بسم الله الرحمن الرحيم
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
شَــرْحُ مَتْــنٍ عَظِيمٍ جَــامِعٍ فِي الإعْتِــقاد
لفضيلة الشيخ عبد الرزاق البدر -حفظه الله تعالى-
حمل المحاضرة بصيغة وورد من هنا
حمل المحاضرة صوتيا من هنا
أو استمع إليها من هنا
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
شَــرْحُ مَتْــنٍ عَظِيمٍ جَــامِعٍ فِي الإعْتِــقاد
لفضيلة الشيخ عبد الرزاق البدر -حفظه الله تعالى-
حمل المحاضرة بصيغة وورد من هنا
حمل المحاضرة صوتيا من هنا
أو استمع إليها من هنا
إنَّ الحمد لله ، نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا ، من يهده اللهُ فلا مضلّ له ، ومن يضلل فلا هادي له ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله ، صلى الله وسلم عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين . اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا ، اللهم علِّمنا ما ينفعنا وزدنا علما ، وأصلح لنا شأننا كله ، ولا تكلنا إلى أنفسنا طرفة عين ، اللهم آت نفوسنا تقواها ، وزكها أنت خير من زكاها ، أنت وليُّها ومولاها ، اللهم زيِّنا بزينة الإيمان واجعلنا هداةً مهتدين ، غير ضالين ولا مضلين ، اللهم وأصلح لنا شأننا كله ، ولا تكلنا إلى أنفسنا طرفة عين ، ما شاء الله تبارك الله لا حول ولا قوة إلا بالله ، توكلنا على الله .
وبعد أيها الإخوة الكرام : أولاً أشكر للجميع إدارةً في هذا المعهد وطلاباً على حسن حضورهم وجميل استماعهم وكريم أخلاقهم وآدابهم ، وأسأل الله تبارك وتعالى أن يزيد الجميع فضلاً وخيراً ونبلا ، وأن يوفق الجميع لما يحبه ويرضاه من سديد الأقوال وصالح الأعمال .
ثم أيها الإخوة الكرام : حديثنا في هذا اللقاء سيكون كما قال أخي المقدِّم د. بابا سنكن عن متن في العقيدة عظيم الشأن كبير النفع جليل الفائدة ، جمع أصول الإعتقاد وأمهات الدين باختصارٍ جميل ووفاءٍ مع هذا الاختصار ، وهو متنٌ جديرٌ بكل مسلم أن يحفظه عن ظهر قلب ، وأن يكرره كل ليلة تأسياً بنبينا الكريم صلوات الله وسلامه وبركاته عليه .
فقد ثبت في الصحيحين من حديث ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم إِذَا قَامَ مِنَ اللَّيْلِ يَتَهَجَّدُ قَالَ : ((اللَّهُمَّ لَكَ الحَمْدُ أَنْتَ قَيِّمُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَنْ فِيهِنَّ وَلَكَ الحَمْدُ ، لَكَ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَنْ فِيهِنَّ وَلَكَ الحَمْدُ ، أَنْتَ نُورُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَنْ فِيهِنَّ وَلَكَ الحَمْدُ ، أَنْتَ مَلِكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَلَكَ الحَمْدُ ، أَنْتَ الحَقُّ ، وَوَعْدُكَ الحَقُّ ، وَقَوْلُكَ الحَقٌّ ، وَلِقَاؤُكَ حَقٌّ ، وَالجَنَّةُ حَقٌّ ، وَالنَّارُ حَقٌّ ، وَالنَّبِيُّونَ حَقٌّ ، وَمُحَمَّدٌ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَقٌّ ، وَالسَّاعَةُ حَقٌّ ، اللَّهُمَّ لَكَ أَسْلَمْتُ ، وَبِكَ آمَنْتُ ، وَعَلَيْكَ تَوَكَّلْتُ ، وَإِلَيْكَ أَنَبْتُ ، وَبِكَ خَاصَمْتُ ، وَإِلَيْكَ حَاكَمْتُ ، فَاغْفِرْ لِي مَا قَدَّمْتُ وَمَا أَخَّرْتُ ، وَمَا أَسْرَرْتُ وَمَا أَعْلَنْتُ ، أَنْتَ المقَدِّمُ ، وَأَنْتَ المُؤَخِّرُ ، لاَ إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ ، وَلاَ حَوْلَ وَلاَ قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ)) .
هذا متنٌ جامع كان نبينا عليه الصلاة والسلام يكرره كل ليلة يستفتح به صلاته من الليل ، وهذه العناية بهذه الكلمات العظيمات استفتاحاً لصلاة الليل بها في هدأة الليل وهجعة الناس وسكون الكون يقف هذا العبد الصالح الناصح بين يدي ربه تبارك وتعالى ليصلي تلك الصلاة العظيمة ؛ وهي خير الصلوات وأحبها إلى الله سبحانه وتعالى بعد الصلاة المكتوبة ؛ فيستفتح صلاته من الليل بهذه الكلمات العظيمات التي كلها إيمانٌ واعتقادٌ وتوحيدٌ وإخلاصٌ لله تبارك وتعالى .
ومما ينبغي أن يُعلم : أن الأذكار الشرعية والدعوات المأثورة عن نبينا صلى الله عليه وسلم ليست أقوالاً لا معنى لها ولا كلماتٍ لا مضمون لها، بل هي كلماتٍ جليلات وألفاظ عظيمات ، مشتملاتٌ على أجلِّ المعاني وأعظم المقاصد وأنبل الأهداف ، كيف لا! وهي كلمات الصادق المصدوق الذي لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى ، يقولها عليه الصلاة والسلام في مناجاته لربه جل في علاه .
وهذه الكلمات التي جاءت في هذا الحديث العظيم حديث ابن عباس رضي الله عنهما فيما كان يقوله نبينا صلى الله عليه وسلم إذا قام من الليل يتهجد تدلنا دلالةً واضحة على أهمية استذكار المسلم لأصول الإيمان وعقائد الدين واستحضاره لها ؛ عملاً على تجديد الإيمان وتقويته وتمتينه ، بحيث لا يزداد مع مضي الأيام إلا قوةً وثباتا ، وتأتي هذه الأذكار الشرعية المباركة لتقوي الإيمان وتقوي الاعتقاد وتوسِّع مساحة أصول الإيمان في قلب المؤمن ؛ بحيث تكون عقيدةً راسخة تتجدد بتجدد الأيام. وفي الحديث يقول النبي صلى الله عليه وسلم : ((إِنَّ الْإِيمَانَ لَيَخْلَقُ فِي جَوْفِ أَحَدِكُمْ كَمَا يَخْلَقُ الثَّوْبُ الْخَلِقُ ، فَاسْأَلُوا اللَّهَ أَنْ يُجَدِّدَ الْإِيمَانَ فِي قُلُوبِكُمْ)) .
