام . والثاني تَقْرِيبُ الماضِي مِن الحَال وهو مُقْتَضَى كلامِ الشيخِ ابنِ مالك أَنها مع الماضي تُفِيد التقريبَ كما جزمَ به ابنُ عُصفورٍ وأَن من شَرْطِ دُخولِها كَوْنَ الفِعْل مُتَوقَّعاً نحو قد قام زَيْدٌ
الثالث التَّحْقِيقُ وذلك إِذا دخلَتْ على الماضي كما ذُكر قريباً نحو قوله تعالى قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا وزاد ابنُ هشَام في المغني وعلى المضارع كقوله تعالى قَدْ يَعْلَمُ مَآ أَنتُمْ عَلَيْهِ .
والرابع النَّفْيُ فِي اللسان نقلاً عن ابنِ سيدَه وتكون قَدْ بمنزلةِ ما فيُنْفَى بها سُمِعَ بعض الفصحاءِ يقول قد كُنْتَ فِي خَيْرٍ فَتَعْرِفَه بنصب تَعْرِف قال في المغنى وهاذا غرِيبٌ وإِليه أَشار في التسهيل بقوله ورُبَّمَا نُفِيَ بقد فنُصِب الجوابُ بعدها.
والخامس التَّقْلِيل ذكره الجماهيرُ وأَنكره جماعةٌ قال في المغنى هو ضَرْبَانِ تَقلِيلُ وُقُوعِ الفعلِ نحو قَدْ يَصْدُق الكَذُوبُ وقد يَجُودُ البَخِيلُ .
والسادس التَّكْثِيرُ في اللسان وتكون قَدْ مع الأَفعال الآتِيَةِ بمنْزِلَة رُبَّما قال الهذليُّ : قَدْ أَتْرُكُ القِرْنَ مُصْفَرًّا أَنامِلُه كَأَنَّ أَثْوَابَهُ مُجَّتْ بِفِرْصَادِ .
وقاله الزَّمخشريُّ في قوله تعالى قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاء قال أَي رُبَّمَا نَرى ومعناه تَكثيرُ الرُّؤْية ثم استشهد ببيت الهُذليّ قال شيخنا واستشهد جَمَاعَةٌ من النَّحويين على ذلك ببيت العَروضِ : قَدْ أَشْهَدُ الغَارَةَ الشَّعْوَاءَ تَحْمِلُني جَرْدَاءُ مَعْرُوقَةُ اللَّحْيَيْنه سُرْحُوبُ.
وفي تهذيب اللغة للأزهري 8/218:" قال النابغة إلى حمامَتِنا ونصفهُ فَقَدِ قال وقد حَرْفٌ يوجَبُ به الشيءُ كَقولكَ قَدْ كان كذا أو كذا والخيرُ أن تَقُولَ كان كذا وكذا فأُدخل قَدْ توكيداً لتصديقِ ذلكَ . قال وتكون قَدْ في موضعٍ تشبهُ ربما وعندها تميلُ قَدْ إلى الشكِّ وذلكَ إنْ كانت مع الياءِ والتَّاءِ والنون والألف في الفعل كَقوْلكَ قَدْ يكونُ الذي تقول . وقال النحويون الفعلُ الماضي لا يكون حالاً إلاَّ بقدْ مُظْهراً أو مُضْمراً وذلك مثلُ قول الله جلَّ وعزَّ " أَوْ جَآءُوكُمْ حَصِرَتْ " ولا تكونُ حصرتْ حالاً إلاَّ بإضمار قَدْ وقال الفرَّاء في قول الله جلَّ وعزَّ " كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنتُمْ أَمْوَاتًا " المعنى وقَدْ كنتم أمواتاً ولَوْلاَ إضمارُ قَدْ لم يجزْ مِثلُهُ في الكلامِ ألا ترى أنَّ قوله في سورة يوسفَ " وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن دُبُرٍ فَكَذَبَتْ " أنَّ المعنَى فَقَدْ كذَبَتْ ". كل هذه النصوص التي يبيِّن بعضها أن من استعمالات ( قد ) مع المضارع يفيد التكثير والتحقيق ؛ والله أعلم . هذا ما أعانني الله جلّ وعلا على بيانه ووفقني لكتابته وتحريره ؛ فمن وجد فيه نقصا فليتمّه أو خطأً فليصلحْه ؛ وأما عرضي فما كنت لأحلّ ما حرم الله ؛ ومن فعل فحسابه عند ربه .
أما بعد
فقد قال شيخ الإسلام في اقتضاء الصراط المستقيم (ص162):" كان الذين تناولوا العلم والإيمان من أبناء فارس إنما حصل ذلك بمتابعتهم للدين الحنيف بلوازمه من العربية وغيرها ومن نقص من العرب إنما نقص بتخليهم عن هذا وإما بموافقتهم للعجم فيما جاءت السنة أن يخالفوا فيه فهذا أوجه . وأيضا فإن الله لما أنزل كتابه باللسان العربي وجعل رسوله مبلغا عنه الكتاب والحكمة بلسانه العربي وجعل السابقين إلى هذا الدين متكلمين به لم يكن سبيل إلى ضبط الدين ومعرفته إلا بضبط هذا اللسان وصارت معرفته من الدين وصار اعتياد التكلم به أسهل على أهل الدين في معرفة دين الله وأقرب إلى إقامة شعائر الدين وأقرب إلى مشابهتهم للسابقين الأولين من المهاجرين والأنصار في جميع أمورهم " .
قال سعيد الأفغاني في أصول النحو1/39:"إن علم العربية من أجل العلوم فائدة وأفضلها عائدة وحكمة وافرة جمة ومعرفته تفضي إلى معرفة العلوم المهمة ".
ومن هنا فقد رأيت بعض النحويين قد تأثر بأهل الكلام مما جعل هذا التأثر يعود سلبا على منهجه النحوي وربما يكون له أثر عقدي ؛ ومن ذلك تفسيرهم للكلام . فقد قال ابن مالك في ألفيته :
كلامنا لفظ مفيد كــــاستقم واحــده كلمة والقــول عــم
واسم وفعل ثم حرف الكلم و كلمة بها كلام قد يؤم
وقد غلط عليه بعض النحويين في تفسير نظمه هذا في موضعين:
الموضع الأول : كلامنا .
الموضع الثاني : كلمة بها كلام قد يؤم .
وكما أن النحويين غلطوا على ابن مالك فإنهم غلطوا على العرب ولغتهم زاعمين أن ما اصطلحوا عليه في تعريف الكلام خاص بهم ؛ بل إن الكلام في لغة العرب لا يعني إلا اللفظ المفيد ومن المستبعد أن يقول ابن مالك غير ما عرف عنهم في لغتهم فقد تبيّن لكل من قرأ ترجمته في كتب الرجال أنه من أهل السنة والجماعة ؛ جاء في ترجمته في مقدمة كتاب عقود الزبرجد على مسند أحمد (ص7)/ للسيوطي:" أبو عبد الله جمال الدين محمد بن عبد الله بن مالك الطائي الجياني النحوي اللغوي المقريء المحدث الفقيه الشافعي (600-672 هـ) من أشهر مصنفاته: الكافية الشافية وشرحها، التسهيل وشرحه- لم يتم-، الخلاصة الألفية في النحو والصرف، شرح عمدة الحافظ وعدة اللافظ وقد صنف ابن مالك كتاباً في إعراب الحديث سماه: "شواهد التوضيح والتصحيح لمشكلات الجامع الصحيح وهو يقوم على إعراب مشكلات وقعت في صحيح البخاري. ويتضح فيه منهج ابن مالك في الاحتجاج بالحديث النبوي، واستنباط القواعد النحوية منه، ويستدل للأحاديث بالقرآن والشعر، ويخطّيء النحوِيين في عدد من المسائل ؛ وهو بذلك يتميز عن منهج العكبري الذي كان يلحّن الرواية أحيانا لمخالفتها قواعد النحاة " . وانظر ترجمته في البداية والنهاية لابن كثير (13/267). لهذا من الصعوبة بمكان أن يتأول كلامه على غير لسان العرب .
