بسم الله الرحمن الرحيم
يقول الله-تبارك وتعالى-: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ * الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنزلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ)(البقرة/ 12-22).
التعليق:
هذه من الآيات العظيمة الداعية إلى توحيد الله-تبارك وتعالى-، وإخلاص الدين له، ومحاربة الشرك واتخاذ الأنداد مع الله-تبارك وتعالى-، ساق هذه الآية يدعوهم إلى توحيد العبادة ويسوق الأدلة والحجج والبراهين على أنَّه المعبود الحق وحده لا شريك له في ذلك.
وهو الذي خلق السماء وجعلها سقفًا محفوظًا لكم، وجعل الأرض لكم قرارًا، وجعل لكم خلالها أنهارًا، وأنزل من السماء ماءً فأنبت لكم به من أنواع النباتات وضروب الثمرات-سبحانه وتعالى-.
فالذي خلقكم-أوجدكم من العدم-وأنعم عليكم بهذه النعم وسخَّر لكم ما في السماوات وما في الأرض هو المعبود وحده الذي يستحق العبادة لا شريك له-سبحانه وتعالى-في شيء من العبادات.
فطريقة القرآن أنَّه يأتي بالآيات الداعية إلى التوحيد ويدعمها بالأدلة الدالة على توحيد الإلهية، ويدعمها بالأدلة الدالة توحيد الربوبية، فالرب هو الخالق الرازق المحيي المميت، والرب هو المعبود وهو الذي يستحق العبادة لأنَّه هو الرب الخالق الرازق المحيي المميت-سبحانه وتعالى-، فلا يجوز أن يتَّخذ معه ندًّا فإنَّ ذلك من أعظم الجرائم وأكفر الكفر وأشد الشرك بالله-تبارك وتعالى-.
والقرآن مليء بالدعوة إلى توحيد الله-تبارك وتعالى-بأنواعه، توحيد العبادة، توحيد الربوبية، توحيد الأسماء والصفات، والسنَّةُ كذلك، ولكنَّ كثير من الناس جهلوا هذا فوقع كثير منهم في الشرك في العبادة، وكثير منهم يخلط بين الشرك في العبادة وبين الشرك في الربوبية ويضيف إلى ذلك تعطيل صفات الله-تبارك وتعالى-.
والله-سبحانه وتعالى-ميَّز الطائفة الناجية المنصورة بأن تبقى على هذا الدين الحق وعلى إثبات أنواع التوحيد لله-تبارك وتعالى-، ومحاربة كل أنواع الشرك وألوانه، هم الوحيدون الذين ثبتوا على هذا الحق وعلى هذا النور وعلى هذا الهدى ( لَا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي ظَاهِرِينَ عَلَى الْحَقِّ، لَا يَضُرُّهُمْ مَنْ خَذَلَهُمْ، حَتَّى يَأْتِيَ أَمْرُ اللهِ [تبارك وتعالى] وَهُمْ كَذَلِكَ)[1].
فاعرفوا هذا المنهج وتمسكوا به وعضُّوا عليه بالنواجذ وادعوا الناس إلى ذلك بالعلم وبالحجج والبراهين ( ...فَوَاللَّهِ لَأَنْ يَهْدِيَ اللَّهُ بِكَ رَجُلًا وَاحِدًا، خَيْرٌ لَكَ مِنْ أَنْ يَكُونَ لَكَ حُمْرُ النَّعَمِ)[2].
فالآيات كثيرة في القرآن حرَّم الله الدعاء وجعله شركًا أكبر ( وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّن يَدْعُو مِن دُونِ اللَّهِ مَن لّا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَن دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ * وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاء وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ)(الأحقاف/ 5-6).
فهنا يقرِّر في هذه الآية من سورة الأحقاف أنَّه لا أضل مِمَّن يدعو غير الله، ( وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّن يَدْعُو مِن دُونِ اللَّهِ مَن لّا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ...)، لو وقفت تدعو مئات السنين، تدعو الأموات والأنبياء والملائكة من دون الله-تبارك وتعالى-لا يمكن أن يستجيبوا لك (...وَهُمْ عَن دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ) كما قال الله-تبارك وتعالى-، ولا يدرون ولا يشعرون بهذا الدعاء الباطل وهذا الشرك الأكبر-والعياذ بالله-.
ثمَّ حكم في آخر الآية على هذا الدعاء بأنَّه كفر، قال: ( ...وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ)، أي: دعائهم يجحدونه، يقولون: نحن ما أمرناكم أن تتخذونا أندادًا مع الله وأن تدعونا مع الله-سبحانه وتعالى-، يتبرؤون منهم.
وحكم الله في هذا الدعاء بأنَّه ضلال، الدعوة لله، وأنَّه كفر بالله-تبارك وتعالى-، ( وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ)(فاطر/ 13)، افهموا هذا أيها الإخوة.
( وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ...)، هناك من يدعو عيسى[عليه الصلاة والسلام]، هناك من يدعو العزير[عليه الصلاة والسلام]، هناك من يدعو الرسول[صلى الله عليه وسلم]، هناك من يدعو الأولياء.
( وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ)، هذا الكون كله ملك الله (لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ...)(البقرة/ 284)، سبحانه وتعالى، لا شريك له في شيء من ذلك ولا في مثقال ذرَّة، فهؤلاء المدعوُّون من دون الله وإن كانوا أنبياء وإن كانوا صالحين الله لا يرضى أن يتخذ معه أندادًا-سبحانه وتعالى-، وإن كان الله يحبهم ويرضى عنهم لأنَّهم دعاة إلى توحيده وإلى إخلاص الدين لله، فكيف يتخذون أندادًا مع الله-تبارك وتعالى-؟.