فهذا مقامٌ يحتاج من العبد إلى عملٍ دؤوب ومجاهدةٍ للنفس واستذكارٍ مستمر ، فليست العقيدة متناً تقرؤه في مرحلة من مراحل الدراسة ثم تنتهي ، أو تقرؤه على شيخ في مسجدٍ من المساجد ثم تتوقف ، العقيدة أمرٌ ثابت معك في حياتك ، مستمرٌ معك في كل أوقاتك ، والأذكار الشرعية المأثورة عن نبينا الكريم صلوات الله وسلامه عليه تأتي لتجدِّد هذا الإيمان وتقوِّي هذه العقيدة وترسِّخ هذه الأصول العظيمة المباركة في قلب المسلم .
وهذه الكلمات العظيمات في هذا الاستفتاح المبارك الذي كان نبينا عليه الصلاة والسلام يستفتح به صلاته من الليل يحقق هذه المعاني تحقيقاً عظيماً ، ويقوِّي هذه العقيدة ويمتِّنها في القلب تمتيناً عجيباً ؛ فجديرٌ بالمسلم أن يحفظ هذه الكلمات عن ظهر قلب ، وأن يحرص على أن يكون له حظٌّ من صلاة الليل يستفتحها بهذه الكلمات العظيمة المباركة المأثورة عن النبي الكريم صلوات الله وسلامه عليه ، ولا يدع لياليه هكذا تمضي وقد حرم نفسه من هذا الخير ، حرم نفسه من هذا الفضل العظيم والعطاء الجسيم والكلمات العظيمات المباركات التي كان يقولها نبينا الكريم صلوات الله وسلامه وبركاته عليه .
ومما ينبِّه عليه العلماء في هذا المقام : أهمية استحضار معاني الأذكار الشرعية ودلالاتها ؛ حتى تكون قوية الأثر محققة النفع والفائدة ، أما إذا كان يقولها ألفاظاً لا يعي معناها ولا يدري مدلولها فإنها كما قال العلماء رحمهم الله تعالى تكون ضعيفة الأثر إن لم تكن عديمة الأثر .
وهذه الكلمة -أيها الإخوة الكرام- مدارسةٌ ومذاكرةٌ لمضامين هذه الألفاظ العظيمة المأثورة عن نبينا الكريم صلوات الله وسلامه عليه بشيءٍ من الاختصار والإيجاز ، وإلا فإنَّ كل جملةٍ من جمل هذه الكلمات تحتاج إلى درس خاص ، وكما قيل «ما لا يُدرك لا يُترك» ، ففي هذه الجلسة مذاكرة لمعاني هذه الألفاظ ودلالاتها بشيء من الاختصار والإيجاز ، سائلاً الله جل في علاه أن يبارك لنا أجمعين في مجلسنا هذا ، وأن يعمُره سبحانه وتعالى وهو المانُّ والمتفضل وحده لا شريك له بالخير والبركة والفائدة والنفع لنا أجمعين ، وأن يجعله باباً مباركاً علينا أجمعين في تجديد الإيمان وتقويته وتمتين الاعتقاد وترسيخه بإذنٍ من الله تبارك وتعالى ومدٍ وعون ، وهو وحده الموفق لا شريك له .
بدأ عليه الصلاة والسلام هذه الكلمات في مناجاة رب الأرض والسماوات سبحانه وتعالى بقوله صلوات الله وسلامه عليه : ((اللَّهُمَّ لَكَ الحَمْدُ أَنْتَ قَيِّمُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَنْ فِيهِنَّ)) ؛ فبدأه بالحمد - حمد الله تبارك وتعالى- ، والحمد : هو الثناء على الله تبارك وتعالى بما هو أهله مع الحب له جلَّ في علاه ، فالحمد ثناء وحب ، وإذا عري الثناء عن الحب كان مدحاً وليس حمداً .
وحمد الله تبارك وتعالى : هو ثناءٌ عليه بأسمائه جل وعلا وصفاته ونعمه وعطاياه وآلائه ، والله سبحانه وتعالى يُحمد على الأسماء والصفات ويُحمد على النعم والعطايا والهبات ؛ فمن أمثلة حمده سبحانه وتعالى على أسمائه وصفاته هذا الحديث ؛ حمَده عليه الصلاة والسلام على قيوميته ، وعلى أنه سبحانه وتعالى نور السماوات والأرض ومن فيهن ، وأنه له ملك السماوات والأرض ومن فيهن ، وهذا حمدٌ لله تبارك وتعالى على الأسماء والصفات . ومن أمثلة حمد الله تبارك وتعالى على النعم والهبات قول نبينا صلى الله عليه وسلم : ((إِنَّ اللهَ لَيَرْضَى عَنِ الْعَبْدِ أَنْ يَأْكُلَ الْأَكْلَةَ فَيَحْمَدَهُ عَلَيْهَا أَوْ يَشْرَبَ الشَّرْبَةَ فَيَحْمَدَهُ عَلَيْهَا)) .
فالله سبحانه وتعالى يُحمد على أسمائه وصفاته ، ويُحمد جلَّ وعلا على نعمه وهباته . وفي هذا الحديث تكرر الحمد بتكرر ما يُحمد عليه الرب سبحانه وتعالى ، فالله عز وجل يُحمد على كل اسمٍ من أسمائه ، وكل صفة من صفاته ، وكل فعل من أفعاله ، وكل حُكمٍ من أحكامه ، ويُحمد تبارك وتعالى على كل نعمةٍ من نعمه وعطيةٍ من عطياته ، {وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ} [النحل:53] ، {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا} [النحل:18] ، وهو عز وجل أهل الحمد والثناء جلَّ في علاه .
وقوله : ((قَيِّمُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَنْ فِيهِنَّ)) أي : القائم بشؤون السموات والأرض تصريفاً وتدبيراً وتسخيراً وعطاءً ومنعاً ، فالأمر بيد الرب تبارك وتعالى القيوم .
((قَيِّمُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ)) : أي أن السموات والأرض ومن فيهن كل هذه الكائنات قائمة بأمر الله سبحانه وتعالى ، قال الله تعالى : {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ} [الروم:25] وقال تعالى : {أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ قُلْ سَمُّوهُمْ} [الرعد:33] .