أما الموضع الأول : فقد نسب النحويون الى ابن مالك أنه عنى بـــــــ ( الكلام ) على اصطلاح النحويين وهو ( اللفظ المركب المفيد ) أما في اللغة فالكلام أعم. قال ابن عقيل في شرحه للألفية (1/ 14) :" وإنما قال المصنف كلامنا ليعلم أن التعريف إنما هو للكلام في اصطلاح النحويين لا في اصطلاح اللغويين وهو في اللغة اسم لكل ما يتكلم به مفيدا كان أو غير مفيد ". ادعى ابن عقيل على ابن مالك أنه يعني بكلامه ( كلامنا ) اي _ النحويين _ وكان الأجدر أن لا يتأوله على خلاف لغة العرب لولا تأثره بعقيدته الأشعرية القاضية بأن الكلام هو المعنى القائم بالنفس ؛ وإلا ما المانع أن يكون مقصود ابن مالك بـــــ ( كلامنا ) أن يكون ( كلامنا ) _ نحن العرب _ لا النحويين _ . وابن عقيل{عبد الله بن عبد الرحمن بن عبد الله القرشي الهاشمي العقيلي الهمداني الأصل ثم المصري قاضي القضاة بهاء الدين ابن عقيل الشافعي، نحوي الديار المصرية.انظربغية الوعاة في طبقات اللغويين والنحاة(1/490)؛ والدرر الكامنة في أعيان المائة الثامنة ج3/ص43}. لم أجد في ترجمته ما يدلني على عقيدته وغالب الظن أن ابن عقيل أشعري المعتقد والذي حملنا على هذا أنه لم يكن في وقته ممن يتولى القضاء إلا أن يكون شافعيا أشعريا ؛ والله أعلم. وأما الأشمونى فقد بيّن في شرحه للألفية (1/ 7) أن الكلام في اللغة غيره في اصطلاح النحويين فقال :" خرج باللفظ غيره من الدوال مما ينطلق عليه في اللغة كلام كالخط والرمز والإشارة ". { والأشموني قال عنه عبد الحي العكري في شذرات الذهب (8/165):" كان ممن جمع بين العلم والعمل إماما في علوم الشرع وقدوة في علوم الحقيقة ". وجاء في الضوء اللامع للسخاوي ج6/ص5 :" وتلقن الذكر من علي حفيد يوسف العجمي وسمع الحديث وشرح ألفية ابن مالك وقطع من التسهيل ونظمه لجمع الجوامع ومجموع الكلائي وإيساغوجي في المنطق وعمل حاشية على الأنوار للأردبيلي وغيره ورد على البقاعي انتقاده قول الغزالي ليس في الإمكان أبدع مما كان ".
يبدو من عبارة عبد الحي " قدوة في علوم الحقيقة " مع ما ذكره السخاوي في ترجمته آنفا أنه كان صوفيا أشعريا خصوصا إذا عرفنا أن شرحه يحتوي على كثير من المادة المنطقية التي شغف بها الصوفية والأشاعرة ؛ والله أعلم }.
مع أن شرحه يعد أغزر شروح الألفية مادة على كثرة الشروح ، واختلاف مشارب أصحابها ، بل ويعد من أكثر كتب النحو جمعا واستيفاء لمذاهب النحاة وتعليلاتهم وشواهدهم مع البسط والتفصيل ، على الرغم مما قيل فيه، ووجه إليه من النقد الذي لا يخلو منه كتاب يضاهيه. وقد علق على هذا الشرح حواشٍ كثيرة، أهمها: حاشية الصبان .
وعن جمال الدين أبي محمد عبد الله بن يوسف بن أحمد بن هشام المصري المعروف بــــ ( ابن هشام ) في تعريف الكلام قولان :
القول الأول : قال في رسالته المباحث المرضية المتعلقة بــــــــ ( من ) الشرطية (ص50 ) شارحا نظم ابن مالك : كلامنا لفظ مفيد كاستقم: يعني بقوله كلامنا الكلام عند معاشر النحويين وإلى ذلك أشار ابن عقيل عند شرحه بيت ابن مالك فقال إن ابن مالك قال كلامنا لأن الكلام عند اللغويين هو اسم لكل ما يتكلم به مفيدا كان أو غير مفيد وبذلك بين ابن مالك وابن عقيل الفرق بين مفهوم الكلام عند كل من النحويين واللغويين وأوضحا أن الكلام في مصطلح النحويين هو المفيد ويؤكد ذلك ما نقله الزبيدي في تاج العروس ( كلم ) عن شيخه من أن الكلام يطلق على اللفظ المركب أفاد أم لا مجازا ؛ وما صرح به سيبويه في مواضع من كتابه من أنه لا يطلق حقيقة إلا على الجمل المفيدة وهو مذهب ابن جني".
ومذهب سيبيويه وابن جني هو الصحيح الذي تشهد له النصوص القرآنية والأحاديث النبوية كما سيأتي بيانه ؛ وهنا يلاحظ أن عقيدة سيبويه السنية قد كان لها الأثر الواضح في مذهبه النحوي ؛ قال الخطيب في تاريخ بغداد (12/ 195) مترجما لسيبويه :" عمرو بن عثمان بن قنبر أبو بشر المعروف بسيبويه النحوي من أهل البصرة كان يطلب الآثار والفقه ثم صحب الخليل بن أحمد ".
وسيبويه لازم الخليل وكان من أشهر تلاميذه ؛ وأما الخليل فقد قال عنه البخاري في التاريخ الكبير 3/199 :" خليل بن أحمد النحوي البصري الفراهيدي الأزدي سمع منه حماد بن زيد وعلي بن نصر والنضر بن شميل وقال النضر بن شميل خليل الفرهودي وهو من فراهيد أبو عبد الرحمن سمع منه عبد الله بن محمد الجعفي وهو صاحب العروض عن عثمان بن حاضر أو ابن أبي حاضر". وقال عنه ابن حجر في التقريب (ص195) :" صدوق عالم عابد ". وقال الذهبي في سير أعلام النبلاء 7/430 :" حدث عن أيوب السختياني وعاصم الأحول والعوام بن حوشب وغالب القطان". انظر لزاما البداية والنهاية 10/176 ؛ والمختصر في أخبار البشر 1/157.
وأما ابن جني فلم أظفر في ترجمته ما تتبين لنا منه عقيدته غير أنه تلميذ أبي علي الفارسي المتهم بالاعتزال والتصوف كما ذكر الذهبي في تاريخ الإسلام وغيرُه ؛ وكان ابن جني قد لازم الفارسي أربعين عاما فكان لابد من تأثره به ؛ قال ابن حجر عن الفارسي في لسان الميزان (3/ 27) :" لكنه صدوق في نفسه ". والصدق ليس بشيء إذا فسدت عقيدته فلا بد من ظهور أثرها في مذهبه النحوي . أما نص الزبيدي في تاج العروس (33/370) الذي نقله عنه ابن هشام فهو:" وفي شرح شيخنا الكلام لغة يطلق على الدوال الاربع وعلى ما يفهم من حال الشئ مجازا وعلى التكلم وعلى التكليم كذلك وعلى ما في النفس من المعاني التي يعبر بها وعلى اللفظ المركب أفاد أم لا مجازا على ما صرح به سيبويه في مواضع من كتابه من أنه لا يطلق حقيقة إلا على الجمل المفيدة وهو مذهب ابن جني فهو مجاز في النفساني وقيل حقيقة فيه مجاز في تلك الجمل وقيل حقيقة فيهما ويطلق على الخطاب وعلى جنس ما يتكلم به من كلمة ولو كانت على حرف كواو العطف أو أكثر من كلمة مهملة أو لا وعرفه بعض الاصوليين بأنه المنتظم من الحروف المسموعة المتميزة ". ذهب الزبيدي الى أن الكلام في اللغة يطلق على الإشارة والكتابة والخط والعلامة وكل ما يفهم منه كالإيماء ويطلق أيضا على النطق وعلى المعنى القائم بالنفس .
والزبيدي حنفي المذهب صوفي أشعري فمن المسلّم أن تؤثر عقيدته الأشعرية في مذهبه النحوي؛ جاء في ترجمته في الرسالة المستطرفة ص196: شَرحُ الاحياءِ ( إتحاف السادة المتقين في شرح إحياء علوم الدين لأبي حامد الغزالي) للشيخ أبي الفيض الزبيدي نزلا الحنفي مذهبا الحسني نسبا؛ وجاء في حلية البشر في تاريخ القرن الثالث عشر / عبد الرزاق البيطار (2/ 143) : السيد مرتضى الزبيدي: قرأ على الشيخ عبد الرحمن العيدروس مختصر السعد، ولازمه ملازمة كلية وألبسه الخرقة. وللزبيدي مؤلف بعنوان الانتصار لوالدي النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وقيل حديقة الصفا في والدي المصطفى وأيضا كتاب المقاعد العندية في المشاهد النقشبندية ؛ وشرح صيغة السيد البدوى . وانظر ترجمته في هدية العارفين أسماء المؤلفين وآثار المصنفين ج6/ص347.
