بسم الله الرحمن الرحيم
قلب الأعيان بين قصص الأطفال وحكايات الصوفية! وحكاية عجيبة يرويها الشوكاني عن أحد معلميه!
قلب الأعيان بين قصص الأطفال وحكايات الصوفية! وحكاية عجيبة يرويها الشوكاني عن أحد معلميه!
قال العلامة محمد بن علي الشوكاني -رحمه الله- وأسكنه فسيح جناته في كتابه "البدر الطالع" في ترجمه "الْعَبَّاس بن مُحَمَّد المغربيّ التونسي":
قدم إِلَى صنعاء فِي سنة 1200 وَله معرفَة بِعلم الْحُرُوف والأوفاق رَأينَا مِنْهُ فِي ذَلِك عجائب وغرائب وأخذنا عَنهُ فِي علم الأوفاق لقصد التجريب لَا لاعتقاد شئ من ذَلِك وَكَانَ إذا احْتَاجَ إِلَى دَرَاهِم أَخذ بَيَاضًا وقطعه قطعاً على صور الضَّرْبَة المتعامل بهَا ثمَّ يَجْعَلهَا فِي وعَاء وَيَتْلُو عَلَيْهَا فتنقلب دَرَاهِم وَكنت فِي الِابْتِدَاء أَظن ذَلِك حِيلَة وشعوذة فَأخذت ذَلِك الْوِعَاء وفتشته فَلم أقف على الْحَقِيقَة فَسَأَلته أَن يصدقني فَقَالَ ان تِلْكَ الدَّرَاهِم يجِئ بهَا خَادِم من الْجِنّ يَضَعهَا فِي ذَلِك الْوِعَاء بِقدر مَا جعله من قطع الْبيَاض وَيكون ذَلِك قرضاً حَتَّى يتَمَكَّن من الْقَضَاء فَيَقْضِي وَكَانَ يضع خَاتم أحد الْحَاضِرين فِي اناء وَيجْعَل فِيهِ مَاء ويرتب فَيسمع الْحَاضِرُونَ فِي ذَلِك الإناء صَوتا مفزعاً ويرتفع ذَلِك الْخَاتم فَيَقَع فِي حجر صَاحبه فَظَنَنْت أنه يضع فِي الإناء تَحت الْخَاتم شَيْئا من الْمَعَادِن يكون لَهُ قُوَّة يدْفع بهَا الْخَاتم فتركته حَتَّى وضع الإناء وَوضع فِيهِ الْخَاتم فَقُمْت فأخذته فَلم أجد فِيهِ شَيْئا ثمَّ أمرنى أَن آخذ إِنَاء آخر وأضع فِيهِ مَاء بيدي وَاضع الْخَاتم من دون أَن يمس هُوَ شَيْئا من ذَلِك فَفعل وتلا فسمعنا ذَلِك الصَّوْت وارتفع الْخَاتم وَوَقع فِي حجر صَاحبه وَله من هَذَا الْجِنْس عجائب وغرائب واتصل بخليفة الْعَصْر حفظه الله وكساه كسْوَة عَظِيمَة وَأَعْطَاهُ عَطاء وَاسِعًا وَكَانَ يكثر التَّرَدُّد إليّ وأنا إِذْ ذَاك مشتغل بِطَلَب الْعلم ثمَّ عزم صُحْبَة الْحجَّاج فوصل إلى مَكَّة وإذا جمَاعَة من حجاج الغرب يسْأَلُون عَنهُ حجاج الْيمن وَمن جملَة من سألوا رفقته الَّذين حجّ مَعَهم من أهل الْيمن فَسَأَلُوهُمْ عَن حَاله فَأَخْبرُوهُمْ أَن أَبَاهُ من أكَابِر تجار الغرب وَأَنه مَاتَ وَخلف دنيا عريضة وَكَذَلِكَ وصف لنا من رافقه من حجاج الْيمن فِي الطَّرِيق من مروءته وإحسانه إليهم فِي الطَّرِيق وشكره لأهل الْيمن عِنْد أَصْحَابه وَغَيرهم مَا يدل على أَنه من أهل المروءات وَمن جملَة مَا وصفوه أَنهم وصلوا إلى الْبَحْر فَعدم المَاء فِي السَّفِينَة وهم بِقرب جَزِيرَة فِيهَا مَاء عذب وَلَكِن فِيهَا جمَاعَة من اللُّصُوص قد حالوا بَين أهل السَّفِينَة وَبَين المَاء واشتدت حَاجتهم إلى المَاء وَلم يقدر أحد على الْخُرُوج فَاشْتَمَلَ هَذَا السَّيِّد على سَيْفه وَخرج وَأخرج مَعَه قرب المَاء فَلَمَّا رَآهُ اللُّصُوص هربوا وَكَانَ طَويلا ضخماً حسن الْأَخْلَاق ابيض اللَّوْن شَدِيد الْقُوَّة ويحفظ منظومة فِي فقه الْمَالِكِيَّة وَله معرفَة بمسائل من أصُول الدَّين وَكَانَ يصمم على مَا يعرفهُ فإذا ظهر لَهُ الْحق مَال إليه وَكنت مرة أَنا وشخص عندي كَانَ يحضر عِنْد اجتماعي بالسيّد فاخذنا من تَحْرِير أوفاق قد خفظناها مِنْهُ وَلم يكن حَاضرا فَلَمَّا فَرغْنَا من تَحْرِير بَعْضهَا وضعناه فِي النَّار حَتَّى التهب ثمَّ جَعَلْنَاهُ فِي الطَّاقَة فَلم نشعر إلا بطائر قد انقضّ على تِلْكَ الْوَرق الَّتِى تلتهب فأخذها وَذهب فعجبنا من ذَلِك غَايَة الْعجب وَلم نقف للمترجم لَهُ على خبر بعد ارتحاله وَقد كَانَ يحْكى لنا من أَحْوَال أهل الغرب حكايات عَجِيبَة وَكَانَ مُدَّة الِاجْتِمَاع بِهِ نَحْو ثَلَاثَة أشهر أَو أَكثر ا.هــــــــــــــــــ كلامه رحمه الله