ومن أسمائه تبارك وتعالى : «القيوم» ، قد ورد في ثلاثة مواضع من القرآن منها : آية الكرسي {اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} ، وفي أوائل آل عمران ، وفي سورة طه {وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ} .
والقيوم يدل على قيومية الله سبحانه وتعالى ، وقيوميته تبارك وتعالى تتناول أمرين في دلالتها :
§ الأول : قيامه سبحانه وتعالى بنفسه ؛ وهذا فيه ثبوت غناه جل وعلا .
§ والثاني : قيامه سبحانه وتعالى بشؤون خلقه ؛ وهذا فيه كمال قدرته جل وعلا .
فالقيوم يدل على كمال الغنى لأنه قائمٌ بنفسه غنيٌ عن خلقه ، وكمال القدرة لأنه قائمٌ بمخلوقاته مدبرٌ لها لا غنى لأيِّ مخلوق منها عنه تبارك وتعالى طرفة عين ، فهو عز وجل قيِّم السموات والأرض ومن فيهن ، وهذا يتناول كل مخلوق دقَّ أو جل ، صغُر أو كبُر ، فالله تبارك وتعالى هو المدبر لشؤون هذا الكون خفضاً ورفعا ، قبضاً وبسطا ، عطاءً ومنعا ، عزاً وذلا ، حياةً وموتا ، صحةً ومرضا ، الأمر أمره تبارك وتعالى الحي القيوم .
وقوله: ((أَنْتَ نُورُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَنْ فِيهِنَّ)) فيه إثبات النور اسماً لله عز وجل ، وصفةً له سبحانه وتعالى . ومما يدل عليه في تضمُّنه إثبات أن الله سبحانه وتعالى منير السموات والأرض بقدرته الإنارة الحسية والإنارة المعنوية ، فالله عز وجل نور ، وشرْعه نور ، ورسوله نور لأنه يحمل النور والضياء ، {وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا} [الأحزاب:46] ، فالنبي عليه الصلاة والسلام سراج منير لأنه يحمل النور الذي هو الوحي ، والوحي نفسه نور كما قال الله سبحانه وتعالى : {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الشورى:52] .
وقوله : ((أَنْتَ مَلِكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ)) فيه إثبات أن السموات والأرض ومن فيهن أن هذه المخلوقات كلها ملْكٌ لله سبحانه وتعالى ، وليس له عز وجل شريكٌ في الملك ولا في مقدار ذرة ، ولهذا قال الله سبحانه وتعالى : {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ} [سبأ:22] ، فالملك كله ملك الله ، وما يكون بأيدي الناس من ملْك إنما هو بتمليك الله سبحانه وتعالى لهم ، يعطي ويمنع عز وجل {قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [آل عمران:26] ، فالملْك كله ملْك الله .
وهذه الأسماء المذكورة في هذا الحديث «القيوم» ، و«النور» و«الملِك» كل اسمٍ منها له عبوديته ، لأن أسماء الله تبارك وتعالى أعلامٌ وأوصاف ؛ أعلامٌ باعتبار دلالتها على الذات ، وأوصاف باعتبار دلالتها على المعاني ، وكل اسم من هذه الأسماء له عبوديته التي تخصه فينبغي إثبات الاسم وإثبات الصفة التي دل عليها الاسم وتحقيق العبودية التي يقتضيها هذا الإسم .
والأمثلة على هذا فيما يتعلق بهذه الأسماء تطول لكن أضرب مثالاً واحداً للتوضيح ؛ اسم الله تبارك وتعالى «الملِك» واعتقاد المسلم أنه جل وعلا له ملك السموات والأرض ، بجميع ذرات هذا الكون وأجزائه الصغيرة والكبيرة الدقيقة والجليلة كلها ملك لله ، فهو الملك ، والملك هو المتصرف في هذا الكون لا شريك له ، ومن سوى الله لا يملك في هذا الكون مثقال ذرة ؛ فإيمان العبد واعتقاده بأن الله سبحانه وتعالى الملك لا ند له يقتضي منه إفراده وحده بالعبادة وإخلاص الدين له ، إذ كيف يعتقد أنه وحده الملك الذي بيده الأمر ثم يلجأ إلى غيره ؟! أين إيمانه بأن الله هو الملِك الذي بيده ملك السماوات والأرض ؟ وهل هذا الغير الذي يُدعى يملك شيئاً ؟! هل يملك نفعاً ؟ هل يملك رزقاً ؟ هل يملك حياةً أو موتاً ؟
هذا اليوم الذي أحدثكم فيه ، في صباحه رأيت رجلاً جاوز الستين سنة وفي عنقه تميمة ومن إعجابه بها جعلها من فوق ثيابه ، لأن بعضهم يخفيها ، فهذا جعلها من فوق ثيابه ، فقلت له والمترجم من بجواري قلت له لماذا جعلت هذه في عنقك ؟ قال : جعلتها في عنقي من أجل أنها تُدِرُّ الرزق عليَّ . هل من يقول مثل هذا الكلام فهم اسم الله «الملك» ؟ هل فهم اسم الله «الرزاق» ؟ حديدةً يعلقها في عنقه يعتقد فيها أنها تدِرُّ رزقاً عليه !! أين العقول ؟ أين الإيمان باسم الله «الملك» ؟ باسمه «الرزاق» ؟ باسمه «المنعِم» المتفضل ؟ أين إيمانه بقول الله سبحانه وتعالى : {وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ} [الذاريات:22] ؟ أي عند الله سبحانه وتعالى . لكن أئمة الضلال ودعاة الباطل يخرِّبون الأديان ويفسدون العقول، وقد قال نبينا عليه الصلاة والسلام : ((إِنَّ أَخْوَف مَا أَخَافُ عَلَى أُمَّتِي الْأَئِمَّةَ الْمُضِلِّينَ)) ، فإنهم يورطون الناس توريطاً عظيماً بإدخالهم في العقائد الباطلة والتعلقات الفاسدة التي ما أنزل الله بها من سلطان . وأبشِّركم أن هذا الرجل -والفضل لله سبحانه وتعالى وحده- بعد أن أفهمته بعض المعاني قال : سأكون داعيةً لقومي في تحذيرهم من هذه الأمور الباطلة ، قال لن أكتفي بهذا بل سأكون داعيةً لقومي في تحذيرهم من هذا الباطل ، نسأل الله أن يوفقه وأن يوفق الجميع لما يحبه ويرضاه من سديد الأقوال وصالح الأعمال .