القول الثاني لابن هشام: قال في شرح قطر الندى (ص44) : ونعني بالمفيد ما يصح الاكتفاء به فنحو قام زيد كلام لأنه لفظ يصح الاكتفاء به وإذا كتبت زيد قائم مثلا فليس بكلام لأنه وإن صح الاكتفاء به لكنه ليس بلفظ وكذلك إذا أشرت إلى أحد بالقيام أو القعود فليس بكلام لأنه ليس بلفظ".
وقال أيضا في شرح شذور الذهب (ص33) :" وأقول للكلام معنيان اصطلاحي ولغوي فأما معناه في الاصطلاح فهو القول المفيد وقد مَضَى تِفسير القول وما المفيد فهو الدالُّ على معنىً يَحْسُنُ السكوتُ عليه نحو زَيْدٌ قَائمٌ وقَامَ أَخُوكَ بخلاف نحو زيد ونحو غَلاَم زيد ونحو الَّذِي قَامَ أَبُوهُ فلا يُسَمَّى شيء من هذا مفيداً لأَنه لا يحسنُ السكوتُ عليه فلا يُسَمَّى كلاماً.
وأَما معناه في اللغة فإِنه يطلق على ثلاثة أمور:
أحدها الَحْدَث الذي هو التَّكْلِيمُ تقول أَعْجَبَني كَلاَمُكَ زَيْداً أي تَكْليِمُكَ إيَّاهُ وإذا استُعمِل بهذا المعنى عَمِلَ عَمَلَ الأَفْعَال كما في هذا المَثال وكقوله ( قَالُوا كلاَمُكَ هِنْداً وَهْيَ مُصْغِيَةٌ ... يَشْفِيكَ قُلْتَ صَحِيحٌ ذَاكَ لَوْ كانَاَ ) أي تَكْليمُكَ هِنْداً ".
قلت ( أبو الحسين ) : هذا هو القول الصحيح الذي دلت عليه الأدلة من الكتاب والسنة ولسان العرب .
والثاني ما في النفس مما يُعَبَّر عنه باللفظ المفيد وذلك كأن يقوم بنفسك معنى قَامَ زيد أو قَعدَ عمرو ونحو ذلك فيسمى ذلك الذي تَخَيَّلْتَه كلاماً قال الأخطل . ( لاَ يُعْجِبِنَّكَ مِنْ خَطِيبٍ خُطْبَةٌ ... حَتَّى يَكُونَ مَعَ الْكَلاَمِ أصِيلاَ ) ( إِنَّ الْكَلاَمَ لَفِي الْفُؤادِ وَإِنَّما ... جُعِلَ اللَّسَانُ عَلَى الْفؤادِ دَلِيلاَ ).
سيأتي بطلان هذا القول ( وهو أن الكلام المعنى القائم بالنفس ) .
والثالث ما تَحصُلُ به الفائدةُ سواء كان لفظاً أَو خطاً أَو اشارة أَو ما نطق به لسانُ الحالِ والدليلُ على ذلك في الخط قولُ العرب الْقَلمُ أحَدُ اللِّسَانَيْنِ وتسميتهم ما بين دَفَّتَي المصحف كلام الله والدليلُ عليه في الإِشارة قولُه تعالى ( آيَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ الناسَ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ الاَّ رَمْزاً ) فاستثنى الرمز من الكلام والأصْلُ في الاستثناء الاتِّصَالُ وأما قوله ( أَشارَتْ بِطَرْفِ الْعَيْنِ خِيفَةَ أَهْلِهِا ... اشارَةً مَحْزُونٍ وَلَمْ تَتَكَلَّمِ ) ( فَأَيقَنْتُ أَن الطّرْفَ قَدْ قَالَ مَرْحَباً ... وَأَهْلاً وَسَهْلاً بِالْحَبِيبِ المُتَيَّمِ ) أما استدلاله بالآية فغير مسلم وقد عجبت جدا لابن هشام وهو يعتبر الرمز كلاما ومن المناسب أن نبيّن هنا حقيقة يغفل عنها كثير من النحويين في باب الاستثناء هي : أن المشتغلين بالنحو يقسمون الاستثناء على ثلاثة أقسام :
1- الاستثناء التام المتصل.
2- الاستثناء التام المنقطع.
3- الاستثناء المفرغ.
ولكن حقيقة الاستثناء لا تكون إلا في التام المتصل ؛ أما المنقطع فليس باستثناء ولكنه استدراك وأما المفرغ فللحصر والتوكيد ؛ والآية التي استشهد بها ابن هشام ( آيتك ألا تكلم الناس ثلاثة أيام إلا رمزا ) لا تصلح دليلا له بل هي من الاستثناء المنقطع و( إلا ) بمعنى لكن ؛ أي لا تكلم الناس ثلاثة أيام لكن رمزا ولو كان الرمز كلاما لما كان في الآية إعجاز.
وأما قول الشاعر ( أشارت ) فقد قال ابن هشام : فإِنما نَفَى الكَلاَمَ اللفظيَّ لا مُطْلَقَ الكلام ولو أراد بقوله ولم تتكلم نَفْيَ غير الكَلاَمِ اللفظيِّ لانتقَضَ بقوله فأَيقنت أن الطرف قد قَالَ مرحباً لأَنه أثْبَتَ للطرف قَوْلاً بعد أن نَفَى الكلام والمراد نَفْيُ الكلام اللفظي وإِثبات الكلام اللغوي .
قلت ( أبو الحسين ): أخطأ ابن هشام بقوله (نَفَى الكَلاَمَ اللفظيَّ لا مُطْلَقَ الكلام ) ؛ بل نفاه وأثبت ما يفهم منه وهو الإشارة بقوله ( أشارت) ونحن لا ننازعه في أن الإشارة يفهم منها ما يفهم من الكلام ؛ وإما استدلال ابن هشام بقول الشاعر ( أن الطرف قد قال ) فاستدلال عليل ذلك لأن القول يطلق على اللفظ ويطلق على الفعل كما في قوله صلى الله عليه وسلم لعمار في صحيح مسلم ج1/ص280 :" إنما كان يَكْفِيكَ أَنْ تَقُولَ بِيَدَيْكَ هَكَذَا ثُمَّ ضَرَبَ بِيَدَيْهِ الْأَرْضَ ". قال ابن هشام: والدليلُ عليه ( أي على الكلام ) فيما نَطَقَ به لسانُ الحالِ قولُ نُصَيْبِ
( فَعَاجُوا فَأَثْنَوْا بِالّذِي أَنتَ أَهْلُهُ ... وَلَوْ سَكَتوا أثْنَتْ عَلَيْكَ الْحَقَائِبُ )
وقال الله تعالى ( قَالَتَا أَتيْنَا طَائِعِينَ ) فزعم قومٌ من العلماء أنهما تكلّمَتَا حقيقة وقال آخَرُون إِنهما لما انْقَادَتَا لأَمر الله عز و جل نُزِّلَ ذلك منزلةَ القولِ ".
قلت ( أبو الحسين ) : أما استدلال ابن هشام بقول الشاعر ( ولو سكتوا أثنت عليك الحقائب ) يريد لو سكتوا لأثْنَت عليك حقائبُ الإبل التي يَحتقبها الرَّكْبُ من هِباتك وهذا الثناء إنما هو بالدلالة والإشارة لا باللفظ وليس بكلام . وأما استدلاله بالآية ( قالتا أتينا طائعين ) فلا مانع من نطق السموات والأرض فإن الله قادر على ذلك ؛ قال تعالى :" وَقَالُواْ لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدتُّمْ عَلَيْنَا قَالُواْ أَنطَقَنَا اللَّهُ الَّذِى أَنطَقَ كُلَّ شَىْء ". غير أن شبهتهم في عدم نسبة الكلام إلى السموات والأرض وتأويلهم ذلك على أنه لسان الحال أن اللفظ لا بد أن يكون من جوف وشفتين قياسا على بني آدم وهو قياس فاسد ؛ ذلك أن الله قادر على كل شيء ولا يغيب عن البال أن الله الذي أمشاهم على أرجلهم في الدنيا قادر على أن يمشيهم على وجوههم يوم القيامة كما جاء في الحديث ؛ فلا مانع من أن ينطق السموات والأرض .