هكذا ذكر الشوكاني في كتابه البدر الطالع فهي حكاية صحيحة لا ريب فيها، ومن المؤكد أني لم أنقل هذه الترجمة للعبث والتفكه ، بل أردت استجلاب انتباه من عنده شغف بالنوادر لأعطيه بعض الفوائد والتنبيهات:
أولا: أردت ضرب مثال على ما نقله العلماء الثقات من أعمال الجن مما شاهدوه عيانًا ؛ وذا لما رأيت كثيرا من الناس يتشككون ويترددون عند مشاهدة (السحرة) في القنوات الفضائية أو ما يعرف بــ (السيرك) ، فتراهم مدهوشين من إخفاء بعض الأشياء أو إظهارها من (العدم) -زعموا- أو تحويل طائر إلى منديل ...الخ تلك الأعمال التي يقوم بها أولائك القوم ، وهم في ذلك بين ثلاثة أمور:
- إما مهارات اكتسبوها بالمِراس مع قوابل ومؤهلات تكون عند بعض الأفراد.
- وإما خدع ومؤثرات بصرية ومعدات حديثة يستخدمها القوم دون كبير جهد.
- وإما من قبيل السحر والاستعانة بالجان حقا.
يقول الرازي واصفًا القسمين الأولين بعبارت كأنها قيلت في عصرنا:
وذلك لأن المشعبذ الحاذق يظهر عمل شيء يشغل أذهان الناظرين به ويأخذ عيونهم إليه حتى إذا استغرقهم الشغل بذلك الشيء والتحديق نحوه عمل شيئاً آخر عملاً بسرعة شديدة ، فيبقى ذلك العمل خفياً لتفاوت الشيئين،
أحدهما : اشتغالهم بالأمر الأول.
والثاني : سرعة الإتيان بهذا العمل الثاني وحينئذ يظهر لهم شيء آخر غير ما انتظروه فيتعجبون منه جداً.
ولو أنه سكت ولم يتكلم بما يصرف الخواطر إلى ضد ما يريد أن يعمله ولم تتحرك النفوس والأوهام إلى غير ما يريد إخراجه ، لفطن الناظرون لكل ما يفعله ، فهذا هو المراد من قولهم : إن المشعبذ يأخذ بالعيون لأنه بالحقيقة يأخذ العيون إلى غير الجهة التي يحتال فيها وكلما كان أخذه للعيون والخواطر وجذبه لها إلى سوى مقصوده أقوى كان أحذق في عمله ، وكلما كانت الأحوال التي تفيد حس البصر نوعاً من أنواع الخلل أشد كان هذا العمل أحسن ، مثل أن يجلس المشعبذ في موضع مضيء جداً ، فإن البصر يفيد البصر كلالاً واختلالاً ، وكذا الظلمة الشديدة / وكذلك الألوان المشرقة القوية تفيد البصر كلالاً واختلالاً ، والألوان المظلمة قلما تقف القوة الباصرة على أحوالها ، فهذا مجامع القول في هذا النوع من السحر. ا.هــــ مفاتيح الغيب [3/ 229]
ومن له تتبع يسير خلف كواليس تلك المسارح أو يبحث قليلا في كتب هذه الفنون يجد بيسر وسهولة صدق ما قاله الرازي، وسيعلم أنّ في عالم اليوم شركات معروفة تقوم برعاية وصناعة مثل هذه المعدات، ثم إن لم تكن كذلك فهي من أعمال الجن ولا ريب، ومن السخف حقًا أن يظن بعض الناس استحالة حصول هذا في الغرب الكافر- أي تحضير الجن من قبل هؤلاء السحرة- وهذا من العجب! فإن لم تكن شياطين الجن عليهم تتنزل فعلى من إذن؟، وعلى فرض صحة هذا فليس من اللازم قيام الساحر بذلك ، فقد كانت تأتي الشياطين بعض الناس طوعًا لتضلهم وتعينهم على شرهم وقد ذكر هذا شيخ الإسلام ابن تيمية وغيره ، وهذا كما يقع لأهل الشر يقع لأهل الخير فقد يعرض الجن المسلم العون على أهل الصلاح والخير،..لكن ما يثير العجب في جماهير هذا الزمان هو حسن الظن بأشخاص تدل ظواهرهم على الشر والسوء مع سوء الظن بأهل الخير والاستقامة وتلمس أدنى ما يمكن أن يسمى قرينة للحكم على بواطنهم بالنفاق والزيغ!