ثم يقول نبينا عليه الصلاة والسلام ماضياً في مناجاته لربه سبحانه وتعالى : ((وَلَكَ الحَمْدُ أَنْتَ الحَقُّ)) ؛ الله أكبر ما أعظمها من مناجاة .
((أَنْتَ الحَقُّ)) ؛ و«الحق» اسم من أسماء الله تبارك وتعالى الحسنى ، يتوسل صلوات الله وسلامه عليه إلى ربه جل في علاه بأن الله سبحانه وتعالى الحق ، وكل شيءٍ ما خلا الله باطل ، فالله سبحانه وتعالى هو الحق، وله سبحانه وتعالى وحده دعوة الحق ؛ فلا يُدعى إلا الله ، ولا يُصرف شيء من العبادة إلا للحق المبين سبحانه وتعالى، قال الله عز وجل : {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} [الحج:62] ، وقال سبحانه وتعالى : {لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ إِلَّا كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاءِ لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ} [الرعد:14] . أريتم لو أن رجلاً اشتد به العطش ووقف على مسافةٍ بعيدةٍ من النهر العذب ومد يديه هكذا ؛ هل يصل الماء إلى فيه ؟ لا والله ! هذا مثل ضُرب في القرآن لكل من يلتجئ إلى غير الله ؛ أياً كان هذا الذي يلتجئ إليه هذا مثله في ضياعه وفساد عقله وانحرافه عن سواء السبيل .
قال : ((وَوَعْدُكَ الحَقُّ)) والله سبحانه وتعالى لا يخلف الميعاد ، وهذا فيه أيضاً إيمانٌ بأن الله عز وجل يوفِّي عباده وأولياءه وأصفياءه بكل ما وعدهم به من عطايا وهبات وخيرات وكرامات في الدنيا والآخرة . فالله الحق ووعده سبحانه وتعالى الحق .
قال : ((وَلِقَاؤُكَ حَقٌّ)) ؛ وهذا أمر عظيم جداً في باب الاعتقاد ينبغي أن يكون حاضراً في ذهن العبد ؛ أن يكون حاضراً في ذهنه أنه سيلقى الله ، وأن يكون على عقيدةٍ متينةٍ ثابتة أنه سيقف بين يدي الله تبارك وتعالى ، والله جل وعلا يقول في آخر آية من سورة الكهف : {فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} [الكهف:110] .
وهذا يدلنا دلالة بيِّنة أن إيمان العبد بلقاء الله واستحضاره التام لذلك يُثمر عملاً واستعداداً وتزوداً لهذا اليوم العظيم الذي يلقى الله سبحانه وتعالى فيه ، ولهذا ينبغي أن تكون هذه العقيدة حاضرة في ذهن العبد ؛ ((لِقَاؤُكَ حَقٌّ)) : أي أنا سألقاك وسأقف بين يديك وستحاسبني على أعمالي ، فلقاء الله حق {لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى} [النجم:31] .
((وَقَوْلُكَ الحَقٌّ)) ؛ قول الله سبحانه وتعالى حقٌ لا باطل فيه ، كما قال الله سبحانه وتعالى عن القرآن الكريم : {لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} [فصلت:42] ، وقال جل وعلا عن القرآن: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا} [النساء:82] . فالله سبحانه وتعالى قوله كله حقٌ لا باطل فيه ، تنزه وتقدس قوله عن الباطل .
قال : ((وَالجَنَّةُ حَقٌّ، وَالنَّارُ حَقٌّ)) ؛ وهذا فيه الإيمان بالجنة والإيمان بالنار، إيمانٌ بأن الجنة حق أعدها الله سبحانه وتعالى لأوليائه وأصفيائه وعباده . جعلنا الله أجمعين بمنِّه وكرمه من أهل الجنة ، اللهم إنا نسألك الجنة وما قرب إليها من قول أو عمل .
فالجنة حق وهي الدار التي أعدها الله سبحانه وتعالى لأوليائه المتقين . وإيمان العبد بالجنة وأنها حق ينتظم الإيمان بكل أوصاف الجنة التي جاءت في الكتاب والسنة ؛ لأن كل ما جاء في الكتاب والسنة من أوصافٍ للجنة داخلٌ في قوله ((الجَنَّةُ حَقٌّ )) أي بجميع أوصافها المذكورة في الكتاب والسنة .
((وَالنَّارُ حَقٌّ)) ؛ وهي الدار التي أعدها الله سبحانه وتعالى لأعدائه ، وأعدَّ لهم فيها النكال الأليم والعذاب العظيم . وإيمان العبد بأن النار حقٌ يتضمن الإيمان أيضا بكل أوصاف النار المذكورة في كتاب الله سبحانه وتعالى ، وأنها أعدت للكافرين أعداء دين الله ، كما أن الجنة أعدت للمتقين .
والإيمان بالجنة والنار هذه العقيدة تثمر في العبد استعداداً بالأعمال التي تقرب إلى الجنة وبُعداً عن الأعمال التي تقرب من النار ، وتأمل في هذا المعنى الدعاء المأثور عن نبينا صلى الله عليه وسلم في المسند من حديث عائشة : ((اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ الْجَنَّةَ وَمَا قَرَّبَ إِلَيْهَا مِنْ قَوْلٍ أَوْ عَمَلٍ ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ النَّارِ وَمَا قَرَّبَ إِلَيْهَا مِنْ قَوْلٍ أَوْ عَمَلٍ)) . إذاً في الدنيا أعمال تقرب من الجنة وأقوال ، وأيضاً فيها أعمال وأقوال تقرب من النار ؛ فإذا آمن العبد بالجنة والنار وأنهما حق فإن الواجب عليه أن يعمل الأعمال التي تقربه من الجنة ، ويتجنب الأعمال والأقوال التي تقربه من النار . فهذه عقيدة عظيمة مهمة يحتاج المسلم أن يكون دائماً مستحضراً لها .
قال : ((وَالنَّبِيُّونَ حَقٌّ)) وهذا الإيمان بالرسل الكرام ، وهو أصل من أصول الإيمان ؛ فإن الإيمان يقوم على ستة أصول منها الإيمان بالرسل . قال : ((وَالنَّبِيُّونَ حَقٌّ)) ففيه الإيمان بأنبياء الله ورسله ، قال الله سبحانه وتعالى : {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ} [البقرة:285] فالإيمان أصل من أصول الإيمان . والإيمان بهم : إيمانٌ بأنهم صفوة الخلق ، وأن الله سبحانه وتعالى اصطفاهم واجتباهم ، وأنهم قد بعثهم الله سبحانه وتعالى بالحق والهدى ، وأنهم بلَّغوا أممهم ما أمرهم الله سبحانه وتعالى به ، فما تركوا خيراً إلا دلوا أمتهم عليه ، ولا شراً إلا حذَّروا أممهم منه ، فبلَّغوا البلاغ المبين {وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ} [النور:54] .