ومع هذا في المقام تقرير التوحيد يبين الله الحقائق كما هي واضحة جليلة ( وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ)، الملائكة والأنبياء والصالحين ما يملكون من هذا الكون مقدار قطمير، القطمير هو: (الخيط في النواة)، والنقير هو: (النقرة في ظهرها) ما يملكون من قطمير.
الذي لا يملك قطميرًا من هذا الكون كلُّه كيف تتخذوه ندًا لله-تبارك وتعالى-وتدعوه وتستغيثوا به وهو لا يملك قطميرًا من هذا الكون؟، والله هو المنفرد بخلق هذا الكون وملكه-سبحانه وتعالى-ولا شريك له في شيء من ذلك، فالآية هذه من ضمن آيات كثيرة تبين توحيد الله-تبارك وتعالى-.
( وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ * إِنْ تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ...)، هل هناك يعني: هل يليق بإنسان ينتمي إلى الإسلام أن يقرأ هذه الآية التي يصدع الله فيها أنَّ المدعوِّين لا يملكون قطميرًا وأنَّهم لا يسمعون الدعاء (إِنْ تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ...)، كيف ما تصدِّق ربك؟، كيف ما تؤمن بالقرآن؟، (إِنْ تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ...)، هذا كلام الحق كيف تشك فيه؟، الله يقول: ما يسمعون! أنت تقول: يسمعون! والله أعتقد في أنَّهم يعلمون الغيب وأنَّهم يتصرفون في الكون!.
ويدعونهم من آلاف الأميال: يا عبد القادر! يا بدوي! يا جيلاني! يا فلان! يا فلان! يا رسول الله!، يكون في الهند وهو يدعو عبد القادر في العراق ميِّت مات من زمان، يعتقد أنَّه يسمعه وأنَّه يستجيب دعائه وأنَّه يغيثه وينقذه من الكربات، وكذلك البدو! وكذلك...وكذلك، هذا ضلال مبين-والعياذ بالله-.
الذي أوقع كثيرًا من الأمَّة في هذا الضلال إنَّما هم الروافض الزنادقة، والصوفية وفيهم زنادقة وملاحدة، أوقعوا الأمَّة في هذا الضلال ودعوهم إلى عبادة غير الله، والذبح لهم، والنذر لهم، وتشييد القباب والبناءات على قبورهم، ما فعل اليهود والنصارى فعلًا إلَّا وفاقهم كثير من المسلمين في هذه الأفاعيل الشنعاء.
فادعوا الله-سبحانه وتعالى-وحده وعلِّموا الناس هذا واعبدوه وحده وربُّوا أنفسكم وربُّوا أولادكم وأسركم وعشائركم على توحيد الله الخالص، فإنَّك والله معرض للنار والخلود فيها إن لم تتقن التوحيد، تتقن معنى لا إله إلا الله محمد رسول الله، التي تسأل عنها في قبرك وتخرج بها إن كنت عاصيًا من النار، تخرج بهذا التوحيد.
فلو جئت بمليء الدنيا من نفقات من الذهب والفضَّة وأنت مشرك بالله يجعل الله ذلك كلَّه هباءً منثورًا، ولو عبدت الله ما عبدتَّه وأنت تتخذ معه أندادًا مع الله-تبارك وتعالى-فلن يقبل الله ذلك منك ويراه شركًا-سبحانه وتعالى-ويعاملك معاملة المشركين.
نسأل الله أن يثبتنا وإيَّاكم على دينه الحق وعلى توحيده وأن يهيئ للأمة دعاة صادقين ناصحين مخلصين ليخرجوهم بعد الله من هذه المتاهات ومن هذه الضلالات التي أوقعهم فيها الروافض والصوفية والمتكلمون.
المتكلمون لهم دور في تضليل الأمَّة، أهل الكلام وهم المعتزلة والجهمية والخوارج لهم دور كبير في تضليل الناس حتى في معنى لا إله إلا الله، يقولون لك: معنى لا إله إلا الله: لا خالق لا رازق!، الله لا خالق ولا رازق غيره لكن ليس هذا معنى لا إله إلا الله، لا إله إلَّا الله معناها: لا معبود بحق إلَّا الله، فلمَّا ضيعوا هذا المعنى-معنى لا إله إلَّا الله-وقعوا في المتاهات هذه.
فبينوا للناس معنى لا إله إلَّا الله التي لو وضعت في كفَّة والسماوات بمن فيها والأرض بما فيها في كفَّة لرجحت بهنَّ لا إله إلا الله، كلمة التوحيد هذه لها منزلة عند الله-تبارك وتعالى-، لا يرقى إليها أي عمل.
وفَّقنا الله وإيَّاكم وثبَّتنا على الحق إن ربنا لسميع الدعاء، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلَّم[3].
لسماع المادة الصوتية:
قام بتفريغها: أبو عبيدة منجد بن فضل الحداد
الاثنين الموافق: 13/ شعبان/ 1433 للهجرة النبوية الشريفة.
[1] (عن ثوبان-رضي الله عنه-/ صحيح مسلم/ 170)
[2] (عن سهل بن سعد-رضي الله عنه-/ صحيح البخاري/ 3701)
[3] (مجالس رمضان في التعليق على تفسير الحافظ ابن كثير لآيات من القرآن الكريم عقدها فضيلة الشيخ العلامة ربيع بن هادي المدخلي-حفظه الله تعالى ورعاه-، في بيته بمكة المكرمة خلال شهر رمضان المبارك لعام اثنين وثلاثين وأربع مئة وألف (1432) للهجرة النبوية الشريفة.)