وعلى أي قأقول لهؤلاء المذبذبين:
ليس ما يفعله هؤلاء القوم معجزًا، بل ليست عندهم قدرات فوق قدرات البشر..فغاية ما في الأمر خدع بصرية أو أعمال شيطانية، وها هو ذا الشوكاني يخبركم عن بعض ما شاهد من هذا التونسي وسيأتي مزيد بيان لهذه المسألة!
2- الأمر الثاني التعليق على قول الإمام -رحمه الله-:
وَكَانَ إذا احْتَاجَ إِلَى دَرَاهِم أَخذ بَيَاضًا وقطعه قطعاً على صور الضَّرْبَة المتعامل بهَا ثمَّ يَجْعَلهَا فِي وعَاء وَيَتْلُو عَلَيْهَا فتنقلب دَرَاهِم وَكنت فِي الِابْتِدَاء أَظن ذَلِك حِيلَة وشعوذة فَأخذت ذَلِك الْوِعَاء وفتشته فَلم أقف على الْحَقِيقَة فَسَأَلته أَن يصدقني فَقَالَ ان تِلْكَ الدَّرَاهِم يجِئ بهَا خَادِم من الْجِنّ يَضَعهَا فِي ذَلِك الْوِعَاء بِقدر مَا جعله من قطع الْبيَاض وَيكون ذَلِك قرضاً حَتَّى يتَمَكَّن من الْقَضَاء فَيَقْضِي ا.هــــ
- قوله " فَأخذت ذَلِك الْوِعَاء وفتشته فَلم أقف على الْحَقِيقَة " فيه درس عملي للمسلم إذ قد لا تظهر له حقائق الأشياء بعد التتبع ولكن لا يعني هذا التسليم للخصم، فكم هي تلك الأشياء التي لا نفهمها لقصور في معلوماتنا وخبرتنا، ولكن لا يعني هذا التشكك في ديننا وثوابتنا.
ثم في قوله " وَكنت فِي الِابْتِدَاء أَظن ذَلِك حِيلَة وشعوذة " إشارة لأمر مهم، وهو أنّ مسألة قلب الأعيان من تراب إلى ذهب أو إنسان إلى حيوان هو خاص بالله تعالى ، لا يقدر عليه جني ولا إنسي ولا ملك ولا أي مخلوق بل هو لله وحده، ولذا الاحتمالات عند الشوكاني كانت محصورة في:
وجود خدعة وشعبذة.
أو في ما ظهر له بعدُ من تبديل الجن له، أما حقيقة انقلابه فلم يكن مطروحا كجواب محتمل.
وللأسف فقد كثر في برامج الأطفال رؤية ذلك الساحر أو الساحرة التي لا تفتأ في كل مرة من تحويل الشخصية الكرتونية إلى أرنب أو ضفدع أو نحو ذلك، بل للأسف كم من القصص (العالمية) المكتوبة المشتهرة الذائعة الصيت قائمة على أساس أميرة أو أمير سُحر إلى هيئة ضفدع حتى ترسّخ في أذهان كثير من المسلمين إمكانية وقوع مثل هذا، وظنهم دخوله في حدود قدرات الشياطين التي بدورها تُعين الساحر، والأمر ليس كذلك ألبتة، فإنّ قلب الأعيان هو معجزة نبي من أولي العزم وهو موسى -عليه الصلاة والسلام- قال الله عز وجل "قَالَ أَلْقِهَا يَا مُوسَى (19) فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَى (20) قَالَ خُذْهَا وَلَا تَخَفْ سَنُعِيدُهَا سِيرَتَهَا الْأُولَى (21) " [طه]
ثم لمّا ساق سبحانه خبر ما وقع بينه وبين السحرة قال:" قَالَ بَلْ أَلْقُوا فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى (66) " [طه] فهي لم تنقلب حقيقة بل لم تكن تسعى حقيقة بل يُخيل إلى العين ذلك ثم قال سبحانه مثبتا موسى –عليه الصلاة والسلام-:
فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى (67) قُلْنَا لَا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلَى (6 وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى (69)" [طه]
وقال سبحانه " فَأَلْقَوْا حِبَالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ وَقَالُوا بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغَالِبُونَ (44) فَأَلْقَى مُوسَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ (45)" [الشعراء]
وانظر هنا كيف كان أثر هذه المعجزة على السحرة قال سبحانه تتمة للآيات في سورة [طه]:
فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّدًا قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَى (70)" هكذا مباشرة دون أي تردد ولا تباطؤ لذا قال الله حاكيا خطاب فرعون لهم: " قَالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ" الآية، وفي تتمة الآيات في سورة الشعراء قال سبحانه:
فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ (46) قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (47) رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ (4 قَالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ "
وإنما كان هذا منهم للخبرة التامة بالسحر وبما يدخل تحته وما يخرج عنه، والذي أتى به موسى-عليه الصلاة والسلام- لا يكون سحرًا بحال، فالسحر لا يقلب الأعيان، ولو كان هذا من قبيل ما يمكن تعلمه ولو بالسهر وطول المراس، لقالوا : هذا وإن كنا لا نستطيعه فيمكن للساحر بلوغ هذه المنزلة.
يقول ابن تيمية –رحمه الله تعالى- في كتابه العظيم "النبوات":
وخاصية الخلق إنما هي بقلب جنس إلى جنس، وهذا لا يقدر عليه إلا الله؛ كما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابَاً وَلَو اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبُهُمُ الذُّبَابُ شَيْئَاً لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالمَطْلُوبُ مَا قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللهَ لَقَوِيّ عَزِيزٌ} .
