بسم الله الرحمن الرحيم
فما زلنا في هذه الفتنة التي عمت البلاد اليمنية بل وبعض بلاد العالم والتي تولى كبرها الشيخ يحيى الحجوري –هداه الله للحق ورده إليه- ما زلنا نرى فيها بين كل حين وآخر هوىً محموما يهوي بأصحابه إلى مقالات أهل الأهواء والبدع، فتجدهم تارةً يشككون في بعض شروط التكفير واستحلال الدماء لغرض الطعن في بعض مشايخنا [1]،وأخرى يشككون في شروط الجهاد ، ومرة يفتون جميع الشباب في البلاد اليمنية بفرضية الجهاد على الأعيان ويأمرونهم بالسفر ولو بغير رضى الوالدين، ومرة يشككون في شروط جهاد الطلب حتى قال أحدهم : سنلاحق الرافضة ولو إلى أقاصي الأرض" وبنحو هذه العبارة قال كثير في محاضرات ودروس وخطب رنانة، ولا أدري تحت أي جهاد دفع تدخل هذه العبارة ومثيلاتها، ونجدهم تارة قد أصابتهم لوثة الطعن في الحكام فيطعنون في ولاة الأمر بحجة أنه حوثي متستر وما إلى ذلك من الطعون، بل كنت أسمع وغيري عن أخبار بعض الصغار العائدين من (كتاف) فنجد بعضهم يقدح في ولاية الرئيس وأنّ الأمور اضطربت فلم يَعُد ثَمّ حاجة لإذنه [2] وحقيقة لا أدري هل هذا من كيسهم أم من كيس بعض التكفيريين الموجودين في كتاف؟![3] ، ثم نجدهم تارة يسلكون مسلك أبي الفتن المأربي المصري الذي كان يدافع عن أخطائه بتلمس أخطاء من سبقه من العلماء ، وهكذا وجدنا هؤلاء يتلمسون لشيخهم المخارج "قال فلان" و" ذكر علان" ، ووالله إنّ الأمر أهون من هذا، قل (أخطأت) (زل لساني) (سبق قلمي) (وهمت) (فهمت خطأ) ( ظننت ظنا وأنا أتوب إلى الله) وانتهى الأمر ، لكن "الْكِبْرُ بَطَرُ الْحَقِّ، وَغَمْطُ النَّاسِ" فتكبرٌ على الحق وطعن في الناس وتهوين من أمرهم فشيخه (ضعيف في العلم) وذاك (واعظ لا أكثر ولا أقل) وذاك (لا يعرف من الفتن شيئا إلا وهي مدبرة) وذاك (لا يصلح للفتوى) وهكذا تهوين من أمر علماء السنة ودعاتها في مختلف الأمصار.
ثم أخيرًا وجدنا بعض الشباب الأغمار يصيحون بكرامات الشهداء ، ونحن نصدقهم ولا نكذبهم ونفرح بذلك ولا نحزن، لكن الباطل هو الاستدلال بها على صحة طعنهم في العلماء وانحراف سيرهم عن منهج السلف وجادة الصواب ، فلم تكن خوارق العادات يوما عند أهل السنة دليلا على صحة المعتقد وسلامة المنهج، بل هذه طريقة منحرفة سلكها المتصوفة قديما وحديثا، وتابعهم أهل التكفير من "تنظيم القاعدة" ونحوهم حديثا، وما كتاب عبد الله عزام –رحمه الله- "آيات الرحمن في جهاد الأفغان" ببعيد .