قال شيخ الإسلام في مجموع الفتاوى (6/ 154) :"وأما قولهم: إن الكلام لا يكون إلا من جوف وفم وشفتين ولسان. فنقول: أليس الله قال للسموات والأرض {ائتيا طوعا أو كرها قالتا أتينا طائعين } ؟ أتراها أنها قالت بجوف وفم وشفتين ولسان ؟. وقال: { وسخرنا مع داود الجبال يسبحن } أتراها أنها يسبحن بجوف وفم ولسان وشفتين ؟ ولكن الله أنطقها كيف شاء ".
والذي يترجح عندي أن ابن هشام _ رحمه الله _ عنى بالكلام ما عناه ابن مالك خلافا لبقية الشراح ذلك لحسن عقيدته والله أعلم ؛ قال الشوكاني عنه في البدر الطالع ج1/ص401 :" كان شافعيا ثم تحنبل ".
وقال عنه الصفدي فيأعيان العصر وأعوان النصر (1/ 443) :" كان في أول عمره قد تفقه للشافعي، ثم انتقل أخيراً إلى مذهب الإمام أحمد رضي الله عنه، وحضر مدارس الحنابلة ".
وقال عنه يوسف بن تغري فيالنجوم الزاهرة ج10/ص336 :" وكان أولا حنفيا ثم استقر حنبليا وتنزل في دروس الحنابلة ".
ثم تتابع كثير من شراح الألفية على أن مقصود ابن مالك بـــــ ( الكلام ) هو الاصطلاح النحوي لا اللغوي مع العلم أن الكلام في اللغة لا يعني إلا اللفظ المفيد المركب .
ومن الشراح أبو محمد بدر الدين حسن بن قاسم المرادي المالكي قال في توضيح المقاصد والمسالك بشرح ألفية ابن مالك (1/ 26 :" وخرج بتصدير الحد به ما يطلق عليه كلام في اللغة وليس بلفظ, وهو خمسة أشياء: الخط ، والإشارة ، وما يفهم من حال الشيء ، وحديث النفس ، والتكلم" .
والى هذا ذهب ايضا عبد الله الفوزان في كتابه دليل السالك إلى ألفية ابن مالك (1/ 13) فقال : " الكلام لغة: اللفظ الموضوع لمعنى: مفيداً أو غير مفيد. واصطلاحاً: اللفظ المفيد ، والمراد بالمفيد ما يفهم منه معنى يحسن السكوت عليه. بحيث لا يبقى السامع منتظراً لشيء آخر. مثاله: الله ربنا، ومحمد نبينا ". فالكلام في اصطلاح النحويين : هو اللفظ المفيد فائدة يحسُن السكوت عليها ، نحو : جاء زيدٌ ، ونحو : هذا طالبٌ مجتهدٌ ، ونحو : استقمْ ؛ لأنه مركّب من فعل وفاعل مستتر تقديره ( أنت ) .
في اصطلاح اللغويين: اسم لكل ما يُتكلَّمُ به ، مفيداً كان أو غير مفيد ، فالمفيد نحو : جاء زيدٌ ، وغير المفيد ، نحو : إن جاء زيدٌ ؛ لفظ أو إشارة أو كتابة ... الخ .
غير أن الدكتور محمد بن عبد الرحمن السبيهين ( عميد كلية اللغة العربية في جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية ) قال في شرح (قطر الندى وبل الصدى/ لابن هشام ص3) : " لو كتب الإنسان كلاما لا يسمى هذا كلاما ؛ لأنه لم ينطق. ولو أشار بيده أو بعينه لشخص أن يفعل فعلا معينا كأن يقول:" قم أو اذهب" بالإشارة فهذا أيضا لا يسمى كلاما؛ لأنه خلا من اللفظ، ولا يكون الكلام كلاما إلا إذا اشتمل على ألفاظ أي أصوات".
ولا أدري هل يعني الدكتور بالكلام هو المفيد لغة واصطلاحا أم أنه جرى على نحو ما ذهب إليه كثير من الشراح ؟ الذي يترجح عندي أن الدكتور أثبت الكلام اللفظي المشتمل على حرف وصوت وهو واضح من عبارته إذ نفى الكتابة والإشارة أن تكون كلاما ؛ والله أعلم.
وفي شرح ألفية ابن مالك للعثيمين قوله: (كلامنا): ابن مالك رحمه الله من أئمة النحو، فإذا قال: (كلامنا) وأضاف الكلام إلى نفسه ومن كان على شاكلته صار المراد: (كلامنا نحن النحويين) احترازاً من الكلام في اللغة؛ لأن الكلام في اللغة أعم مما قاله رحمه الله.
الكلام في اللغة يطلق على ما تكلم به الإنسان من مفيد وغير مفيد؛ أما عند النحويين فهو كما سيأتي: لفظ مفيد. لفظ: وهو ما ينطق به اللسان. فخرج بهذا القيد الكتابة والإشارة والعلامات التي تفيد، والعقد بالأصابع، فإنها تفيد ما يفيده الكلام وليست كلاماً، وكذلك النصب. الإشارة مثل أن أشير لشخص أن يذهب. والكتابة معروفة، فالكتابة تفيد ما يفيده الكلام لكنها ليست لفظاً. والعقد: في حديث صفة الصلاة أنه عقد في التشهد ثلاثاً وخمسين، يعني أن العرب تعقد بأصابعها عقوداً تدل على عدد معين. وهذا أيضاً مفيد لاشك ويقوم مقام الكلام؛ لكنه ليس لفظاً فلا يكون كلاماً عند النحويين. والنصب: العلامات، مثل علامات الطريق، بأن توضع علامات في الطريق من أحجار أو أخشاب منصوبة أو غيرها بدون أن يكتب عليها شيء، وكأنها تقول لك: الطريق من هنا، فهي قائمة مقام النطق لكنها ليست لفظاً فلا تكون كلاماً. أقول: عجبت للإمام ابن عثيمين _ رحمه الله _ وهو يذهب ما ذهب إليه شراح الألفية من قبله ولو أنه _ رحمه الله _ بيّن خطأ الشراح في تفسير الكلام لكان أكمل وأجمل فله كلام آخر في غير هذا الموضع يثبت الكلام اللفظي والمعنوي ؛ والله أعلم .
ومما يزيد الأمر وضوحا أن الكلام عند العرب لا يعني إلا اللفظ ( أي الملفوظ ؛ من باب استعمال المصدر نيابة عن اسم المفعول ) أي إنهم _ العرب _ يطلقون الكلمة ولا يعنون بها إلا الكلام المفيد المركب وفي هذا يقول شيخ الإسلام في مجموع الفتاوى (12/ 107) :" وما ذكر في مسمى " الكلام " ما ذكره سيبويه في كتابه عن العرب فقال : واعلم " أن " في كلام العرب إنما وقعت على أن تحكى وإنما يحكى بعد القول ما كان كلاما قولا؛ وإلا فلا يوجد قط لفظ الكلام والكلمة إلا للجملة التامة في كلام العرب ولفظ الحرف يراد به الاسم والفعل وحروف المعاني واسم حروف الهجاء ؛ ولهذا سأل الخليل أصحابه : كيف تنطقون بالزاي من زيد ؟ فقالوا : زاي فقال نطقتم بالاسم وإنما الحرف زه ؛ فبين الخليل أن هذه التي تسمى حروف الهجاء هي أسماء . وكثيرا ما يوجد في كلام المتقدمين هذا " حرف من الغريب " يعبرون بذلك عن الاسم التام ".
ويقول السيوطي أيضا في همع الهوامع (1/ 22):" الكلمة لغة تطلق على الجمل المفيدة قال الله تعالى ( وكلمة الله هي العليا ) أي لا إله إلا الله ! ( تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ) ( كلا إنها كلمة هو قائلها ) إشارة إلى قوله ( رب ارجعون ) وما بعده في حديث الصحيحين الكلمة الطيبة صدقة وأفضل كلمة قالها شاعر كلمة لبيد ( ألا كلُّ شيء ما خلا اللهَ باطِلُ )... وهذا الإطلاق ( الكلمة قول مفرد ) منكر في اصطلاح النحويين ولذا لا يتعرض لذكره في كتبهم بوجه كما قال ابن مالك في شرح التسهيل وإن ذكره في الألفية فقد قيل إنه من أمراضها التي لا دواء لها " .