ولا ريب أنّ النخلة ما هي من جنس النواة، ولا السنبلة من جنس الحبّة، ولا الإنسان من جنس المني، ولا المني من جنس الإنسان. وهو يخرج هذا من هذا، وهذا من هذا؛ فيخرج كلّ جنسٍ من جنسٍ آخر بعيدٍ عن مماثلته، و {هَذَا خَلْقُ اللهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ}. ا.هـــ [1/ 323]
وقال في كتاب الصفدية -محطم حجج الفلاسفة-:
وأما قلب الأعيان إلى ما ليس في طبعها الانقلاب إليه كمصير الخشب حيوانا حساسا متحركا بالإرادة يبلغ عصيا وحبالا ولا يتغير فليس هذا من جنس مقدور البشر لا معتادا ولا نادرا ولا يحصل بقوى نفس أصلا ولهذا لما رأى سحرة فرعون ذلك علموا أنه خارج عن طريقة السحر {فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ} وهذه الحادثة الخارقة للعادة فيها إثبات الصانع وإثبات نبوة أنبيائه فإن حدوث هذا الحادث على هذا الوجه في مثل ذلك المقام يوجب علما ضروريا أنه من القادر المختار لتصديق موسى ونصره على السحرة كما قال تعالى {فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى قُلْنَا لا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلَى وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى} وكذلك إخراج صالح الناقة من هضبة من الهضاب أمر خارج عن قوى النفوس وغيرها ولهذا كان أئمة هؤلاء المتفلسفة يكذبون بهذه المعجزات وربما جعلوها أمثالا فقالوا إنه ألقى عصا العلم فابتلعت حبال الجهل وعصيه ونحو ذلك كما يغلب الرجل الرجل بحجته وهذا من تأويلات القرامطة التي يعلم بالضرورة بطلانها وأنها مخالفة للمنقول بالتواتر ومخالفة لما اتفق عليه المسلمون واليهود والنصارى من نقل هذه المعجزات واعتبر هذا بأمثاله ا.هـــ [1/ 138- 139]
ولذا فالسحرة مهما بلغوا في قوة السلطان فلا يمكنهم الإتيان بمثل معجزة النبي وإلا لبطلت النبوات، يقول ابن تيمية –رحمه الله-:
وما يأتي به السحرة والكهان، يمتنع أن يكون آيةً لنبيّ، بل هو آية على الكفر، فكيف يكون آيةً للنبوّة، وهو مقدور للشياطين؟. ا.هـــ النبوات [2/ 801]
بل ولا يكون أيضا كرامة لولي، قال ابن تيمية –رحمه الله- تحت الفروقات التي بين معجزات الأنبياء والكرامات:
وأيضاً: فإنّ كرامات الأولياء معتادةٌ من الصالحين، ومعجزات الأنبياء فوق ذلك؛ فانشقاق القمر، والإتيان بالقرآن، وانقلاب العصا حيّة، وخروج الدابة من صخرة، لم يكن مثله للأولياء ا.هـــ النبوات [2/ 801 – 802]
وقال كذلك:
فإن آيات الأنبياء [عليهم السلام] التي دلّت على نبوّتهم، هي أعلى ممّا يشتركون فيه، هم وأتباعهم؛ مثل الإتيان بالقرآن؛ ومثل الإخبار بأحوال الأنبياء المتقدمين، وأممهم، والإخبار بما يكون يوم القيامة، وأشراط الساعة؛ ومثل إخراج الناقة من الأرض؛ ومثل قلب العصا حية، وشقّ البحر؛ ومثل أن [يخلق] من الطين كهيئة الطير، فينفخ فيه فيكون طيراً بإذن الله1. وتسخير الجنّ لسليمان لم يكن مثله لغيره.
لكن من الجن المؤمنين من يعاون المؤمنين، ومن الجن الفساق، والكفار من يعاون الفساق؛ كما يُعاون الإنس بعضهم بعضاً. فأمّا طاعة مثل طاعة سليمان، فهذا لم يكن لغير سليمان [عليه السلام]. ا.هـــ النبوات [1/ 526 – 527]
فإذن قلب الأعيان لا يكون حتى للأولياء الذين قد تكون كراماتهم أعلى درجة من أفعال السحرة، فالسحرة أعظم درجاتهم أن تعينهم المَرَدة من الشياطين، وأما الأولياء فقد تكون كراماتهم من فعل الملائكة وهم ولا شك أعظم قدرة من الشياطين، بل قد تكون الكرامة من الله –عز وجل – مباشرة ولكن مع ذلك لا تكون كمعجزة النبي ، ولذا لا يكون قلب الأعيان لولي فضلا عن شياطين الإنس والجن.
