بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
ما يترتب على إعمال القاعدة الفاسدة نتعاون فيما اتفقنا ويعذر بعضنا بعض فيما اختلفنا
قاعدة مقطوعة الصلة بالسلف :
=================
قد بينا فيما سقناه من الأدلة، أن قاعدة (نتعاون فيما اتفقنا عليه، ويعذر بعضنا بعضا فيما اختلفنا فيه) ليس عليها عمل الصحابة رضي الله عنهم؛ بل إن عملهم على نقيض ذلك تماما، فترى أحدهم ينسب نفسه إلى الضلال إذا قال بقول غيره، مما يعلم أنه مجانب للصواب. لو طلبت من قائل هذه القاعدة بيان سلفه بها من القرون المفضلة: لما استطاع إلى ذلك سبيلا، ولو كان هذا القول محمودا؛ لقاله خير القرون، وصدر هذه الأمة، وخيرتها. والله سبحانه يقول مبكتا الكفار في إنكارهم فضل خيار المؤمنين، وربطهم الخير في أنفسهم:{ وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كَانَ خَيْرًا مَّا سَبَقُونَا إِلَيْهِ وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هَـٰذَا إِفْكٌ قَدِيمٌ ﴿الأحقاف: 11﴾}؛ قال الإمام ابن كثير معلقا: في (تفسير ابن كثير 7/27 "وأما أهل السنة والجماعة؛ فيقولون في كل فعل وقول لم يثبت عن الصحابة: هو بدعة؛ لأنه لو كان خيرا؛ لسبقونا إليه؛ لأنهم لم يتركوا خصلة من خصال الخير إلا وقد بادروا إليها " اهـ. فإن قال قائل: إن السلف لم يتكلموا بهذه المقولة، لكنهم سكتوا عنها، وسكوتهم لا يدل على خطإ هذا القول! قلت: إن الأدلة التي ذكرناها عنهم تنقض هذه القاعدة، ولو قدر أنهم سكتوا عن هذه المقالة، فلا يخلو الأمر من حالتين: الأولى: أن يكونوا سكتوا عن ذلك وهو عالمون به، فيسعنا السكوت عما سكتوا عنه. الثانية: أن يكونوا سكتوا عن ذلك وهم غير عالمين به، فيسعنا أن لا نعلم مالم يعلموه (الحجة في بيان المحجة 1/100) قال أبو حامد الغزالي في شأن مالم يؤثر من الألفاظ والأقوال: (نقله عنه شيخ الإسلام ابن تيمية في الاستقامة 1/81) ما سكت عنه الصحابة مع أنهم أعرف بالحقائق، وأفصح بترتيب الألفاظ من غيرهم إلا لعلمهم بما يتولد منه من الشر.
مسلك بدعي :
========
هذه القاعدة تقتضي إعذار المذاهب المختلفة، وتسويغ خلافها، وإقرار الجميع على مهم عليه، كما يقر العلماء في مسائل الاجتهاد التي يسوغ فيها الخلاف!! وهذا مسلك بدعي. قال شيخ الإسلام ابن تيمية: في (مجموع الفتاوى) وقسم آخر: أقوام لا يعرفون اعتقاد أهل السنة والجماعة كما يجب، أو يعرفون بعضه، ويجهلون بعضه، وما عرفوه منه قد يكتمونه، ولا يبينونه للناس، ولا ينهون عن البدع، ولا يذمون أهل البدع ويعاقبونهم، بل لعلهم يذمون الكلام في السنة وأصول الدين مطلقا، وقد لا يفرقون بينما يقوله أهل السنة والجماعة، وما يقوله أهل البدعة والفرقة، أو يقرون الجميع على مذاهبهم المختلفة، كما يقر المرجئة، وبعض المتفقهة، والمتصوفة والمتفلسفة اهـ
باب واسع للشر :
==========
لو قلنا بمقتضى هذه القاعدة لعذرنا كل مخالف! وأقررنا كل بدعة وضلالة!! والأخطاء يرقق بعضها بعضا، ويعذر من الأخطاء أولاما كان أخف، حتى نعذر بعد ذلك في الأخطاء العظيمة، قال شيخ الإسلام ابن تيمية: في (الرسالة التدمرية ص194) "وإنما يظهر من البدع أولا ما كان أخف، وكلما ضعف من يقوم بنور النبوة قويت البدعة " اهـ .