يلاحظ أن السيوطي أنكر إطلاق لفظ ( الكلمة ) على القول المفرد ؛ وأما إنكار السيوطي على ابن مالك قوله ( واحده كلمة ) فلا أرى له وجها ذلك أن قول ابن مالك ( واحده كلمة ) من باب تقسيم الكل إلى أجزائه لا الكلي الى جزئياته .
أما قول شيخ الإسلام منتقدا بعض النحويين قوله ( قد يؤم ) وأن المقصود منه التقليل فسيأتي بيانه في الموضع الثاني إن شاء الله تعالى .
ولم يرد أيضا في لسان العرب لفظ ( الكلمة ) إلا ويراد بها الكلام وهو اللفظ المفيد الذي تقوم به الأحكام قال شيخ الإسلام في الرد على المنطقيين (ص 12 :" ولفظ الكلمة لا يوجد في لغة العرب إلا اسما لجملة تامة اسمية أو فعلية كقول النبي صلى الله عليه وسلم- كلمتان حفيفتان على اللسان حبيبتان الى الرحمن ثقيلتان في الميزان سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم وقوله أصدق كلمة قالها شاعر كلمة لبيد ألا كل شئ ما خلا الله باطل وقوله في النساء أخذتموهن بأمانة الله واستحللتم فروجهن بكلمة الله ومنه قوله تعالى وجعل كلمة الذين كفروا السفلى وكلمة الله هي العليا وقوله تعالى وينذر الذين قالوا اتخد الله ولدا ما لهم به من علم ولا لآبائهم كبرت كلمة تخرج من أفواههم".
وفي كتاب الإيمان (ص53):" ولهذا كان لفظ " الكلام " و " الكلمة " في لغة العرب بل وفي لغة غيرهم لا تستعمل إلا في المقيد وهو الجملة التامة اسمية كانت أو فعلية أو ندائية إن قيل إنها قسم ثالث. فأما مجرد الاسم أو الفعل أو الحرف الذي جاء لمعنى ليس باسم ولا فعل فهذا لا يسمى في كلام العرب قط كلمة وإنما تسمية هذا كلمة اصطلاح نحوي كما سموا بعض الألفاظ فعلا وقسموه إلى فعل ماض ومضارع وأمر، والعرب م تسم قط اللفظ فعلا ؛ بل النحاة اصطلحوا على هذا فسموا اللفظ باسم مدلوله فاللفظ الدال على حدوث فعل في زمن ماض سموه فعلا ماضيا وكذلك سائرها. وكذلك حيث وجد في الكتاب والسنة بل وفي كلام العرب نظمه ونثره لفظ كلمة ؛ فإنما يراد به المفيد التي تسميها النحاة جملة تامة كقوله تعالى: {وينذر الذين قالوا اتخذ الله ولدا} { ما لهم به من علم ولا لآبائهم كبرت كلمة تخرج من أفواههم إن يقولون إلا كذبا } . وقوله تعالى {وجعل كلمة الذين كفروا السفلى وكلمة الله هي العليا } . وقوله تعالى { تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم }. وقوله: { وجعلها كلمة باقية في عقبه } . وقوله : { وألزمهم كلمة التقوى وكانوا أحق بها وأهلها } . وقول النبي صلى الله عليه وسلم " { أصدق كلمة قالها الشاعر كلمة لبيد : ألا كل شيء ما خلا الله باطل } وقوله " { كلمتان خفيفتان على اللسان ثقيلتان في الميزان حبيبتان إلى الرحمن: سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم}" . وقوله . " { إن الرجل ليتكلم بالكلمة من رضوان الله ما يظن أن تبلغ به ما بلغت يكتب الله له بها رضوانه إلى يوم القيامة وإن الرجل ليتكلم بالكلمة من سخط الله ما يظن أن تبلغ به ما بلغت يكتب الله بها سخطه إلى يوم القيامة}. ولهذا لا ينبغي الاعتماد على اصطلاح النحويين في تعريف الكلام لغة فهو اصطلاح حادث مخالف للسان العرب ولا يجوز فهم كتاب الله وكلام رسوله وفقا للاصطلاحات الحادثة المخالفة للغة العرب. قال شيخ الإسلام في مجموع الفتاوى (12/ 107) :" ومن أعظم أسباب الغلط في فهم كلام الله ورسوله أن ينشأ الرجل على اصطلاح حادث فيريد أن يفسر كلام الله بذلك الاصطلاح ويحمله على تلك اللغة التي اعتادها . وما ذكر في مسمى " الكلام " ما ذكره سيبويه في كتابه عن العرب فقال : واعلم " أن " في كلام العرب إنما وقعت على أن تحكى وإنما يحكى بعد القول ما كان كلاما قولا ؛ وإلا فلا يوجد قط لفظ الكلام والكلمة إلا للجملة التامة في كلام العرب ولفظ الحرف يراد به الاسم والفعل وحروف المعاني واسم حروف الهجاء ؛ ولهذا سأل الخليل أصحابه : كيف تنطقون بالزاي من زيد ؟ فقالوا : زاي فقال نطقتم بالاسم وإنما الحرف زه ؛ فبين الخليل أن هذه التي تسمى حروف الهجاء هي أسماء . وكثيرا ما يوجد في كلام المتقدمين هذا " حرف من الغريب " يعبرون بذلك عن الاسم التام فقوله صلى الله عليه وسلم " { فله بكل حرف } " مثله بقوله : " ولكن ألف حرف ولام حرف وميم حرف " . وعلى نهج ذلك : وذلك حرف والكتاب حرف ونحو ذلك . وقد قيل : إن ذلك أحرف والكتاب أحرف وروي ذلك مفسرا في بعض الطرق . والنحاة اصطلحوا اصطلاحا خاصا فجعلوا لفظ " الكلمة " يراد به الاسم أو الفعل أو الحرف الذي هو من حروف المعاني ؛ لأن سيبويه قال في أول كتابه : الكلام اسم وفعل وحرف جاء لمعنى ليس باسم ولا فعل . فجعل هذا حرفا خاصا وهو الحرف الذي جاء لمعنى ليس باسم ولا فعل ؛ لأن سيبويه كان حديث العهد بلغة العرب وقد عرف أنهم يسمون الاسم أو الفعل حرفا فقيد كلامه بأن قال : وقسموا الكلام إلى اسم وفعل وحرف جاء لمعنى ليس باسم ولا فعل وأراد سيبويه أن الكلام ينقسم إلى ذلك قسمة الكل إلى أجزائه".
وأما أن الكلام هو المعنى القائم بالنفس فباطل من وجوه.
الوجه الأول : أن المعنى القائم بالنفس لا تثبت به أحكام .
قال شيخ الإسلام في الإيمان: ولا يوجد في كلام العرب أن يقال : فلان صدق فلانًا أو كذبه، إذا كان يعلم بقلبه أنه صادق أو كاذب ولم يتكلم بذلك، كما لا يقال : أمره أو نهاه، إذا قام بقلبه طلب مجرد عما يقترن به من لفظ أو إشارة أو نحوهما . ولما قال النبي صلى الله عليه وسلم : " إن صلاتنا هذه لا يصلح فيها شيء من كلام الناس " . وقال : " إن اللّه يحدث من أمره ما شاء، وإن مما أحدث ألاّ تكلِّموا في الصلاة " اتفق العلماء على أنه إذا تكلم في الصلاة عامدًا لغير مصلحتها، بطلت صلاته . واتفقوا كلهم على أن ما يقوم بالقلب من تصديق بأمور دنيوية وطلب لا يبطل الصلاة، وإنما يبطلها التكلم بذلك، فعلم اتفاق المسلمين على أن هذا ليس بكلام . وأيضًا، ففي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " إن اللّه تجاوز لأمتى عما حَدَّثَتْ به أنفسها ما لم تتكلم به أو تعمل به " فقد أخبر أن اللّه عفا عن حديث النفس إلا أن تتكلم، ففرق بين حديث النفس وبين الكلام، وأخبر أنه لا يؤاخذ به حتى يتكلم به، والمراد حتى ينطق به اللسان باتفاق العلماء، فعلم أن هذا هو الكلام في اللغة؛ لأن الشارع كما قرر إنما خاطبنا بلغة العرب".
الوجه الثاني: ولو كان المعنى القائم بالنفس كلاما لكان الأخرس وغيره من أصحاب الأعذار متكلمين . قال شيخ الإسلام في درء تعارض العقل والنقل (2/ 86) :" الاخرس متكلم وكذلك الساكت والنائم".