قال ابن حزم –رحمه الله-:
قال أبو محمد : ذهب قوم إلى أن السحر قلب للأعيان وإحالة للطبائع وأنهم يرون أعين الناس ما لا يرى وأجازوا للصالحين على سبيل كرامة الله عز و جل لهم اختراع الأجسام وقلب الأعيان وجميع إحالة الطبائع وكل معجز للأنبياء عليهم السلام ..-إلى أن قال- وذهب أهل الحق إلى أنه لا يقلب أحد عينا ولا يحيل طبيعة إلا الله عز و جل لأنبيائه فقط سواء تحدوا بذلك أو لم يتحدوا وكل ذلك آيات لهم عليهم الصلاة والسلام تحدوا بذلك أم لا والتحدي لا معنى له وأنه لا يمكن وجود شيء من ذلك لصالح ولا لساحر ولا لأحد غير الأنبياء عليهم الصلاة والسلام والله تعالى قادر على إظهار الآيات على أيدي الكذابين المدعين للنبوة لكنه تعالى لا يفعل كما لا يفعل ما لا يريد أن يفعله من سائر ما هو قادر عليه ا.هــ الفصل في الملل والأهواء والنحل [5/ 99]
وقال:
وأما السحر فإنه ضروب، منه ما هو من قِبَل الكواكب، كالطابع المنقوش فيه صورة عقرب في وقت كون القمر في العقرب، فينفع إمساكه من لدغة العقرب. ومن هذا الباب كانت الطلسمات، وليست إحالة طبيعة، ولا قلب عين، ولكنها قوى ركبها الله عز وجل مدافعة لقوى أخر " المرجع السابق [5/ 101]
وقال:
قال أبو محمد: ويقال لمن قال إنّ السحر يحيل الأعيان ويقلب الطبائع أخبرونا إذا جاز هذا فأي فرق بين النبي -صلى الله عليه و سلم- والساحر؟ ولعل جميع الأنبياء كانوا سحرة، كما قال فرعون عن موسى -عليه السلام- "إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ" و "إِنَّ هَذَا لَمَكْرٌ مَّكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُواْ مِنْهَا أَهْلَهَا" وإذا جاز أن يقلب سحرة موسى -عليه السلام- عصيهم وحبالهم حيات، وقلب موسى -عليه السلام- عصاة حيّة، وكان كلا الأمرين حقيقة، فقد صدق فرعون بلا شك ، في أنه ساحر مثلهم، إلا أنّه أعلم به منهم فقط، وحاشا لله من هذا ! بل ما كان فعل السحرة إلا من حيل أبي العجائب فقط ا.هــ المرجع السابق [5/ 104-105]
وهذا الكلام قريب من كلام ابن تيمية -رحمه الله- بل كلام ابن تيمية قريب منه ولعله استفاده منه، وإني ما أخرت ابن حزم في النقل إلا لما عُلم من تذبذبه في عدد من مسائل الاعتقاد، فأردت البدء بشيخ الإسلام -رحمه الله- ، فأسأل الله أن يغفر لابن حزم ويتجاوز عنه على ما قدم للإسلام والمسلمين والله المستعان.
وقال أيضا:
قال أبو محمد: وكذلك ما ذكر عمن ليس نبيا من قلب عين أو إحالة طبيعة فهو كذب إلا ما وجد من ذلك في عصر نبي فإنه آية لذلك النبي ا.هــ المرجع السابق [5/ 107]
* ولذا –واحفظ هذا أخي المسلم- إنما يمكن للساحر بواسطة الجن التصرف في أعراض الأشياء لا قلب أعيانها وهذا أيضا بحدود، يقول ابن تيمية-رحمه الله -:
وأمّا خوارق مخالفيهم؛ كالسحرة، والكُهّان؛ فإنّها من جنس أفعال الحيوان؛ من الإنس، وغيره من الحيوان، والجنّ؛ مثل قتل الساحر، وتمريضه لغيره؛ فهذا أمرٌ مقدورٌ، معروفٌ للنّاس بالسّحر، وغير السّحر؛ وكذلك ركوب المِكنسة، أو الخابية2، أو غير ذلك؛ حتّى تطير به، وطيرانه في الهواء من بلد إلى بلد؛ هذا فعلٌ مقدورٌ للحيوان؛ فإنّ الطير [يفعل] 3 ذلك، والجنّ تفعل ذلك. وقد أخبر الله أنّ العفريت قال لسليمان: {أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ} ؛ وهذا تصرّف في أعراض الحيّ؛ فإنّ الموت، والمرض، والحركة أعراضٌ، والحيوان يقبل في العادة مثل هذه الأعراض، ليس في هذا قلب جنس إلى جنس، ولا في هذا ما يختصّ الربّ بالقدرة عليه، ولا ما يختصّ به الملائكة.
وكذلك إحضار ما يُحضر من طعامٍ، أو نفقة، أو ثياب، أو غير ذلك من الغيب. [و] 6 هذا [إنّما هو] 7 نقل مالٍ من مكانٍ إلى مكانٍ. وهذا تفعله الإنس والجنّ، لكن الجنّ تفعله، والنّاس لا يُبصرون ذلك. وهذا بخلاف كون الماء القليل نفسه يفيض حتى يصير كثيراً، بأن ينبع من بين الأصابع من غير زيادة يُزادها8. فهذا لا يقدر عليه إنسيّ ولا جنّي. ا.هـــ النبوات [1/ 144 - 145]
ويقول أيضا:
الوجه الثاني عشر: إنّ ما يأتي به الساحر، والكاهن، وأهل الطبائع، والصناعات، والحيل، وكل من ليس من أتباع الأنبياء، لا يكون إلا من مقدور الإنس والجن؛ فما يقدر عليه الإنس من ذلك هو وأنواعه، والحيل فيه كثير. وما يقدر عليه الجن هو من جنس مقدور الإنس، وإنّما يختلفون في الطريق؛ فإن الساحر قد يقدر على أن يقتل إنساناً بالسّحر، أو يمرضه، أو يُفسد عقله، أو حسّه، وحركته، وكلامه؛ بحيث لا يُجامع، أو لا يمشي، أو لا يتكلم ونحو ذلك. وهذا كلّه ممّا يقدر الإنس على مثله، لكن بطرق أخرى. والجنّ يطيرون في الهواء، وعلى الماء، ويحملون الأجسام الثقيلة؛ كما قال العفريت1 لسليمان: {أَنَا آتِيْكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ} 2.