ولو قلنا بهذه القاعدة لعذرنا شارب النبيذ! ولعذرنا من تزوج متعة! ومن باع الدرهم بالدرهم مع المفاضلة! ولعذرنا من أكل في رمضان بعد الفجر قبل طلوع الشمس! ولعذرنا من نكح الزانية مع استمرارها على البغاء! ولعذرنا من نكح المخلوقة من مائه سفاحا! ولعذرنا من استغاث بالأموات! وعطل الصفات! وقال بالجبر! ونفى الرؤية! حتى نرضى بعد ذلك بأقل القليل مما مع أصحاب البدع المضلة، فنعذرهم في ضلالهم وغيهم، ونتعاون فيما بقي معهم من الإقرار بوجود الله، ضد من ينكره من شيوعيين وماديين. قال الخطابي في سياق حديثه عن النبيذ والمسكر: في (أعلام الحديث 3/2091-2092) وقال قائل: إن الناس لمام اختلفوا في الأشربة، وأجمعوا على تحريم خمرالعنب، واختلفوا فيما سواه نلزمنا ما أجمعوا على تحريمه، وأبحنا ما سواه! وهذا خطأ فاحش، وقد أمر الله المتنازعين أن يردوا ما تنازعوا فيه إلى الله، فكل مختلف فيه من الأشربة مردود إلى تحريم الله وتحريم رسوله الخمر، وقد ثبت عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قوله: «كل شراب أسكر؛ فهو حرام»، فأشار إلى الجنس بالاسم العام والنعت الخاص؛ الذي هو علة الحكم، فكان ذلك حجة على المختلفين، ولو لزم ما ذهب إليه هذا القائل؛ للزم مثله في الربا، والصرف، ونكاح المتعة؛ لأن الأمة قد اختلفت فيها )اهـ
وقال الشاطبي مبينا مفاسد هذا التأصيل، وما يؤول إليه من تضليل: في (الموافقات 4/147) كالانسلاخ من الدين بترك اتباع الدليل إلى اتباع الخلاف، وكالاستهانة بالدين، إذ يصير بهذا الاعتبار سيالا لا ينضبط، وكترك ما هو معلوم إلى ما ليس بمعلوم) اهـ
قلت: والتعاون مع أصحاب البدع المضلة يوجب الألفة مع الوقت، ويوجب السكوت عن منكراتهم فيما بعد؛ لأن أولئك لا يتعاونون مع من ينكر باطلهم، وبدعهم، ويحذر الناس منهم؛ فإن النفوس تنفر من التعاون مع من يحذر منها وينكر عليها، والمرء مع من أحب يوم القيامة
زيادة في التفرق والاختلاف :
================
إعمال هذه القاعدة بإعذار المختلفين بإطلاق: زيادة في تفرق الأمة، وسبب لانشطار المذاهب، والملل، والأديان. فمثل هذه القاعدة لا تحسم مادة الخلاف، بل تزيده؛ مادام الكل معذورا. والشريعة إنما بعثت لحسم مادة الخلاف، وليكون الناس أمة واحدة، قال الخطابي رحمه الله مبينا هذه المفسدة: في (العزلة ص 57-5 فأما الافتراق في الآراء والأديان؛ فإنه محظور في العقول، محرم في قضايا الأصول؛ لأنه داعية الضلال، وسبب التعطيل والإهمال، ولو ترك الناس متفرقين؛ لتفرقت الآراء والنحل، ولكثرت الأديان والملل، ولم تكن فائدة في بعثة الرسول، وهذا هو الذي عابه الله عز وجل من التفرق في كتابه، وذمه في الآي التي تقدم ذكرها) اهـ
فتح طرق أغلقها الشرع :
==============
ذكر الله عز وجل صراطه المستقيم، وبينه أتم بيان، وأرشد إليه أحسن إرشاد، وأكمل الرسول -صلى الله عليه وسلم- البيان والحجة. فما ثم إلا صراط مستقيم، أو سبل معوجة. قال تعالى:{وَأَنَّ هَـٰذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذَٰلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ﴿الأنعام: 153﴾}. فإعذار المختلفين هو إقرار ورضاً بهذه السبل المعوجة، وتضييع للصراط المستقيم. قال ابن القيم رحمه الله: في (التفسير القيم ص14-15) إن الطريق الموصل إلى الله واحد، وهو ما بعث به رسله، وأنزل به كتبه، ولا يصل إليه أحد إلا من هذه الطريق، ولو أتى الناس من كل طريق، واستفتحوا من كل باب، فالطرق عليهم مسدودة، والأبواب عليهم مغلقة، إلا من هذا الطريق الواحد؛ فإنه متصل بالله، موصل إلى الله) اهـ
وبإزاء هذا الكلام النوراني، كلام من يقول: لقد حجرت واسعا! وملت بالناس إلى الحرج!! وما في الدين من حرج!! وما أشبه ذلك. قال الشاطبي معلقا: في (الموافقات 4/142) وهذا القول خطأ كله، وجهل بما وضعت له الشريعة.