الوجه الثالث : لم يعرف عن العرب أبدا عند الاستقراء أنهم أطلقوا الكلام على المعنى القائم في النفس . قال شيخ الإسلام في الإيمان (2/ 169):"{ وَاذْكُر رَّبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ } هو الذكر باللسان، والذي يقيد بالنفس لفظ الحديث يقال: حديث النفس، ولم يوجد عنهم أنهم قالوا: كلام النفس وقول النفس؛ كما قالوا: حديث النفس؛ ولهذا يعبر بلفظ الحديث عن الأحلام التي ترى في المنام، كقول يعقوب عليه السلام : {وَيُعَلِّمُكَ مِن تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ }، وقول يوسف : { وَعَلَّمْتَنِي مِن تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ }، وتلك في النفس، لا تكون باللسان؛ فلفظ الحديث قد يقيد بما في النفس، بخلاف لفظ الكلام فإنه لم يعرف أنه أريد به ما في النفس فقط ".
الوجه الرابع : التحريف في الكلام يتناول اللفظ والمعنى .
جاء في تفسير البحر المحيط / أبو حيان الأندلسي في تفسير ( يحرفون الكلم عن مواضعه ) (3/ 359) :" والصحيح أن تحريف الكلم عن مواضعه هو التغيير في اللفظ والمعنى ، ومن اطلع على التوراة علم ذلك حقيقة ".
الوجه الخامس : بطلان استدلالهم بما قاله الأخطل النصراني : إِنَّ الْكَلاَمَ لَفِي الْفُؤادِ وَإِنَّما ... جُعِلَ اللَّسَانُ عَلَى الْفؤادِ دَلِيلاَ.
وليس لي إلا أن أنقل نص ما ذكره الشيخ محمد أمان الجامي في كتابه الصفات الإلهية (ص235) حيث قال : الاستدلال به في غاية الفساد للأوجه التالية:
أولاً: إن المستدلين بهذا البيت قد ردوا، أو من أصولهم أن يردوا أحاديث نبوية مهما بلغت من الصحة، وتلقاها أهل العلم بالقبول، ما لم تبلغ حد التواتر، أو بلغت حد التواتر عند بعضهم بدعوى أنها أخبار آحاد، أو أدلة لفظية! فكيف يستدلون بهذا البيت الذي يختلف أهل العلم في ثبوته؟! وعلى فرض ثبوته فهل تواتر نقله؟!
ثانياً: إن ما يريدون إثباته بهذا البيت النصراني، من أن الكلام ما في النفس أي "حديث النفس" مردود بالنصوص التالية: أ- قوله عليه الصلاة والسلام: "إن صلاتنا هذه لا يصلح فيها شيء من كلام الناس. ب- قوله عليه الصلاة والسلام: "إن الله تجاوز لأمتي عما حدثت به نفسها، ما لم تتكلم به أو تعمل به. جـ- قوله عليه الصلاة والسلام: "إن الله يحدث من أمره ما يشاء، وإن مما أحدث أن لا يتكلموا في الصلاة".
وأزيد وجها ثالثا على ما ذكره الشيخ الجامي أن الأخطل نصراني والنصارى ضلوا في معنى الكلام قالوا إن عيسى عليه السلام نفس كلمة الله فلا مانع من تأثر الأخطل بعقيدته .
جاء في شرح الواسطية/صالح آل الشيخ:" قولكم إن الكلام يكون في الفؤاد نقول :
1 - هذا ما أخذتموه إلا من البيت الذي زعمتموه من قول الأخطل والأخطل أولا نصراني ، الأخطل التغلبي نصراني ، والنصارى أعظم ضلالهم في مسألة الكلام لأن قالوا الله جل وعلا سمى عيسى كلمة الله فجعلوا الكلمة هي من معنى أنه صفة الله فالنصارى ضلت في باب الكلام في نفسه هذا أولا ، وإذا كانت ضلت فلا يؤمَن أن النصراني هذا استعمل شيئا مما ورثه من ديانته ، هذا واحد .
2 - الثاني هذا البيت لم نجده في نسخة لا أصل ولا مشروحة من نسخ ديوان الأخطل ولا في ملحقاتها مما حفظه أهل اللغة ، لا يوجد في كلام في ديوان من دواوين الأخطل لا المشروحة ولا الأصول ، فمن أين أتيتم به ؟.
3 - الثالث نقول : روي هذا البيت على وجه آخر ، روي بقوله : إن البيان لفي الفؤاد وإنما جُعل اللسان على الفؤاد دليلا فهذا يدل على أن لفظة الكلام غير محفوظة ، وإذا كان كذلك فلا يسوغ الاحتجاج في اللغة بما يهدم الأصل بكلام غير محفوظ . وقوله (إن البيان لفي الفؤاد) هذا يوافق اللغة . البيان في الفؤاد لكن الكلام لا يمكن أن يكون في الفؤاد . أما قولهم عن عمر أنه قال (فزورت في نفسي كلاما) نقول : الرواية المحفوظة (فزورت في نفسي مقالا) وأما (فزورت في نفسي كلاما) فعلى فرض صحتها فهو قال (زورت في نفسي كلاما) ولم يقل (قلت في نفسي كلاما) . فزور في نفسه شيئا سماه كلاما باعتبار أنه سيخرجه لا باعتبار وجوده في داخل نفسه فافترق الأمر". فالكلام في لغة العرب لا يحتمل المعنى النفسي بل لا بد أن يكون بحرف وصوت ومعنى.
وفي جواب الاعتراضات المصرية على الفتيا الحموية لشيخ الإسلام/ الجواب الأول (ص : " وأيما أحسن الاستشهاد على معاني القرآن بنفس ألفاظ رسول الله صلى الله عليه وسلم وألفاظ الصحابة والتابعين التي يستفاد بها معنى الآيات على الخصوص وهو المطلوب ، ويعلم بها اللغة التي نزل بها القرآن ، وبها خاطب النبي صلى الله عليه وسلم بالنقل الصحيح الثابت؟ أو الاستشهاد على ذلك ببيت من شعر ، كقوله: إن الكلام لفي الفؤاد وإنما جعل اللسان على الفؤاد دليلا ".
ومن نافلة القول أن نبيّن بعض الألفاظ التي تدل على الكلام ومنها لفظ ( القول ) فهو يدل على النطق وهذا لا يحتاج الى كثير بيان ويدل على الفعل ويدل على ما قام في القلب من اعتقاد؛ وسياق اللفظ والقرائن هو الذي يبيّن ذلك ولا ينصرف عن معناه اللفظي إلا بقرينة. ومن أغرب ما سمعت عن بعض النحويين المعاصرين قوله في تفسير قوله تعالى ( قالت نملة ) هو الكلام القائم بالنفس ولو أنه فسره بلسان الحال لكان أيسر أما أن يفسره بالمعنى القائم بالنفس فهذا الذي لا يطاق ؛ فلِمَ هرب من أنها نطقت وتكلمت وأن لها قولا خاصا بها فهمه سليمان كما فهم منطق الطير الى القول بالمعنى القائم بالنفس فهما سيان أعني ( المعنى القائم بالنفس ؛ واللفظ بالنسبة للنملة ) فالدكتور المشار إليه لم يعقل أن النملة تنطق ولكنه عقل أن لها قلبا تقوم فيه المعاني !!! لكنه تحريف النصوص لفظا ومعنى وضعف الإيمان؛ ويطيب لي في هذا المقام أن أذكّر بما رواه البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الصبح ثم أقبل على الناس فقال (بينا رجل يسوق بقرة إذ ركبها فضربها فقالت إنا لم نخلق لهذا إنما خلقنا للحرث ) فقال الناس سبحان الله بقرة تكلم فقال ( فإني أومن بهذا أنا وأبو بكر وعمر - وما هما ثم - وبينما رجل في غنمه إذ عدا الذئب فذهب منها بشاة فطلب حتى كأنه استنقذها منه فقال له الذئب هذا استنقذتها مني فمن لها يوم السبع يوم لا راعي لها غيري ) فقال الناس سبحان الله ذئب يتكلم قال ( فإني أومن بهذا أنا وأبو بكر وعمر ) وما هما ثم". فلا مانع إذن من أن النمل ينطق ويفهمه سليمان فقد فهم منطق الطير ؛ مع بيان النبي صلى الله عليه وسلم وإخباره بنطق البقرة والذئب والواجب تصديقه صلى الله عليه وسلم فيما أخبر ومن هنا قال الشيخ الشنقيطي في أضواء البيان (8/ 9) ومن ذلك ما جاء عن النملة في قوله تعالى عنها {حَتَّى إِذَا أَتَوْا عَلَى وَادِ النَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ}, فقد أدركت مجيء الجيش وأنه لسليمان وجنوده وأدركت كثرتهم وأن عليها وعلى النمل أن يتجنبوا الطريق ويدخلوا مساكنهم وهذا الإدراك منها جعل سليمان عليه السلام يتبسم ضاحكا من قولها وأن لها قولا علمه سليمان عليه السلام".