جنس مقدور الجن
وهذا الجنس يكون لمن هو دون الإنس والجنّ من الحيوان؛ كالطيور، والحيتان. والإنس يقدر على جنسه، ولهذا لم يكن هذا الجنس آية لنبيّ لوجوده لغير الأنبياء. فكثيرٌ من الناس تحمله الجنّ، بل شياطين الجنّ، وتطير به في الهواء، وتذهب به إلى مكان بعيد؛ كما كان العفريت يحمل عرش بلقيس من اليمن، إلى مكان بعيد. ا.هــــ [1/ 523 – 524]
قلت: وإنما قيد الشيخ كلامه بقوله-: " وكل من ليس من أتباع الأنبياء، لا يكون إلا من مقدور الإنس والجن؛"
لأنه كما سبق من كان من أتباع الأنبياء قد تُعينه الملائكة أو رب البرية فيقع على أيديهم ما هو فوق مقدور الإنس والجن.
وأخيرًا أقول:
لم أكترث هاهنا بما قاله الأشاعرة بدءً بالباقلاني –رحمه الله- إلى آخرهم من صاحب الجوهرة ومن بعده، وهذا لاضطرابهم في هذا الباب جدًا –أي باب خوارق السحرة وكرامات الأولياء- فبعضهم يُجوِز وقوع أمثال هذا من الأولياء -ومنه دخل غلاة الصوفية- ، وبعضهم يجوزه حتى للساحر لكن بشرط عدم التحدي أو ادعاء النبوة أو كليهما، ولا شك في بطلان هذا القول وضلاله، وقد فشت بعض فروع مقالات الأشاعرة في بعض مؤلفات أهل السنة المتأخرين في هذا الباب لقلة من تصدى لهذا الباب بالشرح والتدقيق وبيان الفروق والضوابط لكل قسم، ثم طُبع ولله الحمد كتاب الفذ النحرير أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية –رحمه الله- فكان عينا ثجاجا ثم طبع بعد ذلك في رسالة علمية قشيبة قربته فحريٌ بمن أراد الكلام في هذا الباب من المعلمين والمدرسين الاهتمام بهذا الكتاب ففيه من التحرير ما لم يسبق إليه في حد علمي والله يرزق من يشاء بغير حساب والله أعلم.
3- التنبه الثالث الذي أريد تسطيره هنا متعلق بقول الإمام الشوكاني –رحمه الله-: وأخذنا عَنهُ فِي علم الأوفاق لقصد التجريب لَا لاعتقاد شئ من ذَلِك" ا.هـ
فما هو علم الأوفاق؟ ثم ما حكم تعلم السحر؟ ، أقول:
- أما علم الأوفاق فقد ذكر صديق حسن خان في "أبجد العلوم" ناقلا عن الأرنيقي صاحب "مدينة العلوم":
قال في ( ( مدينة العلوم ) ) : علم أعداد الوفق والدفق جداول مربعة لها بيوت مربعة يوضع في تلك البيوت أرقام عددية أو حروف بدل الأرقام بشرط أن يكون أضلاع تلك الجداول وأقطارها متساوية في العدد وأن لا يوجد عدد مكرر في تلك البيوت وذكروا أن لاعتدال الأعداد خواص فائضة من روحانيات تلك الأعداد والحروف وتترتب عليها آثار عجيبة وتصرفات غريبة بشرط اختيار أوقات متناسبة وساعات شريفة.