قال : ((وَمُحَمَّدٌ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَقٌّ)) ؛ وهذا فيه الإيمان الخاص بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ} [الأحزاب:40] ، فمحمد عليه الصلاة والسلام حقٌ أي رسولٌ أرسله الله بالحق والهدى بشيراً ونذيرا وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيرا ؛ فبلَّغ البلاغ المبين ، وما ترك خيراً إلا دل أمته عليه ، ولا شراً إلا حذَّرها منه ، ختم الله سبحانه وتعالى برسالته الرسالات ، وبكتابه الكتب ، فلا نبي بعده ولا كتاب بعد كتابه ؛ صلوات الله وسلامه عليه ، وقد قال صلى الله عليه وسلم ((لاَ نَبِيَّ بَعْدِي)) ، وأخبر أنه يخرج دجالون كثيرون كلهم يزعم أنه نبي ((وَلَا نَبِيَّ بَعْدِي)) ، فبنبوته عليه الصلاة والسلام ختمت النبوات .
وأقف وقفة مختصرة أروى لكم قصة مفيدة حصلت قبل شهر تقريباً ، أرويها لما فيها من فائدة : جيء لي برجل قبل شهر قالوا عنده أشياء غريبة وعجيبة فنريد أن تسمع منه ، قلت له حدثني قال : أرأيت أنني يدخل فيَّ نور وضياء وأن الوحي يتنزل عليَّ ، وأخبرني هذا الوحي أنني نبي ومأمور أن أبلغ الناس وأن أبيِّن لهم الحق والهدى ، قلت له ينزل عليك وحي ؟ قال نعم ، قلت له : صدقت ، تعجَّب وتعجب الحاضرين ، لا أبداً صدقت لكن أنا أريد أن تنتبه معي حتى لا تلتبس عليك الأمور ، أنت فعلاً صدقت في وحي ينزل عليك لكن أريد تنتبه معي حتى لا تلتبس عليك الأمور ، قلت له : العلماء رحمهم الله يقولون الوحي وحيان :
أما الأول : الوحي الذي من الله والذي في قول الله سبحانه وتعالى : {وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (192) نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (193) عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ (194) بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ} [الشعراء:192-195] ، قلت : وهذا الوحي انقطع بموت النبي عليه الصلاة والسلام ما عاد بقي ، هذا النوع من الوحي انتهى بإجماع أهل العلم ، وذكرت قصة أبي بكر رضي الله عنه وعمر في زيارتهما لأم أيمن حاضنة النبي عليه الصلاة والسلام ؛ وكان النبي صلى الله عليه وسلم يزورها فأبو بكر وعمر زراها كما كان النبي عليه الصلاة والسلام يزورها فبكت رضي الله عنها ، قالا أتبكين!! إن ما لرسول الله صلى الله عليه وسلم عند الله خيرٌ مما له عندنا ، قالت : «لا أبكي على هذا ولكن أبكي على انقطاع وحي السماء» . انقطع الوحي ، قلت له هذا النوع انقطع انتهى .
قلت له : النوع الثانى من الوحي هو الذي ذكره الله سبحانه وتعالى في القرآن : {وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ} [الأنعام:121] ، وذكره الله سبحانه وتعالى في القرآن في قوله: {هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ (221) تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ} [الشعراء:221-222] ، قلت هذا هو الوحي ينزل عليك ، لكني أنصحك نصيحة لوجه الله سبحانه وتعالى أن تتعوذ بالله من الشيطان الرجيم وتسأل الله أن يعيذك من هذا الشيطان حتى ما تضر نفسك وتضر الناس معك ، قال : أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ، قلت : لابد تتعوذ من الشيطان واترك هذا الضلال ، هذا ضلال والشيطان من قبلك ضيَّع أناس كثيرين بمثل هذا الكلام ، فلا يلعب عليه الشيطان وتعوذ بالله منه وكلما جاءك هذا الوحي استعذ بالله من الشيطان يذهب عنك وتسلم بإذن الله سبحانه وتعالى .
قال عليه الصلاة والسلام في مناجاته لله سبحانه تعالى بهذا الدعاء المبارك والذكر العظيم : ((وَالسَّاعَةُ حَقٌّ)) ، والساعة : أي التى ينفخ فيها إسرافيل فيها في الصور ملك الصور وينتهى هذا العالم تنتهى هذه الحياة الدنيا ، وهي ساعة {وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لَا رَيْبَ فِيهَا} [الحج:7] ساعة لأن في لحظة واحدة ينتهى كل شيء ، في لحظة واحدة تنتهى الحياة الدنيا بكل تفاصيلها وتبدأ الحياة الآخرة .
فالساعة حق ، والساعة كما أنها تتناول القيامة الكبرى التي فيها موت جميع المخلوقات عندما ينفخ في الصور ملك الصور فإنها أيضاً تتناول الساعة الصغرى التي هي موت كل إنسان بخاصته ، كما قال العلماء : من مات قامت قيامته وجاءت ساعته ، فالساعة لها إطلاق عام وإطلاق خاص ؛ الاطلاق الخاص ساعة كل انسان ، فمن مات قامت قيامته ، والموت بداية منازل الآخرة ، والإيمان بالساعة وأنها حق يتناول ذلك .