والمتكلم يكون بالفعل (النطق ) والقوة ( القدرة على الكلام) لهذا يفرَّق بين الساكت والصامت فإن الساكت متكلم بالقوة أي هو قادر على الكلام بخلاف الصامت الذي لا قدرة له عليه .
قال في تاج العروس4/559: " السُّكوتَ هو تَرْكُ الكلامِ مع القُدْرةِ عليه قالوا وبالقيد الأَخير يُفارقُ الصَّمْتَ فإِنّ القدرةَ على التَّكَلُّم لا تُعْتَبر فيه قاله ابنُ كمال باشا وأَصلُه للرَّاغب الأَصْبَهانيّ فإِنّه قال في مُفرداته الصَّمْتُ أَبلغُ من السُّكُوت لأَنه قد يُستعملُ فيما لا قُوَّةَ له على النُّطْق ولذا قيل لِما لا نُطْقَ له الصّامتُ والمُصْمَت والسُّكُوتُ يقالُ لما لَهُ نُطْقٌ فيَتْرُكُ استعمالَه ". وكما أن القول يطلق على الكلام وعلى الفعل كما في حديث عمار بن ياسر فإنه يطلق على ما قام في القلب من اعتقاد جاء في صحيح مسلم1/96 :" عن أُسَامَةَ بن زَيْدٍ وَهَذَا حَدِيثُ بن أبي شَيْبَةَ قال بَعَثَنَا رسول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم في سَرِيَّةٍ فَصَبَّحْنَا الْحُرَقَاتِ من جُهَيْنَةَ فَأَدْرَكْتُ رَجُلًا فقال لَا إِلَهَ إلا الله فَطَعَنْتُهُ فَوَقَعَ في نَفْسِي من ذلك فَذَكَرْتُهُ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فقال رسول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَقَالَ لَا إِلَهَ إلا الله وَقَتَلْتَهُ قال قلت يا رَسُولَ اللَّهِ إنما قَالَهَا خَوْفًا من السِّلَاحِ قال أَفَلَا شَقَقْتَ عن قَلْبِهِ حتى تَعْلَمَ أَقَالَهَا أَمْ لَا .... " الحديث. قال النووي في شرحه على صحيح مسلم ج2/ص104 :" الفاعل فى قوله ( أقالها) هو القلب ".
وأخيرا فقد ضل في باب الكلام أقوام فالأشاعرة أثبتوا صفة الكلام لله على إنه المعنى القائم في النفس، وليس اللفظ ، ومن هنا جعلوا القرآن الذي هو حرف حكايةً أو عبارةً عن كلام الله وليس كلاماً له وهذا تناقض فإن من أثبت الكلام لله لزم منه الحرف والصوت لأن الكلام كذلك . فحقيقة الكلام الذي جاء في نصوص الكتاب والسنة ولسان العرب يتناول اللفظ والمعنى جميعاً ، ليس هو اللفظ وحده ولا المعنى وحده ، وإن كان النحويون يقولون الكلام هو اللفظ . فالكلام لا يصح أن يوصف بأنه كلام إلا إذا توفر فيه شرطان: الأول: اللفظ. الثاني: إفادة المعنى . ولذلك يقول: كلامنا- أي: كلام العرب-لفظ مفيد فاستقم فلابد أن يكون لفظاً، ولابد أن يكون مفيداً لمعنى، وإلا فلا يوصف بأنه كلام .
وأما الموضع الثاني : كلمة بها كلام قد يؤم . من المعلوم عند النحويين أن الكلمة هي اللفظ المفرد الذي لا يدل جزئه على جزء معناه ؛ ولكن لم يطلق في كلام العرب لفظ الكلمة إلا ويراد بها الكلام ؛ وقد غلط بعضهم على ابن مالك في قوله ( قد يؤم ) بأنه عنى التقليل.
وذكر شيخ الإسلام في المجموع (12/ 104) قائلا :" ولا يوجد قط في الكتاب والسنة وكلام العرب لفظ الكلمة إلا والمراد به الجملة التامة . فكثير من النحاة أو أكثرهم لا يعرفون ذلك ؛ بل يظنون أن اصطلاحهم في مسمى الكلمة ينقسم إلى اسم وفعل وحرف هو لغة العرب والفاضل منهم يقول: وكلمة بها كلام قد يؤم ويقولون: العرب قد تستعمل الكلمة في الجملة التامة وتستعملها في المفرد وهذا غلط لا يوجد قط في كلام العرب لفظ الكلمة إلا للجملة التامة ".
أقول إن كان شيخ الإسلام يعني ابن مالك فالظن به _ ابن مالك _ لا يعني بـــــــــــــ ( قد ) للتقليل وهو إمام اللغة وفارسها ومن المستبعد جدا أنه لا يعي استعمالات ( قد ) ؛ ولعل شيخ الإسلام يعني غيره والله أعلم .حيث قال في الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح (4/190) :" ولما شاع عند المشتغلين بالنحو استعمال لفظ الكلمة في الاسم أو الفعل وحرف لمعنى صاروا يظنون أن هذا هو كلام العرب ثم لما وجد بعضهم ما سمعه من كلام العرب أنه يراد بالكلمة الجملة التامة صار يقول وكلمة بها كلام قد يؤم فيجعل ذلك من القليل. ومنهم من يجعل ذلك مجاز وليس الأمر كذلك بل هذا اصطلاح هؤلاء النحاة فإن العرب لم يعرف عنهم أنهم استعملوا لفظ الكلمة والكلام إلا في الجملة التامة وهكذا نقل عنهم أئمة النحو كسيبويه وغيره ".
وقال الشيخ ابن عثيمين في شرح كتاب الرقاق من صحيح البخاري (ص101) :" وقول ابن مالك: "وكلمة بها كلام قد يُؤم" هذا باعتبار اصطلاح النحويين لا باعتبار اللغة ، وإلا فالأصل في اللغة أن الكلمة هي الجملة المفيدة ". أقول : قد بيَّنا فيما سبق مقصود ابن مالك بقوله ( كلامنا ) فلا حاجة لإعادته هنا ؛
وقول شيخ الإسلام _ رحمه الله _ " وكلمة بها كلام قد يؤم فيجعل ذلك من القليل " هذا مبني على قواعد النحويين أن ( قد ) مع المضارع تفيد التقليل كقول القائل ( قد ينجح الكسول وقد يجود البخيل ) ومع الماضي تفيد التحقيق كقوله تعالى ( قد علمنا ما تنقص الأرض منهم ) أي ما تأكل من أجسادهم؛ وتفيد ( قد ) التقريب كقول المؤذن ( قد قامت الصلاة) اي قربت إقامتها ؛ كل هذا على اصطلاح النحويين ؛ غير أن من عانى لغة العرب واعتنى بها ونظر في نصوص الكتاب يرى أن ( قد ) جاءت مع المضارع وأفادت التحقيق والتكثير ؛ لكن الاعتماد على القواعد النحوية بالكلية وإهمال النصوص من الكتاب والسنة وما صح من لسان العرب يوقع الباحث في أخطاء خطيرة جدا.
وما أجمل ما قاله الشيخ صالح آل الشيخ في شرح الطحاوية1/143: " مثلا الكلمة المشهورة أو البحث عند قوله تعالى إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ في قراءة سبعية متواترة إِنَّ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ ، طيب (إِنَّ) تنصب الاسم، لماذا ما صارت إن هذين لساحران؟ بدؤوايعللون منهم من يخطئ، يقارن، هذا غلط علمي كبير، لماذا؟ لأنك تحكم قواعد وضعها النحاة في الحق المطلق الذي هو القرآن؛ لأنها قراءة متواترة هي الحق، يجب أن تبحث في القواعد لا العكس، فالقواعد اصطلاحية. يأتي في مسند أبي يعلى في مطالعتي عند حديث قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم «إنّ هذان لشيطانان» في الحديث الذي في المتن قال «إنَّ هذين لشيطانان»- أنا لدي بحث على الآية، وأعرف كلام المحققين عليها وما يتعلق بها. استغربت: «إنَّ هذين لشيطانان» ليس هو اللفظ وإنما لأجل أنه يَخْرِمُ القاعدة جَعَلَهَا هكذا، وإذا به في الحاشية يقول: في الأصل «إنَّ هذان لشيطانان» وهذا يخالف القاعدة النحوية فغيرتها إلى (إنَّ هذين لشيطانان). طبعا سيطرة القواعد النحوية على الحق المطلق، سيطرة القضايا الاصطلاحية كلها على الحق المطلق هذه قضية كبيرة في العلم وفي نشأة العلوم وتوسع العلوم، فطالب العلم ينبغي له أن يرتقي في هذه المسائل ولا يعجل. ".