مضادة لأمر الله :
=========
إعمال هذه القاعدة في موارد النزاع والاختلاف، بأن يعذر كل مخالف بأن يبقى على رأيه الشاذ، ونحلته الفاسدة وملته المضلة؛ ليس مما أمر به الشارع، بل هو مضادة لأمر الشارع بوجوب الرجوع إلى الكتاب والسنة حال الاختلاف والتنازع، حتى يحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه، ويكون الكل على الصراط المستقيم والدين القويم، فهذا هو الواجب؛ أن يجعل كلام الله ورسوله هو الأصل الإمام المقتدى به، أما ما سوى كلام الله ورسوله؛ فلا يجعل أصلاً بحال. فليس لأحد أن يلزم الناس، بل ولا أن يختار لهم إعمال هذه القاعدة، واتخاذها أصلاً مع مخالفتها الصريحة لأمر الله، بالرد إليه وإلى رسوله حال الاختلاف والتنازع. وما قيمة هذه الشريعة، وما حاجة الناس إليها، إذا عذر كل من انتحل بدعة مضلة أو شبهة مفسدة، فلا يكون هناك أمر مضبوط. قال تعالى:{ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّـهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّـهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَٰلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا ﴿النساء: 59﴾}
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: في (محنة ابن تيمية ص1، بواسطة فقه النوازل للعلامة بكر أبي زيد 1/5 والله سبحانه قد أمر في كتابه عند التنازع بالرد إلى الله والرسول، ولم يأمر عند التنازع إلى شيء معين أصلاً اهـ
فهذا هو أمر الله وحكمه عند الاختلاف، لا أن يبقى كل مخالف على مخالفته؛ فإن هذا اختراع وابتداع، بل هو مناف لتجريد المتابعة لله ورسوله. وهذا هو الحد الفاصل بين المتبع والمبتدع؛ فالمتبع يرى أنه لا يسعه أن يقول بغير الحق، والمبتدع يسوغ جميع الأقوال الباطلة، ويعذر أصحابها.