وهذا العلم من فروع علم العدد باعتبار توقفه على الحساب ومن فروع علم الخواص باعتبار آثاره قال : وسنذكره في موضعه - إن شاء الله تعالى -
وفي هذا العلم كتب كثيرة أحسنها : كتاب : ( ( شمس الآفاق في علم الحروف والأوفاق ) ) و : ( ( بحر الوقوف في علم الأوفاق والحروف ) )
قال : وفي هذا العلم كتب كثيرة خارجة عن حد التعداد . انتهى
لكن في جواز استعمالها خلاف والحق منعه لعدم ورود النقل به عن الشارع - عليه السلام ا.هــــــ كلامه رحمه الله
وقال صديق حسن في موضع آخر من كتابه عن حكم تعلم "علم الوفق":
وكتبت جوابا عن سؤال ورد إلي من أهل البصرة في هذا الزمان وحاصله النهي عن استعمال الوفق وكونه نوعا من السحر وقسما من الشرك والله أعلم ا.هــــ
- هذا بخصوص ماهيته واستعماله، وأما تعلمه، فقد اختلف العلماء في تعلم السحر على وجه العموم ، قال النووي-رحمه الله- في روضة الطالبين:
وأما تعلم السحر وتعليمه ففيه ثلاثة أوجه الصحيح الذي قطع به الجمهور أنهما حرامان والثاني مكروهان والثالث مباحان وهذان إذا لم يحتج في تعليمه إلى تقديم اعتقاد هو كفر ا.هــ
وقال القرافي في أنوار البروق:
وَأَمَّا قَوْلُ مَالِكٍ أَنَّ تَعَلُّمَهُ وَتَعْلِيمَهُ كُفْرٌ فَفِي غَايَةِ الْإِشْكَالِ فَقَدْ قَالَ الطُّرْطُوشِيُّ -وَهُوَ مِنْ سَادَاتِ الْعُلَمَاءِ- أَنَّهُ إذَا وَقَفَ لِبُرْجِ الْأَسَدِ وَحَكَى الْقَضِيَّةَ إلَى آخِرِهَا فَإِنَّ هَذَا سِحْرٌ فَقَدْ تَصَوَّرَهُ ، وَحَكَمَ عَلَيْهِ بِأَنَّهُ سِحْرٌ فَهَذَا هُوَ تَعَلُّمُهُ فَكَيْفَ يَتَصَوَّرُ شَيْئًا لَمْ يَعْلَمْهُ ، وَأَمَّا قَوْلُهُ لَا يُتَصَوَّرُ التَّعَلُّمُ إلَّا بِالْمُبَاشَرَةِ كَضَرْبِ الْعُودِ فَلَيْسَ كَذَلِكَ بَلْ كُتُبُ السِّحْرِ مَمْلُوءَةٌ مِنْ تَعْلِيمِهِ ، وَلَا يَحْتَاجُ إلَى ذَلِكَ بَلْ هُوَ كَتَعَلُّمِ أَنْوَاعِ الْكُفْرِ الَّذِي لَا يَكْفُرُ بِهِ الْإِنْسَانُ كَمَا نَقُولُ إنَّ النَّصَارَى يَعْتَقِدُونَ فِي عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ كَذَا وَالصَّابِئَةُ يَعْتَقِدُونَ فِي النُّجُومِ كَذَا وَنَتَعَلَّمُ مَذَاهِبَهُمْ ، وَمَا هُمْ عَلَيْهِ عَلَى وَجْهِهِ حَتَّى نَرُدَّ عَلَيْهِمْ ذَلِكَ فَهُوَ قُرْبَةٌ لَا كُفْرٌ وَقَدْ قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ إنْ كَانَ تَعَلَّمَ السِّحْرَ لِيُفَرِّقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمُعْجِزَاتِ كَانَ ذَلِكَ قُرْبَةً وَكَذَلِكَ نَقُولُ إنْ عَمِلَ السِّحْرَ بِأَمْرٍ مُبَاحٍ لِيُفَرِّقَ بِهِ بَيْنَ الْمُجْتَمِعِينَ عَلَى الزِّنَا أَوْ قَطَعَ الطَّرِيقَ بِالْبَغْضَاءِ وَالشَّحْنَاءِ أَوْ يَفْعَلُ ذَلِكَ بِجَيْشِ الْكُفْرِ فَيَقْتُلُونَ بِهِ مَلِكَهُمْ .
فَهَذَا كُلُّهُ قُرْبَةٌ أَوْ يَصْنَعُهُ مَحَبَّةً بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ أَوْ الْمَلِكِ مَعَ جَيْشِ الْإِسْلَامِ فَتَأَمَّلْ هَذِهِ الْمَبَاحِثَ كُلَّهَا فَالْمَوْضِعُ مُشْكِلٌ جِدًّا . ا.هـــ كلامه ثم ناقش دليل القائلين بالتكفير فليرجع إليه من شاء.
قال القحطاني-رحمه الله- في نونيته الشهيرة:
والسحر كفر فعله لا علمه *** من ههنا يتفرق الحكمان
والنقول التي سبقت ليست لتحرير المسألة، لكن للاعتذار عن الإمام الشوكاني -رحمه الله- فلعله كان يرى هذا الرأي بل هذا المقطوع به، فلا يُظن به فعل ما يراه حراما ثم الجهر به، أما في مناقشة القائلين بالجواز فأنقل ما قاله العلامة البحر محمد أمين الشنقيطي في "أضواء البيان" حيث تضمن كلام الرازي ثم استدراك ابن كثير عليه ثم كلام ابن حجر ثم تعليق الشيخ الأمين على ذلك كله –فرحمة الله على الجميع-:
اعلم: أن الناس اختلفوا في تعلّم السحر من غير عمل به. هل يجوز أو لا؟
والتحقيق, وهو الذي عليه الجمهور: هو أنه لا يجوز، ومن أصرح الأدلة في ذلك تصريحه تعالى بأنه يضرّ ولا ينفع, في قوله: {وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ}, وإذا أثبت الله أن السحر ضار ونفى أنه نافع فكيف يجوز تعلم ما هو ضرر محض لا نفع فيه؟
وجزم الفخر الرازي في تفسيره في سورة "البقرة" بأنه جائز بل واجب قال ما نصه:
المسألة الخامسة: في أن العلم بالسحر غير قبيح ولا محظور، اتّفق المحققون على ذلك لأن العلم لذاته شريف، وأيضاً لعموم قوله تعالى: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ}، ولأن السحر لو لم يكن يعلم لما أمكن الفرق بينه وبين المعجزة، والعلم بكون المعجز معجزاً واجب، وما يتوقف الواجب عليه فهو واجب، فهذا يقتضي أن يكون تحصيل العلم بالسحر واجباً، وما يكون واجباً كيف يكون حراماً وقبيحاً. انتهى منه بلفظه. ولا يخفى سقوط هذا الكلام وعدم صحته. وقد تعقبه ابن كثير رحمه الله في تفسيره بعد أن نقله عنه بلفظه الذي ذكرنا بما نصه: وهذا الكلام فيه نظر من وجوه: أحدها: قوله: "العلم بالسحر ليس بقبيح" إن عنى به ليس بقبيح عقلاً فمخالفوه من المعتزلة يمعنون هذا، وإن عنى أنه ليس بقبيح شرعاً ففي هذه الآية الكريمة يعني قوله تعالى {وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ}, تبشيع لعلم السحر. وفي السنن: "من أتى عرافاً أو كاهناً فقد كفر بما أنزل على محمد" ، وفي السنن: "من عقد عقدة ونفث فيها فقد سحر" وقوله: "ولا محظور، اتفق المحققون على ذلك" كيف لا يكون محظوراً مع ما ذكرنا من الآية والحديث، واتفاق المحققين يقتضي أن يكون قد نصّ على هذه المسألة أئمة العلماء أو أكثرهم. وأين نصوصهم على ذلك!!