وانظر يا طالب الإنصاف ما روى مُوسَى بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى الصَّدَفِيُّ: قُلْتُ لِلشَّافِعِيِّ: إِنَّ صَاحِبَنَا اللَّيْثَ-أي ابن سعد- كَانَ يَقُولُ: إِذَا رَأَيْتُمُ الرَّجُلَ يَمْشِي عَلَى الْمَاءِ فَلَا تَغْترُوا بِهِ حَتَّى تَعْرِضُوا أَمْرَهُ عَلَى الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ ؟ فَقَالَ الشَّافِعِيُّ : قَصَّرَ اللَّيْثُ -رَحِمَهُ اللَّهُ- ، بَلْ إِذَا رَأَيْتُمُ الرَّجُلَ يَمْشِي عَلَى الْمَاءِ ، وَيَطِيرُ فِي الْهَوَاءِ ، فَلَا تَغْترُوا بِهِ حَتَّى تَعْرِضُوا أَمْرَهُ عَلَى الْكِتَاب وَالسُّنَّة [أورده ابن كثير في تفسيره وغيره، ونقله جماعة من الصوفية عن الجنيد كما أشار العلامة تقي الدين الهلالي–رحم الله الجميع-]
وَروى أَبوْ نعَيْمٍ في "الحِليَةِ" بسنده عن أَبي يَزِيْدَ البسْطامِيُّ:لوْ نظرْتُمْ إلىَ رَجُل ٍ أُعْطِيَ مِنَ الكرَامَاتِ ، حَتَّى يرْفعَ فِي الهوَاءِ : فلا تَغْتَرُّوْا بهِ ، حَتَّى تَنْظرُوْا كيْفَ تجدُوْنهُ عِنْدَ الأَمْرِ وَالنَّهْيِّ ، وَحِفظِ الحدِ وَأداءِ الشَّرِيْعَة [10/40]
قال ابن تيمية –رحمه الله-:
"ولهذا اتفق أولياء الله على أن الرجلَ لو طارَ في الهواءِ أو مَشَى على الماء لم يُعتَبر حتَّى يُنظَر متابعتُه لأمرِ الله ونهيِه. فإن هؤلاء يستلزم أقوالهم أن يجعلوا كثيرًا من المشركين وأهل الكتاب - اليهود والنصارى - من أولياء الله المتقين، فإن لهؤلاء خوارق كثيرة، فمن أنكر وجودَها كان كمن أنكر خوارقَ الأولياء وأنكر السحرَ والكهانةَ، ومن أقرَّ بوجودِها وجعلَها دليلاً على أنّ صاحبَها وليّ لله فهو جَعَلَ خوارقَ السحرةِ والكهّانِ دليلاً على أنهم أنبياء وأولياء الرحمن، وكلا القولين يوجب الخروجَ عن دينِ الإسلام، والخروجَ من النور إلى الظلام." [جامع المسائل 1/97]
ونحن لا نقول أنّ ما وقع لأخواننا هو من جنس خوارق السحرة والكهان حاشا لله، وبرأهم الله من مشابهتهم، ولكنا نقول إنّ الكرامة لا تدل على كمال الاتباع، بل تقع الكرامة أحيانا بالنظر إلى حال المُخالف ولو كان في المُتبع بعض –بل كثير من - النقص والانحراف ، وحينئذ تدل على أن صاحب هذه الكرامات على الحق في مقابل الطرف الآخر.
قال ابن تيمية –رحمه الله-:
لكن قد [تدل] الخوارق على أنّ هؤلاء على الحقّ، دون هؤلاء؛ لكونهم من أتباع الأنبياء؛ كما قد [يتنازع] المسلمون والكفار في الدين؛ فيؤيّد الله المؤمنين بخوارق تدل على صحة دينهم؛ كما صارت النار على أبي مسلم برداً وسلاماً؛ وكما شرب خالد السمّ، وأمثال ذلك. فهذه الخوارق هي من جنس آيات الأنبياء.
وقد يجتمع كفار، ومسلمون، ومبتدعة، وفجّار؛ فيؤيّد هؤلاء بخوارق تعينهم عليها الجنّ و [الشياطين] ، ولكن جنهم وشياطينهم أقرب إلى الإسلام؛ فيترجّحون بها على أولئك الكفار عند من لا يعرف النبوّات؛ كما يجري لكثيرٍ من المبتدعة، والفجّار، مع الكفّار؛ مثل ما يجري للأحمدية، وغيرهم، مع عبّاد المشركين البخشيّة قدّام التتار، كانت خوارق هؤلاء أقوى لكونهم كانوا أقرب إلى الإسلام.
وعند من هو أحق بالإسلام منهم لا تظهر خوارقهم، بل تظهر خوارق من هو أتمّ إيماناً منهم.
وهذا يُشبه ردّ أهل البدع على الكفّار بما فيه بدعة؛ فإنّهم وإن ضلّوا من هذا الوجه، فهم خير من أولئك الكفار، لكن من أراد أن يسلك إلى الله على ما جاء به الرسول يضرّه هؤلاء، ومن كان [حائراً] نفعه هؤلاء.