بعد هذه الأصول التي قدَّمها النبي صلى الله عليه وسلم في مناجاته لربه سبحانه وتعالى بدأ بنوعٍ آخر من التوسل إلى الله ((اللَّهُمَّ لَكَ أَسْلَمْتُ، وَبِكَ آمَنْتُ، وَعَلَيْكَ تَوَكَّلْتُ ...)) إلخ ، فهذا الذي مضى نوع وهذا نوع آخر من التوسل ، والمطلوب سيأتي فيما بعد ، وهذا كله توسل ؛ فتستفيد من ذلك فائدة عظيمة جداً : أن أعظم ما تتوسل إلى الله سبحانه تعالى به لتفوز عنده وتنال رضاه هو العقيدة الصحيحة ، أعظم وسيلة تتوسل إلى الله بها العقيدة الصحيحة ، أنظر وسيلة النبي صلى الله عليه وسلم لربه في سكون الليل بهذا الأمور أمور الاعتقاد ((اللَّهُمَّ أَنْتَ قَيِّمُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ)) ، ((أَنْتَ نُورُ السَّمَوَاتِ)) ، ((أَنْتَ مَلِكُ السَّمَوَاتِ)) ، ((أَنْتَ الحَقُّ ، وَوَعْدُكَ الحَقُّ ، وَقَوْلُكَ الحَقٌّ ، وَلِقَاؤُكَ حَقٌّ ، وَالجَنَّةُ حَقٌّ ، وَالنَّارُ حَقٌّ ، وَالنَّبِيُّونَ حَقٌّ ، وَمُحَمَّدٌ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَقٌّ ، وَالسَّاعَةُ حَقٌّ)) هذه كلها عقائد يذكرها مقرراً إيمانه وتصديقه بها متوسلاً إلى الله سبحانه وتعالى بها ، فأعظم وسيلة تتوسل إلى الله سبحانه تعالى بها العقيدة الصحيحة ، وهذا يستفاد منه : أن فساد العقيدة انقطاع في الوسيلة ، إذا فسدت عقيدة الإنسان انقطعت الوسيلة بينه وبين الله ، لا وسيلة إلى الله بدون عقيدة ، والله لا وسيلة إلى الله بدون عقيدة صحيحة ، فالعقيدة الفاسدة تقطع الوسيلة بين الإنسان وبين الله سبحانه وتعالى ، فلا وسيلة تُدنيك من الله وتقربك منه إلا العقيدة الصحيحة المستمدة من كتاب الله سبحانه وتعالى وسنة نبينا الكريم صلوات الله وسلامه وبركاته عليه . وهذه فائدة ثمينة جداً نتنبه لها .
قال : ((اللَّهُمَّ لَكَ أَسْلَمْتُ، وَبِكَ آمَنْتُ، وَعَلَيْكَ تَوَكَّلْتُ، وَإِلَيْكَ أَنَبْتُ، وَبِكَ خَاصَمْتُ، وَإِلَيْكَ حَاكَمْتُ)) هذه كلها أيضاً وسائل أخرى غير النوع الأول يتوسل إلى الله سبحانه وتعالى بها .
قوله ((اللَّهُمَّ لَكَ أَسْلَمْتُ)) أي انقدت ؛ {وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ} [الزمر:54] الإسلام : هو الإستسلام لله بالتوحيد ، والانقياد له بالطاعة ، والخلوص من الشرك . فالإسلام استسلامٌ لله وطاعة وامتثال لأمر الله تبارك وتعالى .
((وَبِكَ آمَنْتُ)) ؛ قوله ((بِكَ آمَنْتُ)) هذا فيه الاعتقاد ؛ أي : آمنت بك وبأسمائك وصفاتك وبكل ما أمرتني بالإيمان به .
وقوله ((اللَّهُمَّ لَكَ أَسْلَمْتُ، وَبِكَ آمَنْتُ)) فيه جمع بين الإسلام والإيمان ، والقاعدة عند أهل العلم : «أن الإسلام والإيمان إذا اجتمعا افترقا ، وإذا افترقا اجتمعا» . والمعنى : أن الإسلام والإيمان إذا اجتمعا في الذكر أي ذُكرا معاً في نصٍ واحد افترقا في المعنى ، وإذا فترقا في الذكر كل منهما ذُكر مفرداً اجتمعا في المعنى أي أخذ كل واحدٍ منهما معنى الاسم الآخر إضافةً إلى المعنى المختص به .
وفي هذا قاعدة يقررها أهل العلم وهي : «إن من الأسماء ما يدل على مسميات متعددة عند إفراده وإطلاقه ؛ فإذا قُرن ذلك الاسم بغيره صار دالاً على بعض تلك المسميات والاسم المقرون به دال على بعضها» . وهنا الإسلام والإيمان ذكرا معاً فالإسلام هو العمل والإيمان هو العقيدة ، يوضح ذلك حديث جبريل المشهور ((قَالَ: أَخْبِرْنِي عَنِ الْإِسْلَامِ ؟ قَالَ: الْإِسْلَامُ أَنْ تَشْهَدَ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَتُقِيمَ الصَّلَاةَ، وَتُؤْتِيَ الزَّكَاةَ، وَتَصُومَ رَمَضَانَ، وَتَحُجَّ الْبَيْتَ إِنِ اسْتَطَعْتَ إِلَيْهِ سَبِيلًا)) وهذا كله عمل . ((قَالَ: فَأَخْبِرْنِي عَنِ الْإِيمَانِ؟ قَالَ: أَنْ تُؤْمِنَ بِاللهِ، وَمَلَائِكَتِهِ، وَكُتُبِهِ، وَرُسُلِهِ، وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، وَتُؤْمِنَ بِالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ)) وهذا كله عقيدة .
فقوله : ((اللَّهُمَّ لَكَ أَسْلَمْتُ)) هذا العمل ، وقوله ((وَبِكَ آمَنْتُ)) هذا العقيدة ، وفيه من الفائدة : أن الاسلام عقيدة وشريعة ، قول وعمل ، مثل ما قال السلف: «الإيمان قول وعمل» .
قال : ((اللَّهُمَّ لَكَ أَسْلَمْتُ، وَبِكَ آمَنْتُ، وَإِلَيْكَ أَنَبْتُ)) ؛ والإنابة هي الرجوع إلى الله سبحانه وتعالى بالإقبال عليه وعلى طاعته كما قال الله سبحانه وتعالى : {وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ} [الزمر:54] ، فالإنابة : هي الرجوع إلى الله والإقبال عليه بفعل طاعته وتجنب ما نهى سبحانه وتعالى عباده عنه .
((وَعَلَيْكَ تَوَكَّلْتُ)) وهذا فيه التوكل على الله ، والتوكل : هو الاعتماد على الله سبحانه وتعالى وتفويض الأمور إليه سبحانه وتعالى .
وقوله : ((وَبِكَ خَاصَمْتُ)) أي أنني مستعينٌ بك يا الله في محاجَّتي ومخاصمتي لأعدائك وردِّي عليهم وبياني لفساد عقائدهم وضلالهم وباطلهم ، مستعيناً بك ملتجئاً إليك وحدك .
((وَبِكَ خَاصَمْتُ)) ؛ وهذا فيه تفويض العبد أمره إلى الله سبحانه وتعالى في رده باطل المبطلين وضلال المضلين ، يكون بذلك مستعيناً برب العالمين سبحانه وتعالى .