ثم إدخاله علم السحر في عموم قوله تعالى: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ}, فيه نظر. لأن هذه الآية إنما دلّت على مدح العالمين العلم الشرعي، ولم قلت إن هذا منه!! ثم ترقيه إلى وجوب تعلّمه بأنه لا يحصل العلم بالمعجز إلا به ضعيف بل فاسد. لأن أعظم معجزات رسولنا عليه الصلاة والسلام هي القرآن العظيم الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد.
ثم إن العلم بأنه معجز لا يتوقف على علم السحر أصلاً. ثم من المعلوم بالضرورة أن الصحابة والتابعين وأئمة المسلمين وعامتهم كانوا يعلمون المعجز، ويفرّقون بينه وبين غيره، ولم يكونوا يعلمون السحر ولا تعلّموه ولا علّموه، والله أعلم. انتهى.
ولا يخفى أن كلام ابن كثير هذا صواب، وأن ردّه على الرازي واقع موقعه، وأن تعلّم السحر لا ينبغي أن يختلف في منعه. لقوله جل وعلا: {وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ}. وقول ابن كثير في كلامه المذكور: وفي الصحيح "من أتى عرافاً أو كاهناً.. الخ" , إن كان يعني أن الحديث بذلك صحيح فلا مانع، وإن كان يعني أنه في الصحيحين أو أحدهما فليس كذلك.
وبذلك كله تعلم أنّ قول ابن حجر في "فتح الباري": وقد أجاز بعض العلماء تعلّم السحر لأمرين: إما لتمييز ما فيه كفر من غيره. وإما لإزالته عمن وقع فيه.
فأما الأول: فلا محذور فيه إلا من جهة الاعتقاد، فإذا سلم الاعتقاد فمعرفة الشيء بمجرده لا تستلزم منعاً. كمن يعرف كيفية عبادة أهل الأوثان للأوثان. لأنّ كيفية ما يعلّمه الساحر إنما هي حكاية قول أو فعل، بخلاف تعاطيه والعمل به.
وأما الثاني: فإن كان لا يتم كما زعم بعضهم إلا بنوع من أنواع الكفر أو الفسق, فلا يحل أصلاً، وإلا جاز للمعنى المذكور ا هـ خلاف التحقيق، إذ ليس لأحد أن يبيح ما صرح الله بأنه يضر ولا ينفع، مع أنّ تعلّمه قد يكون ذريعة العمل به، والذريعة إلى الحرام يجب سدّها كما قدّمنا. قال في المراقي:
سد الذرائع إلى المحرم**** حتم كفتحها إلى المنحتم
هذا هو الظاهر لنا. والعلم عند الله تعالى. ا.هـــ كلام الشيخ رحمه الله
قلت: وكلمة التعلم تشمل التعلم الذي هو النظر فيه وتقليب كتبه لمعرفة ماهيته وحقيقته، وهكذا تشمل تلقيه من شيوخ الفن والولوج فيه والتوسع في ذلك، فأما الثاني فلا شك في حرمته وأما الأول فهذا قد يحتاجه العلماء للحكم على الشيء ولمعرفة الباطل الذي فيه..وعلى كل فمناقشة أدلة الفريقين له موضع آخر وفي كلام الشيخ الشنقيطي وكلام غيره ما يعطي القارئ نبذة عن أدلة الطرفين والله أعلم.
وأختم بكلام رأيته للشوكاني –رحمه الله- في تفسير آيات السحر من سورة البقرة فقال:
وفيه دليل على أن تعلم السحر كفر وظاهره عدم الفرق بين المعتقد وغير المعتقد وبين من تعلمه ليكون ساحرا ومن تعلمه ليقدر على دفعه ا.هــ
وهذا الكلام منه رحمه الله يحتمل أمورا:
إما أنّه لم ينشط لتحرير المسألة هاهنا فربما هذا الظاهر مصروف بأدلة أخرى عنده.
وإما أنّه لا يرى علم الوفق من السحر المحرم لذاته بل مما حرم لغيره ولذا جاز تعلمه دون العمل به كما سبق.
وإما أنّ رأيه في المسألة تغير لا سيما وأخذه عن هذا الشيخ متقدم قبل وفاته بأربعين عاما أو يزيد.
هذا والحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على رسوله الأمين والله تعالى أعلى وأعلم.