وأؤكد أنه لا ينبغي تحكيم القواعد التي هي من صنع البشر وجعلها حاكمة على نصوص القرآن والسنة وكلام العرب .
ومن المناسب أن نذكر بعض الآيات القرآنية التي تدل على أن ( قد ) تفيد التحقيق مع الفعل المضارع ؛ فلا مانع إذن من أن ابن مالك عنى بها التحقيق والتكثير لا التقليل . قوله تعالى " قد نرى تقلب وجهك في السماء " . وقوله تعالى :" قد نعلم إنه ليحزنك الذي يقولون ". وقوله تعالى :" قد يعلم الله المعوقين منكم والقائلين لإخوانهم هلم إلينا ولا يأتون البأس إلا قليلا ".
قال الزبيدي في تاج العروس ( قدد ) 9/19 :" وأما قَدْ الحَرْفِيَّةُ فإِنها مُخْتَصَّة بالفِعْل أَعمّ من أَن يكون ماضياً أَوْ مضارعاً المُتَصَرِّفِ فلا تَدخل على فِعْلٍ جامدٍ وأَما قولُ الشاعر لَوْلاَ الحَيَاءُ وأَنَّ رَأْسِيَ قَدْ عَسَى فِيهِ المَشِيبُ لَزُرْتُ أُمَّ القَاسِمِ . فعَسَى فيه ليست الجامِدَة بل هي فِعْلٌ متصرِّفٌ معناه اشتَدَّ وظهرَ وانتَشَر كما سيأْتي الخَبَرِيِّ خرجَ بذلك لأَمْرُ فإِنه إِنشاءٌ فلا تَدخل عليه المُثْبَتِ اشترطه الجماهيرُ المُجَرَّدِ مِن جَازِمٍ وناصِبٍ وحَرْفِ تَنْفِيسٍ قال شيخُنا هذه كلُّها شُرُوطٌ في دُخولها على المضارِع لأَن غالِبَ النواصبِ والجوازم تَقتضي الاستقبالَ المَحْضَ وكذلك حَرْفَا التنفيسِ و( قد ) موضوعة للحال كما بُيّن في المُطَوَّلات .
ولها سِتَّةُ مَعَانٍ
الأَوّل التَّوَقُّعُ أَي كون الفِعْل مُنْتَظَراً مُتَوَقَّعاً فتَدخل على الماضي والمضارع نحو قد يَقْدَمُ الغائبُ فتدُلّ على أَن قدوم الغائب منتظَرٌ وقد أَجْحَف المُصنِّف فلم يأْتِ بمثالِ الماضي بناءً على زَعْمِه أَنَّهَا لا تكون للتوقُّعِ مع الماضي لأَن التوقُّعَ هو انتظارُ الوُقُوعه والماضي قد وَقَعَ وقد ذَهَبَ إِلى هذا القولِ جماعَةٌ من النُّحاةِ وقال الذين أَثبتوه معنَى التوقّعِ مع الماضي أَنها تَدُلُّ على أَنه كان مُنْتَظَراً تقول قد رَكِبَ الأَميرُ لِقومٍ كانوا يَنتظرون هذا الخبر ويَتوقَّعُون ثُبوتَ الفِعْل كما قاله ابنُ هِشام . والثاني تَقْرِيبُ الماضِي مِن الحَال وهو مُقْتَضَى كلامِ الشيخِ ابنِ مالك أَنها مع الماضي تُفِيد التقريبَ كما جزمَ به ابنُ عُصفورٍ وأَن من شَرْطِ دُخولِها كَوْنَ الفِعْل مُتَوقَّعاً نحو قد قام زَيْدٌ
الثالث التَّحْقِيقُ وذلك إِذا دخلَتْ على الماضي كما ذُكر قريباً نحو قوله تعالى قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا وزاد ابنُ هشَام في المغني وعلى المضارع كقوله تعالى قَدْ يَعْلَمُ مَآ أَنتُمْ عَلَيْهِ .
والرابع النَّفْيُ فِي اللسان نقلاً عن ابنِ سيدَه وتكون قَدْ بمنزلةِ ما فيُنْفَى بها سُمِعَ بعض الفصحاءِ يقول قد كُنْتَ فِي خَيْرٍ فَتَعْرِفَه بنصب تَعْرِف قال في المغنى وهاذا غرِيبٌ وإِليه أَشار في التسهيل بقوله ورُبَّمَا نُفِيَ بقد فنُصِب الجوابُ بعدها.
والخامس التَّقْلِيل ذكره الجماهيرُ وأَنكره جماعةٌ قال في المغنى هو ضَرْبَانِ تَقلِيلُ وُقُوعِ الفعلِ نحو قَدْ يَصْدُق الكَذُوبُ وقد يَجُودُ البَخِيلُ .
والسادس التَّكْثِيرُ في اللسان وتكون قَدْ مع الأَفعال الآتِيَةِ بمنْزِلَة رُبَّما قال الهذليُّ : قَدْ أَتْرُكُ القِرْنَ مُصْفَرًّا أَنامِلُه كَأَنَّ أَثْوَابَهُ مُجَّتْ بِفِرْصَادِ .
وقاله الزَّمخشريُّ في قوله تعالى قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاء قال أَي رُبَّمَا نَرى ومعناه تَكثيرُ الرُّؤْية ثم استشهد ببيت الهُذليّ قال شيخنا واستشهد جَمَاعَةٌ من النَّحويين على ذلك ببيت العَروضِ : قَدْ أَشْهَدُ الغَارَةَ الشَّعْوَاءَ تَحْمِلُني جَرْدَاءُ مَعْرُوقَةُ اللَّحْيَيْنه سُرْحُوبُ.
وفي تهذيب اللغة للأزهري 8/218:" قال النابغة إلى حمامَتِنا ونصفهُ فَقَدِ قال وقد حَرْفٌ يوجَبُ به الشيءُ كَقولكَ قَدْ كان كذا أو كذا والخيرُ أن تَقُولَ كان كذا وكذا فأُدخل قَدْ توكيداً لتصديقِ ذلكَ . قال وتكون قَدْ في موضعٍ تشبهُ ربما وعندها تميلُ قَدْ إلى الشكِّ وذلكَ إنْ كانت مع الياءِ والتَّاءِ والنون والألف في الفعل كَقوْلكَ قَدْ يكونُ الذي تقول . وقال النحويون الفعلُ الماضي لا يكون حالاً إلاَّ بقدْ مُظْهراً أو مُضْمراً وذلك مثلُ قول الله جلَّ وعزَّ " أَوْ جَآءُوكُمْ حَصِرَتْ " ولا تكونُ حصرتْ حالاً إلاَّ بإضمار قَدْ وقال الفرَّاء في قول الله جلَّ وعزَّ " كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنتُمْ أَمْوَاتًا " المعنى وقَدْ كنتم أمواتاً ولَوْلاَ إضمارُ قَدْ لم يجزْ مِثلُهُ في الكلامِ ألا ترى أنَّ قوله في سورة يوسفَ " وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن دُبُرٍ فَكَذَبَتْ " أنَّ المعنَى فَقَدْ كذَبَتْ ". كل هذه النصوص التي يبيِّن بعضها أن من استعمالات ( قد ) مع المضارع يفيد التكثير والتحقيق ؛ والله أعلم . هذا ما أعانني الله جلّ وعلا على بيانه ووفقني لكتابته وتحريره ؛ فمن وجد فيه نقصا فليتمّه أو خطأً فليصلحْه ؛ وأما عرضي فما كنت لأحلّ ما حرم الله ؛ ومن فعل فحسابه عند ربه .
وسبحانك اللهم وبحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك
وكتبه المحتاج إلى مغفرة ربه
الشريف
أبو الحسين الحسيني