إلغاء للسني المتميز:
===========
إعمال هذه القاعدة لا سيما مع من لم ينتصح، ولم ينزجر عن خطئه، أو بدعته، أو ضلاله سيكون سببا في نقض أصل عظيم من أصول أهل السنة؛ وهو البراءة من المبتدعة، وتعطيل عقوبتهم الشرعية بالهجر، بل إن العمل بهذه القاعدة سيقضي على السني المتميز، فالأمر عندهم سواء ما دام الكل معذورا، ولن تحجم بذلك بدعة، ولن تظهر سنة صافية من الكدر، فيصبح الناس في أمر مريج، لا تمييز عندهم بين السنة والبدعة، والحق والباطل، والهدى والضلال، والرشاد والغي، والصواب والخطإ. ومن جميل ما خطه قلم العلامة الشيخ بكر أبو زيد نفي سياق حديثه عن الأمور التي تمور بالمسلمين موراً، ما قال: في (هجر المبتدع ص 5-6) كسر حاجز (الولاء والبراء) بين المسلم والكافر، وبين السني والبدعي، وهو ما يسمى في التركيب المولد باسم (الحاجز النفسي)، فيكسر تحت شعارات مضللة مثل: (التسامح)، و (تأليف القلوب)، و (نبذ الشذوذ والتطرف والتعصب)، و (الإنسانية)، و نحوها من الألفاظ ذات البريق، والتي حقيقتها مؤامرات تخريبية، تجتمع لغاية القضاء على المسلم المتميز، وعلى الإسلام. وقال أيضا: في (هجر المبتدع ص7) ومن أبرز معالم التمييز العقدي فيها، وبالغ الحفاوة بالسنة والاعتصام بها، وحفظ بيضة الإسلام عما يدنسها: نصب عامل الولاء والبراء فيها، ومنه إبراز العقوبات الشرعية على المبتدعة، إذا ذروا فلم يتذكروا، ونهوا فلم ينتهوا، إعمالاً لاستصلاحهم، وهدايتهم، وأوبتهم بعد غربتهم في مهاوي البدع والضياع، وتشييدا للحاجز بين السنة والبدعة، وحاجز النفرة بين السني والبدعي، وقمعا للمبتدعة وبدعهم، وتحجيما لهم، ولها عن الفساد في الأرض، وتسرب الزيغ في الاعتقاد؛ ليبقى الظهور للسنن صافية من الكدر، نقية من علائق الأهواء وشوائب البدع، جارية على منهاج النبوة وقفوا الأثر، وفي ظهور السنة أعظم دعوة إليها، ودلالة عليها، وهذا كله عين النصح للأمة.
عدم حصول الائتلاف :
=============
هل يحصل الوفاق والائتلآف بهذه القاعدة: يعذر بعضنا بعضا فيما اختلفنا فيه؟ كلا، لا ائتلآف ولا اتفاق إلا بالكتاب الهادي: قال الله تبارك وتعالى: {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّـهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِن بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّـهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّـهُ يَهْدِي مَن يَشَاءُ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ (البقرة: 213﴾} قال القاسمي: في (محاسن التأويل 3/52 ثم ضلوا على علم بعد موت الرسل، فاختلفوا في الدين لاختلافهم في الكتاب، {واختلف فيه} أي: الكتاب الهادي الذي لا لبس فيه، المنزل لإزالة الاختلاف {إلا الذين أتوه} أي: علموه، فبدلوا نعمة الله، بأن أوقعوا الخلاف فيما أنزل لرفع الخلاف. ولم يكن اختلافهم لا لتباس عليهم من جهته؛ بل {من بعد ما جاءتهم البينات} أي: الدلائل الواضحة، {بغياً بينهم} أي: حسداً اهـ
وقال قوام السنة أبو القاسم الأصبهاني: في (الحجة في بيان المحجة 2/226) وكان السبب في اتفاق أهل الحديث، أنهم أخذوا الدين من الكتاب والسنة، وطريق النقل، فأورثهم الاتفاق والائتلآف، وأهل البدعة؛ أخذوا الدين من المقولات والآراء، فأورثهم الافتراق والاختلاف اهـ قال الشاطبي: في (الاعتصام 2/192) قال تعالى: { وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّـهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا}، فبين أن التأليف إنما يحصل عند الائتلآف على التعلق بمعنى واحد، وأما إذا تعلق كل شيعة بحبل غير ما تعلقت به الأخرى؛ فلا بد من التفرق، وهو معنى قوله تعالى: {وَأَنَّ هَـٰذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذَٰلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ﴿الأنعام: 153﴾}
________________________________________________
المصدر: كتاب"زجر المتهاون بضرر قاعدة المعذرة و التعاون"
للشيخ حمد بن إبراهيم العثمان الذي راجعه العلامة الشيخ صالح بن فوزان الفوزان -حفظه الله ونفع به- و قرظه العلامة الشيخ عبد المحسن العباد البدر -حفظه الله ونفع به-