وقوله : ((وَإِلَيْكَ حَاكَمْتُ)) هذا فيه أن التحاكم إنما يكون إلى شرع الله {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء:65] .
((إِلَيْكَ حَاكَمْتُ)) : أي التحاكم إلى شرع الله سبحانه وتعالى ، والرد لا يكون إلا إلى كتاب الله وسنة نبيه صلوات الله وسلامه عليه {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} [النساء:59] ، والرد إلى الله : ردٌ إلى كتابه ، والرد إلى الرسول صلى الله عليه وسلم : ردٌ إلى سنته صلوات الله وسلامه عليه .
بعد هذه التوسلات العظيمة التي جمعت بين العقيدة والشريعة - ففي أول هذه التوسلات العقيدة وفي آخرها شريعة وعمل وإقبال وطاعة وذل لله سبحانه وتعالى - بهذه التوسلات العظيمة بدأ عليه الصلاة والسلام بذكر المطلوب ، ما هو المطلوب ؟
((فَاغْفِرْ لِي مَا قَدَّمْتُ وَمَا أَخَّرْتُ)) ؛ انظر هذه العقيدة وهذه الإيمانيات وهذه الأعمال وهذه التعبدات وهذا التذلل وهذه التوسلات إلى الله سبحانه وتعالى من أجل طلب المغفرة من الله سبحانه وتعالى .
((فَاغْفِرْ لِي مَا قَدَّمْتُ وَمَا أَخَّرْتُ، وَمَا أَسْرَرْتُ وَمَا أَعْلَنْتُ)) لو قال فاغفر لي ذنوبي كلها كانت الجملة أخصر ومتناولة لكل هذا ، لكن مقام الاستغفار مقام عظيم جداً يحتاج العبد أن يستحضر فيه تفاصيل الذنوب التي عملها وتنوعها ، وأن فيها قديم وحديث ، وأن منها سر ومنها علن ، يحتاج أن يستحضر ذلك مثل قوله عليه الصلاة والسلام في سجوده ((اللهُمَّ اغْفِرْ لِي ذَنْبِي كُلَّهُ ؛ دِقَّهُ، وَجِلَّهُ، وَأَوَّلَهُ وَآخِرَهُ وَعَلَانِيَتَهُ وَسِرَّهُ)) ، فمقام الذنوب مقام يحتاج أن يستحضر العبد أن عنده ذنوب كثيرة ؛ ذنوب قديمة ، وذنوب حديثة ، وذنوب قليلة، وذنوب كثيرة ، وذنوب خفية ، وذنوب معلنة ، يستحضر هذا كله وأنه واقع في هذا كله فيطلب من الله غفراناً لهذا كله ؛ ((فَاغْفِرْ لِي مَا قَدَّمْتُ وَمَا أَخَّرْتُ، وَمَا أَسْرَرْتُ وَمَا أَعْلَنْتُ)) وهذه كلها يقع فيها العبد ؛ فيحتاج فعلاً بعد هذه التوسلات العظيمة أن يستحضر أنه عبدٌ مذنب ومقصِّر في القديم والحديث ، في السر والعلانية ، فيطلب من الله سبحانه وتعالى أن يغفر له ذلك كله {وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ} [آل عمران:135] ، فالله سبحانه وتعالى غفور رحيم لا يتعاظمه ذنبٌ أن يغفره جل وعلا {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الزمر:53] .
((فَاغْفِرْ لِي مَا قَدَّمْتُ وَمَا أَخَّرْتُ، وَمَا أَسْرَرْتُ وَمَا أَعْلَنْتُ، أَنْتَ المقَدِّمُ، وَأَنْتَ المُؤَخِّرُ)) انظر هذا التوسل العجيب في هذا المقام ، توسُّل بهذين الاسمين العظيمين لله سبحانه وتعالى ((أَنْتَ المقَدِّمُ، وَأَنْتَ المُؤَخِّرُ)) وذكَر هذين التوسلين في مقام طلب ماذا ؟ في مقام طلب الغفران ؛ مما يفيدك : أنك إن منَّ الله عليك فغفر لك تقدّمت وارتفعت وعلا شأنك وعظُم ثوابك عند الله سبحانه وتعالى ، وإن بقي الإنسان مكبَّلاً بخطاياه فإنَّ خطاياه وذنوبه تؤخره وتبعده .
فهذا فيه أن العبد كلما كان عظيم الإقبال على الله والإنابة إليه والاستغفار وطلب الغفران واللجوء إلى الله هذا كله باب من أبواب التقدم والرفعة عند الله ، وبقاء الإنسان على ذنوبه وخطاياه وتقصيره وتفريطه في جنب الله سبحانه وتعالى هذا كله يؤخره ويُبعده .
وفي إيمانك بأن الله هو المقدم والمؤخر ؛ يقدِّم من يشاء إيماناً وطاعةً ورفعةً وعبادةً وبعداً عن المعاصي والذنوب ، ويؤخر من يشاء لأن الله سبحانه وتعالى بيده الأمور يهدي من يشاء ويضل من يشاء ؛ فإيمانك بأنه سبحانه وتعالى المقدم والمؤخر وحده جل وعلا يدفعك إلى ماذا ؟ إلى بذل الأسباب التي تنال بها التقدم ، وبذل الأسباب التي تبعدك عن التأخر {لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ} [المدثر:37] هذا يدل على أن العبد مطلوب منه أن يبذل أسباباً في هذا المقام ، فتلجأ إلى الله سبحانه وتعالى المقدم والمؤخر جل وعلا أي الذي بيده التقدم والتأخر ، لا يتقدم أحداً خطوةً في الخير إلا أن يكون الله هو الذي قدَّمه ووفقه ، ولا يسْلم من التأخر في الشر والضلال إلا أن يكون الله هو الذي سلَّمه ونجَّاه ، فهذا فيه أن الأمور كلها بيد الله سبحانه وتعالى .
ثم ختم هذه المناجاة العظيمة بأعظم الكلمات على الإطلاق ؛ كلمة التوحيد «لا إله إلا الله» ، قال : ((أَنْتَ المقَدِّمُ، وَأَنْتَ المُؤَخِّرُ، لاَ إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ)) وهذا فيه توسلٌ إلى الله سبحانه وتعالى بألوهيته وأنه لا إله إلا الله .
و ((لاَ إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ)) هذه كلمة التوحيد ، ((لاَ إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ)) أي: لا معبود بحق سواك . فـ((لاَ إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ)) نفي وإثبات ؛ نفيٌ العبودية عن كل من سوى الله ، وإثباتٌ للعبودية بكل معانيها لله سبحانه وتعالى وحده .