بل كلام أبي حامد ينفع المتفلسف ويصير أحسن؛ فإنّ المتفلسف يُسلم به إسلام الفلاسفة، والمؤمن يصير به إيمانه مثل إيمان الفلاسفة. وهذا [أردأ] من هذا، بخلاف ذاك. ا.هــــ كلامه [النبوات 1/ 160]
وقال:
وَحَكَى ذَلِكَ الشَّيْخُ أَنَّهُ كَانَ مَرَّةً عِنْدَ بَعْضِ أُمَرَاءِ التتر بِالْمَشْرِقِ وَكَانَ لَهُ صَنَمٌ يَعْبُدُهُ قَالَ: فَقَالَ لِي: هَذَا الصَّنَمُ يَأْكُلُ مِنْ هَذَا الطَّعَامِ كُلَّ يَوْمٍ وَيَبْقَى أَثَرُ الْأَكْلِ فِي الطَّعَامِ بَيِّنًا يُرَى فِيهِ فَأَنْكَرْت ذَلِكَ فَقَالَ لِي إنْ كَانَ يَأْكُلُ أَنْتَ تَمُوتُ؟ فَقُلْت نَعَمْ قَالَ فَأَقَمْت عِنْدَهُ إلَى نِصْفِ النَّهَارِ وَلَمْ يَظْهَرْ فِي الطَّعَامِ أَثَرٌ فَاسْتَعْظَمَ ذَلِكَ التتري وَأَقْسَمَ بِأَيْمَانِ مُغَلَّظَةٍ أَنَّهُ كُلَّ يَوْمٍ يُرَى فِيهِ أَثَرُ الْأَكْلِ لَكِنَّ الْيَوْمَ بِحُضُورِك لَمْ يَظْهَرْ ذَلِكَ.
فَقُلْت لِهَذَا الشَّيْخِ: أَنَا أُبَيِّنُ لَك سَبَبَ ذَلِكَ. ذَلِكَ التتري كَافِرٌ مُشْرِكٌ وَلِصَنَمِهِ شَيْطَانٌ يُغْوِيه بِمَا يُظْهِرُهُ مِنْ الْأَثَرِ فِي الطَّعَامِ وَأَنْتَ كَانَ مَعَك مِنْ نُورِ الْإِسْلَامِ وَتَأْيِيدِ اللَّهِ تَعَالَى مَا أَوْجَبَ انْصِرَافَ الشَّيْطَانِ عَنْ أَنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ بِحُضُورِك وَأَنْتَ وَأَمْثَالُك بِالنِّسْبَةِ إلَى أَهْلِ الْإِسْلَامِ الْخَالِصِ كالتتري بِالنِّسْبَةِ إلَى أَمْثَالِك فالتتري وَأَمْثَالُهُ سُودٌ وَأَهْلُ الْإِسْلَامِ الْمَحْضِ بِيضٌ وَأَنْتُمْ بُلْقٌ فِيكُمْ سَوَادٌ وَبَيَاضٌ. فَأَعْجَبَ هَذَا الْمَثَلُ مَنْ كَانَ حَاضِرًا ا.هــ [مج 11/ 447 وما بعدها]
والنصوص في هذا كثيرة جدا، ولم يكن في الحسبان قيام الحاجة لذكر بعض ذلك ، ولست أقول هاهنا إن جميعهم يعتقد هذه العقيدة الفاسدة، لا! ولكن بعضهم يُشيع ، وآخر يُشير، وثالث يكاد يصيح بها ظنا بجهله أنّها صكٌ بسلامة منهجهم وصدق دعواهم وصحة موقفهم من مشايخ السنة وعلماء اليمن.
فالله المستعان وعليه التكلان والحمد لله رب العالمين.
الهامش:
[1]ولم يكتفوا بالتخطئة أو إثبات الخلاف وترجيح الراجح كما هو صنيع المنصفين من أهل العلم ؛ وما ذاك إلا أنّ غرضهم التوصل للطعن في أهل العلم لا الوصول إلى الحق.
[2] وهذا خلال فترة الاضطرابات التي انتشرت كالهشيم في بعض البلاد الإسلامية، وكان هذا قبل تنحي الرئيس وهكذا بعد توقيع الاتفاق في أرض الحرمين.
[3] أقول هذا إنصافا لهم، ولست أريد الطعن بوجود هؤلاء التكفيريين في الجبهة هنالك، وللشيخ العالم عبيد الجابري فتوى منشورة بهذا الخصوص فليرجع إليها.
تعليق