فالذي يقول «لا إله إلا الله» لا يدعو إلا الله ، ولا يستغيث إلا بالله ، ولا يتوكل إلا على الله ، ولا ينذر إلا لله ، ولا يذبح إلا لله ، ولا يصرف شيئاً من العبادة إلا لله {قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (162) لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} [الأنعام:162-163] .
وجاء في بعض روايات الحديث في الصحيح أضاف إلى ذلك «وَلاَ حَوْلَ وَلاَ قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ» ؛ ((لاَ إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ، وَلاَ حَوْلَ وَلاَ قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ)) وهذا فيه جمعٌ بين التوحيد بذكر كلمة التوحيد ((لاَ إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ)) ، والإستعانة بقوله «لاَ حَوْلَ وَلاَ قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ» ، لأن «لاَ حَوْلَ وَلاَ قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ» كلمة استعانة .
ولهذا فإن «لا إله إلا الله» تحقيق لـ {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} ، ولا حول ولا قوة إلابالله تحقيق لـ{إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} ؛ «لا إله إلا الله» كلمة توحيد ، و«لاَ حَوْلَ وَلاَ قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ» كلمة استعانة ، كلمة تقولها تطلب من الله العون ، لما تقول «لاَ حَوْلَ وَلاَ قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ» هذا إيمان منك بأنه لا تحوُّل من حالٍ إلى حال ولا حصول قوة للعبد يؤدي بها أي أمر من أموره إلا بالله سبحانه وتعالى ، لا تحول من ضعفٍ إلى قوة ، من ضلالٍ إلى هداية إلا بالله سبحانه وتعالى ، ولا قوة على أداء أي أمر من الأمور إلا بالله سبحانه وتعالى . فهي كلمة استعانة ؛ ولهذا شُرع لك عندما ينادي المنادي للصلاة «حي على الصلاة حي على الفلاح» أن تقول : «لاَ حَوْلَ وَلاَ قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ» تطلب من الله أن يعينك حتى تذهب وتصلي . وشُرع لك في كل مرة تخرج فيها من بيتك أن تقول : «بِسْمِ اللَّهِ، تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ ، لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ» في كل مرة تخرج من بيتك لأي مصلحة دينية أو دنيوية تطلب من العون بقولك «لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ» .
ففي هذا ختمٌ لهذا الدعاء بكلمة التوحيد «لا إله إلا الله» وكلمة الاستعانة «لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ» . ثم بعد هذه المناجاة العظيمة المباركة يمضي صلوات الله وسلامه عليه في صلاته بين ربه سبحانه وتعالى في جوف الليل .
وهذه مذاكرة حول معاني هذا الدعاء والذكر المبارك ، وأنا على يقين أن مثلي لا يحسن بيان هذا الدعاء ودلالاته ومعانيه العظيمة ، لكنها كُليمات أرجو الله سبحانه وتعالى أن ينفعني بها وأن ينفعكم بها وأن يجعلها خالصة لوجهه وسبباً وسبيلاً لبلوغ مرضاته سبحانه وتعالى ، وأن يصلح لنا شأننا كله وأن لا يكلنا إلى أنفسنا طرفة عين ، وليتنا أجمعين نجتهد بأن يكون لنا شيء من الحظ والنصيب من صلاة الليل ونستفتح صلاتنا بهذه المناجاة لربنا سبحانه وتعالى ونصلي ما يسَّره الله سبحانه وتعالى لنا ، كل ليلة نجدِّد هذا الإيمان ونجدد هذا التوحيد ونجدد هذه الصلة بالله تبارك وتعالى ، وهكذا الشأن في جميع الأذكار والأدعية المأثورة عن النبي الكريم صلوات الله وسلامه عليه ، وباب الأدعية والأذكار باب مهم في فقهها ومعرفة معانيها ودلالاتها هذا باب عظم جداً ، وأعرف أن أحد طلبة العلم المعاصرين المقصرين كتب كتاباً بعنوان «فقه الأدعية والأذكار» أظن أن فيه فوائد جيدة حول هذه الموضوعات هكذا أظن والله تعالى أعلم .
أسأل الله عز وجل العظيم رب العرش العظيم أن يوفقني وإياكم لكل خير ، وأن يهدينا سواء السبيل ، وأن يصلح لنا شأننا كله ، وأن لا يكلنا إلى أنفسنا طرفة عين ، وأن يهدينا إليه صراطاً مستقيما ، وأن يزيننا جميعا بزينة الإيمان ، وأن يجعلنا هداة مهتدين غير ضالين ولا مضلين ، وأن يصلحنا في أنفسنا وأهلينا وذرياتنا ، وأن يصلح لنا النية والذرية ، وأن يحمِّدنا جميعا العاقبة . اللهم آت نفوسنا تقواها وزكها أن خير من زكاها أنت وليها ومولاها ، اللهم إنا نسألك الهدى والتقى والعفة والغنى ، اللهم اغفر لنا ذنبنا كله ؛ دقه وجله ، أوله وآخره ، سره وعلنه. اللهم اغفر لنا ما قدمنا وما أخرنا وما أسررنا وما أعلنا وما أنت أعلم به منا أنت المقدم وأنت المؤخر لا إله إلا أنت ، اللهم اغفر لنا ولوالدينا ولمشايخنا وللمسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات الأحياء منهم والأموات . اللهم اقسم لنا من خشيتك ما يحول بيننا وبين معاصيك ، ومن طاعتك ما تبلِّغنا به جنتك ، ومن اليقين ما تهوِّن به علينا مصائب الدنيا ، اللهم متعنا بأسماعنا وأبصارنا وقوتنا ما أحييتنا واجعله الوارث منا ، واجعل ثأرنا على من ظلمنا ، وانصرنا على من عادانا ، ولا تجعل مصيبتنا في ديننا ، ولا تجعل الدنيا أكبر همنا ولا مبلغ علمنا ، ولا تسلط علينا من لا يرحمنا. اللهم يا ربنا اجعل هذا المجلس في ميزان حسناتنا أجمعين ، وتقبله منا بقبول حسن ، وانفعنا بما مننت به علينا من خير وهدى ، واجعلنا يا رب ممن يستمع القول فيتبع أحسنه {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ} جعلنا الله أجمعين منهم بمنه وكرمه .
سبحانك اللهم وبحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك .
اللهم صلِّ وسلِّم على عبد الله ورسوله نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .